موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الرَّابِعُ: ألَّا يَعمَلَ بالفتوى دونَ أن يَطمَئِنَّ لها قَلبُه


إنَّ اللَّهَ فطَرَ عِبادَه على مَعرِفةِ الحَقِّ والسُّكونِ إليه وقَبولِه، ورَكَزَ في الطِّباعِ مَحَبَّةُ ذلك والنُّفورُ عن ضِدِّه، وقد يَدخُلُ هذا في قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ما مِن مَولودٍ إلَّا يولَدُ على الفِطرةِ، فأبَواه يُهَوِّدانِه ويُنَصِّرانِه ويُمَجِّسانِه)) قال أبو هرَيرةَ: واقرؤوا إن شِئتُم قَولَه تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم: 30] [705] أخرجه البخاري (1358)، ومسلم (2658) واللفظ له ؛ ولِهذا سَمَّى اللهُ ما أمَرَ به مَعروفًا، وما نَهى عنه مُنكَرًا، فالمَعروفُ مَعروفٌ في الفِطَرِ، والمُنكَرُ مُنكَرٌ في الفِطَرِ، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [النحل: 90] .
ووجَّهَ إلى الرُّجوعِ للقُلوبِ عِندَ الاشتِباهِ مِمَّا سَكَنَ إليه القَلبُ وانشَرَحَ إليه الصَّدرُ، فهو البِرُّ والحَلالُ، وما كان خِلافَ ذلك فهو الإثمُ والحَرامُ. وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحَديثِ: ((والإثمُ ما حاكَ في صَدرِك وكَرِهتَ أن يَطَّلِعَ عليه النَّاسُ)) [706] أخرجه مسلم (2553) من حديثِ النَّوَّاس بن سَمعان رَضِيَ اللهُ عنه. إشارةٌ إلى أنَّ الإثمَ ما أثَّرَ في الصَّدرِ حَرَجًا وضِيقًا وقَلَقًا واضطِرابًا، فلَم يَنشَرِحْ له الصَّدرُ.
وهذا على مَراتِبَ:
المَرتَبةُ الأولى: ما أثَّرَ في الصَّدرِ حَرَجًا وضِيقًا وقَلَقًا واضطِرابًا، فلَم يَنشَرِحْ له الصَّدرُ، ومَعَ هذا فهو عِندَ النَّاسِ مُستَنكَرٌ بحَيثُ يُنكِرونَه عِندَ اطِّلاعِهم عليه، وهذا أعلى مَراتِبِ مَعرِفةِ الإثمِ عِندَ الاشتِباهِ.
المَرتَبةُ الثَّانيةُ: إن أفتاه غَيرُه بأنَّه ليسَ بإثمٍ، بأن يَكونَ الشَّيءُ مُستَنكَرًا عِندَ فاعِلِه دونَ غَيرِه، وقد جَعَلَه أيضًا إثمًا، وهذا في حالةِ كَونِ المُفتي يُفتي بمُجَرَّدِ ظَنٍّ أو مَيلٍ إلى هَوًى مِن غَيرِ دَليلٍ شَرعيٍّ.
