موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الرَّابِعُ: نَسخُ السُّنَّةِ المُتَواتِرةِ بالقُرآنِ


اختَلَف الأصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ أنَّه يَجوزُ نَسخُ السُّنَّةِ المُتَواتِرةِ بالقُرآنِ، وهو قَولٌ للشَّافِعيِّ [285] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/499)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/522)، ((البحر المحيط)) للزركشي (5/272). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [286] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/802)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/161). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الفُقَهاءِ والأصوليِّينَ [287] يُنظر: ((الإشارة)) للباجي (ص: 269)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/521)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/161)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (3/202). ، ومِنهمُ الجَصَّاصُ [288] يُنظر: ((الفصول)) (2/323). ، وأبو يَعلى [289] يُنظر: ((العدة)) (3/802). ، وصَحَّحه ابنُ حَزمٍ [290] يُنظر: ((الإحكام)) (4/107). ، والشِّيرازيُّ [291] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/499). .
الأدِلَّةُ:
أوَّلًا: عُمومُ قَولِ اللهِ تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، والنَّسخُ تِبيانٌ لمُدَّةِ الحُكمِ، وإذا كان كذلك اقتَضى جَوازَ نَسخِ السُّنَّةِ به [292] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/324)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/803). .
ثانيًا: أنَّ القُرآنَ ثابِتٌ بوَحيٍ مِن عِندِ اللهِ تعالى، كما أنَّ السُّنَّةَ التي بوَحيٍ ثابِتةٌ مِن قِبَلِه، فإذا كان كذلك وجازَ نَسخُ السُّنَّةِ بسُنَّةٍ مِثلِها، فجازَ نَسخُها بوَحيٍ لَيسَ بقُرآنٍ، وجَبَ أن يَجوزَ نَسخُها أيضًا بوَحيٍ وهو قُرآنٌ؛ لأنَّهما وَحيٌ مِنَ اللهِ تعالى [293] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/324)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/803). .
ثالِثًا: أنَّ القُرآنَ أقوى مِنَ السُّنَّةِ؛ فإنَّ السُّنَّةَ فيها ما يوجِبُ العِلمَ والعَمَلَ، وفيها ما يوجِبُ العَمَلَ دونَ العِلمِ، والكِتابُ كُلُّه يوجِبُ العِلمَ، ولأنَّ في الكِتابِ إعجازًا، وليس في السُّنَّةِ إعجازٌ، فإذا جازَ نَسخُ السُّنَّةِ بمِثلِها، فبأن يَجوزَ نَسخُها بما هو أقوى مِنها أَولى [294] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (3/803). .
رابِعًا: الوُقوعُ؛ فإنَّه قد تَظاهَرَتِ الرِّواياتُ عنِ السَّلَفِ في أشياءَ مِنَ السُّنَنِ مَنسوخةٍ بالقُرآنِ، ولَو لم يَكُنْ جائِزًا لَما وُجِدَ، ومِن ذلك [295] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/324)، ((العدة)) لأبي يعلى (3/803)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/499)، ((الإشارة)) للباجي (ص: 270). :
1- ما جاءَ في شَأنِ القِبلةِ: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا قدِمَ المَدينةَ صَلَّى بضعةَ عَشَرَ شَهرًا إلى بَيتِ المَقدِسِ، ثُمَّ أنزَلَ اللهُ تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] ، ونَسخَ به التَّوجُّهَ إلى بَيتِ المَقدِسِ [296] أخرجه مسلم (527) ولَفظُه: عن أنَسٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يُصَلِّي نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ فنَزَلَت: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة: 144] ، فمَرَّ رَجُلٌ مِن بَني سَلِمةَ وهم رُكوعٌ في صَلاةِ الفجرِ، وقد صَلَّوا رَكعةً، فنادى: ألا إنَّ القِبلةَ قد حوِّلَت، فمالوا كما هم نَحوَ القِبلةِ. وعنِ البَراءِ قال: لَمَّا قدِمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَدينةَ صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أو سَبعةَ عَشَرَ شَهرًا، وكان يُحِبُّ أن يُوَجَّهَ إلى الكَعبةِ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا [البقرة: 144] ، فوُجِّهَ نَحوَ الكَعبةِ، وصَلَّى مَعَه رَجُلٌ العَصرَ، ثُمَّ خَرَجَ فمَرَّ على قَومٍ مِنَ الأنصارِ، فقال: هو يَشهَدُ أنَّه صَلَّى مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنَّه قد وُجِّهَ إلى الكَعبةِ، فانحَرَفوا وهم رُكوعٌ في صَلاةِ العَصرِ. أخرجه البخاري (7252) واللَّفظُ له، ومسلم (525). .
