المَبْحَثُ الثَّاني: مُسَوِّغاتُ الابتداءِ بالنَّكِرةِ
الأصلُ أن يكون المُبتَدَأُ مَعرِفةً؛ لأنَّه سيُخْبَرُ عنه، ولا يصِحُّ الإخبارُ عن نكرةٍ إلَّا إذا أفادت معنًى بوجودِ أحَدِ المسوِّغاتِ الآتيةِ.
1- أن تكونَ النَّكِرةُ مُضافةً، نحوُ قَولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «خمسُ صَلواتٍ كتَبَهنَّ اللهُ على العِبادِ
»
أخرجه مطولاً أبو داود (1420)، والنسائي (461)، وأحمد (22693) واللفظ لهم، وابن ماجه (1401) باختلاف يسير من حديث عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
2- أن تكونَ النَّكِرةُ موصوفةً لفْظًا، نَحوُ قَولِه تعالى:
وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ [البقرة: 221] ، أو تقديرًا، نَحوُ: (أمرٌ أتى بك)، أي: أمرٌ عظيمٌ، أو معنًى، نَحوُ: (رُجَيْلٌ عندنا)؛ لأنَّ التصغيرَ فيه معنى الوَصفِ، أي: رجلٌ صَغيرٌ عندنا.
3- أن يكونَ الخَبَرُ شِبهَ جُملةٍ مُقدَّمًا، نَحوُ:
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10] ،
وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة: 7] ، في الدَّارِ ضَيفٌ.
4- أن تُسبَقَ النَّكِرةُ بنفْيٍ، نَحوُ: (ما أحَدٌ عندنا).
5- أن تُسبَقَ النَّكِرةُ باستفهامٍ، نَحوُ:
أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل: 60] ، هل طالِبٌ نجَح؟
6- أن تُسبَقَ النَّكِرةُ بـ«لولا»؛ فحاجةُ «لولا» إلى الجوابِ يُقَلِّلُ شُيوعَ النَّكِرةِ، نحوُ قَولِ الشَّاعِر: من البسيط
لولا اصطبارٌ لَأَوْدَى كُلُّ ذي مِقَةٍ
لَمَّا استقَلَّتْ مَطَايَاهُنَّ لِلظَّعْنِ
7- أن تُسبَقَ النَّكِرةُ بـ(إذا) الفُجائيَّةِ، نَحوُ: (خرجتُ فإذا أسدٌ بالبابِ).
8- أن تكونَ عامِلةً، نحوُ: «أمرٌ بمعروفٍ صَدَقةٌ، ونهيٌ عن مُنكَرٍ صَدَقةٌ»
أخرج مسلم (720) نحوه من حديث أبي ذَرٍّ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. . فـ(أمرٌ) و(نهيٌ) سوَّغ الابتداءَ بهما كونُهما عامِلَينِ في مَحَلِّ المجرورِ بَعْدَهما؛ لأنَّهما مصدرانِ، والمصدَرُ يَعمَلُ عَمَلَ فِعلِه، فالجارُّ والمجرورُ يتعَلَّقانِ بهما في مَحلِّ نصْبٍ مفعولٌ به.
9- أن تكونَ ممَّا له الصَّدارةُ، مِثلُ اسمِ الشَّرطِ، نَحوُ قَولِه تعالى:
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام: 160] ، أو اسمِ الاستفهامِ، نحوُ: مَن عِندَك؟
10- أن تكونَ دالَّةً على التعجُّبِ، مِثلُ «ما» التعجُّبيَّةِ في قَولِك: «مَا أحسنَ العِلْمَ!»؛ فـ(ما) نكرةٌ مَبْنيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفعٍ مُبتَدَأٌ.
11- أن تُسبَقَ النَّكِرةُ بـ«كم» الخبريَّةِ، نَحوُ: (كَم مَأثرةٍ لك!).
12- أن تكونَ النَّكِرةُ مُفيدةً للدُّعاءِ بخَيرٍ، نَحوُ:
سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79] أو بِشَرٍّ، نَحوُ:
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: 1] .
13- أن تكونَ النَّكِرةُ خَلَفًا عن موصوفٍ، أي: صِفةً لمحذوفٍ، نَحوُ: (عالمٌ خَيرٌ مِن جاهِلٍ)، أي: رجُلٌ عالمٌ. ومنه المثَلُ: (ذَليلٌ عاذَ بقَرْمَلةٍ)، أي: إنسانٌ ذليلٌ عاذ بقَرْمَلةٍ
قال الأصمعيُّ: القَرْمَلَةُ شجيرةٌ ضعيفةٌ لا وَرَق لها، قال جريرٌ: كَانَ الفرزدقُ حين عَاذَ بِخَالِهِ مثلَ الذَّليلِ يَعُوذُ وَسْطَ الْقَرْمَلِ. يُنظَر: ((مجمع الأمثال)) للميداني (1/ 279). .
14- أن تَقَعَ في صَدْرِ جُملةٍ مُرتبطةٍ بواوِ الحالِ، كقَولِ الشَّاعِرِ: من الطويل
سَرَيْنا ونَجْمٌ قَدْ أَضاءَ، فَمُذْ بَدا
مُحيَّاكَ أَخفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شارِقِ
الشَّاهِدُ: «ونجْمٌ قد أضاء»؛ حيث أتى بـ(نجم) مُبتَدَأً مع كونِه نَكِرةً؛ لسَبْقِه بـ«واو» الحالِ.
15- أن يُرادَ بها التنويعُ، أي: التفصيلُ والتقسيمُ، كقَولِ امرئِ القَيسِ: من المتقارب
فأَقبَلْتُ زَحْفًا على الرُّكْبَتَيْنِ
فَثَوْبٌ لَبِسْتُ، وثَوْبٌ أَجُرّْ
فكَلِمةُ «ثوب» نَكِرةٌ جاءت دالَّةً على التنويعِ، فساغ الابتداءُ بها، وجملةُ «لبِسْتُ» في مَحَلِّ رَفعٍ خَبَرُ المُبتَدَأِ، وكذلك (ثَوْبٌ أَجُرُّ).
16- أن يُعطفَ عليها مَعرِفةٌ. نحو: «رجُلٌ وزَيدٌ في الدَّارِ».
17- أن يُعطَفَ عليها نَكِرةٌ موصوفةٌ، نَحوُ قَولِه تعالى:
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ [محمد: 21] ، فـ(طاعة) مُبتَدَأٌ، وخَبَرُها محذوفٌ تقديرُه: أمْثَلُ.
18- أن يرَاد بها حقيقةُ الجِنسِ لا فردٌ واحدٌ منه، نَحوُ: (ثمرةٌ خَيرٌ مِن جَرادةٍ) و(رجُلٌ أقوى من امرأةٍ)، فالمرادُ جِنسُ الثَّمَرةِ وجِنسُ الرِّجالِ.
19- أن تَقعَ جوابًا، نَحوُ: (رجلٌ) في جَوابِ مَن قال: (مَنْ عندَك؟).
20- أن تدخُلَ على النَّكِرةِ (لامُ الابتِداءِ)، نَحوُ: (لَرَجُلٌ قائمٌ)، فـ(رجُل) مُبتَدَأٌ، و(قائِمٌ) خَبَرُه.
21- أن تدلَّ النَّكِرةُ على مدْحٍ، أو ذَمٍّ، أو تهْويلٍ، نَحوُ: (بَطَلٌ في المعركةِ).
22- أن تَقَع بعد فاءِ الجزاءِ، نَحوُ: إن ذَهَب عَيرٌ فعَيرٌ في الرِّباطِ
العَير -بالفتح- الحِمارُ، والرِّباطُ: ما تُشَدُّ به الدَّابَّةُ، وهو مَثَلٌ يُضرَبُ في الرِّضا بالحاضِرِ وتَرْكِ الغائِبِ. يُنظَر: ((مجمع الأمثال)) للميداني (1/ 25). .
23- أن يكونَ الكلامُ مُثبَتًا يُرادُ به النَّفيُ، نَحوُ: أمرٌ جاء بك إلَّا عَظيمٌ، أي: ما أمْرٌ
يُنظَر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (1/ 290)، ((ارتشاف الضَّرَب من لسان العرب)) لأبي حيان الأندلسي (3/ 1100). .