كان الخليفة العباسي قد ولَّى السلطان محمدًا المُلكَ، واستنابه في جميع ما يتعلَّقُ بأمر الخلافة دون ما أغلق عليه الخليفةُ بابَه، ثم خرج السلطانُ محمد ومعه أخوه سنجر قاصدًا قتال أخيه بركيارق، وفي هذه السنة ثامن جمادى الآخرة كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد, فأقبل بركيارق في خمسة عشر ألفًا فحاصره في أصبهان وعددُ أصحاب محمد قليل، فضاقت الميرةُ على محمد، فقسط على أهل البلد على وجه القرض فأخذ مالًا عظيمًا، ثم عاود عسكره الشغب، فأعاد التقسيطَ بالظلم والعذاب، وبلغ الخبز عشرةَ أَمْناء بدينار، ورطل لحم بربع دينار، ومائة منًا تبنًا بأربعة دنانير، وقُلِعت أخشاب المساجد وأبواب الدكاكين، هذا والقتالُ على أبواب البلد، وينال صاحِبُ محمد يحرق الناسَ بالمصادرة، وعسكر بركيارق في رُخصٍ كثير، فاجتمع على أهل أصبهان الخوف والجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، ثم خرج السلطان محمد من أصبهان هاربًا فأرسل أخوه في أثره مملوكَه إياز، فلم يتمكَّن من القبض عليه، ونجا بنفسه سالمًا، وعاد إياز فأخبر بركيارق فلم يَسُرَّه سلامة أخيه, وفي يوم الاثنين ثالث عشرين ربيع الأول أعيدت الخطبة لبركيارق فخطب في الديوان، ثم تقدم إلى الخطباء في السابع والعشرين من هذا الشهر بأن يقتصروا على ذِكرِ الخليفة، ولا يذكروا أحدًا من السلاطين المختلفين, ثم التقى السلطان محمد وبركيارق في يوم الأربعاء في جمادي الآخرة، فوقعت الحربُ بينهما فانهزم محمد إلى بعض بلاد أرمينية على أربعين فرسخًا من الوقعة، ثم سار منها إلى خلاط ثم عاد إلى تبريز، ومضى بركيارق إلى زنجان، ثم في العام التالي صار الصلحُ بينهما بعدما تحوَّل الأمن إلى خوفٍ، وبدا السلبُ والنهب والقتلُ والضعفُ.
وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحُجَّاج، وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحصروها معه برًّا وبحرًا، وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا، فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل، فحصروها، وقاتلوا عليها قتالًا شديدًا. فلما رأى أهلُها عجزهم عن الفرنج أخذوا أمانًا وسلموا البلد إليهم، فلم يفِ الفرنج لهم بالأمان، وأخذوا أموالهم، واستنقذوها بالعقوباتِ وأنواع العذاب، فلما فرغوا من جبيل وساروا إلى مدينة عكا استنجدهم الملك بغدوين، ملك الفرنج، صاحب بيت المقدس على حصارها، فنازلوها وحصروها في البر والبحر، وكان الوالي بها اسمه بنا -ويعرف بزهر الدولة الجيوشي- نسبة إلى ملك الجيوش الأفضل، فقاتلهم أشد قتال، فزحفوا إليه غير مرة، فعجز عن حفظ البلد، فخرج منه وملك الفرنجُ البلد بالسيف قهرًا، وفعلوا بأهلِه الأفعال الشنيعة، وسار الوالي بها إلى دمشق، فأقام بها، ثم عاد إلى مصر واعتذر إلى الأفضل فقَبِلَ عُذرَه.
هو أمين الدولة أبو سعد العلاء بن حسن بن وهب الموصلايا البغدادي، الكاتب المنشئ بدار الخلافة. ذو الترسُّل الفائق، المنشئ، البليغ. كان نصرانيًّا وأسلم على يد الخليفة المقتدي بأمر الله، وحَسُن إسلامه، أسلم عندما خرج توقيعُ الخليفة سنة 484 بإلزامِ الذَّمَّةِ بلُبسِ الغيار -لبس خاص كوضع الزُّنَّار، وغيره - فأسلم بعضُهم وهرب طائفة. وفي ثاني يوم أسلم الرئيسان أبو سعد بن الموصلايا صاحب ديوان الإنشاء، وابن أخته أبو نصر هبة الله بن الحسن، على يد الخليفة، بحيث يريانه ويسمعانِ كلامَه. كان أبو سعد له باعٌ مديد في النظم والنثر، عُمِّر دهرًا، وكُفَّ بصَرُه، بعد أن كتب الإنشاء نيفًا وستين سنة، ولما أسلم كان قد شاخ، وقد ناب في الوزارة غيرَ مرة، وكان أفصح أهل زمانه، وفيه مكارم وآداب وعقل, وكان كثير الصدقات، وأوقف أملاكه، وله الرسائل المشهورة الرائقة، والأشعار الفائقة. كان يملي على ابن أخته العلامة أبي نصر الإنشاءَ إلى أن مات فجأة. وكان الوزير عميد الدولة بن جهير: "يثني عليه وعلى تفهُّمِه، ويقول: هو يمين الدولة وأميناها". ناب أبو سعد في الوزارة عدة نُوَب, قال ابن الأثير: "كان بليغًا فصيحًا، وكان ابتداء خدمته للقائم بأمر الله سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، خدم الخلفاء خمسًا وستين سنة، كل يوم تزداد منزلته، وكان نصرانيًّا فأسلم، وكان كثير الصدقة، جميل المحضر، صالح النية. أوقف أملاكَه على أبواب البر، ومكاتباته مشهورة حسنة" مات فجأة، فخلفه على ديوان الإنشاء ابن أخته أبو نصر، ولُقِّب نظام الحضرتين.
كانت حران لمملوك من مماليك ملكشاه اسمه قراجه، فاستخلف عليها إنسانًا يقال له محمد الأصبهاني، وخرج في العام الماضي، فعصى الأصبهاني على قراجه، ثم قُتل محمد الأصبهاني، قتَلَه غلامٌ لقراجه، فعند ذلك سار الفرنج إلى حران وحصروها، فلما سمع مُعين الدولة سقمان وشمس الدولة جكرمش ذلك، وكان بينهما حرب، أرسل كلٌّ منهما إلى صاحبه يدعوه إلى الاجتماع معه لتلافي أمر حران، ويُعلِمه أنه قد بذل نفسه لله تعالى وثوابه، فكل واحد منهما أجاب صاحبه إلى ما طلب منه، وسارا فاجتمعا على الخابور وتحالفا، وسارا إلى لقاء الفرنج، فالتقوا على نهر البليخ، وكان المصاف بينهم هناك فاقتتلوا، فأظهر المسلمون الانهزام، فتبعهم الفرنج نحو فرسخين، فعاد عليهم المسلمون فقتلوهم كيف شاؤوا، وامتلأت أيدي التركمان من الغنائم، ووصلوا إلى الأموال العظيمة؛ لأن سواد الفرنج كان قريبًا، وكان بيمند صاحبُ أنطاكية، وطنكري صاحِبُ الساحل، قد انفردا وراء جبل ليأتيا المسلمين من وراء ظهورهم إذا اشتدت الحرب، فلما خرجا رأيا الفرنج منهزمين، وسوادهم منهوبًا، فأقاما إلى الليل وهربا، فتبعهما المسلمون، وقتلوا من أصحابهما كثيرًا، وأسَروا كذلك، وأفلتا في ستة فرسان، وكان القمص كبير القساوسة- بردويل، صاحب الرها، قد انهزم مع جماعةٍ من قمامصتهم، وخاضوا نهر البليخ، فوَجِلت خيولهم، فجاء تركماني من أصحاب سقمان فأخذهم، وحمل بردويل إلى خيم صاحبه، وقد سار فيمن معه لاتباع بيمند، فرأى أصحاب جكرمش أن أصحاب سقمان قد استولوا على مال الفرنج، ويرجعون هم من الغنيمة بغير طائل، فقالوا لجكرمش: أي منزلة تكون لنا عند الناس، وعند التركمان إذا انصرفوا بالغنائم دوننا؟ وحَسَّنوا له أخذَ القُمص، فأنفذ فأخذ القمص من خيم سقمان، فلما عاد سقمان شقَّ عليه الأمر، وركب أصحابُه للقتال، فردَّهم، وقال لهم: لا يقوم فرح المسلمين في هذه الغزاة بغَمِّهم باختلافنا، ولا أؤثر شفاء غيظي بشماتة الأعداء بالمسلمين. ورحل لوقته، وأخذ سلاح الفرنج، وراياتهم، وألبس أصحابَه لُبسَهم، وأركبهم خيلَهم، وجعل يأتي حصون شيحان، وبها الفرنج، فيَخرُجون ظنًّا منهم أن أصحابهم نُصِروا، فيقتُلهم ويأخذ الحصن منهم، فعل ذلك بعدة حصون. وأما جكرمش فإنه سار إلى حران فتسلمها، واستخلف بها صاحبه. وسار إلى الرها، فحصرها خمسة عشر يومًا، وعاد إلى الموصل ومعه القمص الذي أخذه من خيام سقمان، ففاداه بخمسة وثلاثين دينارًا، ومائة وستين أسيرًا من المسلمين، وكان عدة القتلى من الفرنج يقارب اثني عشر ألف قتيل!
استولى بلك بن بهرام بن أرتق على مدينة عانة، والحديثة، وكانت له مدينة سروج، فأخذها الفرنجُ منه، فسار عنها إلى عانة وأخذها من بني يعيش بن عيسى بن خلاط، فقصد بنو يعيش سيف الدولة صدقة بن مزيد، ومعهم مشايخهم، فسألوه الإصعادَ إليها، وأن يتسلَّمَها منهم، ففعل وأصعد معهم, فرحل التركمان وبهرام عنها، وأخذ صدقة رهائنَهم، وعاد إلى حلته، فرجع بلك إليها ومعه ألفا رجل من التركمان، فمانعه أصحابه قليلًا، واستدلَّ على المخاضة إليها، فخاضها وعبر، وملكهم ونهبهم، وسبى جميع حرمهم وانحدر طالبًا هيت من الجانب الشامي، فبلغ إلى قريب منها، ثم رجع من يومه.
أغار الفرنج من الرها على مرج الرقة وقلعة جعبر، وكانوا لما خرجوا من الرها افترقوا فرقتين، وتواعدوا يومًا واحدًا تكون الغارة على البلدين فيه، ففعلوا ما استقرَّ بينهم، وأغاروا، واستاقوا المواشيَ، وأسَروا من وقع بأيديهم من المسلمين، فكانت قلعة جعبر والرقة لسالم بن مالك بن بدران بن المقلد بن المسيب، سلَّمها إليه السلطان ملكشاه سنة تسع وسبعين وأربعمائة.
في هذه السنة وقع الصلح بين الأخوين السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه. وكان سببه أن الحروب تطاولت بينهما، وعمَّ الفساد، فصارت الأموال منهوبة، والدماء مسفوكة، والبلاد مخربة، والقرى محرقة، والسلطنة مطموعًا فيها، محكومًا عليها، فلما رأى السلطانُ بركيارق المالَ عنده معدومًا، والطمع من العسكر زائدًا، أرسل القاضي أبا المظفر الجرجاني الحنفي، وأبا الفرج الهمذاني، المعروف بصاحب قراتكين، إلى أخيه محمد في تقرير قواعد الصلح، فسار إليه وهو بالقرب من مراغة، فذكرا له ما أُرسِلا فيه، ورغَّباه في الصلح وفضيلته، وما شمل البلادَ من الخراب، وطَمَع عدوِّ الإسلام في أطراف الأرض، فأجاب إلى ذلك، وأرسل فيه رسلًا، واستقر الأمر، وحلف كلُّ واحد منهما لصاحبه، وتقررت القاعدة: أن السلطان بركيارق لا يعترض أخاه محمدًا في الطبل -كان من شعائر السلطنة أن تضرب الطبلخانات للسلطان خمس مرات في اليوم- وألَّا يُذكَر معه على سائر البلاد التي صارت له، وألَّا يكاتب أحدهما الآخرَ، بل تكون المكاتبة من الوزيرين، ولا يعارض أحدٌ من العسكر في قصد أيِّهما شاء، فأجاب بركيارق إلى هذا، وزال الخلاف والشغب، وأرسل السلطان محمد إلى أصحابه بأصبهان يأمرهم بالانصراف عن البلد، وتسليمه إلى أصحاب أخيه، وسار السلطان بركيارق إلى أصبهان، فلما سلمها إليه أصحاب أخيه دعاهم إلى أن يكونوا معه وفي خدمته، فامتنعوا ورأوا لزوم خدمة صاحبهم، فسمَّاهم أهل العسكرين جميعًا: أهل الوفاء، وتوجهوا من أصبهان، ومعهم حريم السلطان محمد إليه، وأكرمهم بركيارق، وحمل لأهل أخيه المالَ الكثير، ومن الدواب ثلاثمائة جمل، ومائة وعشرين بغلًا تحمِلُ الثِّقلَ، وسَيَّرَ معهم العساكر يخدمونهم. ولما وصلت رسل السلطان بركيارق إلى الخليفة المستظهر بالله بالصلح، وما استقرت القواعد عليه، حضر إيلغازي بالديوان، وسأل في إقامة الخطبة لبركيارق، فأجيب إلى ذلك، وفي ذي القعدة سُيِّرَت الخِلَع من الخليفة للسلطان بركيارق، وللأمير إياز، ولوزير بركيارق، والعهد بالسلطنة، وحلفوا جميعهم للخليفة وعادوا.
في خراسان سار جمعٌ كثير من الإسماعيلية الباطنية من طريثيت، عن بعض أعمال بيهق، وشاعت الغارة في تلك النواحي، وأكثروا القتلَ في أهلها، والنهبَ لأموالهم، والسبيَ لنسائهم، واشتدَّ أمرهم، وقَوِيَت شوكتهم، ولم يكفُّوا أيديَهم عمن يريدون قتْلَه؛ لاشتغال سلاطين السلاجقة بالاقتتال فيما بينهم عن خطر الباطنية. فمن جملة فعلهم لما تجمع حُجَّاج هذه السنة، مما وراء النهر، وخراسان، والهند، وغيرها من البلاد، فوصلوا إلى جوار الري؛ أتاهم الباطنية وقت السَّحَر، فوضعوا فيهم السيفَ، وقتلوهم كيف شاؤوا، وغَنِموا أموالهم ودوابَّهم، ولم يتركوا شيئًا، كما قتلوا هذه السنة أبا جعفر بن المشاط، وهو من شيوخ الشافعية.
هو السلطان ركن الدولة بركيارق بن السلطان ملكشاه بن السلطان ألب أرسلان بن داود بن سلجوق بن دقماق السلجوقي أبو المظفر، كانت سلطنته اثنتي عشرة سنة وأربعة أشهر، جرت له خطوبٌ طويلة وحروب هائلة، خُطِب له ببغداد ست مرات, فقاسى من الحروب واختلاف الأمور عليه ما لم يقاسِه أحد، واختلفت به الأحوال بين رخاء وشدة، ومُلكٍ وزواله، وأشرفَ في عدة نُوَب بعد إسلام النعمة على ذَهاب المُهجة, ولم يُهزَم في حروبه غيرَ مرَّة واحدة، وكان أمراؤه قد طمعوا فيه للاختلاف الواقع بينه وبين أخيه محمد، حتى إنهم كانوا يطلبون نوَّابَه ليقتلوهم، فلا يمكِنُه الدفعُ عنهم، وكان متى خطب له ببغداد وقع الغلاءُ، ووقفت المعايشُ والمكاسِبُ، وكان أهلها مع ذلك يحبُّونه، ويختارون سلطانه, وكان حليمًا كريمًا، صبورًا عاقلًا كثيرَ المداراة، حَسَنَ القدرة، لا يبالِغُ في العقوبة، وكان عفوُه أكثر من عقوبته. ولما قويَ أمره هذه السنة وأطاعه المخالِفون وانقادوا له؛ أدركته منيته. كان قد مرض بأصبهان بالسلِّ والبواسير، فسار منها في محفة طالبًا بغداد، فلما وصل إلى بروجرد ضَعُف عن الحركة، فأقام بها أربعين يومًا، فاشتدَّ مرضه، فلما أيس من نفسِه خلع على ولده ملكشاه، وعمره حينئذ أربع سنين وثمانية أشهر، وخلع على الأمير إياز، وأحضر جماعةً من الأمراء، وأعلمهم أنه قد جعل ابنَه وليَّ عهده في السلطنة، وجعل الأميرَ إياز أتابكه -الأمير الوالد- وأمرهم بالطاعةِ لهما، ومساعدتهما على حفظ السلطنة لولده، والذب عنها، فأجابوا كلهم بالسمع والطاعة لهما، وبَذْل النفوس والأموال في حفظ ولده وسلطنته عليه، واستحلفهم على ذلك، فحلفوا، وأمرهم بالمسير إلى بغداد فساروا، فلما كانوا على اثني عشر فرسخًا من بروجرد وصلهم خبر وفاته، فلما سمع الأمير إياز بموته أمر وزيره الخطير المبيذي وغيره بأن يسيروا مع تابوته إلى أصبهان، فحُمِل إليها ودُفِن فيها، مات بركيارق عن عمر أربع وعشرين سنة وشهور. ثم خُطِب لملكشاه بن بركيارق ببغداد في جمادى الأولى، فلم يتِمَّ أمرُه، عدا عليه عمُّه محمد الذي كان ينازع أخاه بركيارق، فانتزع السلطنة وقتل الوصيَّ إياز.
كانت وقعة بين طنكري الفرنجي، صاحب أنطاكية، وبين الملك رضوان، صاحب حلب، انهزم فيها رضوان وسببها أن طنكري حصر حصن أرتاح، وبه نائب الملك رضوان، فضيق الفرنجُ على المسلمين، فأرسل النائِبُ بالحصن إلى رضوان يعرِّفه ما هو فيه من الحصر الذي أضعف نفسَه، ويطلب النجدة، فسار رضوان في عسكر كثير من الخيَّالة، وسبعة آلاف من الرجَّالة، منهم ثلاثة آلاف من المتطوِّعة، فساروا حتى وصلوا إلى قِنَّسرين، وبينهم وبين الفرنج قليل، فلما رأى طنكري كثرة المسلمين أرسل إلى رضوان يطلب الصلح، فأراد أن يجيبَ فمنعه أصبهبذ صباوة، وكان قد قصده وصار معه بعد قتل إياز، فامتنع من الصلح واصطفُّوا للحرب، فانهزمت الفرنجُ من غير قتال، ثم قال الفرنج: نعود ونحمِلُ عليهم حملة واحدة، فإن كانت لنا، وإلا انهزمنا، فحملوا على المسلمين فلم يثبتوا وانهزموا، وقُتِل من المسلمين وأُسِر الكثير، وأما الرَّجَّالة فإنهم كانوا قد دخلوا معسكر الفرنج لما انهزموا، فاشتغلوا بالنهب، فقتلهم الفرنج، ولم ينجُ إلا الشريد فأُخِذ أسيرًا، وهرب من في أرتاح إلى حلب، وملكه الفرنج، وهرب أصبهبذ صباوة إلى طغتكين أتابك بدمشق، فصار معه ومن أصحابه.
كانت وقعةٌ بين الفرنج والمسلمين كانوا فيها على السواء، وسببها أن أمير الجيوش الأفضل، وزير صاحب مصر، كان قد سيَّرَ ولده شرف المعالي في السنة الماضية إلى الفرنج فقهرهم وأخذ الرملة منهم، ثم اختلف المصريون والعرب وادَّعى كل واحد منهما أن الفتح له، فأتتهم سرية الفرنج فتقاعد كل فريق منهما بالآخر، حتى كاد الفرنج يظهرون عليهم، فرحل عند ذلك شرف المعالي إلى أبيه بمصر، فنفذ ولده الآخر، وهو سناء الملك حسين، في جماعة من الأمراء، منهم جمال الملك، والنائب بعسقلان للمصريين، وأرسلوا إلى طغتكين أتابك بدمشق -أتابك يعني الأمير الوالد- يطلبون منه عسكرًا، فأرسل إليهم أصبهبذ صباوة ومعه ألف وثلاثمائة فارس، وكان المصريون في خمسة آلاف، وقصدهم بغدوين الفرنجي، صاحب القدس وعكا ويافا، في ألف وثلاثمائة فارس، وثمانية آلاف راجل، فوقع المصاف بينهم بين عسقلان ويافا، فلم تظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، فقُتل من المسلمين ألف ومائتان، ومن الفرنج مثلهم، وقُتِل جمال الملك، أمير عسقلان، فلما رأى المسلمون أنهم قد تكافؤوا في النكاية قطعوا الحرب وعادوا إلى عسقلان، وعاد صباوة إلى دمشق، وكان مع الفرنج جماعة من المسلمين، منهم بكتاش بن تتش، وكان طغتكين قد عدل في الملك إلى ولد أخيه دقاق، وهو طفل، فدعاه ذلك إلى قصد الفرنج؛ ليكون معهم.
احتلَّ الفرنج حصن أفامية من بلد الشام، وسبب ذلك أن المتولي لأفامية من جهة الملك رضوان صاحب حلب أرسل إلى صاحب مصر العُبيدي الإسماعيلي، وكان يميل إلى مذهبهم، يستدعي منهم من يسلِّم إليه الحصن، وهو من أمنع الحصون، فطلب خلف بن ملاعب الكلابي -كان متغلبًا على حمص- من صاحب مصر العبيدي أن يكون هو المقيم به، وقال: إنني أرغب في قتال الفرنج وأوثرُ الجهاد. فسلموه إليه وأخذوا رهائنه، فلما ملكه خلع طاعتَهم ولم يرعَ حقهم، وأقام بأفامية يُخيف السبيل، ويقطع الطريق، واجتمع عنده كثيرٌ من المفسدين، فكثُرت أمواله، ثم إن الفرنج ملكوا سرمين، وهي من أعمال حلب، وأهلها غلاة في التشيع، فلما ملكها الفرنج تفرَّق أهلها، فتوجه القاضي الذي بها إلى ابن ملاعب وأقام عنده، فأكرمه وأحبه ووثق به، فأعمل القاضي الحيلةَ عليه، وكتب إلى أبي طاهر، المعروف بالصائغ، وهو من أعيان أصحاب الملك رضوان، ووجوه الباطنية ودعاتهم، ووافقهم على الفتك بابن ملاعب، وأن يسلِّمَ أفامية إلى الملك رضوان، وعاود القاضي مكاتبة أبي طاهر بن الصائغ، وأشار عليه أن يوافق رضوان على إنفاذ ثلاثمائة رجل من أهل سرمين، وينفذ معهم خيلًا من خيول الفرنج، وسلاحًا من أسلحتهم، ورؤوسًا من رؤوس الفرنج، ويأتوا إلى ابن ملاعب ويُظهروا أنهم غزاة ويَشكُوا من سوء معاملة الملك رضوان وأصحابه لهم، وأنهم فارَقوه، فلقِيَهم طائفة من الفرنج فظفروا بهم، ويحملوا جميع ما معهم إليه، فإذا أذِنَ لهم في المقام اتفقت آراؤهم على إعمال الحيلة عليه، ففعل ابن الصائغ ذلك، ووصل القوم إلى أفامية، وقَدِموا إلى ابن ملاعب بما معهم من الخيل وغيرها، فقبل ذلك منهم، وأمرهم بالمقام عنده، وأنزلهم في ربض أفامية، فلما كان في بعض الليالي نام الحرَّاس بالقلعة، فقام القاضي ومن بالحصن من أهل سرمين، ودلوا الحبال وأصعدوا أولئك القادمين جميعهم، وقصدوا أولاد ابن ملاعب، وبني عمه، وأصحابه، فقتلوهم، وأتى القاضي وجماعة معه إلى ابن ملاعب، فقتله وقتل أصحابه، وهرب ابناه، فقُتِل أحدهما، والتحق الآخر بأبي الحسن بن منقذ، ولما سمع ابن الصائغ خبر أفامية سار إليها، وهو لا يشكُّ أنها له، فقال له القاضي: إن وافقتَني وأقمتَ معي، فبالرحب والسعة، ونحن بحكمك، وإلا فارجع من حيث جئتَ. فأيِسَ ابن الصائغ منه، وكان أحد أولاد ابن ملاعب بدمشق عند طغتكين غضبان على أبيه، فولاه طغتكين حصنًا، وضَمِن على نفسه حِفظَ الطريق، وأخذ القوافل، فاستغاثوا إلى طغتكين منه، فأرسل إليه من طلبه، فهرب إلى الفرنج واستدعاهم إلى حصن أفامية، وقال: ليس فيه غيرُ قوت شهر، فأقاموا عليه يحاصرونه، فجاع أهله وملكه الفرنج، وقتلوا القاضيَ المتغلِّبَ عليه، وأخذوا الصائِغَ فقتلوه، وكان هو الذي أظهر مذهب الباطنية بالشام، هكذا ذكر بعضهم أن أبا طاهر الصائغ قتله الفرنج بأفامية، وقد قيل: إن ابن بديع، رئيس حلب، قتله سنة سبع وخمسمائة بعد وفاة رضوان.
كان صنجيل الفرنجي قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحصرها، فحيث لم يقدر أن يملكها بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مراصد لها، منتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج فخر الملك أبو علي بن عمار، صاحب طرابلس، فأحرق ربضه، ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة، ومعه جماعة من القمامصة -كبار القساوسة- والفرسان، فانخسف بهم، فمرض صنجيل من ذلك عشرة أيام ومات، وحُمل إلى القدس فدُفن فيه، ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرةَ إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس، فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولًا، فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظَفِر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها، وأسروا من كان بها وعادوا، ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج عدةَ سنين، فعدمت الأقوات بها، وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد سقمان بن أرتق فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق وأجرى ابن عمار الجرايات على الجند والضَّعَفة، فلما قلَّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد، فأخذ من رجلين من الأغنياء مالًا مع غيرهما، فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادَرَنا، فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكرا لهم أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جميعًا على ذلك الجانب يحفظُه من دخول شيء إلى البلد، فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالًا كثيرًا ليسَلِّموا الرجلين إليه فلم يفعلوا، فوضع عليهما مَن قتلهما غيلةً.
حدثت وقعة بين طغتكين أتابك دمشق -أتابك يعني الأمير الوالد- وبين قمص -كبير القساوسة- كبير من قمامصة الفرنج، وسبب ذلك أنه تكررت الحروب بين عسكر دمشق وبغدوين، فتارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، ففي آخر الأمر بنى بغدوين حصنًا بينه وبين دمشق نحو يومين، فخاف طغتكين من عاقبة ذلك، وما يحدث به من الضرر؛ فجمع عسكره وخرج إلى مقاتلتهم، فسار بغدوين ملك القدس وعكا وغيرهما، إلى هذا القمص ليعاضده ويساعده على المسلمين، فعرَّفه القمص غناه عنه، وأنه قادر على مقارعة المسلمين إن قاتلوه، فعاد بغدوين إلى عكا، وتقدم طغتكين إلى الفرنج، واقتتلوا واشتد القتال، فانهزم أميران من عسكر دمشق، فتبعهما طغتكين وقتلهما، وانهزم الفرنج إلى حصنهم فاحتموا به، فقال طغتكين: مَن أحسنَ قتالَهم وطلب مني أمرًا فعلتُه معه، ومن أتاني بحجر من حجارة الحصن أعطيتُه خمسة دنانير، فبذل الرجَّالة نفوسهم، وصعدوا إلى الحصن وخربوه، وحملوا حجارته إلى طغتكين، فوفى لهم بما وعدهم، وأمر بإلقاء الحجارة في الوادي، وأسَروا من بالحصن، فأمر بهم فقُتلوا كلُّهم، واستبقى الفرسان أسراءَ، وكانوا مائتي فارس، ولم ينج ممَّن كان في الحصن إلا القليل، وعاد طغتكين إلى دمشق منصورًا، فزين البلد أربعة أيام وخرج منها إلى رفنية، وهو من حصون الشام، وقد تغلب عليه الفرنج، وصاحبه ابن أخت صنجيل المقيم على حصار طرابلس، فحصره طغتكين، وملكه، وقتل به خمسمائة رجل من الفرنج.
لَمَّا استولى الأمير صدقة بن مزيد صاحب الحلة على البصرة، واستناب بها مملوكًا اسمه التونتاش، وجعل معه مائة وعشرين فارسًا، اجتمعت ربيعة والمنتفق ومن انضم إليهم من العرب وقصدوا البصرة في جمع كثير، فقاتلهم التونتاش فأسروه وانهزم أصحابه، ولم يقدر من بها على حفظها، فدخلوها بالسيف أواخِرَ ذي القعدة، وأحرقوا الأسواق والدور الحسان، ونهبوا ما قدروا عليه، وأقاموا ينهبون ويحرقون اثنين وثلاثين يومًا، وتشرد أهلُها في السواد، ونُهِبت خزانة كتب كانت موقوفة، وقفها القاضي أبو الفرج بن أبي البقاء، وبلغ الخبر الأميرَ صدقة فأرسل عسكرًا، فوصلوا وقد فارقها العرب، ثم إن السلطان محمدًا أرسل شحنة وعميدًا إلى البصرة، وأخَذَها من صدقة، وعاد أهلها إليها وشرعوا في عمارتها.
كانت وحشةٌ مُستحكِمة بين ملك الروم، صاحب القسطنطينية، وبين بيمند الفرنجي؛ فسار بيمند إلى بلد ملك الروم ونهبه، وعزم على قصده، فأرسل ملك الروم إلى الملك قلج أرسلان بن سليمان صاحب قونية وأقصرا وغيرهما من تلك البلاد يستنجده، فأمده بجمع من عسكره، فقوي بهم وتوجه إلى بيمند، فالتقوا وتصافوا واقتتلوا، وصبر الفرنج بشجاعتهم، وصبر الروم ومن معهم لكثرتهم، ودامت الحرب، ثم أجلت الوقعة عن هزيمة الفرنج، وأتى القتلُ على أكثرهم، وأُسِر كثير منهم، والذين سَلِموا عادوا إلى بلادهم بالشام، وعاد عسكر قلج أرسلان إلى بلادهم عازمين على المسير إلى صاحبهم بديار الجزيرة، فأتاهم خبر قتله، فتركوا الحركة وأقاموا.
قام السلطان محمد بن ملكشاه بمحاصرة قلاع كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقًا منهم، منها قلعة شاه دز بأصبهان حصينة كان أبوه السلطان جلال الدولة ملكشاه قد بناها بالقرب من أصبهان في رأس جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه كلب فاتَّبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل نصراني من رسل الروم، فقال الرومي: لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة، فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعةً أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رأس الباطنية ابن عطاش، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها السلطان محمد بن ملكشاه سنةً حتى افتتحها وقَتَل ابن عطاش, ثم نقض السلطان محمد هذه القلعة حجرًا حجرًا، وألقت امرأة ابن عطاش نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفيسة، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون: كان دليلها كلبًا، والمشيرُ بها كافرًا، والمتحصِّنُ بها زنديقًا.
هو سلطان المغرب أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم بن ترقنت الصنهاجي اللمتوني المغربي البربري، الملقَّب بأمير المسلمين، وبأمير المرابطين، وبأمير الملثمين. ولد سنة 430. كان أحدَ من ملك البلاد ودانت بطاعته العباد، واتسعت ممالكه، وطال عمره. وقلَّ أن عُمِّرَ أحد من ملوك الإسلام ما عمر. تولى إمارة البربر واستولى على المغرب ثم الأندلس والسودان، وكان يخطب لبني العباس، وهو أول من تسمى بأمير المسلمين من المرابطين، ولم يزل على حاله وعِزِّه وسلطانه إلى أن توفي سنة 500. قال ابن خلدون: "تسمَّى يوسف بن تاشفين بأمير المسلمين، وخاطَبَ الخليفة لعهده ببغداد، وهو أبو العباس أحمد المستظهر بالله العباسي، وبعث إليه عبد الله بن محمد بن العربي المعافري الإشبيلي وولده القاضي أبا بكر بن العربي الإمام المشهور، فتلطفا في القول وأحسنا في الإبلاغ وطلبا من الخليفة أن يعقد لأمير المسلمين بالمغرب والأندلس؛ فعَقَدَ له وتضمن ذلك مكتوبًا من الخليفة منقولًا في أيدي الناس، وانقلبا إليه بتقليد الخليفة وعهده على ما إلى نظره من الأقطار والأقاليم، وخاطبه الإمام الغزالي والقاضي أبو بكر الطرطوشي يحضانه على العدل والتمسك بالخير". وإنما احتاج أمير المسلمين إلى التقليد من الخليفة المستظهر بالله مع أنه كان بعيدًا عنه وأقوى شوكةً منه؛ لتكون ولايته مستندة إلى الشرع، وهذا من ورعه، وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشارِكَه في لقبه؛ لأن لقب أمير المؤمنين خاص بالخليفة, وكان أمير المسلمين حين ورد عليه التقليد من الخليفة ضرب السكةَّ باسمه ونقش على الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله، وتحت ذلك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين, وكتب على الصفحة الأخرى عبد الله أحمد أمير المؤمنين العباسي, وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا، وفي العرض ما يقرب من ذلك، وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان, ولم يُرَ في بلد من بلاده ولا عَمَلٍ من أعماله على طول أيامه رسمُ مَكسٍ ولا خَراجٌ، لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به، وأوجب حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم, وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يَجْبِه أحد قبله. يقال: إنه وُجِد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الوَرِق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب, وكان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، وَرِعًا متقشِّفًا، لباسه الصوف لم يَلبَس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك، لم يُنقَل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوَّله من نعمة الدنيا، وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة، وكان محبًّا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال، وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير. هو الذي بنى مدينة مراكش في سنة خمس وستين وأربعمائة، اشتراها يوسف بماله الذي خرج به من الصحراء. وكان في موضعها غابة من الشجر وقرية فيها جماعة من البربر، فاختطها وبنى بها القصور والمساكن الأنيقة, وهو الذي أخذ الأندلس من ملوك الطوائف وأسر المعتمد بن عباد في أغمات.. توفي في قصره بمراكش يوم الاثنين لثلاث خلون من المحرم, وعاش سبعين سنة مَلَكَ منها مدة خمسين سنة, وكان قد عهد بالإمرة من بعده لولده علي الذي بويع له ولُقِب بأمير المسلمين كذلك.
هو الرئيس أحمد بن عبد الملك بن عطاش العجمي طاغية الإسماعيلية. كان أبوه من كبار دعاة الباطنية ومن أذكياء الأدباء، له بلاغة وسرعة جواب، استغوى جماعة ثم هلك، وخلفه في الرياسة ابنه أحمد، فكان جاهلًا شجاعًا مطاعًا، تجمع له أتباع وتحيلوا حتى ملكوا قلعة شاه دز بأصبهان، وكان الباطنية بأصبهان قد ألبسوا ابن عطاش تاجًا وجمعوا له أموالًا، وصار له عدد كثير وبأس شديد، واستفحل أمره بالقلعة، فكان يرسل أصحابَه لقطع الطريق، وأخْذ الأموال، وقَتْل من قدروا على قتله، فلما صَفَت السلطنة لمحمد بن ملكشاه ولم يبق له منازعٌ، لم يكن عنده أمر أهمُّ مِن قَصْدِ الباطنية وحَربِهم، والانتصافِ للمسلمين من جَورهم وعَسفِهم، فرأى البداية بقلعة شاه دز بأصبهان التي بأيديهم؛ لأن الأذى بها أكثر، وهي متسلطة على سرير ملكه، فخرج بنفسه فحاصرهم في سادس شعبان. وأطال عليها الحصار، ونزل بعض الباطنية بالأمان وساروا إلى باقي قلاعهم، وبقي ابن عطاش مع جماعة يسيرة، فزحف السلطان عليه وقتله وقتَلَ جماعة كثيرة من الباطنية، ثم أمر السلطان محمد بسلخ ابن عطاش وحَشْيِ جلده تبنًا وقَطْع رأسِه، وطيفَ به في الأقاليم.