2- أنَّ الأكلَ والشُّربَ والجِماعَ قد كان مَحظورًا في لَيالي الصَّومِ بَعدَ النَّومِ، فأنزَلَ اللهُ تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187] [297] عنِ البَراءِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: كان أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا كان الرَّجُلُ صائِمًا، فحَضَرَ الإفطارُ، فنامَ قَبلَ أن يُفطِرَ؛ لم يَأكُلْ لَيلَتَه ولا يَومَه حتَّى يُمسيَ، وإنَّ قَيسَ بنَ صِرمةَ الأنصاريَّ كان صائِمًا، فلَمَّا حَضَرَ الإفطارُ أتى امرَأتَه، فقال لها: أعِندَكِ طَعامٌ؟ قالت: لا، ولَكِن أنطَلِقُ فأطلُبُ لَكَ، وكان يَومَه يَعمَلُ، فغَلَبَته عَيناه، فجاءَته امرَأتُه، فلَمَّا رَأته قالت: خَيبةً لَكَ! فلَمَّا انتَصَف النَّهارُ غُشيَ عليه، فذُكِرَ ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فنَزَلَت هذه الآيةُ: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة: 187] ، ففرِحوا بها فرَحًا شَديدًا، ونَزَلَت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة: 187] . أخرجه البخاري (1915). ، فنَسَخَ به الحَظرَ المُتَقدِّمَ.
3- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان قد صالَحَ قُرَيشًا عامَ الحُدَيبيَةِ على أنَّه يَرُدُّ إليهم مَن جاءَه مِنهم، وجاءَه أبو جَندَلٍ فرَدَّه، ثُمَّ جاءَتِ امرَأةٌ مُهاجِرةٌ، فمَنَعَ اللهُ تعالى مِن رَدِّها، ونَسخَ ذلك بقَولِه سُبحانَه: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] [298] عن مَروانَ والمِسوَرِ بنِ مَخرَمةَ رِضى اللهِ عنهما يُخبِرانِ عن أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: لَمَّا كاتَبَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو يَومَئِذٍ كان فيما اشتَرَطَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنَّه لا يَأتيكَ مِنَّا أحَدٌ وإن كان على دينِكَ إلَّا رَدَدتَه إلَينا، وخَلَّيتَ بَينَنا وبَينَه، فكَرِهَ المُؤمِنونَ ذلك وامتَعَضوا مِنه، وأبى سُهَيلٌ إلَّا ذلك، فكاتَبَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ذلك، فرَدَّ يَومَئِذٍ أبا جَندَلٍ إلى أبيه سُهَيلِ بنِ عَمرٍو، ولم يَأتِه أحَدٌ مِنَ الرِّجالِ إلَّا رَدَّه في تلك المُدَّةِ وإن كان مُسلِمًا، وجاءَتِ المُؤمِناتُ مُهاجِراتٍ، وكانت أمُّ كُلثومٍ بنتُ عُقبةَ بنِ أبي مُعَيطٍ مِمَّن خَرَجَ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَئِذٍ، وهيَ عاتِقٌ، فجاءَ أهلُها يَسألونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَرجِعَها إلَيهم، فلم يَرجِعْها إلَيهم، لما أنزَلَ اللهُ فيهنَّ: إِذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ [الممتحنة: 10] إلى قَولِه: وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ [الممتحنة: 10] . أخرجه البخاري (2711، 2712). ، وفي هذا ثُبوتُ نَسخِ السُّنَّةِ بقُرآنٍ.
وقيلَ: لا يَجوزُ نَسخُ السُّنَّةِ بالقُرآنِ. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [299] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 108). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [300] يُنظر: ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (3/161). .

انظر أيضا: