موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّالِثةُ: أقسامُ مَفهومِ المُخالَفةِ


أوَّلًا: مَفهومُ اللَّقَبِ
وهو تَعليقُ الحُكمِ بالِاسمِ العَلَمِ -نَحوُ: قامَ زَيدٌ-، أو باسِمِ نَوعٍ، نَحوُ: في الغَنَمِ زَكاةٌ. فلا يَدُلُّ على نَفيِ الحُكمِ عَمَّا عَداه [2373] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/95)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/148)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/45). .
قال الكورانيُّ: (هو عِبارة عَمَّا يُفهَمُ مِن تَعليقِ الحُكمِ بالِاسمِ الخالي عن مَعنى الوصفيَّة، عَلَمًا كان أو غَيرَه) [2374] ((الدرر اللوامع)) (1/464). .
وسُمِّيَ بمَفهومِ اللَّقَبِ؛ لأنَّ الحُكمَ فيه مُقَيَّدٌ باللَّقَبِ، ومَعنى اللَّقَبِ: اسمُ عَلَمٍ، واسمُ جِنسٍ [2375] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/526). .
مِثالُه في اسمِ عَلَمٍ: قَولُك: زَيدٌ قائِمٌ، مَفهومُه: أنَّ غَيرَ زَيدٍ لَم يَقُمْ.
ومِثالُه في اسمِ الجِنسِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ، والتَّمرُ بالتَّمرِ، والمِلحُ بالمِلحِ: رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ)) [2376] أخرجه البخاري (2134)، ومسلم (1586) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه، ولَفظُ البخاريِّ: ((الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والتَّمرُ بالتَّمرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ، والشَّعيرُ بالشَّعيرِ رِبًا إلَّا هاءَ وهاءَ)). . مَفهومُه: لا رِبًا في غَيرِها مِن سائِرِ الأجناسِ [2377] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/70)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/526). .
ثانيًا: مَفهومُ الصِّفةِ
وهو أن يَخُصَّ بَعضَ الأوصافِ التي تَطرَأُ وتَزولُ بالحُكمِ [2378] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/134)، ((قواعد الأصول ومعاقد الفصول)) لصفي الدين البغدادي (ص: 129). .
مِثالُه: حَديثُ: ((وفي صَدَقةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها...)) [2379] أخرجه البخاري (1454). عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. . مَفهومُه: أنَّ ما ليس بسائِمةٍ لا يَجِبُ فيها الزَّكاةُ [2380] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/260)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/2045). .
والتَّقييدُ بالصِّفةِ له فوائِدُ، منها [2381] يُنظر: ((المعتمد)) لأبي الحسين البصري (1/151)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/239). :
1- أنَّ اللَّفظَ لَو أُطلِقَ في بَعضِ المَواضِعِ لَتَوهَّمَ مُتَوهِّمٌ أنَّ الصِّفةَ خارِجةٌ عنه، فتُذكَرُ الصِّفةُ لإزالةِ هذا الإيهامِ، وهذا مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ [الإسراء: 31] ؛ فإنَّه لَو أطلَقَ لَكان يَجوزُ أن يَتَوهَّمَ به مُتَوهِّمٌ أنَّه لَم يُرِدْ عِندَ خَشيةِ الإملاقِ، فذَكَر اللهُ تعالى خَشيةَ الإملاقِ ليَدفَعَ هذا الإيهامَ، وهذا غَرَضٌ صحيحٌ.
2- أن تَكونَ البَلوى قد وقَعَت بالصِّفةِ المَذكورةِ، وما عَداها لَم يَشتَبِهْ على النَّاسِ، فيُقَيِّدُ اللهُ تعالى الخِطابَ بالصِّفةِ لاختِصاصِ البَلوى بها، وهذا أيضًا مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ.
3- أن يَكونَ غَرَضُ الشَّارِعِ أن يُعلَمَ حُكمُ المَنصوصِ بالنَّصِّ، ويُعرَفَ حُكمُ ما عَداه بالقياسِ أو بدَليلٍ، وهذا غَيرُ مُمتَنِعٍ، كما لَم يَمتَنِعْ أن يُعرَفَ حُكمُ الأجناسِ السِّتَّةِ في الرِّبا بالنَّصِّ، ويُعرَفَ حُكمُ ما عَداها بالقياسِ عليها. وفى تَعريضِ المُجتَهدِ للِاجتِهادِ تَعريضُه للثَّوابِ، وهو نَفعٌ عَظيمٌ، وغَرَضٌ صحيحٌ.
ثالِثًا: مَفهومُ الشَّرطِ
وهو أن يَكونَ الحُكمُ على الشَّيءِ مُقَيَّدًا بالشَّرطِ [2382] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/445). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ [الطلاق: 6] ؛ فإنَّه يُفيدُ انتِفاءَ وُجوبِ الإنفاقِ عِندَ انتِفاءِ الحَملِ.
وكقَولِنا: مَن تَطَهَّر صَحَّت صَلاتُه؛ فإنَّه يَدُلُّ بالِالتِزامِ على أنَّ مَن لَم يَتَطَهَّرْ لا تَصِحُّ صَلاتُه [2383] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/70)، ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/260)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/761)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/544). .
رابِعًا: مَفهومُ العَدَدِ
وهو تَعليقُ الحُكمِ بعَدَدٍ مَخصوصٍ، وذلك بأن يَخُصَّ نَوعًا مِنَ العَدَدِ بحُكمٍ؛ فإنَّه يَدُلُّ على انتِفاءِ الحُكمِ فيما عَدا ذلك العَدَدَ، زائِدًا كان أو ناقِصًا [2384] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/135)، ((الإحكام)) للآمدي (3/70)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/768)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/170). .
وتَخصيصُ مِقدارِ مِنَ العَدَدِ بحُكمٍ، كَتَخصيصِ صِفةٍ مِنَ الصِّفاتِ بحُكمٍ؛ فالأوَّلُ مِن بابِ الكَمِّ، والثَّاني مِن بابِ الكَيفِ [2385] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/769). .
ومِثالُه: تَخصيصُ حَدِّ القَذفِ بثَمانينَ في قَولِ اللهِ تعالى: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [النور: 4] ، فيُفهَمُ منه نَفيُ الزَّائِدِ والنَّاقِصِ [2386] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (2/315). .
وكقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ ولا المَصَّتانِ)) [2387] أخرجه مسلم (1450) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، بلفظِ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ. ، فيَدُلُّ على: أنَّ ما زادَ على الاثنَينِ بخِلافِهما [2388] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/135). .
وتَحقيقُ الكَلامِ في مَفهومِ العَدَدِ: أنَّ الحُكمَ إذا قُيِّدَ بعَدَدٍ مَخصوصٍ: فمِنه ما يَدُلُّ على ثُبوتِ الحُكمِ فيما زادَ على ذلك العَدَدِ بطَريقِ الأَولى، ولا يَدُلُّ على ثُبوتِه فيما نَقَصَ عنه، ومِنه ما هو بضِدِّ ذلك.
فمِثالُ الأوَّلِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا بَلَغَ الماءُ قُلَّتَينِ لَم يَحمِلِ الخَبَثَ)) [2389] أخرجه أبو داود (63)، والترمذي (67)، والدارقطني (1/18) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ خزيمة في ((الصحيح)) (1/211)، وعبد الحق الإشبيلي في ((الأحكام الوسطى)) (1/154)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/66)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (1/404)، وقال الحاكم في ((المستدرك)) (459): صَحَّ وثَبَتَ بهذه الرِّوايةِ صِحَّةُ الحَديثِ. ؛ فإنَّه يَدُلُّ بطَريقِ الأَولى على أنَّ ما زادَ على القُلَّتَينِ لا يَحمِلُ الخَبَثَ، ولَم يَدُلَّ على ذلك فيما دونَ القُلَّتَينِ.
ومِثالُ الثَّاني: إذا قيلَ: اجلِدوا الزَّانيَ مِائةَ جَلدةٍ؛ فإنَّه يَدُلُّ بطَريقِ الأَولى على وُجوبِ جَلدِه تِسعينَ وما قَبلَها مِن مَقاديرِ العَدَدِ؛ لدُخولِه في المِائةِ بالتَّضَمُّنِ، ولَم يَدُلَّ على الزِّيادةِ على المِائةِ.
وعلى ذلك فما لَم يَدُلَّ عليه التَّقييدُ بطَريقِ الأَولى، كالنَّاقِصِ عنِ القُلَّتَينِ، والزَّائِدِ عن مِائةِ سَوطٍ: هو مَحَلُّ النِّزاعِ في مَفهومِ العَدَدِ؛ لأنَّ ما يُفهَمُ بطَريقِ الأَولى يَكونُ مِن بابِ مَفهومِ الموافَقةِ، فلا يَتَّجِهُ فيه الخِلافُ [2390] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/771). .
خامِسًا: مَفهومُ الغايةِ
وهو مَدُّ الحُكمِ إلى غايةٍ بصَريحِ الكَلامِ بصيغةِ "إلى" أو "حتَّى"، فيُفيدُ أنَّ حُكمَ ما بَعدَ الغايةِ يُخالِفُ ما قَبلَها؛ لأنَّ غايةَ الشَّيءِ مُنتَهاه ومُنقَطَعُه، فإذا انتَهى وانقَطَعَ لَم يَكُنْ بَعدَه إلَّا ضِدُّه [2391] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/130)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (5/2087)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/758)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/358). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ [البقرة: 230] مَفهومُه أنَّها إذا نَكَحَت زَوجًا غَيرَه حَلَّت.
وكقَولِ اللهِ تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29] ، فمَفهومُه أنَّهم لا يُقتَلونَ بَعدَ إعطاءِ الجِزيةِ [2392] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/265). .
سادِسًا: مَفهومُ الحَصرِ (حَقيقَتُه وأقسامُه وأدَواتُه)
1- حَقيقةُ مَفهومِ الحَصرِ:
هو انتِقاءُ الحُكمِ المَحصورِ عن غَيرِ ما حُصِرَ فيه، وثُبوتُ نَقيضِه له [2393] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/163). .
وسُمِّيَ بمَفهومِ الحَصرِ؛ لأنَّ الحُكمَ مَحصورٌ فيه في شَيءٍ دونَ غَيرِه [2394] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/524). .
مِثالُه: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] ؛ فإنَّ الحَصرَ المَدلولَ عليه بتَقديمِ المَعمولِ يُفهَمُ منه عَدَمُ عِبادةٍ سِواه جَلَّ وعَلا [2395] يُنظر: ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/91). .
2- أقسامُ مَفهومِ الحَصرِ:
يَنقَسِمُ مَفهومُ الحَصرِ باعتِباراتٍ [2396] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 57)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/754)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/562). :
إمَّا باعتِبارِ المَوصوفِ والصِّفةِ، وإمَّا باعتِبارِ العُمومِ والخُصوصِ، وإمَّا باعتِبارِ حَصرِ الأوَّلِ في الثَّاني، وعَكسِه.
أوَّلًا: أقسامُه باعتِبارِ المَوصوفِ والصِّفةِ
يَنقَسِمُ مَفهومُ الحَصرِ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ:
القِسمُ الأوَّلُ: حَصرُ المَوصوفِ في الصِّفةِ
مِثالُه: إنَّما زيدٌ عالِمٌ، أي: زيدٌ مَحصورٌ في هذه الصِّفةِ، وهيَ: اتِّصافُه بالعِلمِ إذا أُريدَ أنَّه لا يَتَّصِفُ بغَيرِ تلك الصِّفةِ، فلا يَكادُ يوجَدُ؛ لتَعَذُّرِ الإحاطةِ بصِفاتِ الشَّيءِ.
ومِثالُه أيضًا: زيدٌ صَديقي؛ لأنَّه حَصرَ زيدًا في صَداقَتِك، فلا يُصادِقُ غَيرَك، وأنتَ يَجوزُ أن تُصادِقَ غَيرَه؛ لأنَّك غَيرُ مَحصورٍ في صَداقَتِه.
القِسمُ الثَّاني: حَصرُ الصِّفةِ في مَوصوفِها
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] يَقتَضي حَصرَ خَشيةِ اللهِ تعالى في العُلَماءِ، فلا يَخشاه غَيرُهم، ويَجوزُ أن يَخشَوا غَيرَه تعالى بمُقتَضى دَلالةِ هذا اللَّفظِ.
ومِثالُه أيضًا: قَولُك: صَديقي زَيدٌ؛ لأنَّه حُصِرَت صَداقَتُك في زَيدٍ، فلا تُصادِقُ غَيرَه، وهو يَجوزُ أن يُصادِقَ غَيرَك؛ لأنَّه غَيرُ مُنحَصِرٍ في صَداقَتِك، على عَكسِ الأوَّلِ الذي هو حَصرُ المَوصوفِ في الصِّفةِ.
والفرقُ بَين الحصرينِ المَذكورينِ:
أنَّ المَوصوفَ في القِسمِ الأوَّلِ ليس له إلَّا تلك الصِّفةَ، ولا يَمتَنِعُ أن يُشارِكَه فيها غَيرُه.
وأمَّا المَوصوفُ في القِسمِ الثَّاني فلا يَمتَنِعُ أن يوصَفَ بغَيرِ تلك الصِّفةِ، ويَمتَنِعُ أن يُشارِكَه فيها غَيرُه.
ثانيًا: أقسامُ مَفهومِ الحَصرِ باعتِبارِ عُمومِه وخُصوصِه:
يَنقَسِمُ مَفهومُ الحَصرِ بهذا الاعتِبارِ إلى قِسمَينِ:
أحَدُهما: عامٌّ. والثَّاني: خاصٌّ.
وعلى تَقديرِ القِسمَينِ المَذكورَينِ، وهما: حَصرُ المَوصوفِ في الصِّفةِ، وحَصرُ الصِّفةِ في المَوصوفِ، قد يَكونُ الحَصرُ في التَّقديرَينِ عامًّا، وقد يَكونُ في التَّقديرَينِ خاصًّا.
الأوَّلُ: قد يَكونُ الحَصرُ عامًّا في مُتَعَلِّقِه، نَحوُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الماءُ مِنَ الماءِ)) [2397] أخرجه مسلم (343) من حديثِ أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صَلاةً بغَيرِ طُهورٍ)) [2398] أخرجه مسلم (224) باختِلافٍ يَسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، بلفظ: ((لا تُقبَلُ صَلاةٌ بغَيرِ طُهورٍ)). ، وقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((تَحريمُها التَّكبيرُ، وتَحليلُها التَّسليمُ)) [2399] أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه القُرطُبيُّ في ((التفسير)) (1/268)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (61)، وحَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/184)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/348)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/230). .
فهذه الأمثِلةُ كُلُّها تَعُمُّ مُتَعَلِّقَها ولا تَخُصُّه.
الثَّاني: قد يَكونُ الحَصرُ خاصًّا ببَعضِ ما تعَلَّق به، ولا يَعُمُّ جَميعَ مُتَعَلِّقِه، نَحوُ: قَولُ اللهِ تعالى: إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: 7] ؛ لأنَّ هذه الآيةَ الكَريمةَ تَقتَضي حَصرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صِفةٍ واحِدةٍ، وهيَ الإنذارُ خاصَّةً، مَعَ أنَّه عليه السَّلامُ مَوصوفٌ بغَيرِ هذه الصِّفةِ مِنَ البِشارةِ، والشَّجاعةِ، والعِلمِ، والحِلمِ، والصَّبرِ، والجودِ، والكَرَمِ، والزُّهدِ، والورَعِ، وغَيرِ ذلك مِن سائِرِ الأوصافِ الجَميلةِ.
لَكِنَّ هذا الحَصرَ المَذكورَ في هذه الآيةِ خاصٌّ في تَعَلُّقِه؛ لأنَّه مَخصوصٌ بطائِفةِ الكُفَّارِ دونَ غَيرِهم، فحَصرُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الإنذارِ إنَّما ذلك باعتِبارِ الكُفَّارِ دونَ غَيرِهم؛ فإنَّ حَظَّ الكُفَّارِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما هو الإنذارُ ليس إلَّا، ولا يوصَفُ بغَيرِ الإنذارِ باعتِبارِ الكُفَّارِ؛ لقَولِه تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [الرعد: 7] .
وإن لَم يُحمَلِ الحَصرُ في الآيةِ المَذكورةِ على الخُصوصِ بالكُفَّارِ، فيَلزَمُ مِن ذلك ألَّا يَتَّصِفَ النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالبِشارةِ، ولا بالعِلمِ، ولا بالشَّجاعةِ، ولا بالجودِ، ولا بالزُّهدِ، ولا بالعِلمِ، ولا بالصَّبرِ، ولا بغَيرِ ذلك مِنَ الأوصافِ الجَميلةِ، وذلك مُخالِفٌ للإجماعِ؛ فوجَبَ حَملُ الآيةِ على الخُصوصِ، وهو المَقصودُ.
ثالِثًا: أقسامُ مَفهومِ الحَصرِ باعتِبارِ حَصرِ الأوَّلِ في الثَّاني، وعَكسِه
فيَكونُ الثَّاني مَحصورًا في الأوَّلِ في شَيئَينِ، وهما: تَقديمُ المعمولاتِ، ودُخولُ لامِ التَّعريفِ في الخَبَرِ، ويَكونُ الأوَّلُ مَحصورًا في الثَّاني فيما سِوى ذلك.
3- أدَواتُ الحَصرِ:
أدَواتُ الحَصرِ أربَعةٌ [2400] يُنظر: ((العقد المنظوم)) (1/264)، ((نفائس الأصول)) (3/1033) كلاهما للقرافي، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 164)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 145)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/181)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/542). :
1- إنَّما: مِثلُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّاتِ)) [2401] أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907) من حديثِ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فحُصِرَ قَبولُ الأعمالِ بالنِّيَّةِ.
2- النَّفيُ قَبلَ إلَّا، نَحوُ قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا يَقبَلُ اللهُ صَلاةً إلَّا بطُهورٍ)) [2402] أخرجه مِن طُرُق: الترمذي (1)، وابن ماجه (272) واللفظ له. صَحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3366)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (272)، وحسن إسناده على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (3366). والحديث أصله في صحيح مسلم (224) بلفظ: ((لا تقبل صلاة بغير طهور)). ، وكقَولِك: ما قامَ إلَّا زَيدٌ، لَم يَقُمْ إلَّا زَيدٌ، ليس في الدَّارِ إلَّا زَيدٌ.
3- حَصرُ المُبتَدَأِ في الخَبَرِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197] فيَنحَصِرُ ميقاتُ الحَجِّ الزَّمانيِّ في ثَلاثةِ أشهُرٍ. وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((تَحريمُها التَّكبيرُ، وتَحليلُها التَّسليمُ)) [2403] أخرجه أبو داود (61)، والترمذي (3)، وابن ماجه (275) من حديثِ عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه القُرطُبيُّ في ((التفسير)) (1/268)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (61)، وحَسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (2/184)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/348)، وابن حجر في ((نتائج الأفكار)) (2/230). ، أي: أسبابُ الدُّخولِ في حُرُماتِ الصَّلاةِ مُنحَصِرةٌ في التَّكبيرِ، وأسبابُ الخُروجِ مِن حُرُماتِها مُنحَصِرةٌ في التَّسليمِ.
4- تَقديمُ المعمولاتِ في المَفاعيلِ والمَجروراتِ، نَحوُ قَولِ اللهِ تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ، أي: لا نَعبُدُ إلَّا إيَّاكَ، ولا نَستَعينُ إلَّا بك، وقَولِ اللهِ تعالى عنِ المَلائِكةِ: وَهُمْ بِأَمْرِه يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27] ، أي: لا يَعمَلونَ إلَّا بأمرِه، وقَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى [العلق: 8] ، أي: إلى رَبِّك المُنتَهى وإلى اللهِ تُرجَعُ الأُمورُ وَحدَه لا إلى غَيرِه، ونَحوِها مِنَ المَجروراتِ المُتَقدِّمةِ؛ فإنَّه يَدُلُّ على انحِصارِ تلك المَعاني في هذه المَجروراتِ.
سابِعًا: مَفهومُ الزَّمانِ والمَكانِ
1- مَفهومُ الزَّمانِ:
وهو: دَلالةُ اللَّفظِ الذي عُلِّقَ الحُكمُ فيه بزَمانٍ مُعيَّنٍ على ثُبوتِ نَقيضِ هذا الحُكمِ للمَسكوتِ عنه الذي انتَفى عنه ذلك الزَّمانُ [2404] يُنظر: ((المهذب)) (4/1778)، ((الجامع)) (ص: 305) كلاهما لعبد الكريم النملة. .
وهو في التَّحقيقِ داخِلٌ في مَفهومِ الصِّفةِ، باعتِبارِ مُتَعَلِّقِ الظَّرفِ المُقدَّرِ [2405] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/48). .
وسُمِّي بمَفهومِ الزَّمانِ؛ لأنَّ الحُكمَ فيه مُعَلَّقٌ بزَمانٍ [2406] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/525). .
مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة: 197] ، فاحتَجَّ به الشَّافِعيُّ على أنَّه لَو أحرَمَ بالحَجِّ في غَيرِ أشهُرِه لَم يَنعَقِدْ حَجًّا، ويَتَحَلَّلُ منه بعُمرةٍ [2407] يُنظر: ((شرح المعالم)) للتلمساني (1/310)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/175). .
وكقَولِ القائِلِ: سافرتُ يَومَ الجُمُعةِ، مَفهومُه أنَّه لَم يُسافِرْ في غَيرِ يَومِ الجُمُعةِ؛ لأنَّ سَفَرَه مُقَيَّدٌ بزَمانٍ مَخصوصٍ استَقَرَّ فيه، وغَيرُ يَومِ الجُمُعةِ يَشمَلُ الأزمانَ إلى أقصى الأزَلِ، فهذا يَدُلُّ بدَلالةِ اللُّزومِ -التي هيَ دَلالةُ مَفهومٍ- على العُمومِ مَسلوبِ النِّهايةِ [2408] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/267)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/525). .
2-مَفهومُ المَكانِ:
وهو: دَلالةُ اللَّفظِ الذي عُلِّقَ الحُكمُ فيه بمَكانٍ مُعيَّنٍ على ثُبوتِ نَقيضِ هذا الحُكمِ للمَسكوتِ عنه الذي انتَفى عنه ذلك [2409] يُنظر: ((المهذب)) (4/1778)، ((الجامع)) (ص: 305) كلاهما لعبد الكريم النملة. .
وهو في التَّحقيقِ راجِعٌ إلى مَفهومِ الصِّفةِ، باعتِبارِ مُتَعَلِّقِ الظَّرفِ المُقدَّرِ [2410] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (2/48). .
وسُمِّيَ بمَفهومِ المَكانِ؛ لأنَّ الحُكمَ فيه مُقَيَّدٌ بمَكانٍ [2411] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/525). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187] .
فقدِ احتُجَّ به على أنَّه لا يَصِحُّ الاعتِكافُ في غَيرِ المَسجِدِ [2412] يُنظر: ((شرح المعالم)) للتلمساني (1/310). .
وكقَولِ القائِلِ: جَلَستُ أمامَ زَيدٍ، فهو يَدُلُّ بمَفهومِه على أنَّه لَم يَجلِسْ في غَيرِ هذه البُقعةِ، فلَم يَجلِسْ وراءَ زَيدٍ ولا يَمينَه ولا شَمالَه؛ لأنَّ جُلوسَه مُقَيَّدٌ بمَكانٍ مَخصوصٍ واستَقَرَّ فيه، فيَشمَلُ مِنَ الأحيازِ ما لا يَتَناهى بدَلالةِ المَفهومِ، وهيَ دَلالةُ الالتِزامِ [2413] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/268)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/176)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (1/525). .
ثامِنًا: مَفهومُ الحالِ
ومَعناه: تَقييدُ الخِطابِ بالحالِ، مِثلُ: قَولِ اللهِ تعالى: وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة: 187] ، والحالُ كالصِّفةِ في ثُبوتِ الحُكمِ بوُجودِها، وانتِفائِه بعَدَمِها، فيَكونُ نَصُّه مستعمَلًا في الإثباتِ، ودَليلُه مستعمَلًا في النَّفيِ، مِثلُ الصِّفةِ [2414] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/251)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/533)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/174)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1015). .
تاسِعًا: مَفهومُ الاستِثناءِ
وهو يَدُلُّ على ثُبوتِ ضِدِّ الحُكمِ السَّابِقِ للمُستَثنى منه للمُستَثنى؛ فإن كانتِ القَضيَّةُ السَّابِقةُ نَفيًا كان المُستَثنى مُثبَتًا، أو إثباتًا كان مَنفيًّا [2415] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (5/180). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] ، وقَولُ القائِلِ: لا فتى إلَّا عَمرٌو، ولا عالِمَ في البَلَدِ إلَّا زيدٌ [2416] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (3/70)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1393)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/778). .
عاشِرًا: مَفهومُ التَّقسيمِ
ويَكونُ إذا قَسمَ الاسمَ إلى قِسمَينِ، فأثبَتَ في قِسمٍ مِنهما حُكمًا؛ فإنَّه يَدُلُّ على انتِفائِه في الآخَرِ؛ إذ لَو عَمَّهما لَم يَكُنْ للتَّقسيمِ فائِدةٌ؛ لأنَّ تَقسيمَه إلى قِسمَينِ، وتَخصيصَ كُلِّ واحِدٍ بحُكمٍ يَدُلُّ على انتِفاءِ ذلك الحُكمِ عنِ القِسمِ الآخَرِ [2417] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (2/133)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2929)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/505)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 595). .
مِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الأيِّمُ أحَقُّ بنَفسِها مِن وليِّها، والبِكرُ تُستَأذَنُ في نَفسِها)) [2418] أخرجه مسلم (1421) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .

انظر أيضا: