كان الكنزُ أمير العرب بنواحي أسوان، وهو من الشيعة العَلَوية بمصر، فعصى الكنز الدولةَ واجتمَعَ إليه العرب والسودان، وطالت أيَّامُه واشتهر منذ أيام صلاح الدين، وفي هذا العام كثُرَ فسادُ أولاد الكنز وطائفة العكارمة بأسوان وسواكن، ومَنَعوا التجارَ وغَيرَهم من السفر؛ لِقَطعِهم الطريق، وأخْذِهم أموالَ الناس، وأنَّ أولاد الكنز قد غلبوا على ثغر أسوان، وصحراء عيذاب وبرية الواحات الداخلة، وصاهَروا ملوك النوبةِ، وأمراء العكارمة، واشتَدَّت شوكتُهم، ثم قَدِمَ ركن الدين كرنبس من أمراء النوبةِ، والحاج ياقوت ترجمانُ النوبة، وأرغون مملوك فارس الدين، برسالة متملك دنقلة بأن ابنَ أخته خرج عن طاعته، واستنجد ببني جعد من العرب، وقصدوا دنقلةَ فاقتتلا قتالًا كثيرًا، قُتِلَ فيه الملك وانهزم أصحابُه، ثم أقاموا عِوَضَه في المملكة أخاه، وامتَنَعوا بقلعة الدو فيما بين دنقلة وأسوان، فأخذ ابنُ أخت المقتول دنقلةَ، وجلس على سرير المملكة، وعمل وليمةً جمع فيها أمراء بني جعد وكبارَهم، وقد أعَدَّ لهم جماعةً مِن ثقاته ليفتِكوا بهم، وأمر فأُخلِيَت الدور التي حول دارِ مُضَيِّفِهم، وملأها حَطَبًا، فلما أكَلوا وشَرِبوا، خرجت جماعةٌ بأسلِحَتِهم، وقاموا على باب الدار، وأضرم آخرونَ النَّارَ في الحطب، فلما اشتعلت بادر العُربان بالخروج من الدار، فأوقع القومُ بهم، وقتلوا منهم تسعةَ عشر أميرًا في عِدَّةٍ مِن أكابرهم، ثم ركب إلى عَسكَرِهم، فقَتَل منهم مقتلةً كبيرة، وانهزم باقيهم، فأخذ جميعَ ما كان معهم واستخرج ذخائِرَ دنقلة وأموالها، وأخلاها من أهلِها، ومضى إلى قلعة الدو، وسألا أن ينجِدَهما السلطان على العَرَب، حتى يستردُّوا مُلكَهما، والتزما بحَملِ مال في كل سنة إلى مصر، فرسم السُّلطانُ بنجدتهم وأخَذَ في تجهيز العسكر من سادس عشر شهر ربيع الأول، وساروا في الرابعِ والعشرين، وهم نحوُ الثلاثة آلاف فارس، فأقاموا بمدينةِ قوص ستة أيام، واستدعوا أمراءَ أولاد الكنز من ثغر أسوان ورغَّبوهم في الطاعة، وخَوَّفوهم عاقِبةَ المعصية، وأمَّنوهم، ثم ساروا من قوص، فأتَتْهم أمراء الكنوز طائعينَ عند عقبة أدفو، فخلع عليهم الأميرُ أَقتمر عبد الغني وبالغَ في إكرامهم، ومضى بهم إلى أسوان، وسارت العساكِرُ تريدُ النوبة على محاذاتها في البَرِّ يومًا واحدًا، وإذا برُسُل متمَلِّك النوبة قد لاقَتْهم، وأخبروهم بأنَّ العَرَب قد نازلوا المَلِكَ وحصروه بقلعة الدو، فبادر الأمير أقتمر عبد الغني لانتقاء العسكر، وسار في طائفةٍ منهم جريدة، وترك البقيَّةَ مع الأثقال، وجَدَّ في سيره حتى نزل بقلعة أبريم، وبات بها ليلَتَه، وقد اجتمع بمَلِك النوبة وعرب العكارمة، وبقية أولاد الكنز، ووافاه بقية العسكر فدَبَّرَ مع مَلِكِ النوبة على أولاد الكنز، وأمراء العكارمة، وأمسكهم جميعًا، ورَكِبَ مُتَمَلِّك النوبة في الحالِ، ومعه طائفةٌ من المماليك، ومضى في البَرِّ الشَّرقيِّ إلى جزيرة ميكائيل؛ حيث إقامة العكارمة، وسار الأمير خليل بن قوصون في الجانب الغربي ومعه طائفة، فأحاطوا جميعًا بجزيرة ميكائيل عند طلوع الشمس، وأسَرُوا من بها من العكارمة، وقَتَلوا منهم عِدَّةً بالنشَّاب والنفط، وفَرَّ جماعة نجا بعضُهم وتعلق بالجبال وغرق أكثرهم، وساق ابن قوصون النساء والأولاد والأسرى والغنائم إلى عند الأمير أَقتمر، ففَرَّقَ عِدَّة من السَّبيِ في الأمراء، وأطلق عِدَّةً، وعين طائفةً للسُّلطانِ، ووقع الاتفاقُ على أن يكون كرسي ملك النوبة بقلعة الدو؛ لخراب دنقلة، ولأنَّه يخافُ من عرب بني جعد أيضًا إن نزل المَلِك بدنقلة أن يأخذوه، فكتب الأمير أقتمر عبد الغني محضرًا برضاء مَلِك النوبة بإقامته بقلعةِ الدو، واستغنائه عن النجدة، وأنَّه أذِنَ للعسكر في العود إلى مصر، ثم ألبَسَه التشريف السلطاني، وأجلسه على سرير الملك بقلعة الدو، وأقام ابنَ أخته بقلعة أبريم، فلمَّا تَمَّ ذلك جَهَّزَ مَلِكُ النوبة هديةً للسلطان، وهديةً للأمير يَلْبُغا الأتابك، ما بين خيل وهجن ورقيقٍ وتُحَف، وعاد العسكَرُ ومعهم أمراء الكنز، وأمراء العكارمة في الحديد، فأقاموا بأسوان سبعة أيام، ونودي فيها بالأمانِ والإنصاف من أولاد الكنز، فرُفِعَت عليهم عِدَّةُ مُرافعات، فقُبِضَ على عدة مِن عبيدهم وقُتلوا، ورحل العسكَرُ من أسوان، ومرُّوا إلى القاهرة، فقَدِموا في ثاني شهر رجب، ومعهم الأسرى، فعُرِضوا على السُّلطانِ، وقُيِّدوا إلى السجن، وخُلِعَ على الأمير عبد الغني، وقُبِلَت الهديَّةُ.
