موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الخامِسُ: هَلِ النَّهيُ يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه؟


الفسادُ لُغةً: نَقيضُ الصَّلاحِ، وهو: خُروجُ الشَّيءِ عن حَدِّ الاعتِدالِ، قليلًا كان أو كَثيرًا [1133] يُنظر: ((المفردات)) للراغب (ص: 636)، ((المعجم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (8/458)، ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/22). .
واصطِلاحًا: هو ما لَم يَستَوفِ شَرائِطَه التي يَتَوقَّفُ عليها حُصولُ الغَرَضِ بالفِعلِ [1134] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/171). .
وقدِ اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّ الفاسِدَ والباطِلَ مُتَرادِفانِ في العِباداتِ [1135] يُنظر: ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/236)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (1/ 414). سِوى الحَجِّ [1136] قال الإسنَويُّ: (اعلَمْ أنَّ دَعوى التَّرادُفِ مُطلَقًا مَمنوعةٌ؛ فإنَّ ذلك خاصٌّ ببَعضِ أبوابِ الفِقهِ، كالصَّلاةِ والبَيعِ، وأمَّا الحَجُّ فقد فرَّقنا فيه بَينَ الفاسِدِ والباطِلِ). ((نهاية السول)) (ص: 28). وقال الصَّنعانيُّ: (يَنبَغي أن يُعلَمَ أنَّهم مُتَّفِقونَ في العِباداتِ سِوى الحَجِّ). ((إجابة السائل)). (ص: 41). ويُنظَر للفُروقِ بَينَ الفاسِدِ والباطِلِ في الحَجِّ: ((الأشباه والنظائر)) لابن السبكي (2/ 98)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 59)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/27)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/272). .
والمُرادُ مِن فسادِ العِبادةِ: وُقوعُها على نَوعٍ مِنَ الخَلَلِ يوجِبُ بَقاءَ الذِّمَّةِ مَشغولةً بها، فلا يَحصُلُ الإجزاءُ بها [1137] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/297)، ((المحصول)) للرازي (2/291)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/43). .
واختَلَفوا هَل هما مُتَرادِفانِ في المُعامَلاتِ أو لا:
فعِندَ الجُمهورِ: هما مُتَرادِفانِ، وكُلٌّ مِنهما يَدُلُّ على أنَّ الفِعلَ المَنهيَّ عنه وقَعَ على خِلافِ ما طُلِبَ مِنَ المُكَلَّفِ، فلَم يَعتَبِرْه الشَّارِعُ، ولَم يُرَتِّبْ عليه الأثَرَ الذي يُرَتِّبُه على الفِعلِ المَشروعِ [1138] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/804)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/394)، ((منهج المتكلمين في استنباط الأحكام الشرعية)) لعبد الرؤوف خرابشة (ص: 200). .
وأمَّا الحَنَفيَّةُ: ففرَّقوا بَينَ المَنهيِّ عنه لأصلِه، والمَنهيِّ عنه لوَصفِه: والمُرادُ بالأصلِ: هو المَحَلُّ أوِ الرُّكنُ في العُقودِ، والمُرادُ بالوصفِ: ما كان خارجًا عنهما. فإن كان النَّهيُ مُنصَبًّا على الأصلِ فهو الباطِلُ، وإن كان مُنصَبًّا على الوصفِ فهو الفاسِدُ.
فالفاسِدُ: هو ما كان مَشروعًا بأصلِه دونَ وَصفِه.
والباطِلُ: ما لَم يَكُنْ مَشروعًا لا بأصلِه ولا بوَصفِه.
ومَعنى البُطلانِ في العِباداتِ: عَدَمُ سُقوطِ القَضاءِ بالفِعلِ، وفي عُقودِ المُعامَلاتِ: تَخَلُّفُ الأحكامِ عنها وخُروجُها عن كَونِها أسبابًا مُفيدةً للأحكامِ [1139] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/258)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (2/299)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 95). .
قال عَلاءُ الدِّينِ البُخاريُّ: (الصِّحَّةُ عِندَنا قد تُطلَقُ أيضًا على مُقابَلةِ الفاسِدِ، كما تُطلَقُ على مُقابَلةِ الباطِلِ، فإذا حَكَمنا على شَيءٍ بالصِّحَّةِ فمَعناه أنَّه مَشروعٌ بأصلِه ووَصفِه جَميعًا، بخِلافِ الباطِلِ؛ فإنَّه ليس بمَشروعٍ أصلًا، وبخِلافِ الفاسِدِ؛ فإنَّه مَشروعٌ بأصلِه دونَ وصفِه) [1140] ((كشف الأسرار)) (1/259). .
فالحاصِلُ: أنَّ الجُمهورَ لَم يُفرِّقوا بَينَ المَنهيِّ عنه لوَصفِه، والمَنهيِّ عنه لأصلِه، أي: لذاتِه وحَقيقَتِه، فالنَّهيُ عِندَهم يَقتَضي فسادَ كُلٍّ مِنَ الأصلِ والوَصفِ، فهم لا يَنظُرونَ إلى السَّبَبِ الذي مِن أجلِه كان النَّهيُ.
أمَّا الحَنَفيَّةُ فنَظَروا إلى السَّبَبِ، فإن كان النَّهيُ يَرجِعُ إلى الأصلِ انعَدَمَ وُجودُه شَرعًا، وإن رَجَعَ إلى وصفٍ لَحِقَ بالعَقدِ مَعَ سَلامةِ الأصلِ، كان فاسدًا، كعَقدِ الرِّبا؛ فإنَّ البَيعَ مَشروعٌ بأصلِه، لَكِنْ رافقَه وصفُ الرِّبا الذي هو غَيرُ مَشروعٍ، وطالَما أنَّ الفاسِدَ ما كان الخَلَلُ فيه في وصفٍ مِن أوصافِ العَقدِ، فيُمكِنُ أن تَتَرَتَّبَ عليه بَعضُ الآثارِ، بخِلافِ الباطِلِ؛ فإنَّه لا يَتَرَتَّبُ عليه أيُّ أثَرٍ [1141] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (2/409)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 96)، ((بحوث مقارنة)) لفتحي الدريني (1/285). .
