موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: أقسامُ المَنطوقِ غَيرِ الصَّريحِ


أوَّلًا: ما كان مَقصودًا للمُتَكَلِّمِ
1- دَلالةُ الاقتِضاءِ:
دَلالةُ الاقتِضاءِ: هيَ دَلالةُ الكَلامِ على مَعنًى مُقدَّرٍ لازِمٍ للمَعنى المَنطوقِ، مُتَقدِّمٍ عليه، يَتَوقَّفُ على تَقديرِه صِدقُ الكَلامِ أو صِحَّتُه شَرعًا أو عقلًا [2278] يُنظر: ((المناهج الأصولية)) للدريني (ص: 275)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 379). .
فصِحَّةُ الكَلامِ واستِقامةُ مَعناه يَقتَضي التَّقديرَ فيه، وكذلك صِدقُ الكَلامِ ومُطابَقَتُه للواقِعِ يَقتَضي التَّقديرَ فيه بما هو خارِجٌ عنه.
فالدَّلالةُ على المَعنى المُقدَّرِ تُسَمَّى اقتِضاءً؛ لأنَّ استِقامةَ الكَلامِ تَقتَضيه وتَستَدعيه.
والباعِثُ على التَّقديرِ والزِّيادةِ: هو المُقتَضي.
والمَعنى الضَّروريُّ المُقدَّرُ مُقدَّمًا الذي تَطَلَّبَه الكَلامُ، وهو زيادةٌ على النَّصِّ لَم يَتَحَقَّقْ مَعنى النَّصِّ بدونِها، فاقتَضاها النَّصُّ ليَتَحَقَّقَ مَعناه ولا يَلغو: هو المُقتَضى.
وما ثَبَتَ بالتَّقديرِ والزِّيادةِ: هو حُكمُ المُقتَضى [2279] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 135)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/75)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/146). .
أقسامُ دَلالةِ الاقتِضاءِ:
تَنقَسِمُ دَلالةُ الاقتِضاءِ، أوِ المُقتَضى -وهو المَعنى الزَّائِدُ الذي يَستَدعيه النَّصُّ، وتَتَوقَّفُ استِقامةُ مَعناه عليه- إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
1- ما يَتَوقَّفُ عليه صِدقُ الكَلامِ.
2- ما يَتَوقَّفُ عليه صِحَّةُ الكَلامِ شَرعًا.
3- ما يَتَوقَّفُ عليه صِحَّةُ الكَلامِ عَقلًا [2280] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 263)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (2/288)، ((المناهج الأصولية)) للدريني (ص: 276). .
قال الغَزاليُّ: (ما يُسَمَّى اقتِضاءً، وهو الذي لا يَدُلُّ عليه اللَّفظُ، ولا يَكونُ مَنطوقًا به، ولَكِن يَكونُ مِن ضَرورةِ اللَّفظِ: إمَّا مِن حَيثُ لا يُمكِنُ كَونُ المُتَكَلِّمِ صادِقًا إلَّا به، أو مِن حَيثُ يَمتَنِعُ وُجودُ المَلفوظِ شَرعًا إلَّا به، أو مِن حَيثُ يَمتَنِعُ ثُبوتُه عَقلًا إلَّا به) [2281] ((المستصفى)) (ص: 263). .
القِسمُ الأوَّلُ: ما يَتَوقَّفُ عليه صِدقُ الكَلامِ؛ إذ لَولا تَقديرُه مُقدَّمًا لَكان مَعنى الكَلامِ كَذِبًا ومُخالِفًا للواقِعِ
عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((صَلَّى لَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ العَصرِ، فسَلَّمَ في رَكعَتَينِ، فقامَ ذو اليَدَينِ فقال: أقصَرَتِ الصَّلاةُ يا رَسولَ اللهِ أم نَسيتَ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: كُلُّ ذلك لَم يَكُنْ! فقال: قد كان بَعضُ ذلك يا رَسولَ اللهِ، فأقبَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على النَّاسِ فقال: أصدَق ذو اليَدَينِ؟! فقالوا: نَعَم، يا رَسولَ اللهِ. فأتَمَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما بَقيَ مِنَ الصَّلاةِ، ثُمَّ سَجَدَ سَجدَتَينِ وهو جالِسٌ، بَعدَ التَّسليمِ)) [2282] أخرجه مسلم (573). .
فقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لذي اليَدَينِ: "كُلُّ ذلك لَم يَكُنْ"، أي: في ظَنِّي؛ لأنَّه دونَ ذلك المَحذوفِ يَكونُ كَذِبًا؛ لأنَّه قد وقَعَ بالفِعلِ واحِدٌ مِنهما [2283] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/127)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 282). ؛ فقد أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ اعتِقادِ قَلبِه وظَنِّه، فكَأنَّه مُقدَّرُ النُّطقِ به، وإن كان مَحذوفًا؛ لأنَّه لَو صَرَّحَ به وقال: كُلُّ ذلك لَم يَكُنْ في ظَنِّي، ثُمَّ كَشَف الغَيبُ أنَّه كان، لَم يَكُنْ كاذِبًا، فكذلك إذا قُدِّرَ ذلك مَحذوفًا مُرادًا [2284] يُنظر: ((المعلم)) للمازري (1/421)، ((إحكام الإحكام)) لابن دقيق العيد (1/273). .
القِسمُ الثَّاني: ما وجَبَ إضمارُه ضَرورةَ صِحَّةِ الكَلامِ شَرعًا
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 184] ؛ حَيثُ قدَّرَ الأُصوليُّونَ هنا مُضمَرًا، هو: "فأفطَرَ"، وبذلك يَكونُ مَعنى النَّصِّ: فمَن كان مِنكُم مَريضًا أو على سَفَرٍ فأفطَرَ فعِدَّةٌ مِن أيَّامٍ أُخَرَ، أي: فعليه صيامُ عِدَّةٍ مِن أيَّامٍ أُخَرَ [2285] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (1/179)، ((مفاتيح الغيب)) للرازي (5/245)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/500). .
فالجُمهورُ على صِحَّةِ صَومِ رَمَضانَ في السَّفرِ [2286] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (3/91)، ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) للقاضي عبد الوهاب (1/442)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (2/367)، ((المغني)) لابن قدامة (4/406). ، خِلافًا لابنِ حَزمٍ الذي يَرى حُرمةَ هذا الصَّومِ في السَّفَرِ، ووُجوبَ الفِطرِ على المُكَلَّفِ [2287] يُنظر: ((المحلى)) (4/384). .
وعليه: فقَضاءُ الصَّومِ على المُسافِرِ -عِندَ الجُمهورِ- إنَّما يَجِبُ إذا أفطَرَ في السَّفرِ، أمَّا إذا صامَ في سَفرِه فلا موجِبَ للقَضاءِ، وعلى هذا فلا بُدَّ مِن إضمارِ "فأفطَرَ" في الآيةِ؛ لأنَّ قَضاءَ الصَّومِ على المُسافِرِ إنَّما يَجِبُ إذا أفطَرَ في سَفرِه؛ إذ لا يَجِبُ الصَّومُ بنَفسِ المَرَضِ والسَّفَرِ، أمَّا إذا صامَ في سَفرِه فلا موجِبَ للقَضاءِ [2288] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 77)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/710)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/500). .
القِسمُ الثَّالِثُ: ما وجَبَ إضمارُه ضَرورةَ صِحَّةِ الكَلامِ عَقلًا
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا [يوسف: 82] ؛ فإنَّ السُّؤالَ إنَّما يَصِحُّ عَقلًا مِمَّا يَصِحُّ منه الجَوابُ، والقَريةُ -التي هيَ الجُدرانُ والأبنيةُ- لا يَصحُّ منها ذلك؛ لأنَّ تَوجيهَ السُّؤالِ إلى القَريةِ لا يُعقَلُ، فوجَبَ ضَرورةَ تَصحيحِ الكَلامِ عَقلًا إضمارُ ما يَصِحُّ سُؤالُه وجَوابُه، وهو أهلُ القَريةِ؛ إذ لَو لَم يُقدَّرْ لَم يَصِحَّ عَقلًا، لأنَّ سُؤالَ القَريةِ لا يَصِحُّ عَقلًا [2289] يُنظر: ((تحفة المسؤول)) للرهوني (3/321)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/711). .
2- دَلالةُ الإيماءِ:
مَعنى دَلالةِ الإيماءِ: دَلالةُ اللَّفظِ على لازِمٍ مَقصودٍ للمُتَكَلِّمِ لا يَتَوقَّفُ عليه صِدقُ الكَلامِ ولا صِحَّتُه عقلًا أو شَرعًا [2290] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/397)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1734). .
مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائِدة: 38] أي: لأجلِ السَّرِقةِ؛ فإنَّ الحُكمَ -وهو قَطعُ يَدِ السَّارِقِ- رَتَّبَه الشَّارِعُ على السَّرِقةِ، فالآيةُ قد أومَأَت إلى عِلَّةِ قَطعِ اليَدِ، وهيَ: السَّرِقةُ [2291] يُنظر: ((أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم)) لمحمد الأشقر (1/397)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1734). .
وهذا القِسمُ قد سَمَّاه بَعضُ الأُصوليِّينَ: بالتَّنبيهِ، وسَمَّاه بَعضُهم بفحوى الكَلامِ، وسَمَّاه بَعضُهم بلَحنِ الكَلامِ [2292] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1734). .
وقد سَبَقَ ذِكرُ دَلالةِ الإيماءِ على العِلَّةِ، وبَيانِ أقسامِه وأمثِلَتِه في طُرُقِ إثباتِ العِلَّةِ في القياسِ.
ثانيًا: ما لَم يَكُنْ مَقصودًا للمُتَكَلِّمِ (دَلالةُ الإشارةِ)
هيَ دَلالةُ اللَّفظِ على حُكمٍ غَيرِ مَقصودٍ لا أصالةً ولا تَبَعًا، ولا سيقَ له النَّصُّ، ولَكِنَّه لازِمٌ للحُكمِ الذي سيقَ الكَلامُ لإفادَتِه، وليس بظاهرٍ مِن كُلِّ وَجهٍ.
فهيَ مَعنًى لا يَتَبادَرُ فهمُه مِن ألفاظِه، ولا يُقصَدُ مِن سياقِه أصالةً ولا تبعًا، ولَكِنَّه لازِمٌ للمَعنى المُتَبادِرِ مِن ألفاظِه.
فالدَّلالةُ بالإشارةِ ثَبَتَت مِنَ اللَّفظِ لُغةً، ولَكِنَّها لَم يُسَقِ الكَلامُ لأجلِها.
ومَعنى (وليس بظاهرٍ مِن كُلِّ وجهٍ): أنَّ الاستِدلالَ بالإشارةِ قد يَكونُ ظاهرًا ويُفهَمُ بأدنى تَأمُّلٍ، وقد يَكونُ خَفيًّا يَحتاجُ إلى دِقَّةٍ ونَظَرٍ وتَأمُّلٍ؛ وذلك لأنَّ الثَّابِتَ بطَريقِ الإشارةِ لمَّا لم يُسَقْ له الكَلامُ فلا بُدَّ مِن أن يَكونَ فيه نَوعُ غُموضٍ، فيَحتاجُ إلى التَّأمُّلِ.
لذلك يَختَلِفُ فيه العُلَماءُ لإدراكِه وفهمِه، ويَحتاجُ إلى أهلِ الاختِصاصِ أوِ الاجتِهادِ مِمَّن يَكونُ عالِمًا باللِّسانِ العَرَبيِّ وأسرارِ اللُّغةِ [2293] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/236)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/68)، ((المناهج الأصولية)) للدريني (ص: 225)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/140). .
مِثالُها: قَولُ اللهِ تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] ، ثُمَّ قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] ، فيُعلَمُ منه جَوازُ الإصباحِ جُنُبًا، وعَدَمُ إفسادِه للصَّومِ، ولا شَكَّ أنَّه لَم يُقصَدْ في الآيةِ، ولَكِن لَزِمَ مِنِ استِغراقِ اللَّيلِ بالرَّفَثِ والمُباشَرةِ أنَّه إلى التَّطَهُّرِ يَكونُ جُنُبًا في جُزءٍ مِنَ النَّهارِ قَطعًا.
فيُفهَمُ منه بالإشارةِ أنَّ مَن أصبَحَ جُنُبًا بَعدَ الفَجرِ فصَومُه صحيحٌ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أباحَ الجِماعَ إلى قُبَيلِ طُلوعِ الفَجرِ، فيَلزَمُ منه أن يَطلُعَ الفَجرُ وهو جُنُبٌ. وهذا المَعنى غَيرُ مَقصودٍ بالسِّياقِ، لَكِنَّه لازِمٌ للمَعنى السَّابِقِ [2294] يُنظر: ((شرح العضد)) (3/161)، ((تحفة المسؤول)) للرهوني (3/323). .
الفَرقُ بَينَ دَلالةِ العِبارةِ ودَلالةِ الإشارةِ:
تَتَّفِقُ كُلٌّ مِنَ العِبارةِ والإشارةِ في أنَّ دَلالةَ كُلٍّ مِنهما على المَعنى قَطعيَّةٌ، ويَثبُتُ الحُكمُ بكُلٍّ مِنهما قطعًا إلَّا إذا وُجِدَ احتِمالٌ ناشِئٌ عن دَليلٍ، فتَكونُ الدَّلالةُ ظَنِّيَّةً.
