المبحَثُ الأوَّلُ: مذهَبُ الأشاعرةِ في أفعالِ اللهِ وإرادتِه وحِكمتِه
من العقائِدِ التي قرَّرها اللهُ في كتابِه أنَّ اللهَ سُبحانَه خالقُ كلِّ شيءٍ، وأنَّه يفعلُ ما يشاءُ، وأنَّه إذا أراد شيئًا كونًا فلا رادَّ لإرادتِه، وأنَّه أحكمُ الحاكِمينَ؛ قال الله سُبحانَه:
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] ، وقال عزَّ وجلَّ:
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [الحج: 18] ، وقال تبارك وتعالى:
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج: 16] ، وقال العليمُ الحكيمُ:
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين: 8] ، وبَعدَ ظهورِ البِدَعِ، وتأثُّرِ أهلِ الكلامِ بالفلسفةِ وقع الخِلافُ في مسألةِ تعليلِ أفعالِ اللهِ، فذهبت
الأشاعِرةُ إلى نفيِ الحِكمةِ، وإنكارِ التَّعليلِ، وقالوا: إنَّ اللهَ تعالى خلَق المخلوقاتِ، وأمر بالمأموراتِ لمحضِ المشيئةِ، وليس ذلك لحكمةٍ ولا لعلَّةٍ.
أقوالُ الأشاعرةِ في تقريرِ مذهبِهم في أفعالِ اللهِ وإرادتِه وحِكمتِه:1- قال
أبو الحسَنِ الأشعريُّ: (لا يُسأَلُ في شيءٍ من ذلك عمَّا يفعلُ، ولا لأفعالِه عِللٌ؛ لأنَّه مالِكٌ غيرُ مملوكٍ، ولا مأمورٍ ولا مَنهيٍّ)
[879] ((رسالة إلى أهل الثغر بباب الأبواب)) (ص: 136). .
2- قال الباقِلَّانيُّ: (بابٌ في أنَّ صُنعَ اللهِ للعالَمِ ليس لغرَضٍ، فإن قال قائِلٌ: فهل تقولونَ: إنَّ صانعَ العالَمِ صنَعه بَعدَ أن لم يصنَعْه لداعٍ دعاه إلى فِعلِه، ومُحرِّكٍ حرَّكه، وباعثٍ بعَثه، وغرضٍ أزعَجه، وخاطرٍ اقتضى وجودَ الحوادِث منه، أم صنعه لا لشيءٍ ممَّا سألْتَ عنه؟ قيل: إنَّه تعالى صنَع العالَمَ لا لشيءٍ ممَّا سألْتَ عنه، فإن قيلَ: وما الدَّليلُ على ذلك؟ قيل: الدَّليلُ عليه أنَّ الدَّواعيَ والمُزعِجاتِ والخواطرَ والأغراضَ إنَّما تكونُ وتجوزُ على ذي الحاجةِ الذي يصِحُّ منه اجتلابُ المنافعِ ودَفعُ المضارِّ، وذلك أمرٌ لا يجوزُ إلَّا على من جازت عليه الآلامُ واللَّذَّاتُ، ومَيلُ الطَّبعِ والنُّفورِ، وكلُّ ذلك دليلٌ على حَدَثِ من وُصِف به، وحاجتِه إليه، وهو مُنتَفٍ عن القديمِ تعالى، وكذلك الأسبابُ المُزعِجةُ المُحرِّكةُ الباعثةُ على الأفعالِ إنَّما تحرِّكُ الغافِلَ، وتُنبِّهُ الجاهلَ، وتخطُرُ للخائفِ والرَّاجي؛ الذي يخافُ الاستضرارَ بتركِ الأفعالِ، ويرجو بإيقاعِها الصَّلاحَ والانتفاعَ، واللهُ يتعالى عن ذلك)
[880] ((تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل)) (ص: 50). .