مَناهجُ الأُصوليِّينَ في مَسألةِ اقتِضاءِ النَّهيِ للفسادِ:
أوَّلًا: مَنهَجُ الجُمهورِ:
اختَلَفوا في اقتِضاءِ النَّهيِ للفسادِ، والرَّاجِحُ: أنَّ النَّهيَ عنِ الشَّيءِ يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه مُطلَقًا، سَواءٌ كان النَّهيُ عنِ الشَّيءِ لعَينِه، أو لوصفِه، أو لغَيرِه، وسَواءٌ كان في العِباداتِ أوِ المُعامَلاتِ. وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ [1142] يُنظر: ((شرح الورقات)) لابن الفركاح (ص: 156)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1176)، ((غاية المأمول)) للرملي (ص: 140). ومِمَّا يَدُلُّ على أخذِ الشَّافِعيِّ بهذا القَولِ: قَولُه: (فأمَّا إذا عُقِدَ بهذه الأشياءِ كان النِّكاحُ مَفسوخًا بنَهيِ اللهِ في كِتابِه، وعلى لسانِ نَبيِّه عنِ النِّكاحِ بحالاتٍ نَهى عنها، فذلك مَفسوخٌ) [أي: إذا عُقِدَ النِّكاحُ بالحالاتِ المَنهيِّ عنها]. ((الرسالة)) (ص: 346). ، وأحمدَ [1143] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/432)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/369). . وهو مَذهَبُ جُمهورِ المالِكيَّةِ [1144] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/339)، ((إحكام الفصول)) (1/234)، ((الإشارة)) (ص: 349) كلاهما للباجي، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 95). ، والشَّافِعيَّةِ [1145] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/481)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1156). ، والحَنابِلةِ [1146] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/441)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/730). ، وابنِ حَزمٍ [1147] يُنظر: ((الإحكام)) (4/86). . وعَزاه إمامُ الحَرَمَينِ إلى المُحَقِّقينَ [1148] يُنظر: البرهان (1/96). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: مِنَ القُرآنِ الكَريمِ
قال اللهُ تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275].
وَجهُ الدَّلالةِ:
استُدِلَّ بهذه الآيةِ على أنَّ ظاهرَ النَّهيِ يَقتَضي الفسادَ، مِن أربَعةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ اللَّهَ تعالى نهى عن أكلِ الزِّيادةِ المَأخوذةِ عن عَقدِ الرِّبا، كما في قَولِه تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران: 130] ، فدَلَّ أنَّ ظاهرَ نَهيِه قدِ اقتَضى وُجوبَ الامتِناعِ مِنَ التَّصَرُّفِ فيما أُخِذَ عن عَقدِ الرِّبا.
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ اللَّهَ تعالى ذَمَّ مَن سَوَّى بَينَ الرِّبا المَنهيِّ عنه وبَينَ البَيعِ المُباحِ؛ فدَلَّ ذلك على أنَّ المُباحَ مِن ذلك والمَحظورَ لا يَستَويانِ في الحُكمِ الواجِبِ، فظاهِرُ اللَّفظِ أن يَكونَ المَحظورُ مخالفًا للمُباحِ. فإذا كان وُقوعُه على الوَجهِ المُباحِ يوجِبُ صِحَّتَه فواجِبٌ أن يَكونَ وُقوعُه على الوَجهِ المَحظورِ موجبًا لفسادِه بما في فحوى الآيةِ مِن إيجابِ التَّفرِقةِ بَينَهما مِن هذه الجِهةِ.
الوَجهُ الثَّالِثُ: في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا؛ حَيثُ اقتَضى ظاهِرُ النَّهيِ رَدَّ الزِّيادةِ المَأخوذةِ عن عَقدِ الرِّبا إلى بائِعِها، وذلك لا يَكونُ إلَّا مَعَ فسادِ العَقدِ، وكان ذلك متعلِّقًا بظاهرِ النَّهيِ.
الوَجهُ الرَّابِعُ: في قَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ [البقرة: 279] ؛ حَيثُ إنَّه لمَّا نَهى عنه حَكَمَ برَدِّ رَأسِ المالِ، فلَولا أنَّ ظاهرَ النَّهيِ قدِ اقتَضى الفسادَ لَكان مملوكًا بعَقدٍ صحيحٍ لا يَجِبُ رَدُّه. وكذلك في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ كُلَّ رِبا في الجاهليَّةِ مَوضوعٌ، لَكُم رؤوسُ أموالِكُم لا تَظلِمونَ ولا تُظلَمونَ، غَيرَ رِبا العَبَّاسِ بنِ عَبدِ المُطَّلِبِ؛ فإنَّه مَوضوعٌ كُلُّه)) [1149] أخرجه أبو داود (3334)، والترمذي (3087) واللفظ له، وابن ماجه (3055) من حديثِ عَمرِو بنِ الأحوَصِ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (6/179)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3087)، وصَحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3334). .
فلَمَّا تَعَلَّقَ الفسادُ بما دَلَّت عليه الآيةُ بالنَّهيِ، ثَبَتَ أنَّ ظاهرَ النَّهيِ يَقتَضي فسادَ ما تَناولَه حتَّى تَقومَ دَلالةُ الجَوازِ [1150] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/190). .
ثانيًا: مِنَ السُّنَّةِ:
عُمومُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن أحدَثَ في أمرِنا هذا ما ليس منه، فهو رَدٌّ)) [1151] أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) واللَّفظُ له من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ المَنهيَّ عنه ليس عليه أمرُه، فيَجِبُ أن يَكونَ رَدًّا، وإذا ثَبَتَ أنَّه رَدٌّ، فلا مَعنى لذلك إلَّا أن يَكونَ باطلًا غَيرَ مُجزِئٍ؛ لأنَّه لَو كان مجزِئًا لَما كان مَردودًا [1152] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/235)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 101)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1180). .
قال الصَّنعانيُّ: (وهذا القَولُ يَظهَرُ أنَّه أرجَحُ مِن غَيرِه مِنَ التَّفاصيلِ المَعروفةِ في كُتُبِ الأُصولِ، ويُؤَيِّدُ ما ذَهَبنا إليه الحَديثُ الصَّحيحُ، وهو: ((كُلُّ عَمَلٍ ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)) [1153] أخرجه البخاري مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم قَبل حَديث (7350)، وأخرجه موصولًا مُسلِم (1718) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولَفظُه: ((مَن عَمِلَ عَمَلًا ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ)). ، ومَعلومٌ أنَّ المَنهيَّ عنه ليس عليه أمرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فهو مَردودٌ مِن عِبادةٍ ومُعامَلةٍ، وكُلُّ مَردودٍ لا نُفوذَ لحُكمِه، فهذا هو الحَقُّ، وقد تَقومُ قَرائِنُ تَصرِفُ عنِ المُقَرَّرِ، فلا تُنافيه) [1154] ((إجابة السائل)) (ص: 296). .
ثالِثًا: عَمَلُ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم
فالصَّحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا يَحتَجُّونَ على فسادِ الشَّيءِ بكَونِه مَنهيًّا عنه، ولا يَرجِعونَ في فسادِه إلَّا إلى النَّهيِ؛ ومِن ذلك احتِجاجُهم في إفسادِ عُقودِ الرِّبا [1155] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/437)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/372). بقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تَبيعوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ...))؛ فعن أبي قِلابةَ قال: (كُنتُ بالشَّامِ في حَلقةٍ فيها مُسلِمُ بنُ يَسارٍ، فجاءَ أبو الأشعَثِ فجَلَسَ، فقُلتُ له: حَدِّثْ أخانا حَديثَ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ، قال: نَعَم، غَزونا غَزاةً وعلى النَّاسِ مُعاويةُ، فغَنِمنا غَنائِمَ كَثيرةً، فكان فيما غَنِمنا آنيةٌ مِن فِضَّةٍ، فأمَر مُعاويةُ رَجُلًا أن يَبيعَها في أَعْطِيَاتِ النَّاسِ، فتَسارعُ النَّاسُ في ذلك، فبَلَغَ عُبادةَ بنَ الصَّامِتِ، فقامَ فقال: إنِّي سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَنهى عن بَيعِ الذَّهَبِ بالذَّهَبِ، والفِضَّةِ بالفِضَّةِ، والبُرِّ بالبُرِّ، والشَّعيرِ بالشَّعيرِ، والتَّمرِ بالتَّمرِ، والمِلحِ بالمِلحِ، إلَّا سَواءً بسَواءٍ، عَينًا بعَينٍ، فمَن زادَ أوِ ازدادَ فقد أربى. فرَدَّ النَّاسُ ما أخَذوا) [1156] أخرجه مسلم (1587). .
ومِن ذلك احتِجاجُ ابنِ عُمَرَ في فسادِ نِكاحِ المُشرِكاتِ [1157] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/436)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/372). بقَولِ اللهِ تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ؛ فعن نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ كان إذا سُئِلَ عن نِكاحِ النَّصرانيَّةِ واليَهوديَّةِ، قال: (إنَّ اللَّهَ حَرَّم المُشرِكاتِ على المُؤمِنينَ، ولا أعلَمُ مِنَ الإشراكِ شَيئًا أكبَرَ مِن أن تَقولَ المَرأةُ: رَبُّها عيسى، وهو عَبدٌ مِن عِبادِ اللهِ) [1158] أخرجه البخاري (5285). .
فهذا يَدُلُّ على أنَّه كان مِن مَذهَبِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم أنَّ ظاهرَ النَّهيِ يَقتَضي فسادَ ما تَناولَه مِن تلك العُقودِ.
وقيلَ: إنَّ النَّهيَ لا يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه [1159] اتَّفقَ أصحابُ هذا القَولِ على أنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على فَسادِ المَنهيِّ عنه، وإنَّما الفسادُ -فيما يَفسُدُ- لدَليلٍ غَيرِ النَّهيِ. واختَلَفوا في الفصلِ بَينَ ما يَفسُدُ مِنَ الأشياءِ المَنهيِّ عنها، وما لا يَفسُدُ: فقال بَعضُهم: إن كان في فِعل المَنهيِّ إخلالٌ بشَرطٍ في صِحَّتِه إن كان عِبادةً، أو في نُفوذِه إن كان عقدًا؛ وجَبَ القَضاءُ بفسادِه، وإن لَم يَكُنْ فيه إخلالٌ بما ذَكَرناه لَم يَجِبِ القَضاءُ بفسادِه. وقال بَعضُهم: إن كان النَّهيُ يَختَصُّ بالفِعلِ المَنهيِّ عنه، كالصَّلاةِ في المَكانِ النَّجِسِ، اقتَضى الفسادَ، وإن لَم يَختَصَّ بالمَنهيِّ عنه، كالصَّلاةِ في الدَّارِ المَغصوبةِ، لَم يَقتَضِ الفسادَ. وقال بَعضُهم: إن كان النَّهيُ عنِ الشَّيءِ المَعنى في عَينِه، أوجَبَ الفسادَ، وإن كان لمَعنًى في غَيرِه، لا يوجِبُ الفسادَ. يُنظر: ((المغني)) للقاضي عبد الجبار (17/137)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/143). واختَلَفوا أيضًا في أنَّه هَل يَدُلُّ على الصِّحَّةِ أو لا؟ فذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّ النَّهيَ عنِ الشَّيءِ كما لا يَدُلُّ على فَسادِه، فلا يَدُلُّ كذلك على صِحَّتِه وإجزائِه، وإنَّما يَجِبُ إيقافُ أمرِه على ما يَدُلُّ الشَّرعُ عليه مِن بَراءةِ الذِّمَّة به، أو وُجوبِ فِعلِ مِثلِه. وذَهَبَ بَعضُهم إلى أنَّه يَدُلُّ على الصِّحَّةِ، كصَومِ يَومِ النَّحرِ؛ فإنَّ النَّهيَ عنه عَلامةُ صِحَّتِه؛ إذِ المُمتَنِعُ لا يُنهى عنه. يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/340)، ((الإحكام)) للآمدي (2/193)، ((زوائد الأصول)) للإسنوي (ص: 245). . وإليه ذَهَب بَعضُ الشَّافِعيَّةِ [1160] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 25)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/140). ، وحَكاه الآمِديُّ عنِ المُحَقِّقينَ مِنَ الأُصوليِّينَ [1161] يُنظر: ((الإحكام)) (2/188). .
