أول ما بدأ به الأشرف في سلطنته أنَّه منع الناس كافةً من تقبيل الأرض بين يديه، فامتنعوا من ذلك، وكانت عادةُ تقبيل الأرض جرت بالديار المصرية من أيام المعزِّ معد أول خلفاء بني عُبَيد بمصر، وبقيت إلى يوم تاريخه، وكان لا يُعفى أحد عن تقبيل الأرض، والكل يُقَبِّل الأرض: الوزير والأمير والمملوك وصاحب القلم ورسل ملوك الأقطار، إلا قضاة الشرع وأهل العلم وأشراف الحجاز! حتى لو ورد مرسوم السلطان على ملك من نواب السلطان قام على قدميه وخرَّ إلى الأرض وقبَّلها قبل أن يقرأ المرسوم، فأبطل الملك الأشرف برسباي ذلك وجعل بدلَه تقبيل اليد، فمشى ذلك أيامًا، ثم عاد تقبيل الأرض لكن بطريق أحسن من الأولى؛ فإن الأولى كان الشخص يخرُّ إلى الأرض حتى يقبِّلَها كالساجد، والآن صار الرجل ينحني كالراكع ويضع أطرافَ أصابع يده على الأرض كالمقَبِّل، ثم يقوم ولا يقبِّل الأرضَ بفَمِه أبدًا، بل ولا يَصِلُ بوجهه إلى قريب الأرض، فهذا على كل حال أحسنُ مما كان أولًا!
في يومِ الخميس ثامن جمادى الأولى صدر مرسوم السلطان الملك الأشرف بألَّا يُستخدَم أحد من اليهود ولا من النصارى في ديوان من دواوين السلطان والأمراء، ونودِيَ بذلك في القاهرة، وصَمَّم الأشرف على ذلك، فلم يسلَمْ من اعتراض بعض عظماء الأقباط من مباشري الدولة، فلم يتِمَّ له ذلك.
بعد أن تولى مراد الثاني السلطنة خلفًا لأبيه محمد جلبي رأى أنَّ عليه أن يعيد الإمارات في الأناضول إلى حظيرة الدولة العثمانية، فعَقَد هدنة مع ملك المجر مدتها خمس سنوات، وصالح أمير قرمان، وأمَّا إمبراطور القسطنطينية فطلب من مراد الثاني التعهُّدَ بعدم قتاله، وطلب منه أن يسلِّمَه اثنين من إخوته كرهائن، وأنه إذا فكر بالحرب فسيطلق سراح عم السلطان مصطفى بن بايزيد المحجوز في سلانيك، وهو المنافس لمراد الثاني في السلطنة، فرفض مراد هذا الشرط فأطلق الإمبراطور مصطفى بن بايزيد ودعمه بعشرات المراكب لحصار مدينة غاليبولي، فلم يتمكن مصطفى من مراده, فاتجه نحو أدرنة بعد أن ترك قوة محاصرة لقلعة غاليبولي، وفي أدرنة واجهه القائد بايزيد باشا فقاتله فقتله مصطفى وتابع سيره إلى مراد، ولكن كثيرًا من الأمراء الذين كانوا معه لم يطيعوه فتركوه، فعاد إلى غاليبولي؛ حيث قُبِضَ عليه فيها وقُتِلَ؛ انتقامًا لِما فعله الإمبراطور القسطنطيني.
لما تخلص مراد الثاني من عمه مصطفى بن بايزيد الذي دعمه إمبراطور القسطنطينية سار في شهر رجب من بورصا إلى اسطنبول ( قسطنطينية) ونزل عليها أول شعبان، وقطع عامة أشجارها، ومنع عنها الميرة، حتى فرغ شهر رمضان من غير حرب، سوى مرة واحدة في يوم الجمعة ثالث رمضان، فإنه زحف على المدينة فكان بينه وبين أهلها حرب شديدة، فتخلى عنه عسكره، وبينما هو في ذلك إذ جاءه أخوه مصطفى، وكان في مملكة محمد باك بن قرمان، فتفرق عن مراد عسكره، وكانوا نحو مائة وخمسين ألفًا، حتى بقي في زهاء عشرين ألفًا، والتجأ مصطفى إلى اسطنبول، وواقفَ مرادًا نحو شهر، وقد عجز عنه مراد لمخالفة عسكرِه عليه.
في شهر رجب ورد الخبر على السلطان بخروج الأمير إينال نائب صفد عن الطاعة، وكان سبب خروجه عن الطاعة أنه كان من جملة مماليك الملك الظاهر ططر، ربَّاه صغيرًا، ثم ولاه نيابة قلعة صفد بعد سلطنته، فلما قام الملك الأشرف برسباي بعد الملك الظاهر ططر بالأمر ولى إينال نيابة صفد، وبلغه خلع ابن أستاذه الملك الصالح محمد من السلطنة، فشَقَّ عليه ذلك، وأخذ في تدبيرِ أمره، واتَّفق مع جماعة على العصيان، وخرج عن الطاعة، وأفرج عمن كان محبوسًا بقلعة صفد، وهم: الأمير يشبك أنالي المؤيدي الأستادار، ثم رأس نوبة النوب، والأمير إينال الجكمي أمير سلاح ثم نائب حلب، والأمير جلبان أمير آخور أحد مقدَّمي الألوف، وقبض على من خالفه من أمراء صفد وأعيانها، ففي الحال كتب السلطان الملك الأشرف للأمير مقبل الحسامي الدوادار حاجب حجاب دمشق باستقراره في نيابة صفد، وأن يستمِرَّ إقطاع الحجوبية بيده حتى يتسلم صفد، ثم كتب إلى الأمير تنبك ميق نائب الشام أن يخرج بعسكر دمشق لقتال إينال، ثم ورد على السلطان الأشرف كتاب الأمير تنبك ميق نائب الشام بمجيء الأمير إينال الجكمي، ويشبك أنالي، وجلبان أمير آخور إليه من صفد طائعين للسلطان، وكان من خبر هؤلاء وإينال نائب صفد أنه لما قدم عليه الأمير مقبل الدوادار بعساكر دمشق انهزم إلى قلعة صفد إلى يوم الاثنين رابع شوال، فنزل إليه إينال بمن معه، بعد أن ترددت الرسل بينهم أيامًا كثيرة، فتسلم أعوان السلطان قلعةَ صفد في الحال، وعندما نزل إينال أمر الأمير مقبل أن تفاض عليه خلعة السلطان ليتوجه أميرًا بطرابلس، وكان قد وعد ذلك، لما ترددت الرسل بينهم وبينه مرارًا حتى استقرَّ الأمر على أن يكون إينال من جملة أمراء طرابلس، وكتب له السلطان أمانًا ونسخةَ يمين فانخدع الخمول ونزل من القلعة، فما هو إلا أن قام بلبس الخلعة وإذا هم أحاطوا به وقيَّدوه وعاقبوه أشد عقوبة على إظهار المال، ثم قتلوه وقتلوا معه مائة رجل ممن كان معه بالقلعة، وعلَّقوهم بأعلاها.
كثُرَ عَبثُ الفرنج بالسواحل، وهجم في الليل غرابان -مركبان- فيهما طائفة من الفرنج، على ميناء الإسكندرية، فوجدوا فيها مركبًا للتجار فيه بضائع بنحو مائة ألف دينار، فاقتتلوا معهم عامة الليل، فخرج الناس من المدينة، فلم يقدروا على الوصول إليهم؛ لعدم المراكب الحربية عندهم، ولا وصلت سهامهم إلى الفرنج، بل كانت تسقط في البحر، فلما طال الحرب بين الفرنج والتجار المسلمين، واحترقت مركب التجار، نجَوا في القوارب إلى البر، فأتت نار الفرنج على سائر ما في المركب من البضائع، حتى تَلِفَ بأجمعها، ومضى الفرنج نحو برقة، فأخذوا ما قدروا عليه، ثم عادوا إلى الإسكندرية، ومضَوا إلى نحو الشام.
في السابع والعشرين ذي الحجة نزل الحاج بينبع، وقد استعدَّ من فيهم من المماليك السلطانية مع الأمير جانبك الخازندار أحد أمراء العشرات لحرب الشريف مقبل: متولي ينبع، وقد قدم الشريف عقيل بن وبير الحسني من القاهرة بصحبتهم بعدما خُلِع عليه بها في شوال من هذه السنة، واستقرَّ أمير ينبع شريكًا لعمه مقبل، بمالٍ التزم للدولة، فلما عَلِمَ مقبل بذلك نزح عن ينبع إلى واد بالقرب منها، وكان الحاج قد دخلوا ينبع في ذي القعدة، فبعث أمراء الحاج الثلاثة، وهم افتخار الدين ياقوت أمير المحمل، وأسندمر الأسعردي من أمراء العشرات أمير الركب الأول، وجانبك أمير الركب الثاني، إلى الشريف مقبل حتى يحضر إليهم، فجرت أمور آخرها أن يستقر عقيل شريكًا له كما كان أبوه وبير، وأن يكاتب السلطان الأشرف برسباي بذلك، ومهما ورد المرسوم به اعتمده، ورحل الحاج من ينبع إلى مكة، وقد وجَّهوا نجابًا إلى السلطان الأشرف بكتبهم، وتركوا عقيلًا بينبع، فاقتتل هو وعمه، فظَفِرَ به عمُّه، وقَيَّده، وأقام بينبع حتى عاد الحاج إليها، فاستعدَّ الأمير جانبك وركب في جمع من المماليك وغيرهم ليلة الأحد الثامن والعشرين ذي الحجة، وطرقَ مقبلًا على حين غفلة، فكانت بينه وبين مقبل وقعة قتل فيها جماعة من أشراف بني حسن، وجُرِح كثير من العربان والعبيد، وانهزم مُقبِل، فمَدَّت المماليك أيديها، وانتهبت ما قدرت عليه، وسلبت النساء الشريفات ما عليهن، وساقوا خمسمائة وخمسين رجلًا، وثلاثين فرسًا، وأمتعة كثيرة، ومالًا جزيلًا، وعادوا من يومهم إلى ينبع، ومعهم عقيل قد خلصوه من الأسر ورحلوا، وقد أقام عقيل بينبع أميرًا، فلم يكن إلا ليالٍ حتى عاد مقبل، واحترب مع عقيل، فانهزم مُقبِل، وقُتِل بينهما جماعة.
غَضِبَ متملِّك الحبشة، وهو أبرم -ويقال إسحاق- بن داود بن سيف أركد؛ بسبب إغلاق المسلمين كنيسةَ القيامة بالقدس، وقَتَل عامة من كان في بلاده من رجال المسلمين، واسترقَّ نساءهم وأولادهم، وعذَّبهم عذابًا شديدًا، وهدم ما في مملكته من المساجد، وركِبَ إلى بلاد جبرت، فقاتلهم حتى هزمهم، وقتل عامة من كان بها، وسبى نساءهم، وهدم مساجدهم، فكانت في المسلمين ملحمة عظيمة في هذه السنة لا يُحصى فيها من قُتِلَ من المسلمين، فاشتاط غضبًا السلطانُ الأشرف برسباي الظاهري، وأراد قَتْلَ بطرك النصارى وجميعِ ما في مملكته من النصارى ثم رجع عن ذلك، ورسم في السنة التالية بفتح كنيسة القيامة.
بدأت هذه السنة والوباءُ يتزايد في الشام والموتى بالمئات، وبدأ يتزايد شيئًا فشيئًا، ثم في شهر رجب تناقص الوباء ببلاد الشام، بعدما عم كورة دمشق وفلسطين والساحل، وبلغت عدة من مات بصالحية دمشق زيادة على خمسة عشر ألف إنسان، وأُحصي من ورد ديوان دمشق من الموتى فكانوا نحو الثمانين ألفًا، وكان يموت من غزة في كل يوم مائة إنسان وأزيد، وكان معظم من مات الصغار والخدم والنساء، فخلت الدور منهم إلا قليلًا، وفي رجب وقع الوباء ببلاد الخليل عليه السلام، ثم وقع بدمياط.
هو الحافِظُ الإمام قاضي قضاة الديار المصرية، الإمام الحافظ، وأستاذ المحدِّثين، ولي الدين أبو زُرعة أحمد ابن الحافظ الكبير الشيخ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم المعروف بابن العراقي الشافعي، كردي الأصل قاهري الولادة والنشأة والوفاة، وُلِدَ في ذي القعدة سنة 762، اعتنى به والده مبكرًا في صِغَرِه، فرحل به إلى الشام سنة خمس وستين، فأدرك جماعة من مُسنِدِي دمشق, ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون, ونشأ يقِظًا وأسمعه أبوه الكثير ثم طلب هو بنفسِه، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ثم رحل بنفسه إلى الشام ثانية، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره, ومهر في عدة فنون واشتغل فيها وهو شاب، ونشأ على طريقة حسنة من الصيانة، والديانة والأمانة والعفَّة، مع طلاقة الوجه وحسن الصورة، وطيب النغمة، وضيق الحال، وكثرةِ العيال، إلى أن اشتهَرَ أمره، وطار ذِكرُه. ولما مات والِدُه تقرر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته. برع في علم الحديث، ثم غلب عليه الفقه فبرع فيه أيضًا، وأفتى ودرس سنين في عدة أماكن منذ حياة والده ومشايخه، وتولى نيابة الحكم بالقاهرة، ثم تنزه عن ذلك ولَزِمَ داره مدة طويلة، إلى أن استقدَمَه الملك الظاهر ططر بعد وفاة جلال الدين البلقيني، وخلع عليه وأقره قاضيَ قضاة الديار المصرية في قضاء الشافعية. فباشره بعفة ونزاهة، وشهامة ومعرفة، وصار يصمِّمُ في أمور لا يحتملها أهلُ الدولة, فتمالؤوا عليه ثم صُرِفَ بقاضي القضاة علم الدين صالح البلقيني، فلزم داره, فحصل له بذلك قهر أداه إلى التلف، ومات مبطونًا شهيدًا في يوم الخميس السابع عشر شعبان عن خمس وستين سنة، ودفن إلى جانب والده، وكثر الأسفُ عليه خصوصًا من طلبة العلم. ولم يخلفْ بعده مثلُه في جمعِه بين الفقه والحديث والدين والصلاح، وله مصنفاتٌ كثيرة، منها: تحفة التحصيل بذكر رواة المراسيل، والبيان والتوضيح لمن أُخرج له في الصحيح وقد مُسَّ بضربٍ من التجريح، وشارك والده في طرح التثريب شرح تقريب الأسانيد، وله الأطراف في أوهام الأطراف، وله المستفاد من مبهمات المتن والإسناد، وشرح الصدر بذكر ليلة القدر، وغيرها من المؤلفات. قال ابن حجر: "صَنَّف أبو زُرعة في الفنون الحديثة عدة تصانيف، وأكمل شرح تقريب الأسانيد لأبيه فأجاد فيه. وشرع في شرح مُطَوَّل لسنن أبي داود، لو كمل كان قدر ثلاثين مجلَّدة بل يزيد. وجمع النكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج. فزاد فيها على من تقدَّمه ممن عمل تصحيح التنبيه، وكذا المنهاج، وكذا الحاوي؛ فإنه جمع بين تصانيفهم وبين ما استفاده من حاشية الروضة لشيخنا البلقيني الكبير. وكان قد جرَّدها فجاءت في مجلدين. وجردها قبله الشيخ بدر الدين الزركشي، وقد ملكتُها بخطِّه، لكن كان قبل أن يجرِّدَها أبو زرعة بعشرين سنة. فزادت في تلك المدة فوائد جمة. واختصر المهمات للإسنوي، وضم إليه فوائد وزوائد من الحاشية المذكورة. وعُقِد مجلس الإملاء بعد أن كان انقطع بموت شيخِنا والده من سنة 806 إلى أن شرع هو فيه في سنة عشر. ولم يزل يملي في كل يوم ثلاثاء، إلى أن مرض المرض الذي توفي فيه، مع ما كان فيه من شغل البال بالدرس والحكم وغير ذلك".
في رابع عشر شهر صفر قدم الخبر بخروج تنبك البجاسي عن الطاعة ومحاربته أمراء دمشق، وسبب ذلك أنه لما ولي سودن بن عبد الرحمن نيابة الشام عوضا عن تنبك، تقدمت الملطفات السلطانية إلى أمراء دمشق، بالقبض على تنبك البجاسي، فأتوا دار السعادة في ليلة الجمعة رابِعَه، واستدعوه ليقرأ عليه كتاب السلطان، فارتاب من ذلك، وخرج من باب السِّرِّ، وقد لبس السلاحَ في جمع من مماليكه، فثار إليه الأمراءُ واقتتلوا معه حتى مضى صدر نهار الجمعة، فانهزموا منه، وتحصن طائفة منهم بالقلعة، ومضى آخرون إلى سودن بن عبد الرحمن، وقد نزل على صفد، ثم خرج تنبك البجاسي من دمشق بعد محاربته الأمراء حتى نزل على الجسر في يوم الجمعة الحادي عشر، وقد قطع سودن بن عبد الرحمن الجسرَ، فباتوا يتحارسون، وأصبحوا يوم السبت الثاني عشر يترامَون نهارهم كلَّه حتى حجز الليلُ بينهم، فباتوا ليلةَ الأحد على تعبيتهم، وأصبح تنبك يوم الأحد الثالث عشر راحلًا إلى جهة الصبيبة، في انتظار ابن بشارة أن يأتيه تقويةً له، فكتب سودن بذلك إلى السلطان، وركب بمن معه على جرائد الخيل، وترك الأثقال في مواضعها مع نائب القدس، وساق حتى دخل دمشق في يوم الأربعاء السادس عشر، فتمكن من القلعة، فللحال أدركهم تنبك وقد بلغه مسيرهم، فلقوه عند باب الجابية وقاتلوه، فثبت لهم مع كثرتهم، وقاتلهم أشد قتال، والرمي ينزل عليه من القلعة، فتقنطر عن فرسه لضربةٍ أصابت كَتِفَه حتى خلعته، فتكاثروا عليه وجروه إلى القلعة ومعه نحو عشرين من أصحابه، وكُتِبَ بذلك للسلطان، فقَدِمَ الكتاب الأول من جسر يعقوب في يوم الأحد عشرين، فاضطرب الناس، ووقع الشروع في السفر، وأُحضِرَت خيول كثيرة من مرابطها بالربيع، فقدم الخبر الثاني بأخذ تنبك البجاسي بدمشق، فدُقَّت البشائر، وكُتِبَ بقتله وحَمْل رأسه إلي مصر، وتتبُّع من كان معه، وبطلت حركةُ السَّفَرِ.
في ثالث جمادى الأولى جاء سيل عظيم حتى صار المسجد الحرام بحرًا، ووصل الماء إلى قريب من الحجر الأسود، وصار في المسجد أوساخ وخِرَق كثيرة جاء بها السيل، وأنَّ الخطبة أعيدت بمكة لصاحب اليمن في سابع جمادى الأولى بعدما تُرِك اسمه والدعاء له من أيام الموسِم.
جهَّز أبو فارس عبد العزيز بن أبي العباس أحمد صاحب تونس وبلاد إفريقية وملك الحفصيين ابنَه المعتمد أبا عبد الله محمدًا، من بجاية في عسكر إلى مدينة تلمسان، فحارب مَلِكَها أبا عبد الله عبد الواحد بن أبي محمد عبد الله بن أبي حمو موسى ملك بني زيان حروبًا كثيرة، حتى ملكها في جمادى الآخرة، وخطب لنفسه ولأبيه، فزالت دولة بني عبد الواد من تلمسان بعدما ملكت مائة وثمانين سنة، وولَّى على تلمسان الأمير الزياني محمد بن أبي تاشفين عبد الرحمن الثاني.
هو العلامة البحر الزاخر المولى حافظ الدين محمد بن محمد بن شهاب بن يوسف الكردي البريقيني الخوارزمي الحنفي الشهير بالبزازي، برع في الأصول حتى ذاع صيته في البلاد، اشتهر بفتاويه وخاصة فتواه بتكفير تيمورلنك، وتُعرَف بالفتاوى البزازية، وله مصنفات؛ منها: مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة، ومناسك الحج، وآداب القضاة، وتعريفات الأحكام، وغيرها من الكتب. قال عصام الدين طاشْكُبْري زادَهْ: "له كتاب في مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وهو كتاب نافع في الغاية، مشتمل على المطالب العالية، طالعته من أوله إلى آخره واستفدت منه، ولما دخل بلاد الروم باحَثَ مع المولى الفناري وغلب هو عليه في الفروع، وغلب ذلك عليه في الأصول وسائر العلوم".
كانت أسواق القاهرة ومصر ودمشق في كساد، وظلمُ ولاة الأمر من الكشاف والولاة فاشٍ. ونواب القضاة قد شنعت قالة العامة فيهم من تهافتهم، وأرض مصر أكثرها بغير زراعة؛ لقصور مد النيل في أوانه، وقلة العناية بعمل الجسور؛ فإن كشَّافها إنما دأبهم إذا خرجوا لعملها أن يجمعوا مال النواحي لأنفسهم وأعوانهم، والطرقات بمصر والشام مخوفة من كثرة عبث العربان والعشير، والناس على اختلاف طبقاتهم قد غلب عليهم الفقر، واستولى عليهم الشح والطمع فلا تكاد تجد إلا شاكيًا مهتمًّا لدنياه، وأصبح الدِّين غريبًا لا ناصر له، وسعر القمح بمائتي درهم الأردب، والشعير بمائة وعشرة، والفول بنحو ذلك، ولحم الضأن السليخ كل رطل بسبعة دراهم ونصف، ولحم البقر كل رطل بخمسة دراهم، والفلوس كل رطل بتسعة دراهم، وهي النقد الذي يُنسَب إليه ثمن ما يباع وقيمة ما يُعمل. والفضة كل درهم وزنًا بعشرين درهمًا من الفلوس، والذهب الإفرنجي المشخَّص بمائتي وخمسة وعشرين درهمًا!