نزل جلال الدين خوارزم شاه على خلاط وحاصرها وضايقها أشَدَّ مضايقة، وأخذَها من نواب الملك الأشرف، وهو مقيمٌ بدمشق، ولم يمكِنْه في ذلك الوقت قَصْدَها للدفع عنها لأعذارٍ كانت له. ثم عقيبَ ذلك دخل الأشرفُ بلاد الروم باتفاق مع سلطانِها علاء الدين كيقباذ، وتعاقدا على قصد خوارزم شاه، وضرب المصاف معه، فإن صاحب الروم كان يخاف على بلاده منه؛ لكونِه مجاوِرَه، فتوجَّها نحوه في جيش عظيم من جهة الشام والشرق في خدمة الملك الأشرف، وعسكر صاحب الروم، والتقوا بين خلاط وأرزنكان، بموضع يقال له: يا للرحمان في يوم الجمعة ثاني عشر رمضان سنة 627، وانكسر خوارزم شاه، وهي واقعة مشهورة، وعادت خلاط إلى الملك الأشرف وقد خربت.
ملك الملك الكامل مدينة حماة، وسبب ذلك أنَّ الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر، وهو صاحب حماة، توفِّي، ولما حضرته الوفاة حلف الجندُ وأكابر البلد لولده الأكبر، ويلقب بالملك المظفَّر، وكان قد سيَّرَه أبوه إلى الملك الكامل، صاحب مصر، وكان لمحمَّد ولد آخر اسمه قلج أرسلان، ولقبه صلاح الدين، وهو بدمشق، فحضر إلى مدينة حماة فسُلِّمَت إليه، واستولى على المدينة وعلى قلعتها، فأرسل الملك الكامل يأمره أن يسلِّمَ البلد إلى أخيه الأكبر، فإنَّ أباه أوصى له به، فلم يفعل، وترددت الرسل في ذلك إلى الملك المعظَّم، صاحب دمشق، فلم تقع الإجابة، فلما توفِّيَ المعظم، وخرج الكامل إلى الشام وملك دمشق، سيَّرَ جيشًا إلى حماة فحصرها ثالث شهر رمضان، وكان المقَدَّم على هذا الجيش أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، وأمير كبير من عسكره يقال له فخر الدين عثمان، ومعهما ولد محمد بن تقي الدين محمد الذي كان عند الكامل، فبقي الحصار على البلد عدة أيام، وكان الملك الكامل قد سار عن دمشق ونزل على سلمية يريد العبور إلى البلاد الجزرية، حران وغيرها، فلما نازلها قَصَده صاحب حماة صلاح الدين، ونزل إليه من قلعتِه في نفرٍ يسيرٍ، ووصل إلى الكامل، فاعتقَلَه إلى أن سلَّمَ مدينة حماة وقلعتَها إلى أخيه الأكبر الملك المظفَّر، وبقي بيده قلعة بارين، فإنها كانت له.
