المَطلَبُ الثَّاني: أَضْرُبُ (أنْواعِ) الخبَرِ
يَنقسِمُ الخبَرُ انْقِساماتٍ عدَّةً؛ فيَنْقسِمُ بحسَبِ اخْتِلافِ المُسنَدِ بينَ الاسمِ والفِعلِ إلى: إسْنادٍ خبَريٍّ اسْميٍّ (جُملةٍ اسْميَّةٍ)، وإسْنادٍ خبَريٍّ فِعليٍّ (جُملةٍ فِعليَّةٍ).
وقد ذكَر البَلاغيُّون أنَّ دَلالةَ الاسمِ تَخْتلِفُ عن دَلالةِ الفِعلِ؛ فالاسمُ يدُلُّ على الثَّباتِ والدَّوامِ، والفِعلُ يدُلُّ على التَّجدُّدِ والحُدوثِ؛ قال عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (مَوضوعُ الاسمِ على أنْ يَثبُتَ به المَعْنى للشَّيءِ مِن غيرِ أنْ يَقْتضيَ تَجدُّده شيئًا بعدَ شيءٍ، وأمَّا الفِعلُ فمَوضوعُه على أنَّه يَقْتضي تَجدُّدَ المَعْنى المُثبَتِ به شيئًا بعدَ شيءٍ.
فإذا قُلتَ: "زيدٌ مُنطلِقٌ"، فقد أثْبتَّ الانْطلاقَ فِعلًا له، مِن غيرِ أنْ تَجْعلَه يَتجدَّدُ ويَحدُثُ منه شيئًا فشيئًا، بل يكونُ المَعْنى فيه كالمَعْنى في قوْلِك: "زيدٌ طَويلٌ"، و"عَمْرٌو قَصيرٌ"؛ فكَما لا تَقصِدُ هاهُنا إلى أنْ تَجعلَ الطُّولَ أو القِصَرَ يَتجدَّدُ ويَحدُثُ، بل تُوجِبُهما وتُثْبِتُهما فقطْ، وتَقْضي بوُجودِهما على الإطْلاقِ، كذلك لا تَتعرَّضُ في قوْلِك: "زيدٌ مُنْطلِقٌ" لأكْثرَ مِن إثْباتِه لزيدٍ.
وأمَّا الفِعلُ فإنَّه يُقصَدُ فيه إلى ذلك، فإذا قُلتَ: "زيدٌ هاهو ذا يَنطلِقُ"، فقدْ زعَمتَ أنَّ الانْطلاقَ يَقعُ منه جُزءًا فجُزءًا، وجَعلْتَه يُزاولُه ويُزْجيه)
[58] ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر الجرجاني (1/ 174). .
ثُمَّ قال: (وإذا أردْتَ أنْ تَعْتبرَه حيثُ لا يَخْفى أنَّ أحدَهما لا يَصلُحُ في مَوضِعِ صاحِبِه، فانْظُرْ إلى قولِه تعالى:
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الكَهْف: 18] ؛ فإنَّ أحدًا لا يَشُكُّ في امْتناعِ الفِعلِ هاهُنا، وأنَّ قوْلَنا: "كلْبُهم يَبْسُطُ ذِراعَيه" لا يُؤدِّي الغَرَضَ، وليس ذلك إلَّا لأنَّ الفِعلَ يَقْتضي مُزاوَلةَ وتَجدُّدَ الصِّفةِ في الوقْتِ، ويَقْتضي الاسمُ ثُبوتَ الصِّفةِ وحُصولَها مِن غيرِ أنْ يكونَ هُناك مُزاوَلةُ وتَزْجِيةُ فعلٍ ومَعْنًى يَحدُثُ شيئًا فشيئًا. ولا فرْقَ بينَ "وكلْبُهم باسِطٌ" وبينَ أنْ يقولَ: "وكلْبُهم واحِدٌ" مَثَلًا، في أنَّك لا تُثبِتُ مُزاوَلةً، ولا تَجْعلُ الكلْبَ يَفعلُ شيئًا، بل تُثْبِتُه بصِفةٍ هو عليها؛ فالغَرَضُ إذَنْ تَأدِيةُ هيْئةِ الكَلْبِ)
[59] ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر الجرجاني (1/175). .
