موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: مَراتِبُ مَفاهيمِ المُخالَفةِ بحَسَبِ القوَّةِ


تَتَفاوتُ رُتَبُ مَفاهيمِ المُخالَفةِ في القوَّةِ [2457] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/362)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 129، 135)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/104)، ((الأصل الجامع)) للسيناوني (1/58)، ((نثر الورود)) (1/94)، ((أضواء البيان)) (1/365) كلاهما لمحمد الأمين الشنقيطي. ، وفائِدةُ التَّفاوُتِ في القوَّةِ: تَقديمُ الأقوى عِندَ وُقوعِ التَّعارُضِ بَينَها.
وأقوى مَفاهيمِ المُخالَفةِ: مَفهومُ الحَصرِ بأداةِ النَّفيِ والإثباتِ، نَحوُ: "لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ"، وكقَولِ بَعضِهم: "لا يُرشِدُ النَّاسَ إلَّا العُلَماءُ" ونَحوِه مِن كُلِّ كَلامٍ يَشتَمِلُ على نَفيٍ واستِثناءٍ، فمَنطوقُه عِندَ الأُصوليِّينَ نَفيُ الإرشادِ عن غَيرِ العُلَماءِ، ومَفهومُه إثباتُ الإرشادِ لهم. وإنَّما كان مَفهومُ الحَصرِ بأداةِ النَّفيِ والإثباتِ أقوى؛ لأنَّه قيلَ: إنَّه مَنطوقٌ بالصَّراحةِ والوضعِ؛ لسُرعةِ تَبادُرِ الإثباتِ منه إلى الأذهانِ.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ في القوَّةِ مِن مَراتِبِ مَفهومِ المُخالَفةِ هو ما قيلَ فيه: إنَّه مَنطوقٌ بالإشارةِ، كمَفهومِ "إنَّما"، ومَفهومِ الغايةِ؛ فإنَّهما يَليانِ النَّفيَ والإثباتَ في القوَّةِ، كقَولِ اللهِ تعالى: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور: 16] يُفهَمُ منه أنَّ الإنسانَ لا توزَنُ له حَسَنةٌ لَم يَعمَلْها ولا سَيِّئةٌ لَم يَعمَلْها، وقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] يُفهَمُ منه حِلِّيَّتُها له إن نَكَحَت غَيرَه، ومِمَّن قال بأنَّ مَفهومَ "إنَّما" والغايةِ مَنطوقٌ: القاضي أبو بَكرٍ الباقِلَّانيُّ. وهذا القَولُ بناءً على كَونِ المَنطوقِ منه غَيرَ صَريحٍ.
المَرتَبةُ الثَّالِثةُ في القوَّةِ مِن مَراتِبِ مَفهومِ المُخالَفةِ هيَ: مَفهومُ الشَّرطِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 6] ، وإنَّما كان مَفهومُ الشَّرطِ بَعدَ مَفهومِ الغايةِ، و"إنَّما"؛ لأنَّ مَفهومَ الشَّرطِ لَم يُنقَلْ أنَّه مَنطوقٌ، بخِلافِهما، ولأنَّ الغايةَ قد قال بها مَن أنكَرَ الشَّرطَ.
المَرتَبةُ الرَّابِعةُ: مَفهومُ الصِّفةِ المُناسِبةِ للحُكمِ، والمُناسِبُ: ما تَتَضَمَّنُ إناطةُ الحُكمِ به مَصلَحةً، نَحوُ حَديثِ أنَّ في الغَنَمِ السَّائِمةِ زَكاةً [2458] أخرجه البخاري (1454). عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. . ووَجهُ مُناسَبةِ الوَصفِ بالسَّومِ أنَّ الموجِبَ للزَّكاةِ نِعمةُ المِلكِ، وهيَ مَعَ السَّومِ أتَمُّ منها مَعَ العَلَفِ، وإنَّما تَأخَّرَ هذا عن مَفهومِ الشَّرطِ؛ لأنَّ بَعضَ القائِلينَ بمَفهومِ الشَّرطِ خالَف في مَفهومِ الوَصفِ المُناسِبِ.
قال العَضُدُ: (مَفهومُ الشَّرطِ أقوى مِن مَفهومِ الصِّفةِ؛ فكُلُّ مَن قال بمَفهومِ الصِّفةِ قال به، وقد قال به بَعضُ مَن لا يَقولُ بمَفهومِ الصِّفةِ) [2459] ((شرح العضد)) (3/188). .
المَرتَبةُ الخامِسةُ: مَفهومُ الصِّفةِ التي لم تَظهَرْ لها مُناسَبةٌ، كما لَو قال: في الغَنَمِ العُفرِ [2460] أي: البِيضِ بَياضًا غَيرَ ناصِعٍ. يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (2/ 77). زَكاةٌ؛ فإناطةُ الحُكمِ بوَصفِ "العفرِ" لا تَظهَرُ مُناسَبَتُه. وهذا المِثالُ وَصفٌ طَرديٌّ لا تَصلُحُ إناطةُ الأحكامِ به في المُعامَلاتِ، وأمَّا التَّعبُّديَّاتُ فلا يُشتَرَطُ فيها ظُهورُ العِلَّةِ؛ ولذلك مَثَّلوا به في الزَّكاةِ لأنَّها تَعَبُّديَّةٌ، فلَو فُرِضَ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: "في الغَنَمِ العُفرِ زَكاةٌ"، لَقال العُلَماءُ بأنَّ غَيرَ العُفرِ لا زَكاةَ فيها، وإن كانت مُناسَبةُ الوصفِ بالعفرِ غَيرُ ظاهرةٍ.
المَرتَبةُ السَّادِسةُ: مَفهومُ العَدَدِ، نَحوُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ، ووُجوبِ الطَّوافِ بالبَيتِ وبَينَ الصَّفا والمَروةِ سَبعًا، وإنَّما تَأخَّرَ العَدَدُ عَمَّا قَبلَه؛ لأنَّ قَومًا مِنَ القائِلينَ بمَفهومِ الصِّفةِ أنكَروا مَفهومَ العَدَدِ.
المَرتَبةُ السَّابِعةُ: مَفهومُ تَقديمِ المَعمولِ؛ فإنَّه يُفهَمُ منه الحَصرُ، كقَولِه تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] ؛ حَيثُ يُفهَمُ منه عَدَمُ عِبادةِ غَيرِه.
وأضعَفُ أنواعِ مَفهومِ المُخالَفةِ هو مَفهومُ اللَّقَبِ. وضابِطُ اللَّقَبِ: هو الاسمُ الجامِدُ، كَأسماءِ الأجناسِ، والعَلَمِ بأنواعِه الثَّلاثةِ، وأسماءِ الجُموعِ. وجُمهورُ العُلَماءِ على أنَّ اللَّقَبَ لا مَفهومَ له؛ لأنَّه رُبَّما كان اعتِبارُه كُفرًا، كقَولِ اللهِ تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] فإنَّه لَو قال أحَدٌ فيه بمَفهومِ اللَّقَبِ فقال: يُفهَمُ منه أنَّ غَيرَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَكُنْ رَسولًا؛ فإنَّه يَكفُرُ.

انظر أيضا: