المَطْلَبُ الثَّاني: السَّجْعُ في القُرآنِ
اخْتَلفَ البَلاغيُّون قَديمًا وحَدِيثًا في شأنِ السَّجْعِ؛ أهُو عيبٌ مَذْمومٌ أم مُحَسِّنٌ بَلاغيٌّ، ولِهذا دار الخِلافُ بينَهم في كونِ السَّجْعِ يدخُلُ في القُرآنِ أم لا.
فذهَب الَّذين نفَوا أن يكونَ مِنَ السَّجْعِ شيءٌ في القُرآنِ إلى أنَّ السَّجْعَ مَذْمومٌ؛ بدَليلِ قولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أسَجْعٌ كسَجْعِ الأعْرابِ؟!)) [471] أخرجه مسلم (1682) مطولاً من حديث المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللهُ عنه. ، وفي حديثِ أبي هُريرةَ:
((إنَّما هذا مِن إخْوانِ الكُهَّانِ )) [472] أخرجه البخاري (5758) واللفظ له، ومسلم (1681) .
واستدلُّوا كذلك بأنَّ الأسْجاعَ عيبٌ؛ لأنَّها تابِعةٌ للَّفظِ، والمَعْنى تابِعٌ لها، كما أنَّ السَّجْعَ يَألَفُه الكُهَّانُ مِنَ العَربِ. ونفْيُه مِنَ القُرآنِ أجدَرُ بأن يكونَ حُجَّةً في نفْيِ الشِّعرِ.
والحقُّ أنَّ السَّجْعَ ليس عيْبًا في ذاتِه؛ فقد ورَد في القُرآنِ والحَديثِ مِثلُه، كما جاء في كَلامِ الفُصَحاءِ العَربِ، كقُسٍّ وسَحبانَ وغيرِهما، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد سمِع الشِّعرَ وأمَر أصْحابَه برِوايتِه، والسَّجْعُ أهْونُ مِنَ الشِّعرِ؛ فكيف يَكونُ الهيِّنُ حَرامًا والعَظيمُ حَلالًا؟!
وإنَّما يُعابُ السَّجْعُ إذا احْتاجَ مُتكلِّفُه إلى تَنْقيصِ المَعْنى أو زِيادتِه، فالَّذي فاتَه مِنَ المَعْنى يَقبُحُ، وترْكُ السَّجْعِ لا يَقْبُحُ، فيكونُ حينَئذٍ السَّجْعُ قَبيحًا لاسْتِلزامِ القُبْحِ، وهُو ما قال فيه الإمامُ عبدُ القاهِرِ الجُرْجانيُّ: (ولن تَجِدَ أيْمنَ طائِرًا، وأحْسَنَ أوَّلًا وآخِرًا، وأهْدى إلى الإحْسانِ، وأجْلَبَ للاسْتِحسانِ؛ مِن أنْ تُرسِلَ المَعانيَ على سَجيَّتِها، وتَدعَها تَطلُبُ لأنفُسِها الألْفاظَ؛ فإنَّها إذا تُرِكَتْ وما تُريدُ لم تَكْتسِ إلَّا ما يَليقُ بها، ولم تَلبَسْ مِنَ المَعارِضِ إلَّا ما يَزِينُها، فأمَّا أن تَضعَ في نفْسِك أنَّه لا بدَّ مِن أنْ تُجنِّسَ أو تُسَجِّعَ بلفْظَينِ مَخْصوصَينِ، فهُو الَّذي أنت منه بعَرَضِ الاسْتِكراهِ، وعلى خطَرٍ مِنَ الخَطأ والوُقوعِ في الذَّمِّ)
[473] ((أسرار البلاغة)) لعبد القاهر الجرجاني (ص: 14). .
والحَديثُ الَّذي فيه إنْكارُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم السَّجْعَ، ما رَواه أبو هُريرةَ رضِي اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قَضى في امْرأتَينِ مِن هُذَيلٍ اقْتَتَلتا، فرَمتْ إحداهما الأخْرى بحَجَرٍ، فأصابَ بَطْنَها وهيَ حامِلٌ، فقَتلَتْ ولَدَها الَّذي في بَطْنِها، فاخْتَصموا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقَضى: أنَّ دِيَةَ ما في بَطْنِها غُرَّةٌ؛ عبْدٌ أو أمَةٌ، فقال وَليُّ المَرأةِ الَّتي غَرِمَتْ: كيف أغْرَمُ -يا رَسولَ اللهِ- مَن لا شَرِبَ ولا أكلْ، ولا نطَق ولا اسْتهلّْ، فمِثْلُ ذلكَ يُطَلّْ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم:
((إنَّما هذا مِن إخْوانِ الكُهَّانِ )).
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إنَّما عاب عليه ذلك لِما في كَلامِه مِن تَكلُّفٍ في الألْفاظِ لمُراعاةِ السَّجْعِ على حِسابِ المَعْنى، فضْلًا عن رَدِّه لقَضاءِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بكَلامِه. وإلَّا فلو كان السَّجْعُ باطِلًا في نفْسِه لَما قال: "أسَجْعًا كسَجْعِ الأعْرابِ؟"، بل لَقال: "أسَجْعًا؟"، فقيَّدَه بكونِه مِثلَ سَجْعِ الأعْرابِ.