قال كُثَيِّرٌ: الطَّويل
أأزمَعْتِ بَيْنًا عاجِلًا وتَركْتِني
كَئيبًا سَقيمًا حائِرًا أَتلَدَّدُ
[60] التَّلَدُّد: التَّلَفُّت يَمِينًا وشِمالًا تَحَيُّرًا. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (4/ 245). (الشَّطرُ الثَّاني مِنَ البيْتِ يَتضمَّنُ أرْبعَةَ أحْوالٍ، وهِي: (كئيبًا، سقيمًا، حائرًا، أتلدَّدُ). وتَتجلَّى بَراعةُ الشَّاعرِ في طَريقةِ تَعْبيرِه عن تلك الأحْوالِ؛ فالأحْوالُ الثَّلاثُ الأُولى أسْماءٌ "حالٌ مُفْردةٌ"، والحالُ الرَّابِعةُ "أتَلدَّدُ" فِعلٌ، وهذا يُصوِّرُ -أصْدقَ تَصْويرٍ- طَبيعةَ أحاسيسِه وأحْوالِه بعدَ فِراقِ مَحْبوبتِه؛ فالكآبَةُ والسُّقْمُ والحَيرةُ كلُّها أحْوالٌ دائِمةٌ تُحاصِرُه مُحاصَرةً لازِمةً، أمَّا التَّلدُّدُ (الَّذي هو التَّلفُّتُ) فإنَّه لا يكونُ دائِمًا، وإنَّما هو حَركةٌ مُتجدِّدةٌ؛ فالحائِرُ يتجدَّدُ التِفاتُه في جِهاتٍ مُخْتلِفةٍ، ولهذا جاء التَّعبيرُ عن ذلك بصِيغةِ الفِعلِ مُخالِفًا نسَقَ الأحْوالِ السَّابِقةِ)
[61] ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص:53). .
وللخبَرِ تَقْسيمٌ آخَرُ بحسَبِ اخْتِلافِ أحْوالِ المُخاطَبِ، فيَنْقسِمُ إلى:
1- خبَرٍ ابْتدائيٍّ: وهُو ذلك الخبَرُ الَّذي يَتحدَّثُ به المُتكلِّمُ إلى مَخاطَبٍ خالي الذِّهْنِ مِنَ الخبَرِ، غيرِ مُتردِّدٍ فيه ولا مُنْكِرٍ له، وفي هذا المَوقِفِ لا يُؤكِّدُ الكَلامَ؛ لأنَّه لا حاجةَ إلى التَّوْكيدِ، ولأنَّ حقَّ الكَلامِ أنْ يكونَ بقدْرِ الحاجةِ لا زائِدًا عنْها؛ لِئَلَّا يكونَ عبَثًا، ولا ناقِصًا عنْها لِئَلَّا يُخِلَّ بالغَرَضِ. وهذا تَمامُ الإفْصاحِ والبَيانِ.
ولهذا تقولُ: "مُحمَّدٌ في الدَّارِ" خبَرٌ لمَنْ لا يَعلَمُ ذلك ولا يَشُكُّ فيه، ومنه قولُه تعالى:
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف: 46] .
فخُلوُّ الذِّهْنِ عنِ الخبَرِ الَّذي يُلقَى إليه يَجْعلُه يَتأكَّدُ في نفْسِه ويَتمكَّنُ منْها دُونَ الاسْتعانةِ بالتَّوْكيدِ.
2- خبَرٍ طَلبيٍّ: وهُو ما يَتحدَّثُ به المُتكلِّمُ إلى مُخاطَبٍ مُتردِّدٍ في تَصْديقِه، طالِبٍ الوُصولَ إلى مَعْرفتِه، والوُقوفَ على حَقيقتِه. وهذا الخبَرُ يَتأكَّدُ بمُؤكِّدٍ واحِدٍ لكي يُزيلَ هذا التَّردُّدَ.
فتقولُ: "إنَّ مُحمَّدًا في الدَّارِ"، ومنه قولُه تعالى:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [فاطِر: 5] ؛ فتَأكيدُ الخبَرِ بـ(إنَّ) لنَفيِ التَّردُّدِ والشَّكِّ في الخبَرِ.
3- خبَرٍ إنْكاريٍّ: وهُو ما يوجَّهُ إلى مُخاطَبٍ يُنكِرُ الخبَرَ صَراحَةً؛ ولهذا يَلزَمُ المُتكلِّمَ أنْ يُؤكِّدَه بغيرِ مُؤكِّدٍ، فتَزيدُ المُؤكِّداتُ في الخبَرِ بزِيادَةِ دَرَجةِ الإنْكارِ لدى المُخاطَبِ.
