المَبْحَثُ الأوَّلُ: الإيجازُ
الإيجازُ: وضْعُ المَعاني الكَثيرةِ في ألْفاظٍ أقلَّ منْها، وافيةٍ بالغَرَضِ المَقْصودِ، معَ الإبانةِ والإفْصاحِ. وقيل: الاقْتِصادُ في ألْفاظِ العِبارةِ اقْتِصادًا لا يُؤثِّرُ في وُضوحِ مَعْناها.
والمَقْصودُ أنَّ شرْطَ
البَلاغَةِ في الإيجازِ أنْ تَقومَ العِبارةُ -على وجَازتِها واخْتِصارِها- بوَظِيفتِها التَّعبيريَّةِ. لكنْ إنْ كان اللَّفظُ مُخْتصَرًا ولا يُؤدِّي المَعْنى كان ذلك مِنَ الإخْلالِ المَعيبِ، كقَولِ الحارِثِ بنِ حِلِّزَةَ: الكامل
ولقد رأيْتُ مَعاشِرًا
قد ثَمَّروا مالًا ووُلْدَا
فهمُ زَبابٌ حائِرٌ
لا تَسمَعُ الآذانُ رَعْدَا
فانْعَمْ بجَدِّك لا يُضِرْ
كَ النُّوكُ ما أُعطِيتَ جَدَّا
والعَيْشُ خيْرٌ في ظِلا
لِ النُّوكِ ممَّنْ عاشَ كَدَّا
مَوضِعُ الإيجازِ هنا في البيتِ الأخيرِ؛ حيثُ يُريدُ الشَّاعرُ أنْ يقولَ: إنَّ الحَياةَ المُتْرفةَ الَّتي يَعيشُها الحَمْقى خيْرٌ مِنَ الحَياةِ الشَّقيَّةِ معَ العقْلِ، لكنَّ ألْفاظَه قَصُرتْ عن أداءِ المَعْنى المَطْلوبِ.
والإيجازُ عندَ البَلاغِيِّينَ نوعانِ:
1- إيجازُ القَصْرِ:وهُو تَضْمينُ العِباراتِ القَصيرةِ مَعانيَ كَثيرةً مِن غيرِ حذْفٍ، كقَولِه تعالى:
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 179] ؛ فإنَّ مَعْناه كَثيرٌ، ولفْظَه قَليلٌ؛ فالمُرادُ أنَّ الإنْسانَ إنْ علِمَ أنَّه إنْ قتَل قُتِل لَما تَجرَّأ على قتْلِ غيرِه، وفي ذلك حَياتُه وحَياةُ غيرِه.
وبمُقارنَةِ هذه الآيةِ معَ قولِ العَربِ قَديمًا: "القتلُ أنْفى للقتْلِ" تَجدُ أنَّه رغمَ اتِّفاقِهما في المَعْنى، فإنَّ الآيةَ كانت أكْثرَ
بَلاغَةً وإعْجازًا؛ فجُملةُ العَربِ مِن ثَلاثِ كَلِماتٍ، في حينِ "القِصاصُ حَياةٌ" مِن كَلمتَينِ، كما أنَّ الآيةَ ليس فيها ذلك التَّكرارُ الحاصِلُ بتَكرارِ لفْظِ القتْلِ، كما أنَّها انْفرَدتْ ببَيانِ فضْلِ القِصاصِ والتَّرغيبِ فيه، كما أنَّ المَعْنى يَطَّردُ في الآيةِ دُونَ العِبارةِ؛ فكلُّ قِصاصٍ حَياةٌ، وليس كلُّ قتْلٍ نفْيًا للقتْلِ؛ إذِ القتْل الَّذي لا يكونُ على وجْهِ القِصاصِ سَببُ إراقَةِ الدِّماءِ وليس نفْيًا له، كما أنَّ تَنْكيرَ لفْظِ "حَياة" في الآيةِ أفاد التَّعْظيمَ، وأنَّ القِصاصَ هو السَّبيلُ الوَحيدُ لِما تَنشُدُه المُجْتمعاتُ مِنَ الحَياةِ الآمِنةِ، كذلك فإنَّ إدْخالَ "في" على "القِصاصِ" تَجْليةٌ لحِكمةِ القِصاصِ، وأنَّه ليس مُجرَّدَ إراقَةِ دِماءٍ، وإنَّما هو مَصدَرُ الحَياةِ، كما أفاد التَّقْديمُ والتَّأخيرُ في الآيةِ التَّخْصيصَ الَّذي يُرغِّبُ في القِصاصِ، وتَضمَّنتْ أيضًا الطِّباقَ بَيْنَ لفْظِ الحَياةِ والقِصاصِ.
ويَتجلَّى إيجازُ القصْرِ كذلك في قولِه تعالى:
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] ، وفي قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّةِ )) [269] أخرجه البخاري (6689)، ومسلم (1907) مطولاً من حَديثِ عمر بن الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
فانْظُرْ كيف اشْتَملتِ الآيةُ على وَصايا وأوامِرَ ربَّانيَّةٍ، حَوَتْ كَثيرًا مِن أمورِ الحَياةِ وتَفاصيلِها، كنَشْرِ العَفْوِ بَيْنَ النَّاسِ والحكْمِ به، والأمرِ بالعُرْفِ الشَّائِعِ بَيْنَ النَّاسِ، لا بما يُحمِّلُهم فوق طاقتِهم ويَزيدُ عن مَقْدورِهم، والإعْراضِ عنِ الجاهلينَ، فلا يَخوضُ في جهْلِهم، ولا يَعبَأُ بسَفاهتِهم وبُغْضِهم، ولا يَحزَنُ بصَنيعِهم ورغْبتِهم عنه.
وفي الحَديثِ لفَت الانْتِباهَ إلى أنَّ التَّعْويلَ على النِّيَّاتِ والقلوبِ، لا على الظَّاهِرِ مِن أفْعالِ النَّاسِ وأقْوالِهم، فربَّما تَتشابَهُ الأفْعالُ غيْرَ أنَّ هذا يُجزَى وهذا يُعاقَبُ.
فانْظُرْ كيف حَوَتِ الآيةُ والحَديثُ هذه المَعانيَ السَّاميةَ في ألْفاظٍ يَسيرةٍ سَهْلةٍ في مُتناوَلِ الإنْسانِ أنْ يَفْهمَها بلا تَعْقيدٍ أو صُعوبةٍ
[270] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 175)، ((الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور)) لابن الأثير (ص: 143). .
2- إيجازُ الحذْفِ:ويكونُ عن طَريقِ حذْفِ شيءٍ مِنَ الجُملةِ، بشَرطِ أن يدُلُّ السِّياقُ والقَرينةُ على المَحْذوفِ، وإلَّا كان الحذْفُ سقْطًا يُخِلُّ بالمَعْنى.
وهذا الحذْفُ قد يكونُ حرْفًا، كقَولِه تعالى:
قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم: 20] ، أيْ: ولم أكنْ بَغيًّا.
أو اسمًا مُضافًا، نحْوُ:
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] ، أيْ: وأتْمَمناها بعشْرِ ليالٍ.
أو صفةً، نحْوُ:
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124-125] ، أي: فزادَتْهم رِجْسًا مُضافًا إلى رِجْسِهم.
أو اسْمًا مَوْصوفًا، نحْوُ:
وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [الفرقان: 71] ، أيْ: وعمِل عمَلًا صالِحًا.
أو جَوابَ شرْطٍ، نحْوُ:
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنعام: 27] ، أيْ: لَرأيتَ أمرًا فَظيعًا.
ودَواعي الإيجازِ كَثيرةٌ؛ منْها:- الاخْتِصارُ.
- تَسْهيلُ الحِفْظِ.
- تَقْريبُ الفَهْمِ.
- ضِيقُ المَقامِ.
- إخْفاءُ الأمرِ عن غيرِ السَّامِعِ.
- الضَّجرُ والسَّآمةُ.
ويُسْتحسَنُ الإيجازُ في الاسْتِعطافِ، والشَّكوى، والاعْتِذارِ، والتَّعْزيةِ، والعِتابِ، والوعْدِ، والوَعيدِ، والتَّوْبيخِ، والرَّسائِلِ السِّياسيَّةِ والإداريَّةِ
[271] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 199)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 183). .