غيْرَ أنَّ الأَوْلى اسْتِخدامُ لفْظةِ "الفاصِلةِ" في القُرآنِ الكَريمِ بدَلًا مِنِ اسْتِخدامِ كَلمةِ "السَّجْعِ"؛ خُروجًا مِنَ الخِلافِ، ولأنَّه لفْظٌ قُرآنيٌّ، كما قال تعالى:
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 1] ، كما أنَّ الفاصِلةَ أعَمُّ مِنَ السَّجْعِ؛ فإنَّها تُطلَقُ على أوَاخِرِ الآياتِ، سواءٌ اتَّفقتْ قافيتُها في نفْسِ الحرْفِ أم لا؛ فقولُه تعالى:
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش: 1 - 4] ، لا يَخْفى ما فيه مِن تَناسُبٍ صَوتيٍّ في حُروفِ فواصِلِه، وهي حُروفُ الشِّينِ والفاءِ والتَّاءِ، وهي كلُّها حُروفُ همْسٍ بعدَ حرْفِ لِينٍ، فصنَع جَمالًا لَفْظيًّا مُضافًا إلى الجَمالِ المَعنويِّ، مِن غيرِ أن يكونَ بينَ فَواصِلِه اتِّفاقٌ في الحُروفِ
[474] ينظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 196). .
فـ(الفَواصِلُ هي الكَلِماتُ الَّتي تَتَماثَلُ في أوَاخِرِ حُروفِها أو تَتَقارَبُ، معَ تَماثُلِ أو تَقارُبِ صِيغِ النُّطقِ بها، وتُكرَّرُ في السُّورةِ تَكررًا يُؤذِنُ بأنَّ تَماثُلَها أو تَقارُبَها مَقْصودٌ مِنَ النَّظْمِ في آياتٍ كثيرةٍ مُتَماثلةٍ، تَكثُرُ وتَقِلُّ، وأكْثرُها قَريبٌ مِنَ الأسْجاعِ في الكَلامِ المَسْجوعِ. والعِبرةُ فيها بتَماثُلِ صِيغِ الكَلِماتِ مِن حَرَكاتٍ وسُكونٍ، وهِي أكْثرُ شَبَهًا بالْتِزامِ ما لا يَلزَمُ في القَوافي. وأكْثرُها جارٍ على أسْلوبِ الأسْجاعِ.
والفَواصِلُ كلُّها مُنْتهى آياتٍ، ولو كان الكَلامُ الَّذي تَقعُ فيه لم يتِمَّ فيه الغَرَضُ المَسوقُ إليه، وإذا انْتَهى الغَرَضُ المَقْصودُ مِنَ الكَلامِ ولم تَقعْ عندَ انْتِهائِه فاصِلةٌ، لا يكونُ مُنْتهى الكَلامِ نِهايةَ آيةٍ إلَّا نادِرًا، كقَولِه تعالى:
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: 1] ، فهذا المِقدارُ عُدَّ آيةً وهُو لم يَنْتهِ بفاصِلةٍ، ومِثلُه نادِرٌ؛ فإنَّ فَواصِلَ تلك الآياتِ الواقِعةِ في أوَّلِ السُّورةِ أُقيمَتْ على حرْفٍ مَفْتوحٍ بعدَ ألِفِ مدٍّ بعدَها حرْفٌ، مِثلُ:
شِقَاقٍ [ص: 2] ،
مَنَاصٍ [ص: 3] ،
كَذَّابٌ [ص: 4] ،
عُجَابٌ [ص: 5] .
وفواصِلُ بُنِيتْ على حرْفٍ مَضْمومٍ مُشبَعٍ بواوٍ، أو على حرْفٍ مَكْسورٍ مُشْبَعٍ بياءٍ ساكِنةٍ، وبعدَ ذلك حرْفٌ، مِثلُ:
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: 68] ؛
إِذْ يَخْتَصِمُون [ص: 69] ،
نَذِيرٌ مُبِينٌ [ص: 70] ،
مِنْ طِينٍ [ص: 71] .
فلو انْتَهى الغَرَضُ الَّذي سِيقَ له الكَلامُ، وكانتْ فاصِلةً تأتي بعدَ انْتِهاءِ الكَلامِ تكونُ الآيةُ غيرَ مُنْتهيةٍ ولو طالتْ، كقَولِه تعالى:
قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ [ص: 24] إلى قولِه:
خَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص: 24] ، فهذه الجُملُ كلُّها عُدَّتْ آيةً واحِدةً.
واعلَمْ أنَّ هذه الفَواصِلَ مِن جُملةِ المَقْصودِ مِنَ الإعْجازِ؛ لأنَّها تَرجِعُ إلى مُحسِّناتِ الكَلامِ، وهِي من جانِبِ فَصاحةِ الكَلامِ، فمِنَ الغَرَضِ البَلاغيِّ الوُقوفُ عندَ الفَواصِلِ لتَقعَ في الأسْماعِ فتَتأثَّرَ نُفوسُ السَّامِعينَ بمَحاسِنِ ذلك التَّماثُلِ، كما تَتأثَّرُ بالقَوافي في الشِّعرِ، وبالأسْجاعِ في الكَلامِ المَسْجوعِ؛ فإنَّ قولَه تعالى:
إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ * ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ [غافر: 71 - 74] إلى آخِرِ الآياتِ؛ فقولُه:
فِي الْحَمِيمِ مُتَّصلٌ بقولِه:
يُسْحَبُونَ، وقولُه:
مِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَّصلٌ بقولِه:
تُشْرِكُونَ. ويَنْبغي الوقْفُ عندَ نِهايةِ كلِّ آيةٍ منْها.
وقولَه تعالى:
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [هود: 54] آية، وقولَه:
مِنْ دُونِهِ [هود: 55] ابتداءُ الآيةِ بعدَها في سُورةِ هُودٍ)
[475] ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 75، 76). .