ومِثالُ هذا قولُه تعالى:
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس: 13 - 16] .
أرسَلَ اللهُ في أوَّلِ الأمْرِ رَسولَينِ، فلمَّا كُذِّبا أرسَلَ اللهُ ثالِثًا، وأكَّدوا لهم الخبَرَ
إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ، فأكَّد بـ(إنَّ) وباسْميَّةِ الجُمْلةِ، فلمَّا بالغوا في التَّكذيبِ ولَجُّوا في الإنْكارِ كرَّر عليهم الرُّسلُ الخبَرَ مُضافًا إليه ألْوانٌ جَديدةٌ مِنَ التَّوْكيدِ، فقالوا:
رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ؛ فجاء الخبَرُ مُؤكَّدًا بالقَسَمِ في أوَّلِه
رَبُّنَا يَعْلَمُ [62] قال ابن عاشور: (ورَبُّنَا يَعْلَمُ قَسَمٌ؛ لأنَّه استِشهادٌ باللهِ على صِدْقِ مَقالتِهم، وهو يَمِينٌ قَدِيمةٌ، انتَقَلَها العَرَبُ في الجاهليَّةِ، فقال الحارثُ بْنُ عَبَّادٍ: لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّـ ... ـهُ وَإِنِّي لِحَرِّهَا الْيَوْمَ صَالِي ويَظْهَرُ أنَّه كان مُغَلَّظًا عندهم؛ لِقِلَّةِ وُرودِه في كَلامِهم، ولا يَكادُ يَقَعُ إلَّا في مَقامٍ مُهِمٍّ). ((تفسير ابن عاشور)) (16/ 441). ، وبـ(إنَّ)، واللَّامِ، واسْميَّةِ الجُملةِ، فضْلًا عن تَكرارِ الخبَرِ نفسِه، فالتَّكرارُ وَسيلةٌ مِن وَسائِلِ التَّوكيدِ.
واخْتِلافُ أنْواعِ الخبَرِ في التَّوكيدِ بحسَبِ حالِ المُخاطَبِ يُسمَّى في عِلمِ
البَلاغَةِ "مُراعاةَ مُقْتضَى الظَّاهِرِ"، على أنَّه قد يَأتي الخبَرُ على خِلافِ مُقْتضَى الظَّاهِرِ:
1- فيُنزَّلُ خالي الذِّهْنِ مَنزِلةَ السَّائِلِ المُتردِّدِ؛ وذلك إذا كان في الكَلامِ ما يُثيرُ تَرقُّبَه وتَشوُّفَه للخبَرِ؛ لأنَّ هذا الخبَرَ يُعَدُّ بِمَنزِلةِ التَّردُّدِ، وهذا كقوْلِه تعالى:
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [هُود: 36-37] ؛ فإنَّه لمَّا قال:
وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بعدَ قولِه تعالى:
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [هُود: 37] ، صار المَقامُ مَقامَ تَلهُّفٍ وتَرقُّبٍ لمَصيرِ هؤلاءِ الظَّالِمين؛ ولِذا ورَد الإخْبارُ بهذا المَصيرِ المُؤكَّدِ
إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ.
2- ويُنزَّلُ المُتردِّدُ مَنْزِلةَ الخالي الذِّهْنِ، مِثْلُ: إذا قُلتَ للمُتردِّدِ في دَوَرانِ الأرْضِ حوْلَ الشَّمسِ: تَدورُ الأرْضُ حوْلَ الشَّمسِ؛ فجاءتِ الجُملةُ خالِيةً مِنَ التَّوكيدِ.
3- ويُنزَّلُ المُتردِّدُ مَنْزِلةَ المُنْكِرِ، كقوْلِك للمُستبعِدِ حُصولَ الفرَجِ: إنَّ الفرَجَ لَقَريبٌ، واللهِ ليأتينَّ الفرَجُ.
4- ويُنزَّلُ المُنْكِرُ مَنْزِلةَ غيرِ المُنْكِرِ؛ وذلك للإيْحاءِ بأنَّ إنكارَه لا قِيمةَ له ولا اعْتدادَ به، كقوْلِه تعالى:
ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البَقَرة: 2] ؛ فنَفْيُ الرَّيْبِ عن كِتابِ اللهِ أمرٌ يُنكِرُه كثيرٌ مِنَ المُعانِدين، ولكنَّ القُرآنَ ساقَ هذا الخبَرَ خالِيًا مِن أدَواتِ التَّوْكيدِ؛ للإشْعارِ بأنَّه مِنَ الحَقائقِ الواضِحةِ الَّتي يُعَدُّ إنْكارُها ضرْبًا مِنَ الوهْمِ الَّذي لا يُعبَأُ به. ومنه قولُه تعالى:
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [البَقَرة: 163] ؛ فالمُشرِكونَ كانوا يَعْبُدونَ آلِهةً كَثيرةً، وكان منْهم مَنْ يقولُ: نَعبُدُ سبْعًا في الأرْضِ، وواحِدًا في السَّماءِ، فجاءتِ الآيةُ دُونَ تَوْكيدٍ تَنْزيلًا لهم مَنْزِلةَ غيرِ المُنْكرِ هذه الحَقيقةَ العَظيْمةَ.
5- ويُنزَّلُ غيرُ المُنْكِرِ مَنْزِلةَ المُنْكِرِ؛ وذلك إذا كان المُخاطَبُ يَعترِفُ بالخبَرِ ولا يُنكِرُه، ولكن بدا عليه شيءٌ مِن أماراتِ الإنْكارِ، فيُخاطَبُ حِينَئذٍ بالخبَرِ مُؤكَّدًا في الأمرِ الَّذي لا يُنْكِرُه، ومِنَ الأمْثلةِ على ذلك قوْلُ حَجْلةَ الباهِليِّ السريع:
جاء شَقِيقٌ عارِضًا رُمحَهُ
إنَّ بَني عَمِّك فيهم رِماحُ
فقَدْ جاء الشَّطرُ الثَّاني مُؤكَّدًا، معَ أنَّ المُخاطَبَ (شَقِيق) لا يُنكِرُه، ولكنَّه نُزِّل مَنْزِلةَ المُنكِرِ لِما بدا منه مِن عَدَمِ اكْتراثٍ بِبَني عَمِّه؛ لأنَّه أقْبلَ عليهم عارِضًا رُمحَه، أيْ: واضِعَه على عَرْضِه، وجاعِلَه بينَ فَخِذَيه.
ومن ذلك قولُه تعالى:
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المُؤمِنون: 15-16] ؛ قال القَزْوينيُّ: (أكَّد إثْباتَ الموْتِ تَأكيدَين وإنْ كان ممَّا لا يُنكَرُ؛ لتَنْزيلِ المُخاطَبِين مَنْزِلةَ مَنْ يُبالِغُ في إنْكارِ الموْتِ لِتَماديهم في الغَفْلةِ والإعْراضِ عنِ العمَلِ لِما بعدَه؛ ولِهذا قيلَ: "مَيِّتونَ" دُونَ "تَمُوتونَ". وأكَّد إثْباتَ البعْثِ تَأكيدًا واحِدًا وإنْ كان ممَّا يُنكَرُ؛ لأنَّه لمَّا كانت أدِلَّتُه ظاهِرةً كان جَديرًا بألَّا يُنكَرَ، بل إمَّا أنْ يُعْترَفَ به أو يُتردَّدَ فيه، فيُنزَّلَ المُخاطَبونَ مَنْزِلةَ المُتردِّدِين؛ تَنْبيهًا لهم على ظُهورِ أدِلَّتِه، وحَثًّا لهم على النَّظرِ فيها؛ ولِهذا جاء
تُبْعَثُونَ على الأصْلِ)
[63] ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للخطيب القزويني (1/ 67). . فزادَت الجُملةُ الأُولى الَّتي لا يُنكرُها أحدٌ بتَوكيدَين: اللَّامِ المُزْحلَقةِ (وهِي لامُ الابْتداءُ)، ومَجيءِ الخبَرِ اسْمًا ولم يَقُلْ: تَمُوتونَ، كما قال: تُبْعَثُون، والاسْمُ يُفيدُ الدَّوامَ والثَّباتَ، والفِعلُ يُفيدُ التَّجدُّدَ والحُدوثَ.
6- ويُنزَّلُ المُنكِرُ مَنْزِلةَ المُتردِّدِ، كما تقولُ لمَنْ يُنكِرُ أنَّ الْتزامَ النَّاسِ بغَضِّ البصَرِ يكونُ سببًا في إصْلاحِ المُجْتمَعِ: إنَّ غَضَّ البصَرِ نَجاةٌ للمُجْتمَعِ مِنَ الشُّرورِ والمَفاسِدِ.