هو السُّلطانُ المَلِكُ المجاهد سيف الدين أبو يحيى علي ابن السلطان الملك المؤيد هزبر الدين داود ابن السلطان الملك المظفر يوسف ابن السلطان الملك المنصور عمر بن نور الدين علي بن رسول، التركماني الأصل، اليمني المولد والمنشأ والوفاة، صاحب اليمن. كان مولِدُ المجاهد سنة 701 بتعز، ونشأ بها وحَفِظَ التنبيه في الفقه وبحَثَه وتخَرَّج على المشايخ، منهم: الشيخ الإمام العلامة الصاغاني، وتأدب على الشيخ تاج الدين عبد الباقي، وغيرهما، وشارك في علوم، وكان جيِّدَ الفهم وله فَوقٌ في الأدب، وله نظْمٌ ونثر، وطالت مدَّةُ المجاهد في مملكة اليمن، وفعل الخيراتِ وله مآثِرُ: عَمَّر مدرسة عظيمة بتعز وزيادة أخرى وغير ذلك، وعمر مدرسة بمكة المشرفة بالمسجد الحرام بالجانب اليماني مُشرِفَة على الحرم الشريف، توفي بعدن في يوم السبت الخامس والعشرين من شهر جمادى الأولى من هذه السنة، وقيل سنة أربع وستين، وولِيَ بَعدَه ابنُه الملك الأفضل عباس.
في أوَّلِ شَهرِ رَجَب قَدِمَ الخَبَرُ بوصول رسل الفرنج إلى ميناء الإسكندرية، وأنهم طلبوا رهائِنَ عندهم، حتى يَنزِلوا من مراكِبِهم ويَرُدُّوا رسالتَهم، فلم تؤمَنْ مَكيدتُهم، واقتضى الحالُ إجابَتَهم، فأُخرِجَ مِن سجن الوافي- المعروف بخزانة شمايل- جماعةٌ وَجَب قَتْلُهم، وغُسلوا بالحمَّام، وأُلبِسوا ثيابًا جميلةً، وسافروا إلى الإسكندرية، فأكرَمَهم النائب، وأشاع أنَّهم من رُؤساء الثغر، وبَعَث بهم إلى الفرنجِ، وشَيَّعَ خَلفَهم نساءً وصِبيانًا يَصيحونَ ويَبكونَ، كأنَّهم عيالُهم، وهم يخافون الفِرنجَ عليهم، فمشى ذلك على الفِرنجِ، وعلى أهل الثَّغرِ لانتظامِ حالِ المملكة، ومُلَّاك أمرها، وجودة تدبيرها، فتسَلَّم الفرنجُ الجماعةَ ونَزَلت رسلُهم من المراكب، وقَدِموا إلى قلعةِ الجَبَل، وقد عدى السلطانُ إلى سرحة كوم برا بالجيزة، فحُملوا إلى هناك، وجلس لهم الأميرُ يلبغا الأتابك، وقام الأمراءُ والحُجَّاب بين يديه وأُدخِلوا عليه فهالهم مَجلِسُه، وظنُّوا أنه السُّلطانُ، فقيل لهم هذا مملوكُ السلطان، فكشفوا عن رؤوسِهم، وخَرُّوا على وجوهِهم يُقَبِّلون الأرض، ثم قاموا ودنوا إليه وناولوه كتابَ مَلِكِهم، وقدَّموا هديَّتَه إليه، ففَرَّقَ ذلك بحضرتِهم فيمن بين يديه، واختارَ منه طستًا وأبريقًا من ذهب، وصندوقًا لم يُعرَفْ ما فيه، وتضَمَّنَت رسالتُهم أنهم في طاعة السلطان ومساعِدُوه على متمَلِّك قبرص، حتى تُرَدَّ الأسرى التي أُخِذَت من الإسكندرية، ويُعَوَّض المال وسألوا تجديدَ الصلحِ، وأن يمَكِّنَ تجَّارَهم من قدوم الثغر، وأن تُفتَحَ كَنيسةُ القيامة بالقُدس، وكانت قد أُغلِقَت بعد واقعة الإسكندرية، فأجابهم بأنه لا بُدَّ مِن غزو قبرص وتخريبها، ثمَّ أُخرجوا، فأقاموا بالوطاق ثلاثةَ أيام، وحملوا إلى دار الضيافةِ بجوار قلعة الجبل، فلما عاد السلطانُ مِن السرحة وقَفوا بين يديه وقَدَّموا هديَّتَهم، وأدَّوا رسالتَهم، فلم يُجابوا وأعيدوا إلى بلادِهم خائبينَ.
كان الأميرُ محمد الخامس الغني بالله أميرُ غرناطة قد بدأ الغزوَ مِن السنة الماضية على قشتالة، وفي هذه السنة استمر على ما كان عليه، فزحف بقواتِه على ولاية إشبيلية وقشتالة، وفَتَح حِصنَ آشر وهو من معاقِلِ قشتالة المعروفة، كما استولى على كثيرٍ مِن الغنائم، وسبى الكثيرَ مِن أهلِها.
لَمَّا كان في مستهَلِّ شَهرِ ربيع الآخر نزل السلطانُ من قلعة الجبل وعَدَّى إلى بر الجيزة ليتوجه إلى الصيدِ بالبحيرة، بعد أن ألزم الأمراءَ أن يجعلوا- في الشواني التي نجز عملها برسم الغُزاة- العِدَد والسلاحَ والرجالَ على هيئة القِتالِ؛ لِيَنظُرَ السلطان والنَّاس، ثم سار السلطان والأتابك يلبغا بالعساكِرِ مِن بر الجيزة يريدون البحيرةَ حتى نزلوا في ليلة الأربعاء سادسَ شهر ربيع الآخر بالطرانة وباتوا بها، وكانت مماليكُ يلبغا قد نَفِرَت قلوبُهم منه؛ لكثرةِ ظُلمِه وعَسفِه وتنوُّعِه في العذاب لهم على أدنى جُرمٍ، فاتفق جماعةٌ من مماليك يلبغا تلك الليلة على قَتْلِه من غير أن يُعلِموا المَلِكَ الأشرفَ هذا بشَيءٍ مِن ذلك، وركبوا عليه نِصفَ الليل، ورؤوسُهم من الأمراء: آقبغا الأحمدي الجلب، وأسندمر الناصري، وقجماس الطازي، وتغري برمش العلائي، وآقبغا جاركس أمير سلاح، وقرابغا الصرغتمشي، في جماعةٍ مِن أعيان اليلبغاوية، ولَبِسوا آلة الحرب وكبَسوا في الليل على يلبغا بخيمتِه بغتةً وأرادوا قتله، فأحسَّ بهم قبل وصولِهم إليه، فركِبَ فَرَس النوبةِ بخواصِّه من مماليكه، وهرب تحت الليل، وعَدَّى النيل إلى القاهرة، ومنع سائرَ المراكب أن يعدُّوا بأحد، واجتمع عنده من الأمراء طيبغا حاجِبُ الحجَّاب، وأيبك البدري أمير آخور، وجماعة الأمراء المقيمين بالقاهرة، وأمَّا مماليك يلبغا فإنَّهم لَمَّا عَلِموا بأن أستاذهم نجا بنَفسِه وهرب، اشتدَّ تخَوُّفُهم من أنَّه إذا ظَفِرَ بهم بعد ذلك لا يُبقي منهم أحدًا، فاجتمع الجميعُ بمن انضاف إليهم من الأمراءِ وغيرِهم وجاؤوا إلى المَلِك الأشرَفِ شعبان وهو بمُخَيَّمِه أيضًا بمَنزِلِه بالطرانة وكَلَّموه في مُوافَقَتِهم على قتالِ يلبغا فامتنع قليلًا ثم أجاب لِما في نفسه من الحزازةِ مِن حَجْرِ يلبغا عليه، وعدم تصَرُّفه في المملكة، وركِبَ السلطان بمماليك يلبغا وخاصكيَّته، فأخذوه وعادوا به إلى جهة القاهرة، وقد اجتمع عليه خلائِقُ من مماليك يلبغا وعساكر مصر، وساروا حتى وصلوا إلى ساحِلِ النيل ببولاق التكروري تجاه بولاق والجزيرة الوسطى، فأقام المَلِكُ الأشرف ببولاق التكروري يوم الأربعاء ويوم الخميس ويوم الجمعة، فلم يجدوا مراكِبَ يعدون فيها، وأما يلبغا فإنَّه لما علم أن الملك الأشرف طاوع مماليكَه وقَرَّبهم، أنزل من قلعة الجبل آنوك ابنَ الملك الأمجد حسين أخي الملك الأشرف شعبان وسَلْطَنَه ولَقَّبَه بالملك المنصور، وذلك بمُخَيَّمِه بجزيرة أروى المعروفة بالجزيرة الوسطانيَّة تجاه بولاق التكروري، حيث الملك الأشرف نازلٌ بمماليك يلبغا بالبر الشرقي والأشرف بالبر الغربي، فسَمَّتْه العوامُ سُلطان الجزيرة، ثمَّ في يوم الجمعة حضر عند الأتابك يلبغا الأمير طغيتمر النظامي والأمير أرغون ططر، فإنهما كانا يتصَيَّدان بالعباسة وانضافا بمن معهما إلى يلبغا فقَوِيَ أمره بهما، وعَدَّى إليه أيضًا جماعة من عند الملك الأشرف، وهم: الأمير قرابغا البدري، والأمير يعقوب شاه، والأمير بيبغا العلائي الدوادار، والأمير خليل بن قوصون، وجماعة من مماليك يلبغا الذين أمَّرَهم مثل: آقبغا الجوهري، وكمشبغا الحموي، ويلبغا شقير، في آخرين، واستمَرَّ الأتابك يلبغا وآنوك بجزيرة الوسطى، والملك الأشرف ومماليك يلبغا ببولاق التكروري، إلى أن حضر إلى الأشرفِ شَخصٌ يُعرَفُ بمحمد ابن بنت لبطة رئيس شواني السلطان، وجَهَّز للسلطانِ مِن الغربان التي عَمَّرَها برسم الغزاة نحو ثلاثينَ غُرابًا برجالها وكَسَر بروقها، وجعلها مثل الفلاةِ لأجلِ التَّعدية، فنزل فيها جماعةٌ مِن الأمراء ومن مماليك يلبغا ليعَدُّوا فيها إلى الجزيرة، فرمى عليهم يلبغا بمكاحِلِ النفط، وصار هؤلاء يرمون على يلبغا بالسهام فيردونَهم على أعقابِهم، وأخذ يلبغا ومن معه يرمون أيضًا النِّفطَ والنشاب، والأشرفيَّة لا يلتفتون إلى ذلك، بل يزيدونَ في سب يلبغا ولَعْنه وقتاله، وأقاموا على ذلك إلى عَصرِ يوم السبت، وقد قَوِيَ أمر الملك الأشرف وضَعُفَ أمر يلبغا، ثم اتفق رأيُ عساكر الملك الأشرف على تعدية المَلِك الأشرف من الورَّاق، فعدى وقتَ العَصرِ من الوراق إلى جزيرة الفيل وتتابعَتْه عساكره، فلما صاروا الجميعُ في بر القاهرة، وبلغ ذلك يلبغا، هرب الأمراءُ الذين كانوا مع يلبغا بأجمعهم وجاؤوا إلى الملك الأشرف وقَبَّلوا الأرض بين يديه، فلمَّا رأى يلبغا ذلك رجع إلى جهة القاهرة، ووقف بسوقِ الخيل من تحت قلعة الجبل، ولم يبقَ معه غير طيبغا حاجِبِ الحجَّاب الذي كان أولًا أستاداره، فوقف يلبغا ساعةً ورأى أمْرَه في إدبار، فنزل عن فَرَسِه بسوق الخيل تجاه باب الميدان، وصلَّى العصر، وحلَّ سَيْفَه وأعطاه للأميرِ طيبغا الحاجب، ثم نزل وقصَدَ بَيتَه بالكبش فرجمته العوامُّ مِن رأس سويقة منعم إلى أن وصل حيثُ اتجه، وسار الملك الأشرف شعبان بعساكره، حتى طلع إلى قلعةِ الجَبَلِ في آخر نهار السبت، وأرسل جماعةً منِ الأمراء إلى يلبغا، فأخذوه من بيتِه ومعه طيبغا الحاجِبُ، وطلعوا به إلى القلعةِ بعد المغرب، فسُجِنَ بها إلى بعدِ عشاء الآخرة، فلما أُذِّنَ للعشاء جاء جماعةٌ من مماليك يلبغا مع بعض الأمراء، وأخذوا يلبغا من سجنه وأنزلوه من القلعةِ، فلما صار بحدرة القلعة أحضروا له فَرَسًا ليركَبَه، فلما أراد الركوب ضَرَبه مملوكٌ مِن مماليكه يسمَّى قراتمر فأرمى رأسَه، ثم نزلوا عليه بالسيوفِ حتى هَبَروه تهبيرًا، وأخذوا رأسَه وجعلوها في مِشعَلِ النار إلى أن انقَطَع الدم، فلما رآه بعضُهم أنكره وقال: أخفيتُموه، وهذه رأسُ غَيرِه فرفعوه من المِشعَل، ومَسَحوه ليُعَرِّفوه أنَّه رأس يلبغا بسلعةٍ كانت خلفَ أذنه، فعند ذلك تحقَّقَ كُلُّ أحد بقتله، وأخذوا جثَّتَه فغَيَّبوها بين العروستين، فجاء الأميرُ طشتمر الدوادار فأخذ الرأسَ منهم في الليل، واستقصى على الجثَّةِ حتى أخذها، وحَطَّ الرأس على الجثة، وغَسَّلها وكفَّنَها وصلى عليه في الليل، ودفنه بتربتِه التي أنشأها بالصحراء بالقربِ مِن تربة خوند طغاى أم آنوك زوجة الناصر محمد بن قلاوون.
لَمَّا كان يومُ الأحد سابع شوال بلغ الأميرَ أسندَمُر الناصريَّ أميرَ كبير أتابك العساكر ومُدَبِّر المملكة ونائِبَ السلطنة- وهو الذي أصبح المقَدَّمَ بعد قَتلِ يلبغا- أنَّ جماعةً من الأمراء قد اتَّفَقوا على الفتكِ به وبالأجلاب، وهم أعضادُه وبهم يصولُ، فخرج ليلًا من داره إلى دار الأمير قجماس الطازي، وبذل له مالًا كبيرًا حتى استماله إليه، ثم فارَقَه، وفي ظَنِّه أنه قد صار معه، ولم يكن كذلك، وعاد إلى مَنزِلِه بالكبش واستدعى خواصَّه من اليلبغاوية، وقَرَّرَ معهم أنه إذا ركب للحرب يَقتُل كُلُّ واحد منهم أميرًا، أو يَقبِض عليه، وبذل لهم مالًا كبيرًا حتى وافَقوه، وما هو إلا أن خرج أسنَدمر من عند قجماس ليُدَبِّرَ ما قد ذكَرَ مع الأجلاب، ركب قجماس إلى جماعة من الأمراء، وقَرَّر معهم القبضَ على أسنَدمُر، فركبوا معه للحرب، ووقَفوا تحت القلعة، فنزل السلطانُ في الحال إلى الإسطبل، ودُقَّت الكوسات حربيًّا، وأما أسندمر فإنَّه بات هذه الليلة في إسطبله، حتى طلعت الشمس، ركب من الكبش بمن معه من اليلبغاويَّة وغيرهم، ومضى نحو القرافة، ومَرَّ من وراء القلعة، حتى وافاهم من تحت دار الضيافة، ووقف تحت الطبلخاناه فالتقى مع الأمراء، واقتتلوا فهَزَمَهم بمن كان قد دبَّر معهم من اليلبغاوية في الليل قَبْضَ الأمراء أو قَتْلَهم، وثبت الأمير ألجَاي اليوسفي والأمير أرغون ططر، وقاتلا أسندمر إلى قبيل الظهر، فلما لم يجدا مُعينًا ولا ناصرًا انكسرا إلى قبة النصر، وانفَضَّ الجمع بعد ما قتل الأمير ضروط الحاجب، وجرح الأمير قجماس والأمير أقبغا الجلب، وكثيرٌ من الأجناد والعامة، فقَبَض الأمير أَسَندَمر على الأمير قجماس، والأمير أَقبغا الجلب والأمير أقطاي، والأمير قُطْلُوبغا جركس، وهؤلاء أمراءُ ألوف، وقبض من أمراء الطبلخاناه على قرابغا شاد الأحواش، واختفى كثيرٌ من الأمراء، ومرت مماليك أَسَندَمُر وطائفة من الأجلاب في خلقٍ كثير من العامة، فنَهَبوا بيوت الأمراء، فكانت هذه الواقعةُ من أشنع حوادث مصر وأعظَمِها فسادًا.
اتَّفَق الأميرُ طيبغا الطويل نائِبُ حماة- وكان قد أصبح نائبها هذه السنة بعد فتنة يلبغا وقَتْلِه- والأمير أشقتمُر نائب طرابلس، على المخامرة والخروج عن طاعة السلطان، فتجَهَّز الأمير أسندمر الأتابك للسفر، وتقَدَّم بتهيؤ الأمراء، وبعث القُصَّاد للكشف عن ذلك على البريدِ، فعادوا باستمرار بقيَّة النواب على الطاعة، ما عدا المذكورين، فكتب بالقبضِ عليهما، فقُبِضَا وقبض معهما على إخوة طيبغا الطويل، وحُملوا إلى الإسكندرية مُقَيَّدين، واستقَرَّ أسندمر الزيني في نيابة طرابلس، وأُعيدَ عُمر شاه إلى نيابة حماة في أوائل ذي القعدة، واستقَرَّ أرغون الأزقي في نيابة صفد.
استمر محمَّدٌ الخامس أمير غرناطة بالغزو, فحاصر مدينةَ جيَّان واقتحمها بعد معاركَ شَديدةٍ واستولى على ما فيها من أموالٍ وسلاح كما أسَرَ جُموعًا كثيرة، واقتحم أيضًا مدينة ياغة جنوب جيان ونهَبَها ودمَّرَ قَلعَتَها وتابع زَحفَه على مدينة أبده شمال شرق جيان واستولى عليها ودمر أسوارها، ثم عاد إلى غرناطة مكلَّلًا بالنصر، ثم توجه إلى الجزيرة الخضراء وحاصرها واستولى عليها بعد قتال مرير.
اتَّفَقَت مماليكُ يلبغا الأجلاب يوم الجمعة سادس صفر على الأميرِ أسندَمُر الناصري أمير كبير أتابك العساكر ومدَبِّر المملكة ونائب السلطنة، وركبوا معهم الأمراء وقت صلاة الجمعة، ودخلوا على أسندمر الناصري وسألوه أن يُمسِكَ جماعة من الأمراء، فمَسَك أزدمر العزي أمير سلاح وجركتمر المنجكي أمير مجلس، وبيرم العزي الدوادار الكبير، وبيبغا القوصوني، والأمير آخور كبك الصرغتمشي الجوكندا، واستمَرَّ المماليك لابسين السلاح، وأصبحوا يوم السبت ومَسَكوا خليل بن قوصون ثم أطلقوه، وانكسرت الفتنةُ إلى عشية النهار وهي ليلة الأحد، وقالوا لأسندمر: نريد عَزْلَ الملك الأشرف، وكان أسندمر مقهورًا معهم، وبلغ الخبَرُ المَلِكَ الأشرف، فأرسل في الحال إلى خليل بن قوصون فحضر، ورَكِبَ الملك الأشرف وركب ابن قوصون ومماليك الأشرف الجميعُ مع أستاذهم، وكانوا نحو المائتين لا غير، وكان الذين اجتمعوا من مماليك يلبغا فوق الألف وخمسمائة، وركِبَ مع الملك الأشرف جماعةٌ مِن الأمراء الكبار مثل أسنبغا ابن الأبو بكري وقشتمر المنصوري في آخرين، وضُرِبَت الكوسات، واجتمع على السلطان خلقٌ كثير من العوام، ولَمَّا بلغ أسندمرَ الناصري ركوبُ الملك الأشرف، أخذ جماعةً من مماليك يلبغا، وطلع من خلف القلعةِ كما فعل أولًا في واقعة آقبغا الجلب، وتقَدَّمت مماليك يلبغا وصَدَموا المماليك الأشرفية وتقاتلوا، وبينما هم في ذلك جاء أسندمر بمن معه من تحت الطبلخاناه كما فعل تلك المرَّة، فعلم به الأشرفيَّة والأمراء، فمالوا عليه فكَسَروه أقبحَ كَسرةٍ وقرب أسندمر، ثم أُمسِكَ وتمَزَّقَت المماليك اليلبغاوية، فلما جيءَ للأشرف بأسندمر وحضر بين يديه شفع فيه الأمراءُ الكبار، فأطلقه السلطان ورسم له أن يكون أتابكًا على عادتِه، ورسم له بالنزول إلى بيتِه بالكبش، ورسم للأمير خليل بن قوصون أن يكون شريكَه في الأتابكية، فنزل أسندمر إلى بيتِه ليلة الاثنين، وأرسل السلطانُ معه الأمير خليل بن قوصون صفةَ الترسيم، وهو شريكُه في وظيفة الأتابكية، ليُحضِرَه في بكرة نهار الاثنين، فلما نزلا إلى الكبش، تحالفَا وخامرا ثانيًا على السلطانِ، واجتمع عند أسندمر وخليل بن قوصون في تلك الليلة جماعةٌ كبيرة من مماليك يلبغا، وصاروا مع أسندمر كما كانوا أولًا، وأصبحا يوم الاثنين وركبا إلى سوق الخيل، فركب السلطانُ بمن معه من الأمراء والمماليك الأشرفية وغيرهم، فالتَقَوا معهم وقاتلوهم وكسَروهم، وقتلوا جماعةً كبيرة من مماليك يلبغا، وهرب أسندمر وابن قوصون واشتغل مماليكُ السلطان والعوام بمَسكِ مماليك يلبغا، يمسِكونَهم ويحضرونهم عرايا مُكَشَّفي الرؤوس، وتوجه فِرقة من السلطانية إلى أسندمر وابن قوصون فقَبَضوا عليهما وعلى ألطنبغا اليلبغاوي وجماعة أُخَر من الأمراء اليلبغاوية، فقُيِّدوا وأرسلوا إلى سجن الإسكندرية، ثم جَلَس الملك الأشرف شعبان في الإيوان وبين يديه أكابِرُ الأمراء، ورسم بتسميرِ جماعةٍ مِن مماليك يلبغا نحوَ المائة وتوسيطِهم- أي: قتلهم- ونفى جماعة منهم إلى الشام، وأخذ مال أسندمر وأنفق على مماليكِه لكُلِّ واحد مائة دينار، ولكُلِّ واحد من غير مماليكِه خمسون دينارًا، ورسم للأمير يلبغا المنصوري باستقراره أتابك العساكر هو والأمير ملكتمر الخازندار، وأنعم على كلٍّ منهما بتقدمة ألف، وأنعم على تلكتمر بن بركة بتقدمة ألفٍ عوضًا عن خليل بن قوصون، وكان ذلك في سادس عشر صفر، ثم أصبح السلطانُ من الغد يوم الثلاثاء سابع عشر صفر قبض على يلبغا المنصوري ورفيقه تلكتمر المحمدي؛ لأنَّهما أرادا الإفراج عن مماليك يلبغا العمري، وقَصَد يلبغا المنصوري أن يسكن بالكبش، فمسكهما الملكُ الأشرف وأرسلهما إلى الإسكندرية، ثم أرسل السلطانُ بطلب الأمير منكلي بغا الشمسي نائب حلب إلى الديار المصرية، فحضرها بعد مدَّة وخَلَع عليه السلطانُ خِلعةَ النيابة بديار مصر، فأبى أن يكون نائبًا، فأنعم عليه بتقدمة ألفٍ وجعله أتابك العساكر، وتولى نيابةَ حلب عِوَضَه طيبغا الطويلُ، وكان أخرجه من سِجنِ الإسكندرية قبل ذلك.
وصلَ الفِرنجُ طرابلس في أول صفر في مائة وثلاثين مركبًا، ما بين شيني وقرقورة وغراب وطريدة، وشختور، عليها متمَلِّك قبرص، ومتمَلِّك رودس، والاسبتار، وكان نائِبُ طرابلس وأكثر عسكرها غائبين عنها، فاغتَنَمَت الفرنج الفرصةَ وخرجوا من مراكبهم إلى الساحل، فخرج لهم من طرابلس بقيَّةُ عَسكَرِها بجماعة من المسلمين، فترامَوا بالنبال ثم اقتتلوا أشدَّ قتال، وتقهقر المسلمون، ودخل المدينةَ طائفةٌ من الفرنج، فنَهَبوا بعض الأسواق، ثم إن المسلمين تلاحقوا، وحصل بينهم وبين الفرنج وقائع عديدة استُشهِدَ فيها من المسلمينَ نحوُ أربعين نفرًا، وقُتِل من الفرنج نحو الألف، وألقى الله تعالى الرُّعبَ في قلوب الفرنج فرجعوا خائبين، فمرُّوا بمدينة إياس في مائة قطعة، فسار إليهم الأميرُ منكلي بغا نائب حلب، وقد فَرَّ أهل إياس منها، فدخلها الفرنج، فلما قدم نائب حلب جلَوا عنها.
هو الإمامُ القاضي بهاء الدين أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن عَقيل المصري الشافعيُّ، قاضي قضاة الديار المصرية، وفقيه الشافعية، ولِدَ في المحرم سنة 698، ونسبه يتَّصِلُ إلى عقيل بن أبي طالب، ونشأ بالقاهرةِ، وقرأ على عُلَماءِ عَصرِه، وبرع في علوم كثيرة، وصنف التصانيفَ المُفيدةَ في الفقه والعربية والتفسير، منها شرح الألفية لابن مالك، وشرح التسهيل أيضًا، والجامع النفيس في فقه الشافعية، وباشر قضاء الديار المصرية مدة يسيرة، وباشر التداريس الجليلة والمناصب الشريفة، توفي بالقاهرة في ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول، ودُفن بالقرافة بالقرب من قبَّة الإمام الشافعي.
هو المَلِكُ أبو إسحاق إبراهيم بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم بن يحيى، بعدما مَلَك تسع عشرة سنة وشهرين، وهو الملك الرابع عشر من ملوك الحفصيين بتونس، فقام بعدَه ابنه أبو البقاء خالد، وكان حاجِبُه ابن المالقي هو الذي يتولى أمورَ السلطة ويستبِدُّ بها. مات في العشرين من رجب.
في يومِ الجمعة ثالثَ عَشرَ ذي القعدة تجمَّعَت الغوغاء من زعر العامة بأراضي اللوق خارج القاهرة للشلاق، فقُتِلَ بينهم واحد منهم، فركب والي القاهرة الشريفُ بَكتمُر، وأركب معه الأميرَ علاء الدين علي بن كَلَفت الحاجب، والأمير أقبغا اليوسفي الحاجب، وقصد المشالقينَ، ففروا منهم، وبَقِيَ من هناك من النظَّارة، فضرب عِدَّةً منهم بالمقارع، فتعَصَّبت العامة، ووقفوا تحت القلعةِ في يوم الثلاثاء، وأصبحوا يوم الأربعاء الثامن عشر كذلك، وهم يستغيثونَ ويضجُّون بالشكوى من الوالي، فأُجيبوا بأن السلطان يَعزِلُ عنكم هذا الواليَ فأبوا إلا أن يُسَلِّمَه إليهم هو والحاجبين، وكان الوالي قد ركب على عادته بُكرةَ النهار يريد القلعة، فرجمته العامَّةُ حتى كاد يَهلِكَ فالتجأ منهم بالإسطبل، وظَلَّ نهاره فيه، والعامَّةُ وقوفٌ تحت القلعة إلى قريب العصر، وكلما أمروا بأن يَمضُوا أبَوا ولَجُّوا، فركب إليهم الوالي في جمعٍ موفور من مماليك الأمير بَكتمُر المومني، أمير آخور، ومن الأوجاقية، فثارت العامَّةُ ورجمتهم رجمًا متداركًا حتى كَسَروهم كسرةً قبيحة، فركِبَت المماليك السلطانية، والأوجاقية وحَمَلوا على العامة، وقتلوا منهم جماعةً، وقَبَضوا على خلائِقَ منهم، وركب الأمير ألجاي اليوسفي، وقَسَّم الخطط والحارات على الأمراء والمماليك، وأمرهم بوضع السيف في الناس، فجرت خطوبٌ شنيعة، قتل فيها خلائِقُ ذهبت دماؤهم هدرًا، وأُودِعَت السجونَ منهم طوائِفُ، وامتدت أيدي الأجنادِ إلى العامَّةِ حتى إنَّه كان الجنديُّ يدخل إلى حانوت البياع من المتعَيِّشينَ ويَذبَحُه ويمضي، وحكى بعضُهم أنَّه قَتَل بيده في هذه الواقعة من العامة سبعة عشر رجلًا، وكانت ليلةُ الخميس التاسع عشر من ليالي السوءِ، وأصبح الناسُ وقد بلغ السلطانَ الخَبَرُ، فشَقَّ عليه وأنكره، وقال للأمير بكتمر المومني عَجَّلت بالأضحية على الناس وتوعَّده، فرجف فؤادُه ونَحَب قَلْبُه، وقام فلم يزَلْ صاحِبَ فراش حتى مات، وأمر السلطانُ بالإفراج عن المسجونين، ونُودِيَ بالأمان، وفَتْح الأسواق، ففُتِحَت وقد كان الناس قد أصبحوا على تخوفٍ شديدٍ لِما مَرَّ بهم في الليلِ.
في هذه السَّنةِ قُتِلَ الأميرُ قشتمر المنصوري نائب حلب، وخبَرُه أنَّه لَمَّا وَلَيَ نيابة حلب في جمادى الآخرة من هذه السنة وتوجَّه إلى حلب، فلم يُقِمْ بها إلا يسيرًا، ثم إن بني كلاب كَثُر فسادُهم وقَطْعُهم الطريقَ فيما بين حماة وحلب، وأخذوا بعضَ الحُجَّاج، فخرج إليهم الأمير قشتمر نائِبُ حلب بالعسكر، حتى أتوا تلَّ السلطان بظاهر حلب، فإذا عدَّةٌ من مضارب عرب آل فضل، فاستاق العسكَرُ جمالَهم ومواشيَهم ومالوا على بيوت العَرَبِ فنهبوها، فثارت العَرَبُ بهم وقاتلوهم، واستنجدوا مَن قَرُب منهم من بنى مهنا، وأتاهم الأميرُ حيار وولده نعير بجمع كبيرٍ، فكانت معركة شنيعة، قُتِلَ فيها الأمير قشتمر النائب وولَدُه وعِدَّة من عسكره، وانهزم باقيهم، فركب العرَبُ أقفِيَتَهم، فلم ينجُ منهم عريانًا إلا من شاء الله، وكان ذلك يومَ الجمعة خامس عشر ذي الحجة، ولما بلغ الملك الأشرف ذلك عَظُمَ عليه، وأرسل تقليدًا للأمير اشقتمر المارديني بنيابة حلب على يد الأمير قطلوبغا الشعباني، وعزل حيارًا عن إمرة العَرَب وولاها لزامِل.
في يومِ الجمعة ثامِنَ ذي الحجة قَدِمَ الخبر بنزول أربع قطايعَ على الإسكندرية من الفرنج، وأنهم رمَوا على المدينة بمنجنيق، فخرج تلك الليلةَ ثلاثة وعشرون أميرًا، منهم ثلاثةٌ من الألوف وعشرة من الطبلخاناه وعشرة من أمراء العشرات، فقَدِمَ الخبر في عشية السبت أنَّ المغاربة والتركمان نزلوا في المراكب، وقاتلوا الفرنج، وقتلوا منهم نحوَ المائة، وغنِموا منهم مركبًا.
كان مِن وَلَدِ جنكيز خان, جغطاي الذي استقَرَّ في تركستان وبَقِيَت أسرته تحكُمُ هذه المنطقةَ وكان توغلق تيمور أحدَ ملوك المغول واستقَرَّ في أعمال تركستان الشرقية عام 748 وأعلن أنَّه حفيدُ داود خان، وضَمَّ إليه بلادَ ما وراء النهر ودخلت في أيَّامِه أعدادٌ كبيرة من المغول إلى الإسلام، ثم إنَّ والي سمرقند تحرَّك نحو مدينة هراة واحتَلَّها، ثمَّ إنه اغتِيلَ واختلف الأهالي وعَمَّتهم الفوضى، فوصل الخبر إلى توغلق تيمور فسار بقوة نحو سمرقند، ففَرَّ مِن وجهه بعضُ الأمراء الذين كانوا يُظهِرون العصيان، ثم إنَّ تيمورلنك وخَوفًا من تهديم البلدة تقَدَّمَ إلى قائد طليعة جيش المغول وأكرَمَه، فأمر هذا القائد جُندَه ألَّا يمَسُّوا هذه البلدة بسوءٍ، كما طلب من تيمورلنك أن يسيرَ معه إلى الخان توغلق تيمور، فكافأه الخان وجعله واليًا على مدينة كش، وأعطى توغلق تيمور إمرة سمرقند إلى تيمورلنك على أنَّ قائد الجيش فيها هو إلياس ابن توغلق الذي أساء السيرة بسمرقند، فحدث الخلافُ بينهما فطلب إلياسُ من أبيه أن يَقتُلَ تيمورلنك الذي هرب بعد أن وصله الخبَرُ وجمع حوله الأنصارَ، وعاد فحارب المغولَ وصادف ذلك موتَ توغلق فانسحَبَ إلياس إلى تركستان ليتَسَلَّم المُلْكَ بعد أبيه، فترك ما وراء النهر فأصبَحَت كُلُّها في قَبضةِ تيمورلنك، واتخَذَ مِن سمرقند عاصمةً له.
ما زال محمد الخامس الغني بالله يتابِعُ الغزو فزحف بقواتِه على مدينة قرمونه، واقتحم مدينةَ قشتالة، وكان محمَّد الخامس هذا قد استغَلَّ الأحداث الداخلية والفِتَن التي ثارت في قشتالة أيام ملكها بيدرو بعد وفاة أبيه الملك ألفونسو الحادي عشر، فكانت فترة قلاقل داخلية؛ حيث جرى بين بيدرو وأخيه هنري الذي استعان بالإنكليز وأما بيدرو فاستعان بالفرنسيين، فنشبت بينهما حروبٌ داخلية انتهت بقتل بيدرو وجلوس هنري على عرش الملك باسم هنري الثاني، فاستغل هذه الأحداثَ محمَّدٌ الخامس فقام بهذه الأعمال العسكريَّة.
هو الإمامُ العالمُ الفقيه المحَدِّث النحوي الناظِمُ: تاج الدين أبو نصر عبد الوهاب ابن العلامة الفقيه قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام الأنصاري السلمي السبكي الشافعي، قاضي قضاة دمشق بها، ولد بالقاهرة سنة 728. قال الصفدي: "عُنِيَ تاج الدين بالرواية وسمع كثيرًا، وقرأ بنفسه على شيخنا شمس الدين الذهبي كثيرًا من مصنفاته وغيرها، وأفتى ودرَّس، ونظم الشعر وعمل الألغاز، وراسلني وراسلته، وبالجملة فعِلمُه كثيرٌ على سِنِّه" جرت له مِحَنٌ فاتُّهِمَ بالكفر واستحلالِ الخَمرِ؛ قال ابن كثير: " عُقِدَ مجلس بسبب قاضي القضاة تاج الدين السبكي، ولما كان يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول عُقِدَ مجلس حافل بدار السعادة بسَبَبِ ما رمي به قاضي القضاة تاج الدين الشافعي ابن قاضي القضاة تقي الدين السبكي، وكنت ممَّن طُلِب إليه، فحضرته فيمن حضر، وقد اجتمَع فيه القضاةُ الثلاثة، وخَلقٌ من المذاهب الأربعة، وآخَرون من غيرهم، بحضرة نائب الشام سيف الدين منكلي بغا، وكان قد كُتِبَ فيه محضران متعاكسانِ أحدهما له والآخر عليه، وفي الذي عليه خَطُّ القاضيين المالكي والحنبلي، وجماعةٍ آخرين، وفيه عظائِمُ وأشياء منكرة جدًّا ينبو السَّمعُ عن استماعه. وفي الآخَرِ خطوطُ جماعات من المذاهب بالثناء عليه، وفيه خَطِّي بأني ما رأيتُ فيه إلا خيًرا, وكثُرَ القول فيه وارتفعت الأصوات وكَثُر الجدال والمقال، وطال المجلِسُ، فأشار نائِبُ السلطنة بالصُّلحِ بينهم وبين قاضي القضاة تاج الدين، فأشار شيخ شرف الدين ابن قاضي الجبل وأشرت أنا أيضًا بذلك، فقُمْنا والأمر باقٍ على ما تقدم، ثم اجتَمَعْنا يوم الجمعة بعد العصر عند نائب السلطنةِ عن طلبه فتَراضَوا كيف يكونُ جواب الكتابات مع مطالعة نائب السلطنة، ففعل ذلك وسار البريدُ بذلك إلى الديار المصرية، ثم اجتمَعْنا أيضًا يوم الجمعةِ بعد الصلاة التاسِعَ عشر من ربيع الآخر بدار السعادة، وحضر القضاةُ الثلاثة وجماعة آخرون، واجتهد نائبُ السلطنة على الصلح بين القضاة وقاضي الشافعية وهو بمصر، فحصل خلافٌ وكلام طويل، ثم كان الأمرُ أن سكنت أنفُسُ جماعة منهم.". لتاج الدين السبكي تصانيفُ، منها طبقات الشافعية الكبرى، وجمع الجوامع في أصول الفقه، والأشباه والنظائر، وشرح منهاج البيضاوي، وشرح مختصر ابن الحاجب، وكان درس بالعادلية والغزالية والأمينية والناصرية ودار الحديث الأشرفية والشامية البرانية، وباشر قضاءَ دمشقَ أربَعَ مَرَّات، وخطَبَ بالجامِعِ الأموي. توفِّيَ في عصر يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجَّة مُتأثِّرًا بالطاعون، ودفِنَ بسفح قاسيون، عن أربعٍ وأربعين سنة.
في أوَّلِ صَفَر قَدِمَت رُسُل الفِرنجَ لطَلَبِ الصلح، فحلَفوا على ألَّا يَغدِروا ولا يحزنوا، وخُلِع عليهم، وسافروا ومعهم من يُحلِّفُ مَلِكَهم، وأُخِذَت منهم رهائن بالقلعة، ثم في جمادى الأولى عادت رسلُ الفرنج ومعهم عِدَّة مِمَّن أسروهم من المسلمين نحو المائة، ثمَّ في جمادى الآخرة بعث الفرنج من بقي من أسرى المسلمين ببلادهم، وتم الصلحُ، وفُتِحَت كنيسةُ القيامة بالقدس.
خُلِعَ أبو البقاء خالد بن إبراهيم بن أبي بكر متمَلِّك تونس، بعد إقامته في المُلْك سنة وتسعة أشهر تنقُصُ يومين، وهو الخامس عشر من ملوك الحفصيين بتونس، وكان صبيًّا والأمر بيد الحاجِبِ ابن المالقي، وقام بعدَه ابنُ عَمِّه أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي بكر بن يحيى بن إبراهيم، وقد كان هذا أميرَ قُسنطينة وبجاية، فلما استطاع الزحفَ على تونس قَتَل الحاجي ابن المالقي وفَرَّ خالد المخلوع، لكِنَّه قبض عليه ونفِيَ إلى الغرب لكنَّه غَرِقَ في البحر، فتملك أبو العباس هذا وتلَقَّب بالمستنصر بالله في يوم السبت ثامن عشر ربيع الآخر.