حصر جلال الدين خوارزم شاه مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف، وبها عسكره، فامتنعوا بها، وأعانهم أهل البلد خوفًا من جلال الدين لسوء سيرته، وأسرفوا في الشتم والسفه، فأخذه اللجاج معهم، وأقام عليهم جميع الشتاء محاصرًا، وفرق كثيرًا من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج؛ فإن خلاط من أشد البلاد بردًا وأكثرها ثلجًا، وأبان جلال الدين عن عزم قوي، وصبر تحارُ العقول منه، ونصب عليها عدةَ مجانيق، ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خربت بعض سورها، فأعاد أهلُ البلد عمارته، ولم يزل مصابِرَهم وملازِمَهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين، فزحف إليها زحفًا متتابعًا، وملكها عَنوةً وقهرًا يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، سلمها إليه بعض الأمراء غدرًا، فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها، وهو مُنازِلهم، ووضع السيف في أهل البلد، وقتل من وجد به منهم، وكانوا قد قلوا، فإن بعضهم فارقوه خوفًا، وبعضهم خرج منه من شدة الجوع، وبعضهم مات من القلة وعدم القوت، وخرب عساكر جلال الدين خلاط، وأكثروا القتلَ فيها، ومن سلم هرب في البلاد، وسبوا الحريم، واسترقُّوا الأولادَ، وباعوا الجميعَ، فتمَزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتفَرَّقوا في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلِها ما لم يسمَعْ بمثله أحدٌ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كان صاحب أرزن الروم مع جلال الدين على خلاط، ولم يزل معه، وشهد معه المصاف بباسي حمار، فلمَّا انهزم جلال الدين أُخِذَ صاحب أرزن الروم أسيرًا، فأحضر عند علاء الدين كيقباذ بن عمه، فأخذه وقصد أرزن الروم، فسَلَّمَها صاحبها إليه وهي وما يتبعها من القلاع والخزائن وغيرها، فجاء إلى جلال الدين يطلُبُ الزيادة، فوعَدَه بشيءٍ مِن بلاد علاء الدين، فأخذ مالَه وما بيديه من البلادِ وبَقِيَ أسيرًا، فسُبحان من لا يزول ملكُه.
كان حسام الدين صاحب مدينة أرزن الروم من ديار بكر لم يزل مصاحبًا للملك الأشرف، مشاهدًا جميع حروبه وحوادثه، وينفِقُ أمواله في طاعته، ويبذل نفسَه وعساكره في مساعدته، فهو يعادي أعداءه، ويوالي أولياءه، ومن جملة موافقته أنه كان في خلاط لَمَّا حصرها جلال الدين، فأسره جلالُ الدين، وأراد أن يأخذ منه مدينة أرزن، فقيل له: إن هذا من بيت قديمٍ عريق في الملك، وإنه ورث أرزن هذه من أسلافِه، وكان لهم سواها من البلاد فخرج الجميعُ من أيديهم، فعطف عليه ورقَّ له، وأبقى عليه مدينة أرزن، وأخذ عليه العهودَ والمواثيق أنه لا يقاتِلُه، فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين محاربين لجلال الدين لم يحضُرْ معهم في الحرب، فلما انهزم جلال الدين سار شهاب الدين غازي بن الملك العادل، وهو أخو الأشرف، وله مدينة ميافارقين، ومدينة حاني، وهو بمدينة أرزن، فحصره بها، ثم ملكها صلحًا، وعوَّضَه عنها بمدينة حاني من ديار بكر.
مات المَلِكُ المسعود يوسف بن الملك الكامل بمكة، وكانت مدة ملكه باليمن أربع عشرة سنة، وهو آخر ملوك بني أيوب ببلاد اليمن، وترك المسعود ابنًا يقال له صلاح الدين يوسف، ولُقِّب بالملك المسعود، لقبَ أبيه، وبقي يوسف هذا حتى مات في سلطنة عَمِّه الملك الصالح نجم الدين أيوب، صاحب مصر، ثم ولي ابنُه موسى بن يوسف بن يوسف بن الكامل مملكة مصر، ولُقِّبَ بالأشرف، وكان المسعود قد استخلف على اليمن نورَ الدين علي بن رسول التركماني، فتغلَّبَ عليها، وبعث إلى الملك الكامل عدةَ هدايا، وقال: أنا نائب السلطان على البلاد، فاستمَرَّ ملك اليمن في عقبه بعد ذلك.
انهزم جلال الدين بن خوارزم شاه من عبد الله بن كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، ومن الملك الأشرف، صاحب دمشق، وسببُ ذلك أن جلال الدين كان قد أطاعه صاحب أرزن الروم، وهو ابن عم علاء الدين، ملك الروم، وبينه وبين ملك الروم عداوة مستحكمة، وحضر صاحبُ أرزن الروم عند جلال الدين على خلاط، وأعانه على حصرِها، فخافهما علاء الدين، فأرسل إلى الملك الكامل، وهو حينئذ بحرَّان، يطلبُ منه أن يحضر أخاه الأشرف من دمشق، فإنَّه كان مقيمًا بها بعد أن ملَكَها، وتابع علاء الدين الرسُلَ بذلك خوفًا من جلال الدين، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرفَ من دمشق، فحضر عنده، ورسُلُ علاء الدين إليهما متتابعةٌ، يحثُّ الأشرف على المجيء إليه والاجتماع به، فجمع عساكِرَ الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين، فاجتمعا بسيواس، وسارا نحو خلاط، فسمع جلال الدين بهما، فسار إليهما مجدًّا في السير، فوصل إليهما بمكان يعرف بباسي حمار، وهو من أعمال أرزنكان، فالتقوا هناك، وكان مع علاء الدين خلقٌ كثير، فلما التقوا، وجلال الدين لما رأى من كثرة العساكر، ولا سيما لما رأى عسكر الشام، ملئ صدرُه رعبًا، فأنشب عز الدين بن علي القتال، ومعه عسكر حلب، فلم يقُمْ لهم جلال الدين ولا صبَرَ، وولى منهزمًا هو وعسكرُه وعادوا إلى خلاط فاستصحبوا معهم من فيها من أصحابهم، وعادوا إلى أذربيجان فنزلوا عند مدينة خوي، ولم يكونوا قد استولوا على شيءٍ مِن أعمال خلاط سوى خلاط، ووصل المَلِكُ الأشرف إلى خلاط وقد استصحبوا معهم من فيها فبَقِيَت خاوية على عروشها، خاليةً من الأهل والسكان.
قَدِمَ بَنو رَسولٍ اليَمنَ ضِمنَ الحَملةِ الأيُّوبيَّةِ إليها، فإنَّه لَمَّا استَوثَقَ المُلْكُ لبَني أيُّوبَ في مِصرَ لم يَزَلْ معهم عُصبةٌ مِن بَني رَسولٍ؛ لِعِلْمِهم بتَقدُّمِ مَنصِبِهم في المُلكِ وعُلوِّ هِمَمِهم وشدةِ بَسالَتِهم، فاجتَمع رأيُ بَني أيُّوبَ على تسييرِهم إلى اليَمنِ صُحبةَ المَلكِ المعظَّمِ تُورانْشاهْ بنِ أيُّوبَ، وكانَ دُخولُه اليَمنَ في سنةِ 569هـ، وتوالى مُلوكُ الأيُّوبيةِ على اليَمنِ، ولَمَّا توَلَّى المُلكُ العادِلُ أبو بَكرِ بنُ أيُّوبَ المُلكَ في مِصرَ أرسَلَ ابنَ ابنِه المَلكَ المَسعودَ صلاحَ الدِّينِ يُوسفَ إلى اليَمنِ، فاستَولى على اليَمنِ بأسْرِها، وأنِسَ ببَني رَسولٍ ووَثِقَ بهم، ووَلَّاهمُ الوِلاياتِ الجليلةَ، وتجهَّزَ المَلكُ المَسعودُ إلى مِصرَ، وتركَ في اليَمنِ نورَ الدِّينِ عُمَرَ بنَ علِيِّ بنِ رَسولٍ نائبًا نيابةً عامةً، وفي سنةِ 626هـ تُوفِّي المَلكُ المَسعودُ، وتملَّكَ اليَمنَ بعدَه نائِبُه نورُ الدِّينِ عُمَرُ بنُ علِيٍّ الرَّسوليُّ، وبعدَ أن تمكَّنَ مِنَ احتِواءِ مُناهِضيه، وبَسَط نفوذَه على مُعْظمِ بِلادِ اليَمنِ، استَقلَّ باليَمنِ عن بَني أيُّوبَ سنةَ 628هـ، ولُقِّبَ بالمَنصورِ، واتَّخَذَ مِن تَعِزَّ عاصمةً له، وأخَذَ في تَثبيتِ مُلكِه، وإخمادِ الحَركاتِ الِانفِصاليةِ، وطَرَدَ العَساكرَ المِصريةَ عن مَكةَ والحِجازِ، وراسَلَ الخَليفةَ العباسيَّ المُستَنصِرَ باللهِ سنةَ 631هـ لِيكونَ تابِعًا لِدارِ الخِلافةِ العباسيةِ، وفي سنةِ 647هـ، اغتيلَ السُّلطانُ نورُ الدِّينِ على يَدِ جَماعةٍ مِن مماليكِه، بتدبيرٍ مِنَ ابنِ أخيه أسدِ الدِّينِ محمدِ بنِ الحَسَنِ بنِ علِيِّ بنِ رَسولٍ، وكانَ الوَضعُ بعدَ مَقتَلِه يُنذِرُ بالانقِسامِ والتَّفكُّكِ، حيث بدأ الصِّراعُ في البَيتِ الرَّسوليِّ على الحُكمِ بينَ أبناءِ نورِ الدِّينِ وبَينَهم وبينَ أبناءِ عُمومَتِهم، ومِن جِهةٍ أُخرى استَغلَّ الإمامُ الزَّيديُّ أحمدُ بنُ الحُسَينِ الوَضعَ الداخليَّ المُضطرِبَ في الدَّولةِ الرَّسوليةِ، واستَولى على صَنعاءَ، فتَحرَّكَ السُّلطانُ المظَفَّرُ يُوسفُ بنُ عُمَرَ، فجَمَعَ جُندَه وأحكَمَ قَبضَتَه على السُّلطةِ في اليَمنِ بشكلٍ كاملٍ في سنةِ 648هـ، وفي عَهدِه بَسَطت الدولةُ الرَّسوليةُ نُفوذَها على إقليمِ حَضرَموتَ، وبَعضِ المَناطِقِ الواقعةِ في جَنوبِ سَلطنةِ عُمانَ في الوَقتِ الحاليِّ، مِثلَ ظَفارِ وغَيرِها، ثم تُوفِّي السُّلطانُ المظَفَّرُ سنةَ 694هـ، وقام الصِّراعُ بينَ أبنائِه، وتوالى سَلاطينُ الدولةِ الرسوليةِ، حتى جاءَ عَهدُ السُّلطانِ المُجاهِدِ سنةَ 721هـ وتَفكَّكتِ الدولةُ الرسوليةُ في أيامِه؛ نتيجةَ صِراعاتِ البَيتِ الرَّسوليِّ، واستَغلَّ الأئِمةُ الزيديةُ ذلك واستَوْلَوْا على العَديدِ مِنَ المناطقِ والمُدنِ اليَمنيةِ، كانَ مِن أبرَزِها استيلاؤُهم على صَنعاءَ سنةَ 723هـ، ثم تولَّى السُّلطانُ الأفضلُ بعدَ وفاةِ أبيه السُّلطانِ المُجاهِدِ سنةَ 764هـ، وقد وَرِثَ دولةً آيلةً لِلانهيارِ، فحاوَلَ استِعادةَ نُفوذِ الدَّولةِ الرَّسوليةِ، والقَضاءَ على الثَّوَراتِ الداخليةِ، وتَلاه على ذلك عَددٌ مِن سَلاطينِ الدولةِ الرسوليةِ، مُحاولينَ تَرتيبَ أُمورِ الدولةِ وتَوفيرَ الأمنِ والاستِقرارِ، وذلك بإخضاعِ المَناطِقِ والقَبائِلِ الثائِرةِ، حتى جاءَ عَهدُ السُّلطانِ الناصِرِ الذي استَطاعَ إقرارَ أوضاعِ البِلادِ الداخليةِ، واستَعادَ قُوَّةَ الدَّولةِ وهَيبَتَها، ورَغمَ ذلك تُعَدُّ وَفاتُه بدايةَ عهدِ المُلوكِ الضُّعفاءِ في الأُسرةِ الرسوليةِ، والانحدارِ بالنسبةِ لِلدَّولةِ الرسوليةِ، إلى أنِ استَغلَّ الطاهريُّون الخِلافاتِ بينَ الأُسرةِ الرسوليةِ الحاكِمةِ؛ لِيُسيطِروا على عَدَنٍ ولَحْجٍ، وبحُلولِ عامِ 855هـ أعلنوا أنفُسَهمُ الحُكامَ الجُددَ لِليَمنِ.
وصل التتر من بلاد ما وراء النهر إلى أذربيجان، وقد كان استقَرَّ مُلكُهم بما وراء النهر، وعادت بلادُ ما وراء النهر فانعمرت، وعمروا مدينة تقارب مدينة خوارزم، وبَقِيَت مدن خراسان خرابًا لا يجسر أحدٌ من المسلمين أن يسكُنَها، وأما التتر فكانت تَغيرُ كلَّ فترة طائفة منهم ينهبون ما يرونه بها، فالبلاد خاوية على عروشها، فلم يزالوا كذلك إلى أن ظهر منهم طائفةٌ سنة خمس وعشرين، فكان بينهم وبين جلال الدين ما كان، وبقُوا كذلك، فلما كان سنة سبع وعشرين وانهزم جلال الدين من علاء الدين كيقباذ ومن الأشرف، أرسل مقدَّم الإسماعيليَّة الملاحدة إلى التتر يُعَرِّفُهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه، ويحثُّهم على قَصدِه عَقيبَ الضعف، ويضمَنُ لهم الظفر به؛ للوهن الذي صار إليه، وكان جلال الدين سيئ السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحدًا من الملوك المجاورين له إلا عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته، فلما وصل كتاب مقدَّم الإسماعيلية إلى التتر يستدعيهم إلى قصد جلال الدين، بادر طائفة منهم فدخلوا بلاده واستولوا على الري وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان فخربوا ونهبوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها، وجلال الدين لا يُقدِم على أن يلقاهم، ولا يقدر أن يمنعهم عن البلاد، قد ملئ رعبًا وخوفًا، وانضاف إلى ذلك أن عسكَرَه اختلفوا عليه، وخرج وزيرُه عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر، فبقي حيران لا يدري ما يصنع.
لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سوادَ آمد وأرزن الروم وميافارقين، وقصدوا مدينةَ أسعرد، فقاتلهم أهلُها، فبذل لهم التترُ الأمان، فوَثِقوا منهم واستسلَموا، فلما تمكَّنَ التتر منهم وضَعُوا فيهم السيفَ وقتلوهم حتى كادوا يأتونَ عليهم، فلم يسلَمْ منهم إلَّا من اختفى، وقليل ما هم، ومدَّة الحصار كانت خمسة أيام، ثمَّ ساروا منها إلى مدينة طنزة، ففعلوا فيها كذلك، وساروا من طنزة إلى وادٍ بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية، فيه مياه جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلهم أهل القريشية، فمنعوهم عنه، وامتنعوا عليهم، وقُتل بينهم كثيرٌ، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضًا، وساروا في البلاد لا مانع يمنَعُهم، ولا أحدَ يقِفُ بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها، واحتمى صاحِبُ ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضًا، ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعضَ نهار، ونهبوا سوادَها وقتلوا مَن ظَفِروا به، وغُلِّقَت أبوابها، فعادوا عنها، ومَضَوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنَهَبوا وقتلوا وعادوا، ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القومُ إلى قرية تُسمَّى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصِل، فنهبوها واحتمى أهلُها وغيرهم بخان فيها، فقَتَلوا كلَّ من فيه، ومضى طائفةٌ منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها وقتلوا من فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصَّن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرًا، وأحرقوا المدينةَ، ثم ساروا من بدليس إلى خلاط، فحَصَروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها: باكرى، وهي من أحصن البلاد، فملكوها عنوةً، وقتلوا كلَّ من بها، وقصدوا مدينة أرجيش من أعمال خلاط، وهي مدينة كبيرة عظيمة، ففعلوا كذلك.
حصر التترُ مراغة من أذربيجان، فامتنع أهلها، ثم أذعن أهلُها بالتسليم على أمانٍ طلبوه، فبذلوا لهم الأمان، وتسلَّموا البلدَ وقتلوا فيه إلَّا أنهم لم يُكثِروا القتل وجعلوا في البلد شحنةً، وعظُمَ حينئذ شأن التتر، واشتد خوفُ الناس منهم بأذربيجان، وليس في ملوك الإسلام من له رغبةٌ في الجهاد، ولا في نصرةِ الدين، بل كلٌّ منهم مُقبِلٌ على لهوه ولعبه وظُلمِ رَعيَّتِه، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
هو سُليمان شاه بن قتلمش القايوي التركماني جَدُّ مُؤَسِّس الدَّولة العُثمانيَّة، السُّلطان عثمان الأوَّل بن أرطغرل. كان حاكِمًا في بلدة ماهان, لَمَّا وقعت فتنةُ جنكيز خان سنة 621 ترك تلك سليمان مع قومه البلادَ مع من تركها من الملوكِ، وقصد بلادَ الروم، وكان قد سمع بدولةِ السلجوقية بها وعِظَمِ شَوكتِهم، وتَبِعَه خلقٌ كثير، فلمَّا وصلوا إلى أرزنجان قاتلوا الكفَّار وغنموا منهم شيئًا كثيرًا ثمَّ قَصَدوا صوبَ حَلَب من ناحية ألبستان، فوصلوا إلى نهر الفُرات أمام قلعة جعبر، ولم يعلموا المعبَرَ، فعبروا النهر فغلب عليهم الماءُ، فغرق سليمان شاه سنة 628، ثم أخرجوه ودفَنوه عند القلعة, وكان معه أولاده الثلاثة سنقور تكين، وكون طوغدي، وأرطغرل، فلما أصيبوا بأبيهم وتشَوَّش بالُهم رجعوا إلى إثرِهم، فلما وصلوا إلى موضعٍ يقال له بَاسين أُواسِي مضى سنقور وكون طوغدي إلى موطنهما الأصلي, وأما أرطغرل بك مع أبنائه الثلاثة كُندز وصارو بالي وعثمان، فمكثوا في نفس الموضع يجاهِدونَ فيه الكُفَّار.
وصل طائفةٌ من التتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقِهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى أن دخلوا بلدَ إربل، فنهبوا القرى، وقتَلوا من ظَفِروا به من أهلِ تلك الأعمال، وعَمِلوا الأعمالَ الشنيعة التي لم يُسمَع بمثلِها من غيرهم، وبرز مظفر الدين، صاحب إربل، في عسكره، واستمدَّ عساكِرَ الموصل فساروا إليه، فلمَّا بلَغَه عودَ التتر إلى أذربيجان أقام في بلاده ولم يتبعْهم، فوصلوا إلى بلد الكرخيني، وبلد دقوقا، وغير ذلك، وعادوا سالمينَ لم يذعرْهم أحدٌ، ولا وقف في وجوههم فارسٌ.
في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموالَ والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتِهم أن جلال الدين لَمَّا انهزم على آمد من التتر، وتفَرَّقت عساكره، وتمزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتخطَّفَهم الناس، وفعل التترُ بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنَعْهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوكُ الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاعُ أخبار جلال الدين، فإنَّه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سُقِطَ في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموالِ والثياب، وكذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميعِ إليها وإلى من بها، فإنَّ ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلِها يدعوهم إلى طاعته، ويتهدَّدُهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتُّحَف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكلُّ شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجوابَ يشكُرُهم، ويطلب منهم أن يحضُرَ مُقَدَّموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسُه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلَّفَ عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميعُ إليه، إلَّا أنه لا يظهر شيئًا من ذلك، فلمَّا حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا: إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلُّق، ونحن الأصل، فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثيابِ الخطائي وغيرها، ليستعمل لمَلِكهم الأعظم، فأحضروا الصُّنَّاع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمَن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضًا، فعملوا له خركاة- بيت من الخشب- لم يُعمَل مِثلُها، وعملوا غشاءَها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئًا من المال كلَّ سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلُبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه. قال ابن خلكان: "ولقد وقفتُ على كتاب وصل من تاجرٍ مِن أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافِرَ- لعنه الله- ما نَقدِرُ نَصِفُه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوبُ المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفةَ التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدُهم النهب، إنما أرادوا أن يعلموا هل في البلاد من يردُّهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلادِ مِن مانع ومدافع، وأنَّ البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعُهم، وهم في الربيع يقصدونَك، وما يبقى عندكم مقامٌ إلَّا إن كان في بلد الغرب، فإنَّ عَزمَهم على قصدِ البلاد جميعها، فانظروا لأنفُسِكم، هذا مضمون الكتاب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
تكامَلَ استيلاءُ التتر على إقليم أرمينية وخلاط وسائر ما كان بيد الخوارزمي، فوصلوا إلى شهزور فاهتَمَّ الخليفة المستنصر بالله غايةَ الاهتمام، وسيَّرَ عِدَّة رسل يستنجد الأشرفَ مِن مصر، ويستنجد العربان وغيرهم، وأخرج الخليفةُ الأموال، فوقع الاستخدام في جميع البلاد لحركة التتر، فندب الخليفةُ صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكِرَ مِن عنده، فساروا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم عدةَ شهور، ثم تمَرَّض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل، وتراجَعَت التتار إلى بلادِها.
خرج المَلِكُ الكامِلُ مِن القاهرة في جمادى الآخرة، واستخلفَ على مصر ابنَه المَلِك العادلَ أبا بكر، وقَدِمَ الأشرف والمعظم صاحِب الجزيرة بالعساكر، ومضى الكاملُ جريدة-الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- إلى الشوبك والكرك، وسار إلى دمشقَ، ومعه الناصرُ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك بعساكره، وأقام الكامِلُ بدمشق يسَرِّح العساكِرَ، وجعل في مقدِّمتِها ابنه الملك الصالح أيوب، وورد الخبر بدخول التتر بلاد خلاط، فأسرع الكامِلُ في الحركة، وخرج من دمشق، فنزل سلمية وقد اجتمع فيها بعساكِرَ يضيق بها الفضاءُ وسار منها في آخر رمضان على البرية، وتفرَّقَت العساكر في عدة طرق لكثرتِها، فهلك منها عدةٌ كثيرة من الناس والدواب، لقلَّة الماء، وأتته رسلُ ملوك الأطراف، وهم عز الدين بيقرا، وفخر الدين بن الدامغاني، ورسل الخليفة المستنصر بالله، وألبسوه خِلعة السلطنة، فاستدعى الكامل عند ذلك رسلَ الخوارزمي، ورسول الكرج، ورسل حماة وحمص، ورسول الهند ورسل الفرنج، ورسل أتابك سعد صاحب شيراز، ورسل صاحب الأندلس ولم تجتَمِعْ هذه الرسلُ عند ملك في يومٍ واحدٍ قَطُّ غيره، وقَدِمَ عليه بهاء الدين اليزدي - شيخ رباط الخلاطية - من بغداد وجماعة من النخاس، يحثُّونه على الغزاة، فرحل التتر عن خلاط، بعد منازلتها عدَّةَ أيام، وجاء الخبَرُ برحيلهم والكامل بحرَّان، فجهَّز عماد الدين بن شيخ الشيوخ رسولًا إلى الخليفة، وسار إلى الرَّها، وقَدَّم الكامِلُ العساكِرَ إلى آمد، وسار بعدهم، فنزل على آمد، ونصبَ عليها عِدَّة مجانيق، فبعث إليه صاحِبُها يستعطِفُه، ويبذل له مائة ألف، وللأشرفِ عشرين ألف دينار، فلم يقبَلْ، وما زال عليها حتى أخذها، في سادس عشر ذي الحجة، وحضر صاحبُها إليه بأمان، فوكل به حتى سلم جميعَ حصونها، فأعطى السلطانُ حصن كيفا لابنه الملكِ الصالح نجم الدين أيوب.