وأشْهرُ المُؤكِّداتِ الَّتي تُؤكِّدُ الخبَرَ: إنَّ، وأنَّ، ولامُ الابْتداءِ
[64] وهي لامٌ مفتوحةٌ تدخُلُ على المبتدأِ، ولا تعمَلُ فيه شيئًا، فلا تُغيِّرُ من إعرابِه. ، وأحْرفُ التَّنْبيهِ (ألَا، هَلَا، أَيَا)، والقسَمُ، ونُونا التَّوكيدِ (الخَفيفةُ والثَّقيلةُ)، والحُروفُ الزَّائِدةُ الَّتي تُزادُ في الفِعلِ (كـ: تَفعَّل واسْتَفْعل)، وتَكرارُ الخبَرِ (مِثْلُ: مُحمَّدٌ قائِمٌ مُحمَّدٌ قائِمٌ)، و(قدْ)
[65] انظر: معاني (قد) في (حروف المعاني) من هذه الموسوعة. ، و(إمَّا) الشَّرطيَّةُ، و(إنَّما)، وأنْ تكونَ الجُملةُ اسْميَّةً، وضَميرُ الفَصْلِ، وتَقْديمُ الفاعِلِ المَعْنويِّ (مِثْلُ: الطَّالِبُ حضَر، الرَّئيسُ انْتَصر...)، السِّينُ و(سَوْفَ) الدَّاخِلتانِ على فِعلٍ دالٍّ على وعْدٍ، أو وَعيدٍ
[66] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 57 - 60)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (1/ 45). .
ويَكثُرُ تَأكيدُ الكَلامِ في الأساليبِ التَّعْليميَّةِ لتَقويَةِ مَضْمونِ الكَلامِ عندَ المُخاطَبِ وتَقْريرِه في نفْسِه وإنْ كان غيرَ مُنْكِرٍ له، مِثْلُ قوْلِ ابنِ المُقفَّعِ:
(اعلَمْ أنَّ رأيَك لا يتَّسعُ لكلِّ شيءٍ ففرِّغْه للمُهمِّ، وأنَّ مالَك لا يُغْني النَّاسَ كلَّهم، فاخْتصَّ به ذَوي الحُقوقِ، وأنَّ كَرامتَك لا تُطيقُ العامَّةَ، فتوخَّ بِها أهْلَ الفَضائِلِ، وأنَّ لَيلَك ونَهارَك لا يَسْتوعِبانِ حاجَتَك وإنْ دأَبتَ فيهما، وأنَّه ليس لك إلى أدائِها سَبيلٌ معَ حاجَةِ جَسدِك إلى نَصيبِه مِنَ الدَّعَةِ، فأحْسِنْ قِسْمتَهما بينَ عَملِك ودَعَتِك)، فانْظُرْ إلى تَصْديرِ الجُمَلِ وتَوكيدِها بـ«أنَّ»، معَ أنَّ المُتعلِّمَ يُسلِّمُ لمُعلِّمِه فيما يقولُه له، لكنَّه لمَّا أرادَ تَوْكيدَ الفِكرةِ وجذْبَ انْتباهِ المُتلقِّي لَها جاء بـ«أنَّ» المُؤكِّدةِ.
وقد يكونُ تَوْكيدُ المَقامِ لتَحْقيقِ الوعْدِ أوِ الوَعيدِ، كما في قولِه تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنْبِياء: 101] ، وقولِه سُبحانَه:
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحَجُّ: 38] ، وقولِه جلَّ وعَلا:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج: 39] ، وقولِه جلَّ شأنُه:
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنْبِياء: 98] [67] ينظر: ((خصائص التركيب)) لمحمد أبو موسى (ص: 94، 97) .
7- تنزيلُ العالمِ بالشَّيءِ مَنزلةَ الجاهلِ: لعدَمِ عِلمِه بمُقْتضى عِلمِه، كقولِنا لمَن يُسِيءُ لأبيهِ: "هذا أبوكَ"؛ فهو يَعلَمُ أنَّه أبوهُ، لكنْ لمَّا لم يكُنْ يُحسِنُ مُعاملَتَه ويُنزِلَه مَنزِلتَه مِن الاحترامِ والتَّوقيرِ والطَّاعةِ، نُزِّلَ مَنزلةَ مَن لا يَعلَمُ؛ تَنبيهًا على خَطئهِ وتَقصيرِه وتَوبيخًا.