الفصلُ الثَّاني: اختِلافُ الأُصوليِّينَ والأخباريِّينَ مِنَ الشِّيعةِ الإماميَّةِ
تَقدَّم أنَّ الشِّيعةَ الإماميَّةَ ينقَسِمونَ إلى أُصوليِّينَ وأخباريِّين؛ فالأُصوليُّونَ يعتَمِدونَ على الاستِنباطِ والاجتِهادِ وإعمالِ العَقلِ، والأخباريُّون يعتَمِدونَ على مُتونِ الأخبارِ التي تُروى عن أئِمَّتِهم.
ومِمَّا قاله الأخباريُّون: لا يجوزُ العَمَلُ بظاهرِ القُرآنِ الكريمِ!
وقال الأُصوليُّونَ وهم جُمهورُ الشِّيعةِ الإماميَّةِ بحُجِّيَّةِ الظَّواهِرِ، إلَّا أنَّهم قالوا: لا يجوزُ الاستِقلالُ في العَمَلِ بظاهرِ الكِتابِ بلا مُراجَعةِ الأخبارِ الوارِدةِ عنِ الأئِمَّةِ
[2153] يُنظر: ((المعالم الجديدة للأصول)) لمحمد باقر الصدر (ص: 76 - 82)، ((فقه الشيعة الإمامية)) لعلي السالوس (1/ 48 - 50). .
قال الكاظِميُّ الخُراسانيُّ بَعدَ أن بَيَّن حُجِّيَّةَ الظَّواهرِ: (نُسِبَ إلى الأخباريِّين عَدَمُ جَوازِ العَمَلِ بظاهرِ الكِتابِ العَزيزِ، واستَدَلُّوا على ذلك بوجهَينِ؛ الأوَّلُ: العِلمُ الإجماليُّ بتَقييدِ وتَخصيصِ كثيرٍ مِنَ المُطلَقاتِ والعُموماتِ الكِتابيَّةِ، والعِلمُ الإجماليُّ كما يمنَعُ عن جَرَيانِ الأُصولِ العَمَليَّةِ يمنَعُ عن جَرَيانِ الأُصولِ اللَّفظيَّةِ مِن أصالةِ العُمومِ والإطلاقِ التي عليها مَبنى الظُّهوراتِ.
الثَّاني: الأخبارُ النَّاهيةُ عنِ العَمَلِ بالكِتابِ.
ولا يخفى ما في كِلا الوجهَينِ؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ العِلمَ الإجماليَّ ينحَلُّ بالفحصِ عن تلك المُقَيِّداتِ والمُخَصِّصاتِ، والعُثورُ على مِقدارٍ مِنها يُمكِّنُ انطِباقَ المَعلومِ بالإجمالِ عليها. وأمَّا الثَّاني فلأنَّ الأخبارَ النَّاهيةَ عنِ العَمَلِ بالكِتابِ وإن كانت مُستَفيضةً، بَل مُتَواتِرةً، إلَّا أنَّها على كثرَتِها بَينَ طائِفتَينِ: طائِفةٍ تَدُلُّ على المَنعِ عن تَفسيرِ القُرآنِ بالرَّأيِ والاستِحساناتِ الظَّنِّيَّةِ، وطائِفةٍ تدُلُّ على المَنعِ عنِ الاستِقلالِ في العَمَلِ بظاهرِ الكِتابِ مِن دونِ مُراجَعةِ أهلِ البَيتِ الذينَ نَزَل الكِتابُ في بَيتِهم صَلواتُ اللهِ عليهم، ولا يخفى أنَّ مفادَ كُلٍّ مِنَ الطَّائِفتَينِ أجنَبيٌّ عَمَّا يدَّعيه الأخباريُّون)
[2154] ((فوائد الأصول)) (3/ 48). ويُنظر: ((الأصول العامة للفقه المقارن)) لمحمد تقي الحكيم (ص: 102 - 105)، ((أصول الفقه)) للمظفر (3/ 130، 134، 138، 141). .
وقال الخُوئيُّ عن حُجِّيَّةِ ظَواهِرِ القُرآنِ: (لا شَكَّ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يختَرِعْ لنَفسِه طَريقةً خاصَّةً لإفهامِ مَقاصِدِه، وأنَّه كلَّم قَومَه بما أَلِفوه مِن طَرائِقِ التَّفهيمِ والتَّكلُّمِ، وأنَّه أتى بالقُرآنِ ليفهَموا مَعانيه، وليتَدَبَّروا آياتِه، فيأتَمِروا بأوامِرِه، ويزدَجِروا بزواجِرِه، وقد تَكرَّرَ في الآياتِ الكريمةِ ما يدُلُّ على ذلك، كقَولِه تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] ، وقولِه تعالى:
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الزمر: 27] ، وقولِه تعالى:
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبيٍّ مُبِينٍ [الشعراء: 192 - 195] ، وقولِه تعالى:
هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] ، وقولِه تعالى:
فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [الدخان: 58] ، وقولِه تعالى:
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 17]، وقولِه تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [النساء: 82] إلى غَيرِ ذلك مِنَ الآياتِ الدَّالَّةِ على وُجوبِ العَمَلِ بما في القُرآنِ، ولُزومِ الأخذِ بما يُفهَمُ مِن ظَواهرِه.
ومِمَّا يدُلُّ على حُجِّيَّةِ ظَواهرِ الكِتاب، وفَهمِ العَرَبِ لمَعانيه: أنَّ القُرآنَ نَزَل حُجَّةً على الرِّسالةِ، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد تَحَدَّى البَشَرَ على أن يأتوا ولو بسورةٍ مِن مِثلِه، ومَعنى هذا أنَّ العَرَبَ كانت تَفهَمُ مَعانيَ القُرآنِ مِن ظَواهرِه، ولو كان القُرآنُ مِن قَبيلِ الألغازِ لم تَصِحَّ مُطالبَتُهم بمُعارَضَتِه، ولم يثبُتْ لهم إعجازُه؛ لأنَّهم ليسوا مِمَّن يستَطيعونَ فهمَه، وهذا يُنافي الغَرَضَ مِن إنزالِ القُرآنِ، ودَعوةِ البَشَرِ إلى الإيمانِ به)
[2155] ((البيان في تفسير القرآن)) (ص: 281). .
وقال مُحَمَّد تَقي الحكيم: (هي أوضَحُ مِن أن يُطالَ فيها الحَديثُ ما دامَ البَشَرُ في جَميعِ لُغاتِه قد جَرى على الأخذِ بظَواهرِ الكلامِ، وتَرتيبِ آثارِها ولوازِمِها عليها، بَل لو أمكنَ أن يتَخَلَّى عنها لما استَقامَ له التَّفاهُمُ بحالٍ؛ لأنَّ ما كان نَصًّا في مَدلولِه مِمَّا ينتَظِمُ في كلامِه لا يُشَكِّلُ إلَّا أقَلَّ القَليلِ.
وبالضَّرورةِ أنَّ عَصرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما كان بِدعًا مِنَ العُصورِ؛ لينفرِدَ به النَّاسُ في أساليبِ تَفاهمِهم بنَوعٍ خاصٍّ مِنَ التَّفاهمِ لا يعتَمِدُ الظُّهورَ رَكيزةً مِن رَكائِزِه، وما كان للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طَريقةٌ خاصَّةٌ في التَّفاهمِ انفرَدَ بها عن مُعاصِريه، وإلَّا لكانت أُحدوثةَ التَّاريخِ، فالقَطعُ بإقرارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لطَريقَتِهم في التَّفاهمِ كافٍ في إثباتِ حُجِّيَّةِ الظَّواهِرِ. وقد نَزَل القُرآنُ بلُغةِ العَرَبِ، وتَبَنَّى طَريقَتَهم في عَرضِ أفكارِه، وكان لكلامِه ظاهِرٌ يفهَمونَه ويسيرونَ على وَفقِه)
[2156] ((الأصول العامة)) (ص: 102). ويُنظر في بيان حُجِّيَّةِ الظَّواهِرِ عندَ الشِّيعةِ الأصوليِّين: ((فوائد الأصول)) لكاظمي الخراساني (3/ 47)، ((أصول الفقه)) للمظفر (1/ 24، 30 ، 32) و (3/ 129، 130، 134، 141)، ((المعالم الجديدة للأصول)) لمحمد باقر الصدر (ص: 139، 145). .
ومَعَ اعتِبارِ المَعنى الظَّاهرِ يُقِرُّونَ بالمَعنى الباطِنيِّ العَميقِ الذي يُدرَكُ بالتَّدَبُّرِ، على ألَّا يُخالِفَ الظَّاهِرَ، بَل ينسَجِمُ مَعَه ومَعَ مَقاصِدِ الدِّينِ وأهدافِه عُمومًا.
قال علي حَسَب الله في الكلامِ عن ظاهرِ القُرآنِ وباطِنِه: (إذا سَمِعَ المَرءُ كلامًا عَرَبيًّا تَبادرَ إلى ذِهنِه ما يدُلُّ عليه الكلامُ بحَسبِ وَضعِه العَرَبيِّ، فإذا تَدَبَّرَه فقد يفهَمُ مِنه مَقاصِدَ مَطويَّةً وأغراضًا خَفيَّةً، فالمُتَبادَرُ الأوَّلُ: هو ظاهرُ الكلامِ، ويكادُ يُدرِكُه كُلُّ عارِفٍ باللُّغةِ.
والمَفهومُ الثَّاني: هو باطِنُه، وهو لا يُدرَكُ إلَّا بشَيءٍ مِنَ التَّدَبُّرِ، وللقُرآنِ ظاهرٌ وباطِنٌ بهذا المَعنى، وكِلاهما مُرادٌ، غَيرَ أنَّ الثَّاني لا يُعتَدُّ به إلَّا إذا لم يكُنْ مناقِضًا للأوَّلِ، وكان له شاهدٌ مِن مَقاصِدِ الدِّينِ ومَراميه)
[2157] ((أصول التشريع الإسلامي)) (ص: 25). .
والخُلاصةُ أنَّ الأخباريِّين يمنَعونَ العَمَلَ بظاهرِ الكِتابِ، وأنَّ الأُصوليِّينَ يمنَعونَه كذلك إلَّا بَعدَ الرُّجوعِ إلى أقوالِ الأئِمَّةِ، ويندَرِجُ تَحتَ هذا الظَّاهرِ العامُّ والمُطلَقُ وغَيرُهما مِمَّا هو ظاهرٌ في مَعنًى، ومُحتَمِلٌ لمَعنى آخَرَ، فالعامُّ ظاهرٌ في العُمومِ مَعَ احتِمالِ التَّخصيصِ، والمُطلَقُ ظاهرٌ في الإطلاقِ مَعَ احتِمالِ التَّقييدِ.
قال مُحَمَّد رِضا المُظَفَّر: (لا يجوزُ العَمَلُ بالعامِّ قَبلَ الفَحصِ عنِ المُخَصِّصِ،... لا شَكَّ في أنَّ بَعضَ عُموماتِ القُرآنِ الكريمِ والسُّنَّةِ الشَّريفةِ لها مُخَصِّصاتٌ مُنفصِلةٌ شَرَحَتِ المَقصودَ مِن تلك العُموماتِ، وهذا مَعلومٌ مِن طَريقةِ صاحِبِ الشَّريعةِ، والأئِمَّةِ الأطهارِ عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. حتَّى قيل: ما مِن عامٍّ إلَّا وقد خُصَّ؛ ولذا ورَدَ عن أئِمَّتِنا ذَمُّ مَن استَبَدُّوا برَأيِهم في الأحكامِ؛ لأنَّ في الكِتابِ المَجيدِ والسُّنَّةِ عامًّا وخاصًّا، ومُطلَقًا ومقيَّدًا، وهذه الأُمورُ لا تُعرَفُ إلَّا مِن طَريقِ آلِ البَيتِ، وصاحِبُ البَيتِ أدرى بالذي فيه.
وهذا ما أوجَبَ التَّوقُّفَ في التَّسَرُّعِ بالأخذِ بعُمومِ العامِّ قَبلَ الفَحصِ واليأسِ مِن وُجودِ المُخَصِّصِ؛ لجَوازِ أن يكونَ هذا العامُّ مِنَ العُموماتِ التي لها مُخَصِّصٌ مَوجودٌ في السُّنَّةِ أوِ الكِتابِ لم يطَّلعْ عليه مَن وَصَل إليه العامُّ، وقد نُقِل عَدَمُ الخِلافِ بل الإجماعُ على عَدَمِ جَوازِ الأخذِ بالعامِّ قَبلَ الفَحصِ واليأسِ)
[2158] ((أصول الفقه)) (1/ 136). .