وقيلَ: النَّهيُ عنِ الشَّيءِ إذا كان لعَينِه، أو لوصفٍ لازِمٍ له، فإنَّه يَقتَضي الفسادَ، بخِلافِ ما إذا كان لغَيرِه؛ فإنَّه لا يَقتَضي الفسادَ، سَواءٌ أكان في العِباداتِ، كالصَّلاةِ في الأرضِ المَغصوبةِ، أو كان في العُقودِ، كالبَيعِ وقتَ أذانِ الجُمُعةِ. حَكاه ابنُ العَرَبيِّ عن مالِكٍ [1162] حَقَّقَ ابنُ العَرَبيِّ قَولَ مالِكٍ، فقال: (قال قائِلونَ: النَّهيُ عنِ الشَّيءِ يَدُلُّ على فسادِه، وعَدَمِ الاعتِدادِ به شرعًا. وقال آخَرونَ: لا يَدُلُّ على فسادِه. وأربابُ الأُصولِ مِنَ المالِكيَّةِ جَهِلوا مَذهَبَ مالِكٍ رَحِمَه اللهُ، فقالوا: إنَّ له قَولَينِ حَسَبَما تَقدَّم تَفسيرُه. والصَّحيحُ مِن مَذهَبِه: أنَّ النَّهيَ على قِسمَينِ: نَهيٌ يَكونُ لمَعنًى في المَنهيِّ عنه. ونَهيٌ يَكونُ لمَعنًى في غَيرِه؛ فإن كان لمَعنًى في المَنهيِّ عن: دَلَّ على فسادِه، وإن كان لمَعنًى في غَيرِ المَنهيِّ عنه فذلك يَختَلِفُ، إلَّا أنَّ الأغلَبَ فيه أنَّه لا يَدُلُّ على الفَسادِ). ((المَحصول)) (ص: 71). ، ونُسِبَ إلى الشَّافِعيِّ [1163] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/187)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/383). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1164] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/297)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1158). .
وقيلَ: النَّهيُ يَقتَضي الفسادَ في العِباداتِ دونَ المُعامَلاتِ. وهو قَولُ الرَّازيِّ [1165] يُنظر: ((المحصول)) (2/291)، ((المعالم)) (ص: 78). .
وقيلَ: النَّهيُ عنِ الشَّيءِ إن كان لحَقِّ اللهِ تعالى فإنَّه يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه، وإن كان لحَقِّ العَبدِ فلا يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه. وهو قَولُ التِّلِمسانيِّ [1166] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) (ص: 421). .
ثانيًا: مَنهَجُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ في المَسألةِ
نَهَجَ الحَنَفيَّةُ في هذه المَسألةِ مَنهَجًا مُغايِرًا لمَنهَجِ الجُمهورِ، وبَيانُه فيما يَلي:
قَسَّمَ الحَنَفيَّةُ النَّهيَ المُطلَقَ إلى قِسمَينِ: نَهيٌ عنِ الأفعالِ الحِسِّيَّةِ، ونَهيٌ عنِ الأفعالِ الشَّرعيَّةِ.
أوَّلًا: النَّهيُ عنِ الأفعالِ الحِسِّيَّةِ [1167] يُنظر: ((الكافي)) للسغناقي (2/598)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/257)، ((جامع الأسرار)) للكاكي (1/252)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/330).
والأفعالُ الحِسِّيَّةُ هيَ التي تُعرَفُ عن طَريقِ الحِسِّ، ولا يَتَوقَّفُ حُصولُها وتَحَقُّقُها على الشَّرعِ.
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك: النَّهيُ عنِ الزِّنا، والسَّرِقةِ، وشُربِ الخَمرِ، وقَتلِ النَّفسِ.
فهذه الأفعالُ وأمثالُها لا يَتَوقَّفُ تَحَقُّقُها ومَعرِفتُها على الشَّرعِ؛ لأنَّها كانت مَعلومةً قَبلَ الشَّرعِ عِندَ أهلِ المِلَلِ أجمَعَ.
وحُكمُ هذا النَّوعِ مِنَ الأفعالِ: البُطلانُ، فلا يَتَرَتَّبُ عليها أيُّ أثَرٍ؛ لأنَّها قَبيحةٌ في ذاتِها، وغَيرُ مَشروعةٍ أصلًا.
فمَن سَرَقَ نِصابًا مَن مالٍ مُحرَزٍ، لا يَتَرَتَّبُ عليه مِلكُ المالِ المَسروقِ، ومَن قَتَلَ نَفسًا بُغيةَ استِعجالِ ميراثِها لا يَرِثُ، ولا يَتَرَتَّبُ على ما أخَذَه مِنَ المالِ صِفةُ المِلكيَّةِ؛ لأنَّ السَّرِقةَ وقَتلَ النَّفسِ مُحَرَّمَتانِ، وغَيرُ مَشروعَتَينِ أصلًا.
ثانيًا: النَّهيُ عنِ الأفعالِ الشَّرعيَّةِ [1168] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 52)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/257)، ((نور الأنوار)) لملاجيون الحنفي (1/241)، ((أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن)) لعبد الكريم حامدي (ص: 193).
الأفعالُ الشَّرعيَّةُ هيَ التي يَتَوقَّفُ حُصولُها وتَحَقُّقُها على الشَّرعِ.
ومِنَ الأمثِلةِ على ذلك: النَّهيُ عن صَومِ يَومِ العيدِ، والصَّلاةِ في الأرضِ المَغصوبةِ، والبَيعِ وقتَ النِّداءِ للجُمعةِ، وبَيعِ الرِّبا، والإجارةِ.
فالصَّلاةُ لَم تَكُنْ قُربةً وعِبادةً مَعلومةً قَبلَ الشَّرعِ على هذه الهَيئةِ، وكَذا الصَّومُ وغَيرُه، ولَيسَت هذه الأفعالُ تُعرَفُ حِسًّا، كَشُربِ الخَمرِ والقَتلِ، بَل لا تُعرَفُ إلَّا بالشَّرعِ.
ولمَّا كانت هذه الأفعالُ مَشروعةً في الأصلِ، لَكِن عَرضَ لها عارِضٌ، فنَهى عنها الشَّارِعُ بسَبَبِ هذا العارِضِ؛ لذلك كان النَّهيُ عنها ليس لقُبحٍ في ذاتِها وعَدَمِ مَشروعيَّتِها في الأصلِ، بَل في غَيرِها.
وعلى هذا يَكونُ حُكمُها مُخالِفًا لحُكمِ الأفعالِ الحِسِّيَّةِ، فتَكونُ مَشروعةً بأصلِها قَبيحةً لغَيرِها، إلى أن يَقومَ دَليلٌ يَدُلُّ على أنَّها قَبيحةٌ لذاتِها، كالنَّهيِ عن نِكاحِ المَحارِمِ، وكالنَّهيِ عن بَيعِ الحُرِّ، والمَيتةِ. فهذه الأشياءُ مَنهيٌّ عنها لقُبحِ عَينِها شَرعًا؛ فمَثَلًا البَيعُ لَم يوضَعْ في اللُّغةِ لمَعنًى قَبيحٍ عقلًا، وإنَّما القُبحُ فيه لأجلِ أنَّ الشَّرعَ فَسَّر البَيعَ بمُبادَلةِ مالٍ بمالٍ، والحُرُّ ليس بمالٍ، فصارَ بَيعُ الحُرِّ عَبَثًا؛ لحُلولِه في غَيرِ مَحَلِّه، وكَذا صَلاةُ المُحدِثِ قَبيحةٌ شَرعًا؛ لأنَّ الشَّارِعَ أخرَج المُحدِثَ مِن أن يَكونَ أهلًا لأدائِها.
ومَعنى أنَّه قَبيحٌ لذاتِه: أنَّ النَّهيَ ورَدَ على العَمَلِ لذاتِه وحَقيقَتِه، سَواءٌ كان ذلك في الأفعالِ، أو في عُقودِ المُعامَلاتِ والأنكِحةِ. وهذا غَيرُ مَشروعٍ أصلًا باتِّفاقٍ، فالنَّهيُ فيه يَقتَضي بُطلانَ المَنهيِّ عنه، فإذا أتى به المُكَلَّفُ يَقَعُ باطلًا، ولا يَتَرَتَّبُ عليه أيُّ أثَرٍ مِنَ الآثارِ التي رَتَّبَها الشَّارِعُ على العَمَلِ المَشروعِ، فلا يُمنَعُ وُجوبُ القَضاءِ في العِبادةِ، ولا يَكونُ البَيعُ سببًا للمِلكِ، وتَكونُ صَلاةُ المُحدِثِ باطِلةً.
وأمَّا المَنهيُّ عنها لغَيرِها فهيَ عِندَ الحَنَفيَّةِ نَوعانِ: مَنهيٌّ عنها لوصفٍ مُلازِمٍ، ومَنهيٌّ عنها لوصفٍ مُجاوِرٍ غَيرِ مُلازِمٍ.
الأوَّلُ: المَنهيُّ عنه لوصفٍ مُلازِمٍ [1169] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 53)، ((أصول السرخسي)) (1/80)، ((نسمات الأسحار)) لابن عابدين (ص: 62)، ((شرح سمت الوصول)) للأقحصاري (ص: 116)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 99).
هو ما كان النَّهيُ فيه مُنصَبًّا على وصفٍ لازِمٍ للمَنهيِّ عنه.
ومِن أمثِلةِ ذلك: النَّهيُ عن صَومِ يَومِ العيدِ، وأيَّامِ التَّشريقِ، وبَيعِ الرِّبا.
فالنَّهيُ هنا مُنصَبٌّ على وصفٍ لازِمٍ للمَنهيِّ عنه؛ فالصَّومُ في نَفسِه عِبادةٌ مَشروعةٌ، لَكِن نُهِيَ عنه في هذه الأيَّامِ؛ لأنَّها وقتُ ضيافةٍ للَّهِ رَبِّ العالَمينَ، وفي الصَّومِ إعراضٌ عنها، والخَلَلُ الوارِدُ في الصَّومِ مِن جِهةِ الوقتِ بمَنزِلةِ الصَّادِرِ مِنَ الوصفِ له؛ لعَدَمِ تَصَوُّرِ الانفِكاكِ عنه؛ لأنَّ الوقتَ داخِلٌ في تَعريفِ الصَّومِ، ووَصفُ الجُزءِ وَصفٌ للكُلِّ، فكان النَّهيُ لمَعنًى قَبيحٍ اتَّصَلَ بالوقتِ، الذي هو وصفٌ مُلازِمٌ لأداءِ الصَّومِ.
وكذلك النَّهيُ عنِ الرِّبا؛ فإنَّه ورَدَ لمَعنًى اتَّصَلَ بالبَيعِ وصفًا، وهو فواتُ المُساواةِ التي هيَ شَرطُ جَوازِ البَيعِ في هذه الأموالِ شرعًا، وفواتُ المُساواةِ وَصفٌ لازِمٌ للبَيعِ.
وحُكمُه: أنَّه مَشروعٌ بأصلِه فاسِدٌ بوصفِه، بمَعنى أنَّ النَّهيَ هنا يَقتَضي فسادَ الوصفِ فقَط، أمَّا أصلُ الفِعلِ فهو باقٍ على مَشروعيَّتِه، حتَّى إذا زالَ الوصفُ كان مَشروعًا.
إلَّا أنَّ الفسادَ في المِثالِ الأوَّلِ هو البُطلانُ؛ لأنَّ المِثالَ مِن قَبيلِ العِباداتِ، والفسادُ والبُطلانُ مُتَرادِفانِ في العِباداتِ كما تَقدَّمَ، فلَو نَذَرَ المُكَلَّفُ صيامَ يَومِ العيدِ مثلًا، وصامَه، لَم يَنَلْه الثَّوابُ الذي شُرِعَ له الصَّومُ، ولَم تَبرَأْ ذِمَّتُه مِنَ القَضاءِ.
واستَدَلَّ الحَنَفيَّةُ على ذلك بأنَّ المَنهيَّ عنه لوصفٍ مُلازِمٍ يُخالِفُ المَنهيَّ عنه لذاتِه، فالأوَّلُ مَشروعٌ، وكُلُّ مَشروعٍ حَسَنٌ، والثَّاني قَبيحٌ لذاتِه، وهو غَيرُ مَشروعٍ أصلًا، فالمُقابَلةُ بَينَهما تَقتَضي عَدَمَ المُساواةِ بَينَهما في الحُكمِ، فالأوَّلُ باطِلٌ أصلًا ووصفًا؛ لانعِدامِ المَشروعيَّةِ فيه، كبَيعِ المَيتةِ، وبَيعِ الأجِنَّةِ في بُطونِ أُمَّهاتِها، وأمَّا الثَّاني فهو مَشروعٌ أصلًا، فاسِدٌ وصفًا، فيَستَوجِبُ الإثمَ والعُقوبةَ على فاعِلِه دونَ البُطلانِ.
قال القَرافيُّ: (قال أبو حَنيفةَ: أصلُ الماهيَّةِ سالِمٌ عنِ المَفسَدةِ، والنَّهيُ إنَّما هو في الخارِجِ عنها، فلَو قُلنا بالفسادِ مطلقًا لَسَوَّينا بَينَ الماهيَّةِ المُتَضَمِّنةِ للفسادِ، وبَينَ السَّالِمةِ عنِ الفسادِ، ولَو قُلنا بالصِّحَّةِ مطلقًا لَسَوَّينا بَينَ الماهيَّةِ السَّالِمةِ في ذاتِها وصِفاتِها، وبَينَ المُتَضَمِّنةِ للفسادِ في صِفاتِها، وذلك غَيرُ جائِزٍ؛ فإنَّ التَّسويةَ بَينَ مَواطِنِ الفسادِ وبَينَ السَّالِمِ عنِ الفسادِ خِلافُ القَواعِدِ.