3- قال الشَّهْرَستانيُّ مُبيِّنًا مذهَبَ
الأشاعرةِ: (إنَّ اللهَ تعالى خلَق العالَمَ بما فيه من الجواهرِ والأعراضِ وأصنافِ الخلقِ والأنواعِ لا لعِلَّةٍ حاملةٍ له على الفِعلِ، سواءٌ قُدِّرَت تلك العِلَّةُ نافِعةً له أو غَيرَ نافعةٍ؛ إذ ليس يقبَلُ النَّفعَ والضُّرَّ، أو قُدِّرَت تلك العِلَّةُ نافِعةً للخَلقِ؛ إذ ليس يبعثُه على الفِعلِ باعِثٌ، فلا غرَضَ له في أفعالِه ولا حامِلَ، بل عِلَّةُ كلِّ شيءٍ صُنعُه، ولا عِلَّةَ لصُنعِه ... وأمَّا الآياتُ في مِثلِ قَولِه تعالى:
وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الجاثية: 22] ، فهي لامُ المآلِ وصيرورةِ الأمرِ وصيرورةِ العاقبةِ، لا لامُ التَّعليلِ، كما قال تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ، وقَولِه:
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص: 73] ، واعلَمْ أنَّه كما لا تتطرَّقُ لـِمَ إلى ذاتِ الباري تعالى وصفاتِه لم تتطَرَّقْ إلى صنائِعِه وأفعالِه؛ حتَّى لا يلزمَ أن يجابَ: لأنَّه كذا أو لكونِه كذا، فلا يقالُ: لـِمَ وُجِد؟ ولـِمَ كان العالَمُ؟ ولا يقالُ: لـِمَ أوجَد العالَمَ؟ ولـِمَ خلَق العِبادَ؟ ولـِمَ كلَّف العُقلاءَ؟ ولـِمَ أمرَ ونهى؟ ولـِمَ قدَّر وقضى؟
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء: 23] )
[881] ((نهاية الإقدام في علم الكلام)) (ص: 222، 225). .
وقال الشَّهْرستانيُّ أيضًا: (مشيئتُه تعالى كُلِّيَّةٌ مُتعلِّقةٌ بنظامِ الكلِّ، غيرُ مُعَلَّلةٍ بعِلَّةٍ، حتَّى لا يقالَ: إنَّما اختار هذا لكذا، وإنَّما فعل هذا لكذا، فلكلِّ شيءٍ عِلَّةٌ، ولا عِلَّةَ لصُنعِه تعالى، بل لا يريدُ إلَّا كما عَلِم)
[882] ((الملل والنحل)) (2/ 86). .
4- قال
الغَزاليُّ: (ندَّعي أنَّه لا يجبُ عليه رعايةُ الأصلحِ لعبادِه، بل له أن يفعلَ ما يشاءُ، ويحكُمُ بما يريدُ، خلافًا للمُعتَزِلةِ؛ فإنَّهم حجَروا على اللهِ تعالى في أفعالِه، وأوجبوا عليه رعايةَ الأصلحِ، ويدُلُّ على بُطلانِ ذلك ما دلَّ على نفيِ الوجوبِ على اللهِ تعالى كما سبق، وتدُلُّ عليه المُشاهَدةُ والوجودُ، فإنَّا نُريهم من أفعالِ اللهِ تعالى ما يلزمُهم الاعترافُ به بأنَّه لا صلاحَ للعبيدِ فيه، فإنَّا نفرِضُ ثلاثةَ أطفالٍ مات أحدُهم وهو مُسلِمٌ في الصِّبا، وبلغ الآخَرُ وأسلم، ومات مُسلِمًا بالغًا، وبلغ الثَّالثُ كافِرًا ومات على الكُفرِ، فإنَّ العَدلَ عندهم أن يُخَلَّدَ الكافِرُ البالِغُ في النَّارِ، وأن يكونَ للبالِغِ المُسلِمِ في الجنَّةِ رُتبةٌ فَوقَ رُتبةِ الصَّبيِّ المسلِمِ، فإذا قال الصَّبيُّ المسلِمُ: يا ربِّ لمَ حطَطْتَ رُتبتي عن رُتبتِه؟ فيقولُ: لأنَّه بلغ فأطاعني، وأنت لم تُطِعْني بالعباداتِ بَعدَ البُلوغِ، فيقولُ: يا ربِّ، لأنَّك أمَتَّني قَبلَ البُلوغِ، فكان صلاحي في أن تُمِدَّني بالحياةِ حتَّى أبلُغَ فأطيعَ، فأنالَ رُتبتَه، فلِمَ حرَمْتَني هذه الرُّتبةَ أبَدَ الآبِدينَ، وكنْتَ قادرًا على أن توصِلَني لها؟! فلا يكونُ له جوابٌ إلَّا أن يقولَ: علِمْتُ أنَّك لو بلَغْتَ لعَصَيتَ وما أطعْتَ، وتعرَّضْتَ لعِقابي وسَخَطي، فرأيتُ هذه الرُّتبةَ النَّازلةَ أولى بك وأصلَحُ لك من العُقوبةِ، فينادي الكافِرُ البالِغُ مِن الهاويةِ ويقولُ: يا ربِّ، أوَما علِمْتَ أنِّي إذا بلَغْتُ كفَرْتُ؟! فلو أمَتَّني في الصِّبا وأنزَلْتَني في تلك المنزِلةِ النَّازلةِ لكان أحبَّ إليَّ من تخليدِ النَّارِ وأصلحَ لي، فلِمَ أحيَيتَني وكان الموتُ خيرًا لي؟! فلا يبقى له جوابٌ البتَّةَ، ومعلومٌ أنَّ هذه الأقسامَ الثَّلاثةَ موجودةٌ، وبه يظهَرُ على القَطعِ أنَّ الأصلحَ للعبادِ كُلِّهم ليس بواجبٍ ولا هو موجودٌ)
[883] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 99). .
5- قال
الرَّازيُّ: (لا يجوزُ أن تكونَ أفعالُ اللهِ تعالى وأحكامُه مُعلَّلةً بعِلَّةٍ البتَّةَ)
[884] ((الأربعين في أصول الدين)) (1/ 350). .
6- قال
البَيضاويُّ: (اللهُ تعالى يفعَلُ ما يشاءُ ويختارُ، لا عِلَّةَ لصُنعِه، ولا غايةَ لفِعلِه)
[885] ((طوالع الأنوار من مطالع الأنظار)) (ص: 202). .
7- قال
الآمِديُّ: (لو كان فِعلُ اللهِ تعالى لا يخلو عن حِكمةٍ وغَرَضٍ؛ فذلك الغَرَضُ إمَّا قديمٌ، أو حادِثٌ، فإن كان قديمًا فإمَّا أن يلزَمَ قِدَمُ الفعلِ لقِدَمِ غَرَضِه، أو لا يلزَمُ، فإن لزِمَ فهو محالٌ، على ما سنُبيِّنُه من حدوثِ أفعالِه. وإن لم يلزَمْ قِدَمُ الفِعلِ لقِدَمِ غَرَضِه؛ فالغَرضُ غيرُ حاصِلٍ من ذلك الفِعلِ؛ لحصولِه دونَه، وما لا يكونُ الغرَضُ حاصلًا من فِعلِه فلا يكونُ في فِعلِه غَرَضٌ، وهو المطلوبُ)
[886] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (2/ 152). .
وقال
الآمديُّ أيضًا: (لا نُنكِرُ كونَ اللهِ تعالى حكيمًا في فِعلِه، ولكنَّ ذلك يتحقَّقُ فيما يُتقنُه في صُنعِه، وتحقُّقُه على وَفقِ عِلمِه به وإرادتِه، ولا يتوقَّفُ ذلك على أن يكونَ له في فِعلِه غَرَضٌ وغايةٌ، والعَبَثُ إنما يلزمُ في فِعلِه بانتفاءِ الغرَضِ فيه أنْ لو كان فِعْلُه ممَّا يُطلَبُ فيه الغرَضُ، وهو محَلُّ النِّزاعِ)
[887] ((أبكار الأفكار في أصول الدين)) (2/ 157). .
8- قال الإيجي: (المقصَدُ الثَّامِنُ في أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى ليست مُعَلَّلةً بالأغراضِ (إليه ذهبَتِ
الأشاعِرةُ) وقالوا: لا يجوزُ تعليلُ أفعالِه تعالى بشيءٍ مِن الأغراضِ والعِلَلِ الغائيَّةِ، ووافقَهم على ذلك جَهابذةُ الحُكماءِ وطوائفُ الإلهيِّينَ (وخالفهم فيه
المُعتَزِلةُ) وذهبوا إلى وجوبِ تعليلِها، وقالت الفُقهاءُ: لا يجِبُ ذلك لكِنَّ أفعالَه تابعةٌ لمصالحِ العِبادِ تفضُّلًا وإحسًانا (لنا) في إثباتِ مذهَبِنا (بَعدَ ما بيَّنَّا من أنَّه لا يجِبُ عليه) تعالى (شيءٌ) فلا يجبُ حينئذٍ أن يكونَ فِعلُه مُعلَّلًا بغَرَضٍ (ولا يَقبُحُ منه شيءٌ) فلا يَقبُحُ أن تخلوَ أفعالُه عن الأغراضِ بالكُلِّيَّةِ، وذلك يُبطِلُ مذهبَ
المُعتَزِلةِ (وجهانِ) يُبطِلانِ المذهبَينِ معًا -أعني: وجوبَ التَّعليلِ، ووقوعَه تفضُّلًا- (أحدُهما: لو كان فِعلُه تعالى لغَرَضٍ) من تحصيلِ مصلحةٍ أو دفعِ مَفسَدةٍ (لكان) هو (ناقِصًا لذاتِه مُستَكمَلًا بتحصيلِ ذلك الغرَضِ؛ لأنَّه لا يصلُحُ غَرَضُنا للفاعِلِ إلَّا ما هو أصلَحُ له من عدَمِه)، وذلك لأن ما استوى وجودُه وعدَمُه بالنَّظرِ إلى الفاعِلِ أو كان وجودُه مرجوحًا بالقياسِ إليه، لا يكونُ باعثًا له على الفِعلِ وسببًا لإقدامِه عليه بالضَّرورةِ، فكلُّ ما كان غرضًا وجب أن يكونَ وجودُه أصلحَ للفاعِلِ وأليقَ به من عدَمِه (وهو معنى الكمالِ) فإذَن يكونُ الفاعِلُ مُستَكمَلًا بوجودِه وناقِصًا بدونِه (فإن قيل: لا نُسَلِّمُ الملازمةَ؛ لأنَّ الغرَضَ قد يكونُ عائدًا) إلى الفاعلِ، فيلزَمُ ما ذكَرْتُم من النُّقصانِ والاستكمالِ، وقد يكونُ عائدًا (إلى غيرِه) فلا يلزمُ، (فليس) يلزَمُ من كونِه تعالى فاعلًا لغَرَضٍ أن يكونَ مِن قبيلِ الأوَّلِ؛ إذ ليس (كُلُّ من يفعَلُ لغرَضٍ يفعَلُ لغَرَضِ نَفسِه)، بل ذلك في حقِّه تعالى مُحالٌ؛ لتعاليه عن التَّضرُّرِ والانتفاعِ، فتَعيَّن أن يكونَ غرَضُه راجعًا إلى عبادِه، وهو الإحسانُ إليهم بتحصيلِ مصالحِهم ودفعِ مفاسدِهم، ولا محذورَ في ذلك (قُلْنا: نَفعُ غيرِه) والإحسانُ إليه (إن كان أولى بالنِّسبةِ إليه تعالى من عدَمِه جاء الإلزامُ)؛ لأنَّه تعالى يستفيدُ حينئذٍ بذلك النَّفعِ والإحسانِ ما هو أولى به وأصلحُ له (وإلَّا) أي: وإن لم يكُنْ أولى بل كان مساويًا أو مرجوحًا (لم يصلُحْ أن يكونَ غرَضًا له)؛ لِما مرَّ من العِلمِ الضَّروريِّ بذلك، بل نقولُ: (كيف) ندَّعي وجوبَ تعليلِ أفعاله تعالى بمنافعِ العبادِ (وإنَّا نعلَمُ أنَّ خُلودَ أهلِ النَّارِ في النَّارِ من فِعلِ اللهِ، ولا نفعَ فيه لهم ولا لغيرِهم ضرورةً، وثانيهما:) أي: ثاني الوجهَينِ (أنَّ غرَضَ الفِعلِ) أمرٌ (خارجٌ عنه يحصُلُ تبَعًا للفعلِ وبتوسُّطِه) أي: يكونُ للفعلِ مدخَلٌ في وجودِه، وهذا ممَّا لا يُتصوَّرُ في أفعالِه (إذ هو تعالى فاعِلٌ لجميعِ الأشياءِ ابتداءً كما بيَّنَّاه) فيما سلف (فلا يكونُ شيءٌ من الكائناتِ) والحوادثِ (إلَّا فِعلًا له) صادِرًا عنه بتأثيرِ قدرتِه فيه ابتداءً بلا واسطةٍ (لا غرَضًا لفِعلٍ آخَرَ) له مدخَلٌ في وجودِه بحيثُ (لا يحصُلُ) ذلك الشَّيءُ (إلَّا به ليصلُحَ) أن يكونَ (غرضًا لذلك الفِعلِ) حاصِلًا بتوسُّطِه (وليس جَعلُ البعضِ) من أفعالِه وآثارِه (غرَضًا أولى من البَعضِ) الآخَرِ؛ إذ لا مدخَلَ لشيءٍ منها في وجودِ الآخَرِ على تقديرِ استنادِها بأسْرِها إليه على سواءٍ، فجَعْلُ بعضِها غرضًا من بعضٍ آخَرَ دونَ عَكسِه تحكُّمٌ بحتٌ، فلا يُتصوَّرُ تعليلٌ في أفعالِه أصلًا (وأيضًا) إذا عُلِّلتْ أفعالُه بالأغراضِ (فلا بُدَّ من الانتهاءِ إلى ما هو الغرَضُ) والمقصودُ في نفسِه، وإلَّا تسلسلَتِ الأغراضُ إلى ما لا نهايةَ لها (ولا يكونُ ذلك) الذي هو غرضٌ ومقصودٌ في نفسِه (لغرَضٍ آخَرَ)؛ لأنَّه خلافُ ما فُرِض (وإذا جاز ذلك بطَل القولُ بوجوبِ الغَرَضِ)؛ إذ قد انتهى أفعالُه إلى فِعلٍ لا غرَضَ له، وهو الذي كان مقصودًا في نفسِه، وقد يقالُ: لا يجبُ في الغرَضِ كونُه مُغايرًا بالذَّاتِ، بل يكفيه التَّغايُرُ الاعتباريُّ... نحن نجوِّزُ أن يصدُرَ عنه تعالى فِعلٌ لا غرَضَ فيه أصلًا، وأنتم تمنعونَه وتعبِّرونَ عنه بالعبثِ، فلا يُجديكم نفعًا (وإن أردْتُم) بالعبثِ (أمرًا آخَرَ فلا بُدَّ) لكم أوَّلًا (من تصويرِه) أي: تصويرِ ذلك الأمرِ الآخَرِ حتَّى نفهَمَه ونتصَوَّره (ثمَّ) لا بُدَّ ثانيًا (من تقريرِه) أي: بيانِه ثبوتَ ذلك المفهومِ للفِعلِ على تقديرِ خُلُوِّه من الغرَضِ (ثمَّ) لا بد ثالثَّا (من الدَّلالةِ على امتناعِه) أي: استحالةِ الفِعلِ المتَّصِفِ بذلك المفهومِ الآخَرِ (على اللهِ سُبحانَه وتعالى)؛ حتَّى يَتِمَّ لكم مطلوبُكم، وقد يقالُ في الجوابِ: إنَّ العبَثَ ما كان خاليًا عن الفوائدِ والمنافعِ، وأفعالُه تعالى مُحكَمةٌ مُتقَنةٌ مُشتمِلةٌ على حِكَمٍ ومصالحَ لا تُحصى راجعةٍ إلى مخلوقاتِه تعالى، لكنَّها ليست أسبابًا باعثةً على إقدامِه، وعِللًا مُقتضيةً لفاعليَّتِه، فلا تكونُ أغراضًا له ولا عِللًا غائيَّةً لأفعالِه حتَّى يلزَمَ استكمالُه بها، بل تكونُ غاياتٍ ومنافِعَ لأفعالِه وآثارًا مُترتِّبةً عليها، فلا يلزمُ أن يكونَ شيءٌ من أفعالِه عَبثًا خاليًا عن الفوائِدِ، وما ورد من الظَّواهرِ الدَّالَّةِ على تعليلِ أفعالِه تعالى فهو محمولٌ على الغايةِ والمنفعةِ دونَ الغَرَضِ والعِلَّةِ الغائيَّةِ)
[888] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (3/ 295 - 298). .
وكلامُ الإيجي يُبيِّنُ أنَّ
الأشاعرةَ يُثبِتون الحِكمةَ في المخلوقاتِ، ولكِنَّهم لا يجعلونَ تلك الحِكَمَ عِلَّةً لخَلقِها، ول
أبي حامدٍ الغزالي كتابُ
((الحِكمة من مخلوقاتِ الله)) [889] يُنظر: ((مجموعة رسائل الإمام الغزالي)) (ص: 7 - 46). ، وقد بيَّن هذا الجُرجانيُّ بوضوحٍ، فقال: (لا تُعلَّلُ أفعالُه بالأغراضِ والعِلَلِ؛ لأنَّ ثُبوتَ الغرَضِ للفاعِلِ من فِعلٍ يَستلزِمُ استكمالَه بغيرِه، وثبوتُ عِلَّةٍ لفِعلِه يستلزِمُ نُقصانَه في فاعليَّتِه، وليس يلزَمُ من ذلك عَبَثٌ في أفعالِه تعالى؛ لأنَّها مُشتمِلةٌ على حِكَمٍ ومصالحَ لا تُحصى، إلَّا أنَّها ليست عِلَلًا لأفعالِه، ولا أغراضًا له منها)
[890] ((المواقف مع شرح الجرجاني)) (1/ 12). .
9- نازَع التَّفْتازانيُّ في نَفيِ تعليلِ أفعالِ اللهِ، فأثبت تعليلَ بعضِها، قال التَّفْتازانيُّ: (الحقُّ أنَّ تعليلَ بعضِ الأفعالِ سِيَّما شرعيَّةَ الأحكامِ بالحِكَمِ والمصالحِ ظاهِرٌ، كإيجابِ الحُدودِ والكَفَّاراتِ، وتحريمِ المُسكِراتِ، وما أشبَهَ ذلك، والنُّصوصُ أيضًا شاهِدةٌ بذلك، كقَولِه تعالى:
وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] [891] قال الرازيُّ في تفسيرِ هذه الآيةِ: (فِعلُ اللهِ تعالى ليس لغرَضٍ، وإلَّا لكان بالغرَضِ مُستكمَلًا، وهو في نفسِه كامِلٌ، فكيف يُفهَمُ لأمرِ اللهِ الغَرَضُ والعِلَّةُ؟ نقولُ: المعتزلةُ تمسَّكوا به، وقالوا: أفعالُ اللهِ تعالى لأغراضٍ، وبالغوا في الإنكارِ على مُنكِري ذلك، ونحن نقولُ: فيه وجوهٌ: ... الثَّاني: هو أنَّ ذلك تقديرٌ كالتمنِّي والترجِّي في كلامِ اللهِ تعالى، وكأنَّه يقولُ: العبادةُ عند الخَلقِ شيءٌ، لو كان ذلك من أفعالِكم لقلتُم: إنَّه لها) ((تفسير الرازي)) (28/ 192). ،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة: 32] الآية
[892] قال الرَّازي في تفسيرِ هذه الآية: (قال أصحابُنا: القولُ بتعليلِ أحكامِ اللهِ تعالى محالٌ لوجوهٍ: أحدُها: أنَّ العلَّةَ إن كانت قديمةً لزم قِدَمُ المعلولِ، وإن كانت مُحدَثةً وجَب تعليلُها بعلَّةٍ أُخرى، ولزم التسلسُلُ، وثانيها: لو كان معلَّلًا بعلةٍ فوجودُ تلك العلَّةِ وعدَمُها بالنسبةِ إلى اللهِ تعالى إن كان على السَّويةِ امتنع كونُه علَّةً، وإن لم يكُنْ على السَّويةِ فأحدُهما به أَولى، وذلك يقتضي كونَه مستفيدًا تلك الأولويَّةَ من ذلك الفِعلِ، فيكونُ ناقصًا لذاتِه مُستكمَلًا بغيرِه، وهو محالٌ. وثالثُها: أنَّه قد ثبت توقُّفُ الفعلِ على الدَّواعي، ويمتنعُ وُقوعُ التسلسُلِ في الدَّواعي، بل يجِبُ انتهاؤها إلى الدَّاعيةِ الأولى التي حدثت في العبدِ لا من العبدِ، بل من اللهِ، وثبت أنَّ عندَ حُدوثِ الدَّاعيةِ يجبُ الفعلُ، وعلى هذا التقديرِ فالكُلُّ من اللهِ، وهذا يمنَعُ من تعليلِ أفعالِ اللهِ تعالى وأحكامِه، فثبت أنَّ ظاهِرَ هذه الآيةِ من المُتشابهاتِ لا من المُحكَماتِ) ((تفسير الرازي)) (11/ 343). ،... ولهذا كان القياسُ حُجَّةً إلَّا عِندَ شِرذِمةٍ لا يُعتَدُّ بهم، وأمَّا تعميمُ ذلك بأن لا يخلوَ فِعلٌ من أفعالِه عن غَرَضٍ فمَحَلُ بَحثٍ)
[893] ((شرح المقاصد في علم الكلام)) (2/ 157). وللفَخرِ الرازيِّ نصٌّ في كتابِه "المحصول" يُثبتُ فيه تعليلَ الأحكامِ، بخلافِ ما قرَّره هو والأشاعرةُ من نفيِ التعليلِ؛ قال الرازيُّ: (غالِبُ أحكامِ الشَّرعِ مُعلَّلٌ برعايةِ المصالحِ المعلومةِ) ((المحصول)) (5/ 114)، لكنَّه في نفسِ الكتابِ قرَّر نفيَ تعليلِ أفعالِ اللهِ بالحِكمةِ، وذكَرَ جوازَ ذلك تفضُّلًا من اللهِ وإحسانًا. يُنظر: ((المحصول)) للرازي (5/ 182 - 196). .
10- قال زكريَّا الأنصاريُّ: (جرت سُنَّتُه تعالى أن يفعَلَ الأشياءَ بحِكَمٍ ومصالحَ، ولا يقالُ: إنها أغراضٌ؛ لأنَّ أفعالَه تعالى لا تُعَلَّلُ بالأغراضِ؛ إذ الغَرَضُ هو ما يمتنِعُ الفِعلُ بدونِه، واللهُ تعالى مُنزَّهٌ عن امتناعِ شيءٍ عليه، بل قادِرٌ على كلِّ شيءٍ، وإذا فعل شيئًا لحِكمةٍ لا يمتَنِعُ عليه لغَيرِ تلك الحِكمةِ أو لا لحِكمةٍ أصلًا، فانتفى التَّعليلُ بالأغراضِ)
[894] ((فتح الإله الماجد بايضاح شرح العقائد على شرح العقائد النسفية)) (ص: 426). .
11- قال السُّنوسيُّ: (استحالةُ أن يكونَ فِعلُه تعالى لغَرَضٍ؛ لأنَّه لو كان له غَرَضٌ في الفِعلِ لأوجبه عليه، وإلَّا لم يكُنْ عِلَّةً له، فيكونُ مقهورًا، كيف وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ؟!)
[895] ((حواش على شرح الكبرى للسنوسي)) (ص: 422). .
12- قال الباجوريُّ مُبَيِّنًا ما يُنزَّهُ اللهُ سُبحانَه عنه: (أو يتَّصِفُ بالأغراضِ في الأفعالِ أو الأحكامِ، فليس فِعلُه كإيجادِ زَيدٍ لغَرَضٍ من الأغراضِ، أي: مَصلحةٍ تبعثُه على ذلك الفِعلِ، فلا يُنافي أنَّه لحِكمةٍ، وإلَّا لكان عبَثًا، وهو مُستحيلٌ في حقِّه تعالى، وليس حُكمُه كإيجابِه الصَّلاةَ علينا لغَرَضٍ من الأغراضِ، أي: مصلحةٍ تبعَثُه على ذلك الحُكمِ، فلا يُنافي أنَّه لحِكمةٍ)
[896] ((تحفة المريد على جوهرة التوحيد)) (ص: 164). .