الفَصْلُ العاشرُ: الالْتِفاتُ
هو (التَّحْويلُ في التَّعْبيرِ الكَلاميِّ مِنِ اتِّجاهٍ إلى آخَرَ مِن جِهاتِ أو طُرقِ الكَلامِ الثَّلاثِ: "التَّكلُّم - والخِطاب - والغَيْبة" معَ أنَّ الظَّاهِرَ في مُتابعةِ الكَلامِ يَقْتضي الاسْتِمرارَ على مُلازمَةِ التَّعْبيرِ وَفقَ الطَّريقةِ المُخْتارةِ أوَّلًا دُونَ التَّحوُّلِ عنها)
[279] ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 479). .
وهُو فنٌّ مِنَ
البَلاغَةِ مِلاكُه الذَّوقُ السَّليمُ والوِجْدانُ الصَّادِقُ، ويُلقَّبُ بـ"شَجاعةِ العَربيَّةِ"؛ لأنَّ فيه وُرودَ المَوارِدِ الصَّعبةِ واقْتِحامَ مَضايقِ الأساليبِ.
وحَقيقتُه التَّعْبيرُ عن مَعْنًى بطَريقٍ مِنَ الطُّرقِ الثَّلاثِ: التَّكلُّم، والخِطاب، والغَيْبة، بعدَ التَّعْبيرِ عنه بطَريقٍ آخَرَ منْها، ويُفهَمُ مِن الظَّرفِ "بعْدَ التَّعبيرِ عنه" أنَّ الالتفاتَ لا بُدَّ فيه مِن مَنقولٍ عنه مَذكورٍ ومَنقولٍ إليه، وأنَّ مَلامِحَه لا تَتبيَّنُ إلَّا عندَ المنقولِ إليه. وذلك سِتُّ صُورٍ:
1- مِنَ التَّكلُّمِ إلى الخِطابِ، كقَولِه تعالى:
وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 22] ، فكان حقُّ مُراعاةِ ضَميرِ المُتكلِّمِ أنْ يقولَ: "وإليه أرْجِعُ"؛ لأنَّه ابْتدأ الكَلامَ باسْتِخدامِ ضَميرِ المُتكلِّمِ في "فطَرني".
2- مِنَ التَّكلُّمِ إلى الغَيبةِ، كقَولِه تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 1-2] ، فلم يَقُلْ: "فصَلِّ لنا"، كما قال: "أعْطَيناكَ، وقولِه سُبحانه:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] ، ولم يَقلْ: مِن رَحْمتِي.
3- مِنَ الخِطابِ إلى التَّكلُّمِ، مِثلُ قولِ عَلْقَمَةَ: الطويل
طحا بكَ قلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ
بُعيدَ الشَّبابِ عصْرَ حان مَشيبُ
تُكلِّفُني ليلى وقد شطَّ وَلْيُها
وعادتْ عوادٍ بَينَنا وخُطوبُ
فبعدَ أنْ قال: "طَحا بكَ قلْبٌ" قال: "تُكلِّفُني"، وكان الأصْلُ أنْ يقالَ: "يُكلِّفُك" أيْ: يُكلِّفُك القلْبُ؛ لأنَّه قال: "طَحا بك" بتَوْجيهِ الكَلامِ إلى المُخاطَبِ.
4- مِنَ الخِطابِ إلى الغَيبةِ، كقَولِه تعالى:
حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: 22] ، فمُطابَقةُ ضَميرِ الخِطابِ في "كُنتُم" يَقْتَضي "وجَرينَ بكم".
5- مِنَ الغَيبةِ إلى التَّكلُّمِ، كقَولِه تعالى:
وَاللَّهُ الَّذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ [فاطر: 9] ، فاسْتَخدمَ طَريقَ الغائِبِ ثمَّ التَّكلُّمِ، فقال: "فسُقناهُ" ولو راعى الغَيبةَ لقال: "فسَاقَهُ".
6- مِنَ الغَيبةِ إلى الخِطابِ، كقَولِه تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 2 - 5] ؛ فالجرْيُ على نفْسِ السِّياقِ كان يَقْتضي: "إيَّاه نَعْبُدُ وإيَّاهُ نَسْتعينُ".
ووَجْهُ حُسْنِ الالْتِفاتِ أنَّ الكَلامَ إذا نُقِل مِن أسْلوبٍ إلى أسْلوبٍ كان ذلك أحسَنَ تَطْريةً وتَجْديدًا لنَشاطِ السَّامِعِ، وأكْثرَ إيْقاظًا للإصْغاءِ إليه مِن إجْرائِه على أسْلوبٍ واحِدٍ؛ ومِن ثَمَّ قيل: لكلِّ جَديدٍ لَذَّةٌ.
على أنَّ لبعضِ مواقِعِه لَطائِفَ يَختصُّ بها، كما في قَولِه تعالى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 2 - 5] ؛ فإنَّ العبْدَ إذا افْتتَح حمْدَ مَولاه الحَقيقِ بالحمْدِ عن قلْبٍ حاضِرٍ ونفسِ ذاكِرٍ لِما هو فيه بقَولِه:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ على اخْتِصاصِه بالحَمْدِ، وأنَّه حَقيقٌ به، وجَد مِن نفْسِه مُحرِّكًا للإقْبالِ عليه، فإذا انْتقَل إلى قَولِه:
رَبِّ الْعَالَمِينَ الدَّالِّ على أنَّه مالِكٌ للعالَمينَ، لا يَخرُجُ منْهم شيءٌ عن مَلَكوتِه، قَوِي ذلك المُحرِّكُ، وهكذا كلَّما أجْرى عليه صِفةً مِن تلك الصِّفاتِ العِظامِ قَوِيَ ذلك المُحرِّكُ، إلى أنْ يَؤولَ الأمرُ إلى خاتِمتِها المُفيدةِ أنَّه مالِكُ الأمرِ كلِّه في يومِ الجَزاءِ، حِينَئذٍ يَجدُ مِن نفْسِه إقْبالًا عليه وتَخْصيصًا له بالخِطابِ بغايةِ الخُضوعِ والاسْتِعانةِ به في المُهمَّاتِ
[280] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (1/ 34)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 141، 142). .