فتَعيَّنَ حينَئِذٍ أن يُقابَلَ الأصلُ بالأصلِ، والوَصفُ بالوصفِ، فنَقولُ: أصلُ الماهيَّةِ سالِمٌ عنِ النَّهيِ، والأصلُ في تَصَرُّفاتِ المُسلِمينَ وعُقودِهمُ الصِّحَّةُ حتَّى يَرِدَ نَهيٌ، فيَثبُتُ لأصلِ الماهيَّةِ الأصلُ الذي هو الصِّحَّةُ، ويَثبُتُ للوصفِ -الذي هو الزِّيادةُ المُتَضَمِّنةُ للمَفسَدةِ- الوصفُ العارِضُ، وهو النَّهيُ، فيَفسُدُ الوصفُ دونَ الأصلِ، وهو المَطلوبُ. وهو فِقهٌ حَسَن) [1170] ((الفروق)) (2/83-84). .
ورَغمَ أنَّ الحَنَفيَّةَ يَقولونَ بصِحَّةِ الأصلِ دونَ الوصفِ، وتَرتيبِهم بَعضَ الآثارِ المَقصودةِ على العَمَلِ المَنهيِّ عنه، فقد أحاطوا ذلك بوُجوبِ إزالةِ سَبَبِ النَّهيِ الذي اقتَضى الإثمَ بفَسادِ الوَصفِ ما أمكَنَ، فعِندَما جَعَلوا البَيعَ بالخَمرِ سَبَبًا للمِلكِ، يَعتَبِرونَ المُكَلَّفَ في الوقتِ نَفسِه آثِمًا، ويوجِبونَ عليه إزالةَ ما تَسَبَّبَ عنه الإثمُ، وذلك إمَّا باستِبدالِ الخَمرِ بغَيرِه ليكون ثَمَنًا في الصَّفقةِ، أو بفسخِ العَقدِ [1171] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (2/413)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 101). .
الثَّاني: المَنهيُّ عنه لوصفٍ مُجاوِرٍ غَيرِ مُلازِمٍ [1172] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/81)، ((المغني)) للخبازي (ص: 73)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/377)، ((نور الأنوار)) لملاجيون (1/244)، ((أثر القواعد الأصولية اللغوية في استنباط أحكام القرآن)) لعبد الكريم حامدي (ص: 195).
هو أن يَكونَ النَّهيُ عنِ الفِعلِ لوصفٍ مُجاوِرٍ يَنفكُّ عنه، فهو غَيرُ لازِمٍ له.
ومِن أمثِلةِ ذلك: البَيعُ وقتَ النِّداءِ للجُمعةِ، والصَّلاةُ في الأوقاتِ المَكروهةِ، والصَّلاةُ في الأرضِ المَغصوبةِ، والطَّلاقُ في وقتِ الحَيضِ.
فالبَيعُ في الأصلِ مَشروعٌ، لَكِن نُهيَ عنه في هذا الوقتِ بسَبَبِ الإخلالِ بواجِبِ السَّعيِ إلى الجُمعةِ، فالنَّهيُ عنه ليس لذاتِ البَيعِ، ولَكِن لوصفٍ مُجاوِرٍ، وهو الإخلالُ بالسَّعيِ إلى الجُمُعةِ، وسُمِّيَ غَيرَ مُلازِمٍ، أي: قابِلٍ للِانفِكاكِ؛ لأنَّ البَيعَ لا يُلازِمُ هذا الوقتَ في كُلِّ الأحيانِ؛ فقد يَقَعُ البَيعُ بدونِ الإخلالِ بالسَّعيِ إلى الجُمُعةِ، وكذلك الإخلالُ بالسَّعيِ لا يَكونُ سَبَبُه الوحيدُ هو البَيعَ؛ فقد يَكونُ بغَيرِ البَيعِ بأن يَمكُثَ المُتَبايِعانِ في الطَّريقِ مِن غَيرِ بَيعٍ، وعلى هذا فالبَيعُ مَنهيٌّ عنه لوصفٍ مُجاوِرٍ غَيرِ مُلازِمٍ.
والصَّلاةُ في الأوقاتِ المَكروهةِ مَنهيٌّ عنها لوصفٍ مُجاوِرٍ، وهو أداؤُها في وقتٍ تُعبَدُ فيه الشَّمسُ والشَّياطينُ، أمَّا الصَّلاةُ في نَفسِها فهيَ مَشروعةٌ.
والصَّلاةُ في الأرضِ المَغصوبةِ، وفي ثَوبٍ مَغصوبٍ، وكَذا الوُضوءُ بماءٍ مَغصوبٍ، والذَّبحُ بسِكِّينٍ مَغصوبٍ، كُلُّ هذه الأفعالِ مَنهيٌّ عنها لوصفٍ مُجاوِرٍ غَيرِ مُلازِمٍ؛ لأنَّ الصَّلاةَ، والوُضوءَ، والذَّبحَ أفعالٌ مَشروعةٌ في الأصلِ، لَكِن نُهِيَ عنها بسَبَبِ شَغلِ مِلكِ الغَيرِ.
والطَّلاقُ في وقتِ الحَيضِ مَنهيٌّ عنه لوصفٍ مُجاوِرٍ؛ لأنَّ الطَّلاقَ في نَفسِه مَشروعٌ، وإنَّما النَّهيُ عنه للقُبحِ المُجاوِرِ، وهو إيقاعُه في وقتِ الحَيضِ.
وحُكمُ هذه الأفعالِ المَنهيِّ عنها لوصفٍ مُجاوِرٍ غَيرِ مُلازِمٍ هو: الصِّحَّةُ مَعَ الكَراهيةِ؛ لأنَّ النَّهيَ ليس لذاتِ الفِعلِ، ولا لوصفٍ مُلازِمٍ، بَل لوصفٍ مُجاوِرٍ، فلَم يَكُنْ مُؤَثِّرًا لا أصلًا ولا وصفًا، فلا يَقتَضي بُطلانَ الفِعلِ ولا فسادَه، بَل يبقى صحيحًا تَتَرَتَّبُ عليه آثارُه المَقصودةُ مِنه، إلَّا أنَّه يَتَرَتَّبُ الإثمُ على فاعِلِه؛ لِما صاحَبَ الفِعلَ مِن مُخالَفةِ أمرِ الشَّارِعِ.
وعليه فيَتَرَتَّبُ على الوطءِ في الحَيضِ آثارُه، وإن أثِمَ فاعِلُه، فيُعتَبَرُ الزَّوجُ به مُحصَنًا، وتَصيرُ به الزَّوجةُ مدخولًا بها حَقيقةً، فتَثبُتُ لها أحكامُ المَدخولِ بها مِن وُجوبِ كَمالِ المَهرِ لَو طُلِّقَت، وتَحِلُّ لمَن طَلَّقَها ثلاثًا إذا طَلَّقَها الزَّوجُ الثَّاني بَعدَ هذا الوطءِ.
والصَّلاةُ في الأرضِ المَغصوبةِ تُخرِجُ المُكَلَّفَ عنِ العُهدةِ، ولَكِنَّه يَأثَمُ بسَبَبِ ما جاورَها مِن وصفِ الغَصبِ.
وكَذا البَيعُ يَومَ الجُمُعةِ وقتَ النِّداءِ يُفيدُ آثارَه، ويَكونُ فاعِلُه آثِمًا.
واستَدَلُّوا على ذلك بعَدَمِ التَّلازُمِ بَينَ الفِعلِ وما جاورَه، فتَثبُتُ المَشروعيَّةُ لأصلِ الفِعلِ، ويُسَلَّطُ النَّهيُ على ما جاورَه؛ لذلك تَتَرَتَّبُ عليه الآثارُ، ويَكونُ فاعِلُه آثِمًا.
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ لمَسألةِ اقتِضاءِ النَّهيِ للفسادِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ بَينَ مَنهَجِ الجُمهورِ ومَنهَجِ الحَنَفيَّةِ في ذلك في كَثيرٍ مِنَ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- حُكمُ نَذرِ صيامِ يَومِ العيدِ:
أجمَعَ الفُقَهاءُ على تَحريمِ صَومِ يَومَيِ العيدَينِ، سَواءٌ صامهما المُكَلَّفُ عن نَذرٍ أو تَطَوُّعٍ أو كَفَّارةٍ؛ لِما جاءَ عن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن صيامِ يَومَينِ: يَومِ الفِطرِ، ويَومِ النَّحرِ [1173] أخرجه البخاري (1991)، ومسلم (827) واللفظ له. .
ولَكِنَّهمُ اختَلَفوا فيمَن نَذَرَ صَومَهما، هَل يَنعَقِدُ نَذرُه؟ وهَل إذا انعَقدَ نَذرُه فصامَ هَذَينِ اليَومَينِ صَحَّ الصِّيامُ، وسَقَطَ القَضاءُ؟ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ النَّذرَ باطِلٌ ولَم يَنعَقِدْ، ولا يَلزَمُه القَضاءُ؛ لأنَّ أيَّامَ العيدِ لَيسَت محلًّا للصِّيامِ. وهو قَولُ المالِكيَّةِ [1174] يُنظر: ((المدونة)) لمالك (1/283)، ((الفقه المالكي وأدلته)) للحبيب بن طاهر (1/137). ، والشَّافِعيَّةِ [1175] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/455)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/253). ، والحَنابِلةِ [1176] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (13/645)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/351). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ النَّذرَ يَنعَقِدُ، ويَجِبُ على النَّاذِرِ الفِطرُ والقَضاءُ، لَكِن لَو صامَ هَذَينِ اليَومَينِ صَحَّ صَومُه مَعَ التَّحريمِ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1177] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/95)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/80). .
فمَن قال بالقَولِ الأوَّلِ فقد خَرَّجَه على أنَّ النَّهيَ يَقتَضي فسادَ المَنهيِّ عنه؛ ولذلك قال بعَدَمِ انعِقادِ نَذرِه أصلًا.
ومَن قال بالقَولِ الثَّاني فقد خَرَّجَه على أنَّ النَّهيَ لَم يَرِدْ على ذاتِ الصَّومِ؛ فإنَّه مَشروعٌ بأصلِه، وإنَّما ورَدَ على وصفٍ لازِمٍ له، وهو الإعراضُ عن ضيافةِ اللَّهِ تعالى في هذا اليَومِ، ولا يَلزَمُ مِن قُبحِ الوصفِ قُبحُ الأصلِ [1178] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/331)، ((إفاضة الأنوار)) للدهلوي (ص: 156)، ((مقبول المنقول)) لابنِ عبدِ الهادي (ص: 136)، ((شرح سمت الوصول)) للأقحصاري (ص: 119)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 350). .
2- صَلاةُ النَّفلِ في الأوقاتِ المَكروهةِ:
الأوقاتُ المَنهيُّ عنِ الصَّلاةِ فيها خَمسةٌ، وهيَ:
الوقتُ الأوَّلُ: مِن طُلوعِ الفجرِ الثَّاني، وبَعدَ صَلاةِ الفجرِ إلى طُلوعِ الشَّمسِ.
الوقتُ الثَّاني: مِن طُلوعِ الشَّمسِ حتَّى تَرتَفِعَ قَدرَ رُمحٍ.
الوقتُ الثَّالِثُ: عِندَ قيامِ الشَّمسِ حتَّى تَزولَ.
الوقتُ الرَّابِعُ: مِن صَلاةِ العَصرِ إلى غُروبِ الشَّمسِ.
الوقتُ الخامِسُ: إذا شَرَعَتِ الشَّمسُ في الغُروبِ حتَّى يَتِمَّ الغُروبُ.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ التَّنَفُّلِ في هذه الأوقاتِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ التَّنَفُّلَ في هذه الأوقاتِ باطِلٌ، فإذا صَلَّى الإنسانُ فيها لَم تَنعَقِدْ صَلاتُه. وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ [1179] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/271)، ((البيان)) للعمراني (2/351). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ صَلاةَ النَّفلِ في هذه الأوقاتِ مُنعَقِدةٌ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1180] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) لعلاء الدين السمرقندي (2/105)، ((الهداية)) للمرغيناني (1/42). .
واختَلَف الفُقَهاءُ في الوصفِ الذي كان لأجلِه النَّهيُ في هذا الفرعِ: هَل هو وصفٌ مُلازِمٌ للمَنهيِّ عنه، أو وصفٌ مُجاوِرٌ غَيرُ لازِمٍ؟ فنَشَأ عن ذلك الاختِلافُ في الحُكمِ.
فعلى القَولِ الأوَّلِ لَم تَنعَقِدْ صَلاتُه؛ لأنَّ النَّهيَ تَناوَل المَنهيَّ عنه لذاتِه، أو لوصفٍ لازِمٍ اقتَضى الفسادَ عِندَهم.
وعلى القَولِ الثَّاني صَلاتُه مُنعَقِدةٌ؛ لأنَّ النَّهيَ عنِ الصَّلاةِ في هذه الأوقاتِ راجِعٌ إلى أمرٍ مُجاوِرٍ للمَنهيِّ عنه، لا لوصفٍ لازِمٍ؛ إذ إنَّ الوقتَ ظَرفٌ للصَّلاةِ لا مِعيارٌ لها، فيَكونُ تَعَلُّقُه بها تَعَلُّقَ المُجاوَرةِ لا تَعَلُّقَ الوصفيَّةِ.
ولذلك كان النَّهيُ المَذكورُ لا يوجِبُ الفسادَ، وإنَّما يوجِبُ النُّقصانَ، فلَو شَرَعَ في صَلاةِ النَّفلِ في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ المَنهيِّ عنِ الصَّلاةِ فيها يَجِبُ عليه إتمامُها، ولَو أفسَدَ هذه الصَّلاةَ يَجِبُ عليه قَضاؤُها [1181] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 421)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 294)، ((البدر الطالع)) للمحلي (1/331)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 111). .
3- حُكمُ البَيعِ وقتَ النِّداءِ للجُمُعةِ:
نَهى اللهُ تعالى عنِ البَيعِ وقتَ النِّداءِ للجُمُعةِ على مَن كان مخاطَبًا بفرضِها، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9] .
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِه إذا وقَعَ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ هذا البَيعَ يَقَعُ فاسدًا، ويَجِبُ فسخُه. وهو المَشهورُ عِندَ المالِكيَّةِ [1182] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (20/475)، ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1/166)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/388). ، والحَنابِلةِ [1183] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (3/162)، ((شرح منتهى الإرادات)) للبهوتي (3/155). ، وابنِ حَزمٍ الظَّاهِريِّ [1184] يُنظر: ((المحلى)) (5/79). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ البَيعَ صحيحٌ ولا يُفسَخُ، مَعَ الخِلافِ في كَونِه محرَّمًا أو مكروهًا. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1185] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/341)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/270). ، وأحَدُ قَولَيِ المالِكيَّةِ [1186] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (1/273)، ((حاشية الدسوقي)) (1/388). ، والشَّافِعيَّةِ [1187] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (4/366). .
فمَن قال بالقَولِ الأوَّلِ فقد خَرَّجَه على أنَّ النَّهيَ يَقتَضي الفسادَ؛ لتَعَلُّقِ حَقِّ اللهِ تعالى به، وهو التَّقاعُدُ والتَّشاغُلُ بهذا البَيعِ عن طاعَتِه.
ومَن قال بالقَولِ الثَّاني فقد خَرَّجَه على أنَّ البَيعَ لَم يَحرُمْ لعَينِه، فالنَّهيُ ليس لمَعنًى في ذاتِ البَيعِ، وإنَّما هو لمَعنًى مُجاوِرٍ له غَيرِ لازِمٍ لذاتِه، وهو الاشتِغالُ به عنِ السَّعيِ إلى الجُمُعةِ، فإذا وقَعَ البَيعُ مستوفيًا الشُّروطَ والأركانَ كان صحيحًا، ولا يَكونُ فاسدًا، ولا يَجِبُ فسخُه إن وَقَع [1188] يُنظر: ((أحكام القرآن)) للجصاص (5/342)، ((أصول السرخسي)) (1/81)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 154)، ((قواعد الأحكام)) للعز بنِ عبدِ السلام (2/33)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 422). .
4- حُكمُ البُيوعِ المَنهيِّ عنها:
ورَدَ في الشَّريعةِ النَّهيُ عن أنواعٍ مِنَ البُيوعِ، وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في فسادِها بناءً على اختِلافِهم في اقتِضاءِ النَّهيِ الفسادَ.
ومِن هذه البُيوعِ: البَيعُ بجَعلِ الخَمرِ أوِ الخِنزيرِ ثمنًا للمَبيعِ، والبَيعُ المُشتَمِلُ على الرِّبا، والبَيعُ بشَرطٍ يُنافي مُقتَضى العَقدِ، كَأن يَقولَ: بِعتُك هذا الثَّوبَ بألفٍ على أن تَبيعَني دارَك بألفَينِ.
وقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ هذه البُيوعِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ هذه البُيوعَ فاسِدةٌ أو باطِلةٌ، لا يَثبُتُ بها المِلكُ. وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ [1189] يُنظر: ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/445)، ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (2/41). .
القَولُ الثَّاني: أنَّها فاسِدةٌ لا باطِلةٌ، فيَثبُتُ المِلكُ للمُشتَري. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1190] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (13/22). .
فمَن قال بالقَولِ الأوَّلِ فقد خَرَّجَه على أنَّ هذه البُيوعَ مَنهيٌّ عنها لوصفٍ مُلازِمٍ لها، فإذا وقَعَت وقَعَت غَيرَ مَشروعةٍ، فلا تَنعَقِدُ ولا يَتَرَتَّبُ عليها أيُّ أثَرٍ مِنَ الآثارِ التي رَتَّبَها الشَّارِعُ على العُقودِ الصَّحيحةِ.
ومَن قال بالقَولِ الثَّاني، وهمُ الحَنَفيَّةُ، فقد خَرَّجَه على أنَّ النَّهيَ عنها ليس لذاتِها، بَل لوصفٍ لازِمٍ لها خارِجٍ عن حَقيقةِ البَيعِ، فإذا وقَعَ البَيعُ وقَعَ صحيحًا على حَقيقَتِه؛ لأنَّ الخَلَلَ في الوَصفِ لا في الذَّاتِ، فهيَ مَشروعةٌ بأصلِها غَيرُ مَشروعةٍ بوَصفِها، وتَتَرَتَّبُ عليها بَعضُ الآثارِ التي تَتَرَتَّبُ على العُقودِ الصَّحيحةِ فهيَ مَعَ النَّهيِ عنها لوَصفِها ظَلَّت صالِحةً لأن تَكونَ سببًا للمِلكِ، بَينَما الباطِلُ لا يَكونُ كذلك [1191] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/89)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 155)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/268)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 366). .

انظر أيضا: