الفصلُ الحادِي عَشرَ: الفُرقةُ مِن مكائِدِ الشَّيطانِ التي ينصِبُها للمُسلِمينَ على مُستوى الفَردِ والجماعةِ
قال اللهُ تعالى:
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153] .
وقال اللهُ سبحانَه:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة:90-91] .
ف
الشَّيطانُ حريصٌ على إيقاعِ العداوةِ والبغضاءِ بَينَ المُؤمِنينَ ليفترِقوا، وهو يسلُكُ كُلَّ سبيلٍ ليصِلَ إلى هَدفِه، بل إنَّ مِن الأعمالِ المُحبَّبةِ إليه التَّفريقَ بَينَ الرَّجلِ وزوجتِه، وبضَعفِ الأسرةِ يضعُفُ المُجتمَعُ، ويضعُفُ أفرادُه؛ فعن
جابِرٍ رضِي اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ إبليسَ يضَعُ عَرشَه على الماءِ، ثُمَّ يبعَثُ سراياه، فأدناهم منه منزِلةً أعظَمُهم فِتنةً؛ يجيءُ أحدُهم فيقولُ: فعلْتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شيئًا! ثُمَّ يجيءُ أحدُهم فيقولُ: ما ترَكْتُه حتَّى فرَّقْتُ بَينَه وبَينَ امرأتِه، قال: فيُدنيه منه، ويقولُ: نِعمَ أنت! )) [146] رواه مسلم (2813). .
والتَّفريقُ بَينَ النَّاسِ جماعاتٍ وأفرادًا مِن مكائِدِ
الشَّيطانِ منذُ قديمِ الزَّمانِ، كما قال اللهُ حاكيًا قولَ يوسُفَ:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف: 100] .
وعن
جابِرٍ رضِي اللهُ عنه، عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ الشَّيطانَ قد أيِس أن يعبُدَه المُصلُّونَ في جزيرةِ العربِ، ولكنْ في التَّحريشِ بَينَهم )) [147] رواه مسلم (2812). .
قال
النَّوَويُّ: (هذا الحديثُ مِن مُعجِزاتِ النُّبوَّةِ، ومعناه: أيِس أن يعبُدَه أهلُ جزيرةِ العربِ، ولكنَّه سعى في التَّحريشِ بَينَهم بالخُصوماتِ والشَّحناءِ والحُروبِ والفِتَنِ ونَحوِها)
[148] ((شرح مسلم)) (17/ 156). .
وقال اللهُ تعالى:
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا [الإسراء: 53] .
قال
ابنُ كَثيرٍ: (يأمُرُ تبارَك وتعالى عبدَه ورسولَه أن يأمُرَ عِبادَ اللهِ المُؤمِنينَ أن يقولوا في مُخاطَبتِهم ومُحاوَراتِهم الكلامَ الأحسَنَ، والكلمةَ الطَّيِّبةَ؛ فإنَّهم إن لم يفعَلوا ذلك نزَغ
الشَّيطانُ بَينَهم، وأخرَج الكلامَ إلى الفِعالِ، ووقَع الشَّرُّ والمُخاصَمةُ والمُقاتَلةُ؛ فإنَّه عدُوٌّ لآدَمَ وذُرِّيَّتِه مِن حينِ امتنَع عن السُّجودِ لآدَمَ، وعداوتُه ظاهِرةٌ بيِّنةٌ؛ ولهذا نهى أن يُشيرَ الرَّجلُ إلى أخيه المُسلِمِ بحديدةٍ؛ فإنَّ
الشَّيطانَ ينزَغُ في يدِه، أي: فربَّما أصابه
[149] أخرجه البخاري (7072)، ومسلم (2617) من حديث أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ولفظُ البخاريِّ: ((لا يُشيرُ أحَدُكم على أخيه بالسِّلاحِ؛ فإنَّه لا يدري لعَلَّ الشَّيطانَ يَنزِعُ في يدِه، فيَقَعُ في حُفرةٍ من النَّارِ)). [150] ((تفسير ابن كثير)) (5/ 87). .
ولقد دعا اللهُ سبحانَه المُؤمِنينَ كافَّةً بالدُّخولِ في الإسلامِ وطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والتَّمسُّكِ بها، وأمَرهم بلُزومِها، وحذَّرهم مِن خُطواتِ
الشَّيطانِ وخَطَراتِه التي يُوَسوِسُ بها ليُصدَّهم عن دينِ اللهِ، ويُفرِّقَهم عن صراطِه المُستقيمِ؛ فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة: 208] .
قال
السَّعديُّ: (هذا أمرٌ مِن اللهِ تعالى للمُؤمِنينَ أن يدخُلوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً أي: في جميعِ شرائِعِ الدِّينِ، ولا يتركوا منها شيئًا، وألَّا يكونوا ممَّن اتَّخَذ إلهَه هواه، إن وافَق الأمرُ المشروعُ هواه فعَله، وإن خالَفه ترَكه، بل الواجِبُ أن يكونَ الهوى تَبعًا للدِّينِ، وأن يفعَلَ كُلَّ ما يقدِرُ عليه مِن أفعالِ الخيرِ، وما يَعجِزُ عنه يلتزِمُه وينويه، فيُدرِكُه بنيَّتِه، ولمَّا كان الدُّخولُ في السِّلمِ كافَّةً لا يُمكِنُ ولا يُتصوَّرُ إلَّا بمُخالَفةِ طُرقِ
الشَّيطانِ قال:
وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، أي: في العَملِ بمعاصي اللهِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، والعدُوُّ المُبينُ لا يأمُرُ إلَّا بالسُّوءِ والفَحشاءِ، وما به الضَّررُ عليكم)
[151] ((تفسير السعدي)) (ص: 94). .
ولقد تفطَّن عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رضِي اللهُ عنه إلى مكائِدِ
الشَّيطانِ وحِيَلِه، ونبَّه عليها، فقال حينَما قتَل
الخوارِجَ بالنَّهْرَوانِ: (بُؤسًا لكم! لقد ضرَّكم مَن غرَّكم، فقالوا: يا أميرَ المُؤمِنينَ، ومَن غرَّهم؟ قال:
الشَّيطانُ، وأنفُسٌ بالسُّوءِ أمَّارةٌ، غرَّتهم بالأمانيِّ، وزيَّنَت لهم المعاصيَ، ونبَّأَتهم أنَّهم ظاهِرونَ)
[152] يُنظر: ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/288). .
قال
ابنُ القيِّمِ: (ومِن مكائِدِه أنَّه يَسحَرُ العَقلَ دائِمًا حتَّى يكيدَه، ولا يسلَمُ مِن سِحرِه إلَّا مَن شاء اللهُ، فيُزيِّنُ له الفِعلَ الذي يضُرُّه حتَّى يُخيَّلَ إليه أنَّه أنفَعُ الأشياءِ، ويُنفِّرُه مِن الفِعلِ الذي هو أنفَعُ الأشياءِ له، حتَّى يُخيَّلَ له أنَّه يضُرُّه! فلا إلهَ إلَّا اللهُ، كم فُتِن بهذا السِّحرِ مِن إنسانٍ؟! وكم حال بَينَ القلبِ وبَينَ الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ؟ وكم جَلا الباطِلَ وأبرَزه في صورةٍ مُستحسَنةٍ، وشنَّع الحقَّ وأخرَجه في صورةٍ مُستهجَنةٍ؟ وكم بهرَج مِن الزُّيوفِ على النَّاقِدينَ، وكم روَّج مِن الزَّغَلِ على العارِفينَ؟
فهو الذي سحَر العُقولَ حتَّى ألقى أربابَها في الأهواءِ المُختلِفةِ والآراءِ المُتشعِّبةِ، وسلَك بهم مِن سُبلِ الضَّلالِ كُلَّ مَسلَكٍ، وألقاهم مِن المهالِكِ في مَهلِكٍ بَعدَ مَهلِكٍ)
[153] ((إغاثة اللهفان)) (1/130) باختصار. .