وتَختَلِفانِ في أنَّ الثَّابِتَ بالعِبارةِ أقوى مِنَ الثَّابِتِ بالإشارةِ؛ لأنَّ الثَّابِتَ بالعِبارةِ يَدُلُّ عليه النَّصُّ صَراحةً، وسيقَ الكَلامُ لأجلِه، فالحُكمُ فيها مَقصودٌ أوَّلًا وبالذَّات.
أمَّا الثَّابِتُ بالإشارةِ فهو ما يَلزَمُ مِن حُكمِ العِبارةِ، أي: بالدَّلالةِ الالتِزاميَّةِ، والحُكمُ لَم يُسَقِ الكَلامُ لأجلِه، ولمَّا كانت هذه الدَّلالةُ الالتِزاميَّةُ تَحتاجُ إلى تَأمُّلٍ وبَحثٍ؛ لذلك يَقَعُ فيها الاختِلافُ بَينَ العُلَماءِ.
ويَتَرَتَّبُ على ذلك أنَّه إذا وقَعَ تَعارُضٌ بَينَ دَلالةِ العِبارةِ ودَلالةِ الإشارةِ، قُدِّمَ الحُكمُ الثَّابِتُ بالعِبارةِ؛ لأنَّه مَقصودٌ بذاتِه، وهو أقوى مِنَ الحُكمِ الثَّابِتِ بالإشارةِ.
ومِن أمثِلةِ التَّعارُضِ: ما دَلَّ عليه كُلٌّ مِنَ الآيَتَينِ في قَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [البقرة: 178] ، وقَولِه تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] .
فالآيةُ الأولى دَلَّت بعِبارةِ النَّصِّ على وُجوبِ القِصاصِ مِنَ القاتِلِ المُعتَدي عَمدًا، والآيةُ الثَّانيةُ دَلَّت بإشارةِ النَّصِّ على عَدَمِ القِصاصِ مِنَ القاتِلِ المُعتَدي؛ لأنَّها جَعَلَت جَزاءَه الخُلودَ في جَهَنَّمَ، والغَضَبَ عليه مِنَ اللهِ تعالى، والعَذابَ العَظيمَ المُعَدَّ له، واقتَصَرَتِ الآيةُ على ذلك في مَقامِ البَيانِ لعُقوبَتِه، وأنَّ ذلك يُفيدُ الحَصرَ، فيَلزَمُ منه أنَّه لا عُقوبةَ على القاتِلِ العامِدِ في الدُّنيا.
واتَّفقَ العُلَماءُ على أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ بالعِبارةِ مِنَ الآيةِ الأولى، وهو القِصاصُ مِنَ القاتِلِ عَمدًا، مُقدَّمٌ على الحُكمِ الثَّابِتِ بالإشارةِ مِنَ الآيةِ الثَّانيةِ، ويُعاقَبُ القاتِلُ عمدًا عُدوانًا في الدُّنيا بالقِصاصِ مِنه.
ومِن أمثِلةِ التَّعارُضِ أيضًا: ما دَلَّت عليه آيةُ الرَّضاعةِ في قَولِ اللهِ سُبحانَه: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة: 233] ، فهذه الآيةُ دَلَّت بالإشارةِ على أنَّ الأبَ مُقدَّمٌ في استِحقاقِه النَّفقةَ من مالِ ابنِه على مَن سِواه مِمَّن لهم حَقُّ النَّفقةِ مِنَ الأقارِبِ، بما في ذلك الأُمُّ، ففي حالةِ قُدرةِ الابنِ على نَفَقةِ واحِدٍ فقَط، فيُقدَّمُ الأبُ على الأُمِّ.
لَكِن ثَبتَ أنَّ رجلًا سَألَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحابَتي يا رَسولَ اللهِ؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أُمُّك)) وكَرَّرَها ثَلاثًا، ثُمَّ قال: ((أبوك)) [2295] عن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: يا رَسولَ اللهِ، مَن أحَقُّ النَّاسِ بحُسنِ صَحابَتي؟ قال: أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أُمُّكَ، قال: ثُمَّ مَن؟ قال: ثُمَّ أبوكَ. أخرجه البخاري (5971) واللَّفظُ له، ومسلم (2548). .
فيَدُلُّ الحَديثُ بالعِبارةِ على تَقديمِ الأُمِّ على الأبِ بالنَّفقةِ، والثَّابِتُ بعِبارةِ النَّصِّ أقوى، ويُقدَّمُ على الثَّابِتِ بإشارةِ النَّصِّ، فتَكونُ الأُمُّ أَولى مِنَ الأبِ في النَّفَقةِ [2296] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/237)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/68)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/91)، ((المناهج الأصولية)) للدريني (ص: 228)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/142). .

انظر أيضا: