كان الغُزُّ الأَتراكُ (التُّركمانُ) قد أَقاموا بمَدينةِ بَلخ واستَوطَنُوها، وتَرَكوا النَّهْبَ والقَتْلَ ببلادِ خُراسان، واتَّفَقَت الكَلمةُ بها على طاعَةِ السُّلطانِ خاقان محمود بن أرسلان، وكان المُتَوَلِّي لِأُمورِ دَولتِه المُؤيَّدُ أي أبه -أحد مماليك سنجر- وعن رَأيِه يَصدُر محمودٌ، فلمَّا كان هذه السَّنةَ في شعبان، سار الغُزُّ من بَلخ إلى مَرو، وكان السُّلطانُ محمود بسرخس في العَساكرِ، فسار المُؤيَّد أي أبه بطائِفَةٍ من العَسكرِ إليهم، فأَوقعَ بطائفةٍ منهم، وظَفَرَ بهم، ولم يَزَل يَتْبَعُهم إلى أن دَخَلوا إلى مَرو أَوائلَ رمضان وغَنِمَ من أَموالِهم، وقَتلَ كَثيرًا وعاد إلى سرخس، فاتَّفَقَ هو والسُّلطانُ محمودٌ على قَصْدِ الغُزِّ وقِتالِهم، فجَمَعَا العَساكرَ وحَشَدَا، وسارَا إلى الغُزِّ، فالتَقوا سادسَ شَوَّال من هذه السَّنَةِ، وجَرَت بينهم حَربٌ طالَ مَداها، فبقوا يَقتَتِلون من يَومِ الاثنينِ تاسِعَ شَوَّال إلى نِصفِ اللَّيلِ من لَيلةِ الأَربعاءِ الحادي عشر من الشهرِ، تَواقَعوا عِدَّةَ وَقَعات مُتَتَابِعَة، ولم يكُن بينهم راحةٌ، ولا نُزولٌ، إلا لِمَا لا بُدَّ منه؛ انهَزَمَ الغُزُّ فيها ثلاثَ دَفعاتٍ، وعادوا إلى الحَربِ. فلمَّا أَسفرَ الصُّبحُ يومَ الأَربعاءِ انكَشَفَت الحَربُ عن هَزيمةِ عَسكرِ خُراسان وتَفَرُّقِهِم في البلادِ، وظَفَرَ الغُزُّ بهم، وقَتَلوا فأَكثَروا فيهم، وأمَّا الأَسرَى والجَرحَى فأَكثرُ من ذلك.
وفي مُدَّةِ حِصارِ عبدِ المُؤمنِ للمَهديَّةِ أَطاعَتهُ صفاقسُ، وكذلك مَدينةُ طرابلس، وجِبالُ نَفُوسَة، وقُصورُ إفريقية وما وَالَاهَا، وفَتَحَ مَدينةَ قابس بالسَّيفِ، وسَيَّرَ ابنَه أبا محمدٍ عبدَ الله في جَيشٍ ففَتَحَ بِلادًا، ثم إن أَهلَ مَدينةِ قفصة لمَّا رَأوا تَمَكُّنَ عبدِ المؤمنِ أَجمَعوا على المُبادَرَةِ إلى طاعَتِه، وتَسليمِ المَدينةِ إليه.
وَقعَ في استراباذ -جرجان حاليا، شمال إيران- فِتنةٌ عَظيمةٌ بين العَلَوِيِّين ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ وبين الشافعيَّةِ ومَن معهم، وكان سَببُها أن الإمامَ محمدًا الهَرويَّ وَصلَ إلى استراباذ، فعَقَدَ مَجلِسَ الوَعظِ، وكان قاضِيَها أبو نصرٍ سعدُ بن محمدِ بن إسماعيلَ النعيميُّ شافعيُّ المَذهَبِ أيضًا فثار العَلَوِيِّون ومَن يَتبَعُهم مِن الشِّيعَةِ بالشافعيَّةِ ومَن يَتبَعُهم باستراباذ، ووَقَعَت بين الطائِفَتينِ فِتنةٌ عَظيمةٌ انتَصرَ فيها العَلَوِيُّون، فقُتِلَ من الشافعيَّةِ جَماعةٌ، وضُرِبَ القاضي ونُهِبَت دارُه ودُورُ مَن معه، وجَرَى عليهم من الأُمورِ الشَّنيعةِ ما لا حَدَّ عليه، فسَمِعَ شاه مازندران الخَبرَ فاستَعظَمَهُ، وأَنكَرَ على العَلَوِيِّين فِعْلَهم، وبالَغَ في الإنكارِ مع أنه شَديدُ التَّشَيُّعِ، وقَطَعَ عنهم جِراياتٍ كانت لهم، ووَضَعَ الجِباياتِ والمُصادَراتِ على العامَّةِ، فتَفَرَّقَ كَثيرٌ منهم وعادَ القاضي إلى مَنصِبِه وسَكَنَت الفِتنةُ.
كان بَنُو نَجاحٍ يَحكُمون تِهامَة وكان أَميرُهم فاتك بن منصور الذي تُوفِّي سَنةَ 540هـ وكان ظَهَرَ في أَيامِه المَهدِيُّون، فهاجَمُوا بإِمْرَةِ عليِّ بن مَهديٍّ بِلادَ بَنِي نَجاحٍ سَنةَ 538هـ غيرَ أنَّهم هُزِمُوا وانسَحَب عليُّ بن مَهديٍّ إلى الجِبالِ، وبعدَ مَوتِ فاتك خَلَفَهُ فاتك بن محمد بن فاتك، وبَقِيَ إلى أَواخرِ هذا العامِ فكان آخِرَ مُلوكِ بَنِي نَجاحٍ ونِهايةَ دَولَتِهم به، ثم أَغارَ عليُّ بن مَهديٍّ مَرَّةً أُخرَى على زبيدٍ فاستَنجَد أَهلُها ببَنِي الرس وكان إمامُهم المُتَوَكِّلَ أحمدَ بن سُليمانَ فأَنجَدَهُم ودَفَعَ عنهم غاراتِ عليِّ بن مَهديٍّ الذي استَطاعَ دُخولَها سَنةَ 553هـ.
لمَّا مَلَكَ الفِرنجُ مَدينةَ المَهديَّة وفَعَلوا ما فَعَلوا في زويلة المَدينةِ المُجاوِرَةِ للمَهديَّةِ من القَتلِ والنَّهبِ، هَرَبَ منهم جَماعةٌ وقَصَدوا عبدَ المُؤمنِ صاحبِ المَغربِ، وهو بمراكش، يَستَجيرُونَه، فلمَّا وَصَلوا إليه ودَخَلوا عليه أَكرَمَهم، وأَخبَروهُ بما جَرَى على المسلمين، وأنه ليس من مُلوكِ الإسلامِ مَن يُقصَد سِواهُ، فبدَأَ بالاستِعدادِ للمَسيرِ, فلمَّا كان في صفر سَنةَ554هـ سار عن مراكش، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهُم ثم نَزَلوا يَسأَلونَهُ الأَمانَ فأَجابَهُم إليه. ثم سار عبدُ المؤمن منها إلى المَهديَّةِ والأُسطولُ يُحاذِيه في البَحرِ، فوَصلَ إليها ثامنَ عشر رجب سَنةَ 554هـ، وكان حينئذٍ بالمَهديَّةِ أَولادُ مُلوكِ الفِرنجِ وأَبطالُ الفِرسانِ، وقد أَخلوا زويلةَ، فدَخلَ عبدُ المؤمنِ زويلةَ، وامتَلأَت بالعَساكرِ والسُّوقَةِ وانضافَ إليه من صنهاجة والعَربِ وأَهلِ البلادِ ما يَخرُج عن الإحصاءِ، وأَقبَلوا يُقاتِلون المَهديَّةَ مع الأَيامِ، فلا يُؤثِّر فيها لِحصَانَتِها وقُوَّةِ سُورِها وضِيقِ مَوقِعِ القِتالِ عليها، فعَلِمَ عبدُ المؤمنِ أن المَهديَّةَ لا تُفتَح بقِتالٍ بَرًّا ولا بَحرًا، لأن البحرَ دائرُ بأَكثرِها، فكأَنها كَفٌّ في البَحرِ، وزِندُها مُتَّصِلٌ بالبَرِّ، وليس لها إلا المُطاوَلَةِ، فتَمادَى الحِصارُ، وكانت الفِرنجُ تُخرِج شُجعانَهم إلى أَطرافِ العَسكرِ، فتَنال منه وتَعودُ سَريعًا؛ فأَمرَ عبدُ المؤمنِ أن يُبنَى سُورٌ من غَربِ المَدينةِ يَمنَعُهم من الخُروجِ، وأَحاطَ الأُسطولُ بها في البَحرِ، ورَكِبَ عبدُ المؤمنِ في شيني، ومعه الحَسنُ بنُ عَليٍّ الذي كان صاحِبَها، وطاف بها في البَحرِ، فهاله ما رأى من حَصانَتِها، وفي مُدَّةِ حِصارِه أَطاعَتهُ مجموعةٌ من المناطِقِ. ثم جاء أُسطولُ صاحبِ صِقلِّية فأَرسلَ إليهم مَلِكُ الفِرنجِ يَأمُرُهم بالمَجيءِ إلى المَهديَّةِ، فلمَّا قارَبَ أُسطولُ صِقلِّية المَهديَّةَ حَطُّوا شِراعَهم لِيَدخُلوا المِيناءَ، فخَرجَ إليهم أُسطولُ عبدِ المؤمنِ، ورَكِبَ العَسكرُ جَميعُه، ووَقَفوا على جانبِ البَحرِ، فاستَعظَم الفِرنجُ ما رَأوهُ من كَثرةِ عَساكرِ المُوَحِّدِين، ودَخلَ الرُّعبُ قُلوبَهم، فاقتَتَلوا في البَحرِ، فانهَزَمَت شواني الفِرنجِ، وتَبِعَهم المسلمون، فأَخَذوا منهم سبعَ شوان. ويَئِسَ أَهلُ المَهديَّةِ حينئذٍ من النَّجدَةِ، وصَبَروا على الحِصارِ سِتَّةَ أَشهُر، فنَزلَ حينئذٍ من فِرسانِ الفِرنجِ إلى عبدِ المؤمنِ عَشرةٌ وكان قُوتُهُم قد فَنِيَ حتى أَكَلوا الخَيْلَ, وسَألوا الأَمانَ لمن فيها من الفِرنجِ على أَنفُسِهم وأَموالِهم لِيَخرُجوا منها ويَعودُوا إلى بِلادِهم، فعَرَض عليهم الإسلامَ، ودَعاهُم إليه فلم يُجيبوا، ولم يَزالوا يَتَردَّدُون إليه أيامًا واستَعطَفوهُ بالكَلامِ اللَّيِّنِ، فأَجابَهُم إلى ذلك، وأَمَّنَهُم وأَعطاهُم سُفُنًا فرَكِبوا فيها وساروا، وكان الزَّمانُ شِتاءً، فغَرِقَ أَكثرُهم ولم يَصِل منهم إلى صِقلِّية إلا النَّفَرُ اليَسيرُ. ودَخلَ عبدُ المؤمن المَهديَّةَ بُكرَةَ عاشوراء من المُحرَّم سنةَ 555هـ، وسَمَّاها عبدُ المؤمن سَنةَ الأَخماسِ، وأَقامَ بالمَهديَّةِ عِشرينَ يَومًا، فرَتَّبَ أَحوالَها، وأَصلَح ما انثَلَمَ من سُورِها، ونَقَلَ إليها الذَّخائِرَ من القُوَّاتِ والرِّجالِ والعَدَدِ، واستَعمَلَ عليها أَحَدَ أَصحابِه، وجَعلَ معه الحَسنَ بن عليٍّ الذي كان صاحِبَها، وأَمَرَهُ أن يَقتَدِي بَرأيِه في أَفعالِه، وأَقطَعَ الحَسنَ بها أَقطاعًا، وأَعطاهُ دُورًا نَفيسةً يَسكُنُها، وكذلك فَعلَ بأَولادِه، ورَحلَ من المَهديَّةِ أوَّلَ صَفر من السَّنَةِ إلى بِلادِ المَغرِب.
في ثامنِ رَبيعٍ الآخر، كَثُرَت الزِّيادةُ في دِجلَة، وخَرَقَ القُورجُ فوقَ بغداد -القُورج نهر بين القاطول وبغداد، منه يكون غرق بغداد غالبًا- فامتَلأَت الصَّحارِي وخَندَق البلد، وأَفسدَ الماءُ السُّورَ وأَحدثَ فيه فَتحةً يومَ السبتِ تاسعَ عشرَ الشهرِ، فوَقعَ بعضُ السُّورِ عليها فَسَدَّهَا، ثم فَتحَ الماءُ فَتحةً أُخرَى، وأَهمَلوها ظَنًّا أنها تُنَفِّسُ عن السُّورِ لِئَلَّا يَقَع، فغَلَبَ الماءُ، وتَعَذَّرَ سَدُّهُ، فغَرِقَ قَراحُ ظَفَر، والأَجمةُ، والمُختارةُ، والمُقتَدِيةُ، ودَربُ القبارِ، وخَرابةُ ابن جردةَ، والرَّيانُ، وقَراحُ القاضي، وبعضُ القطيعَةِ، وبعضُ بابِ الأَزجِ، وبعضُ المَأمونيةِ، وقَراحُ أبي الشحمِ، وبعضُ قَراحِ ابنِ رَزينٍ، وبعضُ الظفريةِ، ودَبَّ الماءُ تحتَ الأَرضِ إلى أَماكنَ، فوَقَعَت وأَخَذَ الناسُ يَعبُرون إلى الجانبِ الغربيِّ، فبَلَغَت المَعبَرَةُ عِدَّةَ دَنانيرٍ، ولم يكُن يُقدَر عليها، ثم نَقَصَ الماءُ، وتَهَدَّم السُّور، وبَقِيَ الماءُ الذي داخِلُ السُّورِ يَدُبُّ في المَحالِّ التي لم يَركَبها الماءُ، فكَثُرَ الخَرابُ، وبَقِيَت المَحالُّ لا تُعرف إنما هي تُلولٌ، فأَخذَ الناسُ حُدودَ دُورِهِم بالتَّخمِينِ، وأما الجانبُ الغربيُّ فغَرِقَت فيه مَقبرَةُ أَحمدَ بنِ حَنبلٍ وغَيرُها من المقابرِ، وانخَسَفَت القُبورُ المَبنيَّةُ، وخَرَجَ المَوتَى على رَأسِ الماءِ، وكذلك المَشهَد والحَربيَّة، وكان أَمرًا عَظيمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
في صَفر سار عبدُ المؤمنِ بنُ عليٍّ عن مراكش، يَطلُب إفريقية، فلم يَزَل يَسيرُ إلى أن وَصلَ إلى مَدينةِ تونس في الرابع والعشرين من جُمادَى الآخرة، وبها صاحِبُها أحمدُ بن خُراسان، فلمَّا نازَلَها أَرسلَ إلى أَهلِها يَدعوهُم إلى طاعَتِه، فامتَنَعوا، فقاتَلَهم من الغَدِ أَشَدَّ قِتالٍ، فلم يَبقَ إلا أَخْذُها، ودُخولُ الأُسطولِ إليها، فجاءَت رِيحٌ عاصِفٌ مَنَعَت المُوَحِّدِين من دُخولِ البلدِ، فرَجَعوا لِيُباكِرُوا القِتالَ ويَملِكوهُ، فلمَّا جَنَّ اللَّيلُ نَزَلَ سبعة عشر رَجُلًا من أَعيانِ أَهلِها إلى عبدِ المؤمن يَسأَلونَه الأَمانَ لأَهلِ بَلدِهِم، فأَجابَهم إلى الأَمانِ لهم في أَنفُسِهم وأَهلِيهِم وأَموالِهم لِمُبادَرَتِهم إلى الطَّاعةِ، وأمَّا ما عَداهُم من أَهلِ البلدِ فيُؤَمِّنُهم في أَنفُسِهم وأَهالِيهِم، ويُقاسِمُهم على أَموالِهم وأَملاكِهم نِصفَين، وأن يَخرُج صاحِبُ البلدِ هو وأَهلُه؛ فاستَقَرَّ ذلك، وتَسَلَّم البلدَ، وعَرَضَ الإسلامَ على مَن بها من اليَهودِ والنَّصارَى، فمَن أَسلَم سَلِمَ، ومَن امتَنَعَ قُتِلَ، وأَقامَ أَهلُ تونس بها بأُجرَةٍ تُؤخَذ عن نِصفِ مَساكِنِهم.
هو السُّلطانُ محمدُ بن محمودِ بن محمدٍ، كان مَولِدُه سَنةَ 522هـ، وكان كَريمًا عاقِلًا، وهو الذي حاصَرَ بغدادَ طالِبًا السَّلْطَنَةَ وعادَ عنها، فأَصابَهُ سُلٌّ، وطالَ به فماتَ ببابِ همذان، فلمَّا حَضَرَهُ الموتُ أَمَرَ العَساكرَ فرَكِبَت وأَحضرَ أَموالَه وجَواهِرَه وحَظَاياهُ ومَمَاليكَهُ، فنَظَرَ إلى الجَميعِ مِن طَيَّارَةٍ تشرف على ما تحتها، فلمَّا رَآهُ بَكَى، وقال: هذه العَساكرُ والأَموالُ والمَماليكُ والسَّراري ما أرى يَدفَعون عَنِّي مِقدارَ ذَرَّةٍ، ولا يَزيدون في أَجَلِي لَحظةً. وأَمَرَ بالجَميعِ فرُفِعَ بعدَ أن فَرَّقَ منه شَيئًا كَثيرًا. وكان له وَلَدٌ صَغيرٌ، فسَلَّمَهُ إلى آقسنقر الأحمديلي وقال له: أنا أَعلمُ أن العَساكرَ لا تُطيعُ مِثلَ هذا الطِّفلِ، وهو وَديعةٌ عندك، فارحَل به إلى بِلادِك. فرَحَلَ إلى مراغة، فلمَّا ماتَ اختَلَفَت الأُمراءُ، فطائِفةٌ طَلَبوا ملكشاه أَخاهُ، وطائِفةٌ طَلَبوا عَمَّهُ سُليمانَ شاه، وهُم الأَكثرُ، وطائِفةٌ طَلَبوا أرسلان الذي مع إيلدكز؛ فأَمَّا ملكشاه فإنه سار من خوزستان، ومعه دكلا صاحِبُ فارسن وشملة التُّركمانيُّ وغَيرُهما، فوَصلَ إلى أصفهان، فسَلَّمَها إليه ابنُ الخجندي، وجَمَعَ له مالًا أَنفَقَهُ عليه، وأَرسلَ إلى العَساكرِ بهمذان يَدعُوهم إلى طاعَتِه، فلم يُجيبوهُ لعدم الاتِّفاقِ بينهم، ولأنَّ أَكثرَهُم كان يُريدُ عَمَّهُ سُليمانَ شاه, وكان مَسجونًا بالمَوصِل فأُفرِجَ عنه وانعَقَدَت له السَّلطَنَةُ، وخُطِبَ له على مَنابرِ تلك البِلادِ سِوَى بغدادَ والعِراقِ.
هو السلطان ملكشاه بن السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان، تولى السلطنة بعد وفاة عَمِّه السلطان مسعود بن محمد بعهدٍ منه. فقعد في السلطنة وخُطِبَ له، وكان المتغلِّبُ على المملكة أميرًا يقال له خاص بك، وأصله صبي تركماني اتصل بخدمة السلطان مسعود، فتقدَّم على سائر أمرائه، ثم إنَّ خاص بك قبض على السلطان ملكشاه بن محمود وسجَنه، وأرسل إلى أخيه محمد بن محمود، وهو بخورستان، فأحضَرَه وتولى السلطنة، وجلس على السرير، وكان قصدُ خاص بك أن يُمسِكَه ويخطُبَ لنفسه بالسلطنة، فبدره السلطان محمد في ثاني يوم وصوله، فقتَلَ خاص بك وقتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفرق أصحابُهما. توفي ملكشاه بأصفهان مسمومًا، وكان سبب ذلك أنه لما كثر جمعه بأصفهان أرسل إلى بغداد وطلب أن يقطعوا خطبة عمه سليمان شاه، ويخطبوا له ويعيدوا القواعد بالعراق إلى ما كانت عليه أولًا، وإلَّا قصدهم، فوضع الوزير عون الدين بن هبيرة خَصِيًّا كان خصيصًا به، يقال له أغلبك الكوهراييني، فمضى إلى بلاد العجم، واشترى جاريةً من قاضي همذان بألف دينار، وباعها من ملكشاه، وكان قد وضعها على سَمِّه ووعدها أمورًا عظيمة، ففعلت ذلك وسَمَّتْه في لحم مشوي فأصبح ميتًا، وجاء الطبيب إلى دكلا وشملة فعرَّفهما أنه مسموم، فعرفوا أن ذلك مِن فِعلِ الجارية، فأُخِذَت وضُرِبَت وأقرَّت، ولَمَّا مات أخرج أهل أصفهان أصحابَه من عندهم، وخطبوا لسليمان شاه واستقر ملكه بتلك البلاد، وعاد شملة إلى خوزستان، فأخذ ما كان ملكشاه تغلب عليه منها. حكم ملكشاه خمسةَ أشهر، وهو ثاني ملك من بني سلجوق سُمِّي بملكشاه.
هو حاكِمُ مصر الفائزُ بنَصرِ الله أبو القاسمِ عيسى بن الظَّافِرِ إسماعيلَ بن الحافِظِ عبدِ المَجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر بالله العُبيديُّ، المصريُّ الفاطِميُّ. كانت مُدَّةُ حُكمِه سِتَّ سِنين ونحوَ شَهرينِ؛ وكان عُمرُه لمَّا وَلِيَ خمسَ سِنين، قال الذَّهبيُّ: "لمَّا اغتَالَ عبَّاسٌ الوَزيرُ الظَّافِرَ، أَظَهَرَ القَلقَ، ولم يكُن عَلِمَ أَهلُ القَصرِ بمَقتَلِه, فطَلَبوه في دُورِ الحَرَمِ فما وَجَدوهُ، وفَتَّشُوا عليه وأَيِسُوا منه، وقال عبَّاسٌ لأَخوَيهِ: أَنتُما الذين قَتَلتُما مولانا، فأَصَرَّا على الإنكارِ، فقَتَلَهُما نَفْيًا للتُّهمَةِ عنه, واستَدعَى في الحالِ عيسى هذا، وهو طِفلٌ له خَمسُ سِنين, وقِيلَ: بل سَنَتانِ. فحَمَلهُ على كَتِفِه، ووَقَفَ باكِيًا كَئيبًا، وأَمَرَ بأن تَدخُل الأُمراءُ، فدَخَلوا, فقال: هذا وَلَدُ مَولاكُم، وقد قَتَلَ عَمَّاهُ مَولاكُم، فقَتَلتُهُما به كما تَرَونَ، والواجِبُ إِخلاصُ النِّيَّةِ والطَّاعةُ لهذا الوَلَدِ، فقالوا كلُّهم: سَمْعًا وطاعَةً، وضَجُّوا ضَجَّةً قَوِيَّةً بذلك، ففَزِعَ الطِّفلُ، ولَقَّبوهُ الفائِزَ، وبَعَثوهُ إلى أُمِّهِ، واختَلَّ عَقلُه من حينئذٍ، وصار يَتَحرَّك ويُصرَع، ودانَت الممالِكُ لعبَّاسٍ. وأمَّا أَهلُ القَصرِ، فاطَّلَعوا على باطِنِ القَضِيَّةِ، فكاتَبُوا طَلائِعَ بنَ رزيك الأرمنيَّ الرَّافِضيَّ، والِيَ المنية" كان ابنُ رزيك ذا شَهامَةٍ وإِقدامٍ, فسَألوهُ الغَوْثَ، والأَخذَ بالثَّأْرِ من عبَّاسٍ الوَزيرِ لقَتْلِه الظَّافِرَ وأَخَوَيْهِ, فلَبِسَ الحِدادَ، وكاتَبَ أُمراءَ القاهرةِ، وهَيَّجَهُم على طَلَبِ الثَّأْرِ، فأَجابوهُ, فسار إلى القاهرةِ، وكان عبَّاسٌ في عَسكرٍ قَليلٍ. فخارَت قُواهُ وهَرَبَ هو وابنُه نَصرٌ ومَماليكُه والأَميرُ ابنُ مُنقِذٍ, واستَولَى الصَّالِحُ طَلائعُ بن رزيك على دِيارِ مصر بلا ضَربَةٍ ولا طَعنَةٍ، فنَزلَ إلى دارِ عبَّاسٍ، ثم استَدعَى خادِمًا كَبيرًا، وقال له: مَن هاهنا يَصلُح للحُكمِ؟ فقال: هاهنا جَماعةٌ؛ وذَكَرَ أَسماءَهُم، وذَكَرَ له منهم إِنسانٌ كَبيرُ السِّنِّ، فأَمَرَ بإحضارِهِ، فقال له بَعضُ أَصحابِه سِرًّا: لا يكون عبَّاسٌ أَحزَمَ منك حيث اختارَ الصَّغيرَ وتَرَكَ الكِبارَ واستَبَدَّ بالأَمرِ؛ فأَعادَ الصالحُ الرَّجُلَ إلى مَوضِعِه، وأَمَرَ حينئذٍ بإحضارِ العاضِدِ لدِينِ الله أبي محمدٍ عبدِ الله بن يوسفَ بن الحافظِ، ولم يكُن أَبوهُ حاكِمًا، وكان العاضِدُ في ذلك الوَقتِ مُراهقًا قارَبَ البُلوغَ، فبايَعَ له بالحُكمِ.
هو الخَليفةُ، أَميرُ المُؤمِنين، المُقتَفِي لأَمرِ الله، أبو عبدِ الله، محمدُ بن المُستَظهِر بالله أبي العبَّاسِ أحمدَ بن المُقتَدِي بالله، بن الذَّخيرَةِ محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله عبدِ الله بن القادرِ بالله عبدِ الله أحمدَ بن الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر، الهاشميُّ، العبَّاسيُّ، البغداديُّ، الحَبَشيُّ الأُمِّ. وُلِدَ في رَبيعٍ الأوَّلِ سَنةَ 489هـ. وبُويِعَ بالإمامَةِ في سادس عشر ذي القعدةِ، سَنةَ 530هـ. كان المُقتَفِي عاقِلًا لَبيبًا، عامِلًا مَهيبًا، صارِمًا، جَوادًا، أَسمَرَ، آدَمَ، مَجْدُورَ الوَجْهِ، مَليحَ الشَّيْبَةِ، مُحِبًّا للحَديثِ والعِلمِ، مُكرِمًا لأَهلِه، سَمِعَ المُقتَفِي من: أبي الحَسنِ بن العَلَّافِ، ومن مُؤَدِّبِه أبي البَركاتِ السيبي. قال السَّمعانيُّ: "وأَظُنُّهُ سَمِعَ (جُزءَ ابنِ عَرَفَة) من ابنِ بيان، كَتَبْتُ إليه قِصَّةً أَسأَلُهُ الإنعامَ بالإذِنِ في السَّماعِ منه، فأَنعَمَ، وفَتَّشَ على الجُزءِ، ونَفَذَهُ إليَّ على يَدِ إِمامِه ابنِ الجواليقي، فسَمِعتُه من ابنِ الجواليقي عنه"، وكان حَمِيدَ السِّيرَةِ، يَرجِعُ إلى تَدَيُّنٍ وحُسْنِ سِياسَةٍ، جَدَّدَ مَعالِمَ الخِلافَةِ، وباشَرَ المُهِمَّاتِ بِنَفسِه، وغَزَا في جُيوشِه. كانت أَيامُه نَضِرَةً بالعَدلِ، زَهِرَةً بالخَيرِ، وكان على قَدَمٍ مِن العِبادَةِ قبلَ الخِلافَةِ ومعها، ولم يُرَ مع لِينِه بعدَ المُعتَصِم في شَهامَتِه مع الزُّهْدِ والوَرَعِ، ولم تَزَل جُيوشُه مَنصورَةً. قال الذَّهبيُّ: "كان مِن حَسَناتِه وَزيرُه عَوْنُ الدِّينِ بن هُبيرَة، وقِيلَ: كان لا يَجرِي في دَولتِه شَيءٌ إلا بِتَوقِيعِه"، ووَزَرَ للمُقتَفِي عليُّ بنُ طرادٍ، ثم أبو نَصرِ بنُ جَهيرٍ، ثم عليُّ بن صَدقةَ، ثم ابنُ هُبيرَةَ، وحَجَبَ له أبو المعالي بنُ الصاحِبِ، ثم كامِلُ بنُ مُسافرٍ، ثم ابنُ المُعوَجِّ، ثم أبو الفَتحِ بن الصَّيْقَلِ، ثم أبو القاسمِ بن الصاحِبِ. وهو أَوَّلُ مَن استَبَدَّ بالعِراقِ مُنفَرِدًا عن سُلطانٍ يكونُ معه. مِن أَوَّلِ أَيامِ الدَّيلمِ إلى أَيامِه، وأَوَّلُ خَليفةً تَمَكَّنَ من الخِلافةِ وحَكَمَ على عَسكَرِهِ وأَصحابِه مِن حين تَحَكُّمِ المَماليكِ على الخُلفاءِ مِن عَهدِ المُستَنصِر إلى عَهدِه، إلا أن يكون المُعتَضِد، فأَقامَ المُقتَفِي حِشمةَ الخِلافَةِ، وقَطَعَ عنها أَطماعَ السَّلاطينِ السَّلجوقِيَّة وغَيرِهم، وكان من سَلاطينِ خِلافَتِه صاحِبُ خُراسان سنجر بن ملكشاه، والمَلِكُ نُورُ الدِّينِ صاحِبُ الشامِ، وأَبوهُ قَسيمُ الدَّولةِ. تُوفِّي المُقتَفِي ثانيَ رَبيعٍ الأَوَّل، بِعِلَّةِ التَّراقِي؛ وكانت خِلافَتُه أَربعًا وعِشرينَ سَنَةً وثلاثةَ أَشهُر وسِتَّةَ عشرَ يومًا، ووَافقَ أَباهُ المُستَظهِر بالله في عِلَّةِ التَّراقِي وماتَا جَميعًا في نَفسِ الشَّهرِ، ثم بُويِعَ المُستنجِدُ بالله ابنُه واسمُه يُوسفُ، وكان للمُقتَفِي حَظِيَّةٌ، وهي أُمُّ وَلَدِه أبي عليٍّ، فلمَّا اشتَدَّ مَرضُ المُقتَفِي وأَيِسَت منه أَرسَلَت إلى جَماعَةٍ من الأُمراءِ وبَذَلَت لهم الإِقطاعاتِ الكَثيرةَ والأَموالَ الجَزيلةَ لِيُساعِدوها على أن يكون وَلَدُها الأَميرُ أبو عليٍّ خَليفةً. قالوا: كيف الحِيلَةُ مع وَلِيِّ العَهدِ؟ فقالت: إذا دَخَلَ على والِدِه قَبَضتُ عليه. وكان يَدخُل على أَبيهِ كلَّ يَومٍ. فقالوا: لا بُدَّ لنا مِن أَحَدٍ مِن أَربابِ الدَّولةِ؛ فوَقَعَ اختِيارُهم على أبي المعالي ابن الكيا الهراسي، فدَعوهُ إلى ذلك، فأَجابَهم على أن يكونَ وَزيرًا، فبَذَلوا له ما طَلَبَ، فلمَّا استَقَرَّت القاعِدةُ بينهم وعَلِمَت أُمُّ أبي عليٍّ أَحضَرَت عِدَّةً من الجَواري وأَعطَتهُنَّ السَّكاكِينَ، وأَمَرَتهُنَّ بقَتلِ وَلِيِّ العَهدِ المُستَنجِد بالله. وكان له خَصِيٌّ صَغيرٌ يُرسِلُه كلَّ وَقتٍ يَتَعَرَّف أَخبارَ والِدِه، فرأى الجَوارِي بأَيدِيهِنَّ السَّكاكِينُ، ورَأى بِيَدِ أبي عليٍّ وأُمِّهِ سَيْفَينِ، فعادَ إلى المُستَنجِد فأَخبَرَهُ، وأَرسَلَت هي إلى المُستَنجِد تَقولُ له إن والِدَهُ قد حَضَرَهُ المَوتُ لِيَحضُر ويُشاهِدَه، فاستَدعَى أُستاذَ الدارِ عَضُدَ الدِّينِ وأَخَذَهُ معه وجَماعَةً من الفَرَّاشِين، ودَخَلَ الدارَ وقد لَبِسَ الدِّرْعَ وأَخَذَ بِيَدِه السَّيفَ، فلمَّا دَخلَ ثارَت به الجَوارِي، فضَرَب واحِدةً منهن فجَرَحَها، وكذلك أُخرَى، فصاحَ ودَخلَ أُستاذُ الدارِ ومعه الفَرَّاشون، فهَرَبَ الجَوارِي وأَخَذَ أَخاهُ أبا عليٍّ وأُمَّهُ فسَجَنهُما، وأَخذَ الجَوارِي فقَتَلَ منهن، وغَرَّقَ منهن، ودَفَعَ الله عنه، فلمَّا تُوفِّي المُقتَفِي جَلسَ المُستَنجِد للبَيْعَةِ، فبَايَعَهُ أَهلُه وأَقارِبُه، وأَوَّلُهم عَمُّهُ أبو طالِبٍ، ثم أَخوهُ أبو جَعفرِ بن المُقتَفِي، وكان أَكبرَ من المستنجد، ثم بايعه الوزير بن هبيرة، وقاضي القضاة، وأرباب الدولة والعلماء، وخطب له يوم الجمعة، ونُثرت الدراهمُ والدنانيرُ.
كان أهلُ العبث والفساد بنيسابور قد طمعوا في نهب الأموال وتخريب البيوت، وفِعلِ ما أرادوا، فإذا نُهوا لم ينتهوا، فلما كان الآن تقدمَ المؤيد أي أبه بقبض أعيان نيسابور، منهم نقيب العلويين أبو القاسم زيد بن الحسن الحسيني وغيره، وحبسهم في ربيع الآخر، وقال: أنتم الذين أطمعتم المفسدين حتى فعلوا هذه الفِعال، ولو أردتم منعهم لامتنعوا، وقتل من أهل الفساد جماعةً، فخربت نيسابور بالكلية، ومن جملة ما خُرِّبَ مسجدُ عقيل، كان مَجمَعًا لأهل العلم، وفيه خزائن الكتب الموقوفة، وكان من أعظم منافعِ نيسابور، وخُرِّب أيضًا من المدارس ثماني مدارس للحنفية، وسبع عشرة مدرسة للشافعية، وأُحرق خمسُ خزائن للكتب، ونُهِب سبع خزائن كتب وبيعت بأبخس الأثمان.
خرج الوزير ابن هبيرة من داره إلى الديوان، والغلمان يطرقون له، وأرادوا أن يَرِدوا باب المدرسة الكمالية بدار الخليفة، فمنعهم الفقهاءُ وضربوهم بالآجُرِّ، فشَهَر أصحابُ الوزير السيوف وأرادوا ضربَهم، فمنعهم الوزير، ومضى إلى الديوان، فكتب الفقهاء مطالعةً يشكون أصحاب الوزير، فأمر الخليفة بضربِ الفقهاء وتأديبهم ونفيهم من الدار، فمضى أستاذ الدار وعاقبَهم هناك، واختفى مدرِّسُهم الشيخ أبو طالب، ثم إنَّ الوزير أعطى كل فقير دينارًا، واستحلَّ منهم، وأعادهم إلى المدرسة وظهر مدَرِّسُهم.
لما تخلص الخادم كردبازو من السلطان سليمان شاه بسَجنه ثم قتله، أرسل إلى إيلدكز، صاحب آران وأكثر بلاد أذربيجان، يستدعيه إليه ليخطُبَ للملك أرسلان شاه الذي معه، وبلغ الخبر إلى إينانج صاحب بلاد الري، فسار ينهب البلادَ إلى أن وصل إلى همذان، فتحصن كردبازو، فطلب منه إينانج أن يعطيه مصافًا، فقال: أنا لا أحاربك حتى يصل الأتابك الأعظم إيلدكز. وسار إيلدكز في عساكره جميعًا يزيد على عشرين ألف فارس، ومعه أرسلان شاه بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، فوصل إلى همذان، فلقِيَهم كردبازو، وأنزله دار المملكة، وخطب لأرسلان شاه بالسَّلطنة بتلك البلاد، وكان إيلدكز قد تزوَّجَ بأم أرسلان شاه، وهي أم البهلوان بن إيلدكز، وكان إيلدكز أتابكَه، والبهلوان حاجبَه، وهو أخوه لأمه، وكان إيلدكز هذا أحدَ مماليك السلطان مسعود، واشتراه في أول أمره، فلما ملك أقطعَه أران وبعض أذربيجان، واتفق الحروب والاختلاف، فلم يحضر عنده أحد من السلاطين السلجوقية، وعظُمَ شأنُه وقَوِيَ أمرُه، وتزوج بأم الملك أرسلان شاه، فولدت له أولادًا منهم البهلوان محمد، وقزل أرسلان عثمان، فلما خطَبَ له بهمذان أرسل إيلدكز إلى بغداد يطلب الخطبة لأرسلان شاه أيضًا، وأن تعاد القواعِدُ إلى ما كانت عليه أيام السلطان مسعود، فأُهين رسوله وأعيد إليه على أقبح حالة، وأما إينانج صاحب الري فإن إيلدكز راسله ولاطفه فاصطلحا وتحالفا على الاتفاق، وتزوج البهلوان بن إيلدكز بابنة إينانج ونُقِلَت إليه بهمذان.
قُتِلَ السلطانُ سليمان شاه بن السلطان محمد بن ملكشاه، وسببُ ذلك أنه كان فيه تهوُّرٌ وخرقٌ، وبلغ به شربُ الخمر حتى إنه شربها في رمضان نهارًا، وكان يجمع المساخِرَ ولا يلتفت إلى الأمراء، فأهمل العسكرُ أمره، وصاروا لا يحضُرون بابه، وكان قد ردَّ جميع الأمور إلى شرف الدين كردبازو الخادم، وهو من مشايخ الخدم السلجوقية، كان فيه دينٌ وعقل وحسن تدبير، فكان الأمراء يشكُون إليه السلطان وهو يُسَكِّنُهم، فكتب سليمان شاه إلى إينانج صاحب الري يطلبُ منه أن يُنجِدَه على كردبازو، فوصل الرسولُ وإينانج مريض، فأعاد الجوابَ يقول: إذا أفقتُ من مرضي حضرتُ إليك بعسكري؛ فبلغ الخبر كردبازو، فازداد استيحاشًا، فأرسل إليه سليمان يومًا يطلبه، فقال: إذا جاء إينانج حَضرتُ، وأحضر الأمراء واستحلفهم على طاعته، وكانوا كارهين لسليمان، فحلفوا له، فأوَّل ما عَمِلَ أن قتل المساخرة الذين لسليمان، وقال: إنما أفعل ذلك صيانةً لملكك؛ ثم اصطلحا، وعَمِلَ كردبازو دعوةً عظيمة حضرها السلطان والأمراء، فلما صار السلطان سليمان شاه في داره قبضَ عليه كردبازو وعلى وزيره ابنِ القاسم محمود بن عبد العزيز الحامدي، وعلى أصحابه، في شوال سنة 555، فقَتَلَ وزيرَه وخواصَّه، وحَبَس سليمان شاه في قلعة، ثمَّ أرسل إليه من خنَقَه؛ وقيل: بل حبسه في دار مجد الدين العلوي رئيس همذان، وفيها قُتِلَ، وقيل بل سُقِيَ سُمًّا فمات.
هو الملك علاء الدين الحسين بن الحسين الغوري ملك الغور، وكان عادلًا من أحسن الملوك سيرة في رعيته، توفي بعد انصرافه عن غزنة، ولما مات ملَك بعده ابنُه سيف الدين محمد، وأطاعه الناس وأحبوه، وكان قد صار في بلادهم جماعةٌ من دعاة الإسماعيلية، وكثر أتباعهم فأُخرِجوا من تلك الديار جميعها، ولم يبقَ فيها منهم أحدٌ، وراسل الملوك وهاداهم، واستمال المؤيد، أي أبه صاحب نيسابور وطلب موافقتَه.
اجتمعت خفاجة إلى الحلة والكوفة، وطالبوا برسومِهم من الطعام والتمر وغير ذلك، فمنعهم أميرُ الحاج أرغش، وهو مقطع الكوفة، ووافقَه على قطعه الأمير قيصر شحنة الحلة، وهما من مماليك الخليفة، فأفسدت خفاجة، ونهَبوا سواد الكوفة والحلة، فأسرى إليهم الأميرُ قيصر، شحنةَ الحلة، في مائتين وخمسين فارسًا، وخرج إليه أرغش في عسكر وسلاح، فانتزحت خفاجة من بين أيديهم، وتبعهم العسكرُ إلى رحبة الشام، فأرسل خفاجة يعتذرون ويقولون: قد قنعنا بلبن الإبل وخُبز الشعير، وأنتم تمنعوننا رسومَنا، وطلبوا الصُّلحَ، فلم يجِبْهم أرغش وقيصر، وكان قد اجتمع مع خفاجة كثيرٌ من العرب، فتصافُّوا واقتتلوا، وأرسلت العربُ طائفة إلى العسكر وخيامِهم، فحالوا بينهم وبينها، وحمل العربُ حملةً مُنكَرة، فانهزم العسكر، وقُتِلَ كثير منهم، وقُتِل الأميرُ قيصر، وأُسِرَت جماعة أخرى، وجُرح أمير الحاج جراحةً شديدة، ودخل الرحبة، فحماه شيخُها وأخذ له الأمان وسيَّرَه إلى بغداد، ومن نجا مات عطشًا في البرية، وكان إماءُ العرب يخرجن بالماءِ يسقين الجرحى، فإذا طلبه منهن أحدٌ من العسكر أجهَزْن عليه. وكثر النوح والبكاء ببغداد على القتلى، وتجهَّزَ الوزير عون الدين بن هبيرة والعساكر معه، فخرج في طلب خفاجة، فدخلوا البر وخرجوا إلى البصرة، ولَمَّا دخلوا البر عاد الوزير إلى بغداد، وأرسل بنو خفاجة يعتذرون ويقولون: بُغِي علينا، وفارقنا البلاد، فتَبِعونا واضطررنا إلى القتالِ، وسألوا العفو عنهم، فأُجيبوا إلى ذلك.
كانت غرناطة لعبد المؤمن، فأرسل أهلُها إلى الأمير إبراهيم بن همشك صهر ابن مردنيش فاستدعوه إليهم؛ ليسلموا إليه البلد؛ وكان قد وحَّدَ- صار من أتباع الموحدين- ومن أصحاب عبد المؤمن، وفي طاعته، وممن يحرِّضُه على قتل ابن مردنيش. ثم فارق طاعة عبد المؤمن وعاد إلى موافقة ابن مردنيش. فامتنعوا بحصنها، فبلغ الخبر أبا سعيد عثمان بن عبد المؤمن وهو بمدينة مالقة، فجمع الجيش الذي كان عنده وتوجَّه إلى غرناطة لنصرة من فيها من أصحابهم، فعلم بذلك إبراهيم بن همشك فاستنجد بن مردنيش، ملك البلاد بشرق الأندلس، فأرسل إليه ألفي فارس من أنجاد أصحابه ومن الفرنج الذين جندهم معه، فاجتمعوا بضواحي غرناطة، فالتقوا هم ومن بغرناطة من عسكر عبد المؤمن قبل وصول أبي سعيد إليهم، فاشتد القتال بينهم فانهزم عسكر عبد المؤمن، وقدم أبو سعيد، واقتتلوا أيضًا، فانهزم كثير من أصحابه، وثبت معه طائفة من الأعيان والفرسان المشهورين، والرجالة الأجلاد، حتى قُتلوا عن آخرهم، وانهزم حينئذ أبو سعيد ولحق بمالقة، وسمع عبد المؤمن الخبر، وكان قد سار إلى مدينة سلا، فسيَّرَ إليهم في الحال ابنَه أبا يعقوب يوسف في عشرين ألف مقاتل، فيهم جماعة من شيوخ الموحدين، فجدُّوا المسيرَ، فبلغ ذلك ابن مردنيش فسار بنفسه وجيشه إلى غرناطة ليُعين ابن همشك، فاجتمع منهم بغرناطة جمعٌ كثير، فنزل ابن مردنيش في الشريعة بظاهرها، ونزل العسكر الذي كان أمد به ابن همشك أولًا، وهم ألفا فارس، بظاهر القلعة الحمراء، ونزل ابن همشك بباطن القلعة الحمراء بمن معه، ووصل عسكر عبد المؤمن إلى جبل قريب من غرناطة، فأقاموا في سفحِه أيامًا، ثمَّ سَيَّروا سريةً أربعة آلاف فارس، فبيَّتوا العسكر الذي بظاهر القلعة الحمراء، وقاتلوهم من جهاتهم، فما لحقوا يركبون، فقتلوهم عن آخرهم، وأقبل عسكرُ عبد المؤمن بجملته، فنزلوا بضواحي غرناطة، فعَلِمَ ابن مردنيش وابن همشك أنَّهم لا طاقة لهم بهم، ففَرُّوا في الليلة الثانية، ولحقوا ببلادِهم، واستولى الموحِّدون على غرناطة, وعاد عبدُ المؤمن مِن مدينة سلا إلى مراكش.
وصل الحُجَّاج إلى منى، ولم يتمَّ الحجُّ لأكثر الناس؛ لصَدِّهم عن دخول مكة والطواف والسعي، فمن دخل يومَ النحر مكَّةَ وطاف وسعى كَمُل حجه، ومن تأخر عن ذلك مُنِعَ دخولَ مكَّةَ؛ لفتنةٍ جرت بين أمير الحاجِّ وأمير مكة، كان سببُها أن جماعة من عبيد مكَّةَ أفسدوا في الحاجِّ بمنى، فنفَرَ عليهم بعضُ أصحاب أمير الحاج، فقتلوا منهم جماعة، ورجعَ مَن سلم إلى مكة، وجمعوا جمعًا وأغاروا على جمالِ الحاجِّ، وأخذوا منها قريبًا من ألفِ جمل، فنادى أمير الحاج في جُندِه، فركبوا بسلاحِهم، ووقع القتالُ بينهم، فقُتِلَ جماعة، ونُهِبَ جماعةٌ من الحاجِّ وأهل مكة، فرجع أميرُ الحاج ولم يدخل مكة، ولم يُقِم بالزاهر غيرَ يوم واحد، وعاد كثيرٌ من الناس رجَّالة؛ لقلة الجمال، ولَقُوا شِدَّة.
مَلَكَ الخليفةُ المستنجد بالله قلعة الماهكي، وسببُ ذلك أنَّ سنقر الهمذاني، صاحبها، سلَّمَها إلى أحد مماليكه ومضى إلى همذان، فضَعُف هذا المملوك عن مقاومة ما حولها من الغزِّ الأتراك التركمان والأكراد، فأشيرَ عليه ببيعها على الخليفةِ، فراسل في ذلك، فاستنزله المستنجِدُ عنها بخمسة عشر ألف دينار وسلاحٍ وغير ذلك من الأمتعة، وعِدَّة من القرى، فسلَمَّها واستلم ما استقَرَّ له، وأقام ببغداد، وهذه القلعة لم تَزَلْ من أيام المقتدر بالله بأيدي التركمان والأكراد.