المَطْلَبُ الثَّالِثُ: مِن أدِلَّة تقريرِ توحيدِ الأُلوهيَّةِ: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نُفوسِهم مِن التَّوحيدِ وقُبْحِ الشِّرْكِ، وأنَّه لا حُجَّةَ ولا بُرْهانَ لهم في شِرْكِهم
وهذا النَّوعُ فيه مسألتانِ:
المَسْألةُ الأولى: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نفوسِهم من التَّوحيدِ وقُبحِ الشِّرْكِ.
المَسْألةُ الثَّانيةُ: بيانُ أنَّه لا حُجَّةَ للمُشرِكينَ ولا بُرهانَ لهم في شِرْكِهم
[517] يُنظر: ((رسالة الشرك ومظاهره)) لمبارك الجزائري (ص: 282)، ((القواعد الحسان)) للسعدي (ص: 76)، ((منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى)) لخالد عبد اللطيف (1/122). .
المَسْألةُ الأولى: تذكيرُ المُشرِكينَ بما يَكمُنُ في نفوسِهم من التَّوحيدِ وقُبحِ الشِّرْكِ.- قال اللهُ تعالى:
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِّنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام: 63-64] .
أي: قُلْ -يا مُحمَّدُ- للمُشرِكينَ مُلْزِمًا لهم بما أثبَتوه من توحيدِ الرُّبوبيَّةِ، على ما أنكَروا من توحيدِ الأُلوهيَّةِ: مَنِ الذي يُنجِّيكم في مَفاوزِ البَرِّيَّةِ البَعيدةِ الأطرافِ، إذا ضَلَلْتم فيها فتحيَّرتُم، وفي اللُّجَجِ البَحريَّةِ، إذا الرِّيحُ العاصِفةُ هاجتْكم، أو أخطَأتُم فيها طريقَكم، فتعَذَّر عليكم الخروجُ من تلك الشَّدائدِ، فتَدْعونَه مُظهرينَ التذلُّلَ والفَقْرَ والخُضوعَ، وتَدْعونَه سِرًّا قائِلينَ وأنتُم في تلك الحالِ: لئنْ أخرجْتَنا -يا ربُّ- مِن هذه الضَّائقةِ والشِّدةِ التي وقَعْنا فيها، لنكُونَنَّ ممَّن يَعتَرِفُ بنِعْمَتِك، ويوحِّدُك بالشُّكرِ، ويُخلِصُ لك العِبادةَ. فقلْ لهم -يا محمَّدُ-: اللهُ هو القادِرُ على تَفريجِ الكَرْبِ إذا وَقَع بكم، فيُنَجِّيكم من عَظيمِ ما حَلَّ بكم في البَرِّ والبَحرِ؛ مِن هَمِّ الضَّلالِ، وخَوْفِ الهَلاكِ، ومِن كُلِّ كَرْبٍ آخَرَ، وأمَّا آلِهَتُكم التي تُشْرِكونَ بها في عِبادتِه، وتَعبُدونَها مِن دُونِه فهي لا تَقدِرُ لكم على نَفْعٍ ولا ضُرٍّ، ثم أنتُم بعدَ تفضُّلِه عليكم بكَشْفِ كَرْبِكم تُشْرِكونَ به في حالِ الرَّخاءِ، فلا تَفُونَ لله تعالى بما قُلْتُم، وتنسَونَ نِعَمَه عليكم
[518] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الأنعام)) (ص: 328). .
- وقال اللهُ سُبحانَه:
وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67] .
أي: وإذا أصابَتْكم الشِّدَّةُ في البَحرِ -كما لو أمسَكَت السَّفينةُ عن الجَريِ، أو اشتَدَّت عليكم الرِّيحُ، وهاجَت بكم الأمواجُ واضطَرَبت، وخَشِيتُم الغَرَقَ- غاب عن قُلوبِكم كلُّ مَن تَدعونَهم مِن دُونِ اللهِ، ولم تَستغيثوا إلَّا باللهِ وَحدَه؛ لعِلْمِكم بأنَّه لا يُنَجِّيكم أحدٌ سِواه، فلمَّا نجَّاكم اللهُ مِن الغَرَقِ، وأوصَلَكم إلى البَرِّ؛ أعرَضْتُم عن شُكرِه وتَوحيدِه، والإخلاصِ له سُبحانَه. وكان الإنسانُ مَطبوعًا على الجُحودِ لنِعَمِ اللهِ عليه؛ فهذه سَجِيَّتُه إلَّا مَن عَصَمَه اللهُ تعالى
[519] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الإسراء)) (ص: 323). .
عن
سَعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: لَمَّا كان يومُ فَتحِ مَكَّةَ أمَّن رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النَّاسَ إلَّا أربعةَ نَفَرٍ وامرأتينِ، وقال:
((اقتُلُوهُم، وإنْ وجَدْتُموهم متعَلِّقينَ بأستارِ الكَعبةِ: عِكْرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ، وعبدُ اللهِ بْنُ خَطَلٍ، ومَقِيسُ بنُ صُبابةَ، وعبدُ اللهِ بنُ سَعدِ بنِ أبي السَّرْحِ ))... وأمَّا عِكرِمةُ فرَكِبَ البَحرَ، فأصابتهم عاصِفٌ، فقال أصحابُ السَّفينةِ: أخلِصوا؛ فإنَّ آلهتَكم لا تُغني عنكم شيئًا هاهنا. فقال عِكرِمةُ: واللهِ لَئِنْ لم يُنَجِّني مِنَ البَحرِ إلَّا الإخلاصُ لا يُنَجِّيني في البَرِّ غَيرُه، اللَّهُمَّ إنَّ لك عليَّ عَهدًا إنْ أنت عافيتَني ممَّا أنا فيه أنْ آتيَ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى أضَعَ يَدي في يَدِه، فلأَجِدَنَّه عَفُوًّا كريمًا، فجاء فأسلَمَ
[520] أخرجه مطولاً أبو داود (2683)، والنسائي (4067) واللفظ له صححه ابنُ الملَقِّنِ في ((البدر المنير)) (9/153)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (4067)، وصَحَّح إسنادَه ابن القَيِّم في ((زاد المعاد)) (3/110(، وحَسَّنه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2683) .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ حكايةً عن قَولِ إبراهيمَ عليه السَّلامُ لقَومِه:
أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات: 95-96] .
أي: أتَعبُدونَ أشياءَ أنتم تَنحِتونَها بأيديكم، والحالُ أنَّ اللهَ خلَقَكم وخَلَق الذي تَعمَلونَه مِن أصنامِكم، فكيف تَعبُدونَها وهي مخلوقةٌ لا خالِقةٌ
[521] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الصافات)) (ص: 95). ؟!
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا كُلُّه يُبَيِّنُ قُبحَ ما كانوا عليه قَبْلَ النَّهيِ، وقَبلَ إنكاره عليهم، فلولا أنَّ حُسْنَ التَّوحيدِ وعِبادةِ اللهِ تعالى وَحْدَه لا شَريكَ له، وقُبْحَ الشِّرْكِ: ثابِتٌ في نَفْسِ الأمرِ، مَعلومٌ بالعَقلِ، لم يُخاطِبْهم بهذا؛ إذ كانوا لم يفعلوا شيئًا يُذَمُّونَ عليه)
[522] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (11/681). .
المَسْألةُ الثَّانيةُ: بيانُ أنَّه لا حُجَّةَ للمُشرِكينَ ولا بُرهانَ لهم في شِرْكِهم- قال اللهُ تعالى:
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاء إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ [يونس: 66] .
أي: إنَّ لله كلَّ مَن في السَّمواتِ وكُلَّ مَن في الأرضِ، فهم مِلكُه، يتصَرَّفُ فيهم كيف يشاءُ، وهو المستَحِقُّ وَحدَه للعِبادةِ، ولكِنَّ المشركينَ يتَّبِعونَ في دَعواهم الشُّرَكاءَ للهِ مُجَرَّدَ الظَّنِّ، فهم يتقوَّلونَ الكَذِبَ على اللهِ؛ ظنًّا بِلا عِلمٍ
[523] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة يونس)) (ص: 290). .
- ومِمَّا قَصَّه اللهُ سُبحانَه عن أصحابِ الكَهْفِ قَولُهم:
هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف: 15] .
أي :هؤلاءِ أهلُ عَصْرِنا وبَلَدِنا قد اتَّخَذوا مِن دُونِ اللهِ آلِهةً يَعبُدونَها، فهلَّا يأتي قَومُنا بحُجَّةٍ واضِحةٍ تدُلُّ على صَوابِ عِبادةِ تلك الآلهةِ التي يَتَّخِذونَها؟ فلا أحدَ أشَدُّ ظُلمًا ممَّن اختَلَقَ الكَذِبَ على اللهِ، فادَّعى أنَّ له شَريكًا يُعبَدُ
[524] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الكهف)) (ص: 65). .
- وقال اللهُ عزَّ وجَلَّ:
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَّصِيرٍ [الحج: 71] .
أي: يَعبُدُ المُشرِكونَ مِن دونِ اللهِ أصنامًا لم يُنَزِّلِ اللهُ على رُسُلِه حُجَّةً على صِحَّةِ عبادتِها، وليس للمُشرِكينَ عِلمٌ يَقينيٌّ بجَوازِ وصِحَّةِ عِبادةِ تلك الأصنامِ، وإنَّما يَعبُدونَها تقليدًا لآبائِهم، وما لهم بسَبَبِ ظُلمِهم هذا مِن ناصرٍ يَنصُرُهم ويُنقِذُهم مِن عذابِ اللهِ، ويَدفَعُ عنهم عِقابَه حينَ يَحُلُّ بهم
[525] يُنظر: ((التفسير المحرر - سورة الحج)) (ص: 360). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (قَولُه تعالى:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ [المؤمنون: 117] . البُرهانُ: الدَّليلُ الذي لا يَترُكُ في الحَقِّ لَبْسًا، وقَولُه:
لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ كقَولِه:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الآية
[الحج: 71] ، والسُّلطانُ: هو الحُجَّةُ الواضِحةُ، وهو بمعنى: البُرهانِ، وقَولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ:
فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قد بَيَّن أنَّ حِسابَه الذي عِندَ رَبِّه لا فَلاحَ له فيه، بقَولِه بَعْدَه:
إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ، وأعظَمُ الكافرينَ كُفرًا هو من يدعو مع اللهِ إلهًا آخَرَ لا بُرهانَ له به، ونَفْيُ الفلاحِ عنه يدُلُّ على هَلاكِه وأنَّه مِن أهلِ النَّارِ)
[526] يُنظر: ((أضواء البيان)) (5/ 364). .