فأمَّا ما كان مَعَ المُفتي به دَليلٌ شَرعيٌّ فالواجِبُ على المُستَفتي الرُّجوعُ إليه وإن لم يَنشَرِحْ له صَدرُه، وهذا كالرُّخصةِ الشَّرعيَّةِ، مِثلُ الفِطرِ في السَّفَرِ والمَرَضِ، وقَصرِ الصَّلاةِ في السَّفَرِ، ونَحوِ ذلك مِمَّا لا يَنشَرِحُ به صُدورُ كَثيرٍ مِنَ الجُهَّالِ. فهذا لا عِبرةَ به، وقد كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحيانًا يَأمُرُ أصحابَه بما لا تَنشَرِحُ به صُدورُ بَعضِهم فيَمتَنِعونَ مِن قَولِه، فيَغضَبُ مِن ذلك، كَما أمَرَهم بفَسخِ الحَجِّ إلى العُمرةِ فكَرِهَه مَن كَرِهَه مِنهم [707] عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ، قال: أهلَلنا -أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- في الحَجِّ خالِصًا لَيسَ مَعَه عُمرةٌ، قال عَطاءٌ: قال جابِرٌ: فقدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صُبحَ رابِعةٍ مَضَت مِن ذي الحِجَّةِ، فلَمَّا قدِمنا أمَرَنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نُحِلَّ، وقال: أَحِلُّوا وأصيبوا مِنَ النِّساءِ، قال عَطاءٌ: قال جابِرٌ: ولم يَعزِمْ عليهم، ولَكِن أحَلَّهنَّ لَهم، فبَلَغَه أنَّا نَقولُ: لَمَّا لَم يَكُنْ بَينَنا وبَينَ عَرَفةَ إلَّا خَمسٌ أمَرَنا أن نَحِلَّ إلى نِسائِنا، فنَأتيَ عَرَفةَ تَقطُرُ مَذاكيرُنا المَذيَ! قال: ويَقولُ جابِرٌ بيَدِه هَكَذا، وحَرَّكَها، فقامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: قد عَلِمتُم أنِّي أتقاكُم للهِ وأصدَقُكُم وأبَرُّكُم، ولَولا هَدْيي لَحَلَلتُ كَما تَحِلُّونَ، فحِلُّوا، فلَوِ استَقبَلتُ مِن أمري ما استَدبَرتُ ما أهدَيتُ، فحَلَلنا وسَمِعنا وأطَعنا. أخرجه البخاري (7367) واللَّفظُ له، ومسلم (1216). ، وكَما أمَرَهم بنَحرِ هَديِهم والتَّحَلُّلِ مِن عُمرةِ الحُدَيبيَةِ فكَرِهوه وكَرِهوا مُفاوضَتَه لقُرَيشٍ على أن يَرجِعَ مِن عامِه، وعلى أنَّ مَن أتاه مِنهم يَرُدُّه إليهم [708] عن المِسْوَرِ بنِ مَخرَمةَ ومَروانَ يُصَدِّقُ كُلُّ واحدٍ منهما حديثَ صاحِبِه، قال: ((خرج رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم زَمَن الحُدَيبيةِ حتَّى إذا كانوا ببَعضِ الطَّريقِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّ خالدَ بنَ الوليدِ بالغميمِ في خَيلٍ لقُرَيشٍ طليعةٌ، فخُذوا ذاتَ اليمينِ، فواللهِ ما شَعَر بهم خالدٌ حتَّى إذا هم بقَتَرةِ الجيشِ، فانطلق يركُضُ نذيرًا لقريشٍ، وسار النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان بالثَّنيَّةِ التي يهبِطُ عليهم منها بركَت به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ،  فألحَّت، فقالوا: خلَأتِ القَصواءُ، خلأتِ القَصواءُ! فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما خلأتِ القصواءُ، وما ذاك لها بخُلُقٍ، ولكن حبَسَها حابِسُ الفيلِ، ثمَّ قال: والذي نفسي بيَدِه، لا يسألوني خُطَّةً يُعَظِّمون فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أعطيتُهم إيَّاها، ثمَّ زجَرَها فوثبَت، قال: فعَدَل عنهم حتَّى نزل بأقصى الحُدَيبيَةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ، يتبَرَّضُه النَّاسُ تبَرُّضًا، فلم يُلبِثْه النَّاسُ حتى نزحوه، وشُكِي إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم العَطَشُ، فانتزع سَهمًا من كنانتِه، ثمَّ أمرهم أن يجعلوه فيه، فواللهِ ما زال يجيشُ لهم بالرِّيِّ حتى صدَروا عنه! فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيلُ بنُ وَرقاءَ الخُزاعيُّ في نفَرٍ من قومِه من خزاعةَ، وكانوا عَيبةَ نُصحِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أهلِ تِهامةَ، فقال: إني تركتُ كَعبَ بنَ لُؤَيٍّ، وعامِرَ بنَ لُؤَيٍّ نزلوا أعدادَ مياهِ الحُدَيبيةِ، ومعهم العُوذُ المطافيلُ، وهم مقاتِلوك وصادُّوك عن البيتِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا لم نجئْ لقتالِ أحدٍ، ولكِنَّا جِئْنا معتَمِرين، وإنَّ قريشًا قد نهكَتْهم الحربُ، وأضرَّت بهم، فإن شاءوا مادَدْتُهم مُدَّةً، ويُخَلُّوا بيني وبين النَّاسِ، فإن أظهَرْ فإن شاءوا أن يدخُلوا فيما دخل فيه النَّاسُ فَعَلوا، وإلَّا فقد جمُّوا، وإن هم أبَوا فوالذي نفسي بيدِه لأقاتِلَنَّهم على أمري هذا حتى تنفَرِدَ سالفتي، ولَيُنفِذَنَّ اللهُ أمرَه، فقال بُدَيلٌ: سَأُبَلِّغُهم ما تَقولُ. قال: فانطَلَقَ حتَّى أتى قُرَيشًا، قال: إنَّا قد جِئناكُم مِن هذا الرَّجُلِ وسَمِعناه يَقولُ قَولًا، فإن شِئتُم أن نَعرِضَه عليكُم فعَلنا، فقال سُفهاؤُهم: لا حاجةَ لَنا أن تُخبِرَنا عنه بشَيءٍ، وقال ذَوو الرَّأيِ مِنهم: هاتِ ما سَمِعتَه يَقولُ، قال: سَمِعتُه يَقولُ كَذا وكَذا، فحَدَّثَهم بما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقامَ عُروةُ بنُ مَسعودٍ فقال: أيْ قَومِ، ألَستُم بالوالِدِ؟ قالوا: بَلى، قال: أولَستُ بالولَدِ؟ قالوا: بَلى، قال: فهَل تَتَّهِموني؟ قالوا: لا، قال: ألَستُم تَعلَمونَ أنِّي استَنفرتُ أهلَ عُكاظٍ فلَمَّا بَلَّحوا عليَّ جِئتُكُم بأهلي وولَدي ومَن أطاعني؟ قالوا: بَلى، قال: فإنَّ هذا قد عَرَضَ لَكُم خُطَّةَ رُشدٍ، اقبَلوها ودَعوني آتيه، قالوا: ائتِه، فأتاه، فجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَحوًا مِن قَولِه لِبُدَيلٍ، فقال عُروةُ عِندَ ذلك: أي مُحَمَّدُ، أرَأيتَ إنِ استَأصَلتَ أمرَ قَومِكَ، هَل سَمِعتَ بأحَدٍ مِنَ العَرَبِ اجتاحَ أهلَه قَبلَكَ؟ وإن تَكُنِ الأُخرى، فإنِّي واللهِ لَأرى وُجوهًا، وإنِّي لَأرى أوشابًا مِنَ النَّاسِ خَليقًا أن يَفِرُّوا ويَدَعوكَ! فقال لَه أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ: امصُصْ ببَظرِ اللَّاتِ! أنَحنُ نَفِرُّ عنه ونَدَعُه؟! فقال: مَن ذا؟ قالوا: أبو بَكرٍ، قال: أما والذي نَفسي بيَدِه، لَولا يَدٌ كانت لَكَ عِندي لَم أجزِكَ بها لَأجَبتُكَ، قال: وجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُلَّما تَكَلَّمَ أخَذَ بلِحيَتِه، والمُغيرةُ بنُ شُعبةَ قائِمٌ على رَأسِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومَعَه السَّيفُ وعليه المِغفرُ، فكُلَّما أهوى عُروةُ بيَدِه إلى لِحيةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ضَرَبَ يَدَه بنَعلِ السَّيفِ، وقال لَه: أخِّر يَدَكَ عن لِحيةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فرَفعَ عُروةُ رَأسَه، فقال: مَن هذا؟ قالوا: المُغيرةُ بنُ شُعبةَ، فقال: أي غُدَرُ! ألَستُ أسعى في غَدرَتِكَ؟! وكان المُغيرةُ صَحِبَ قَومًا في الجاهليَّةِ فقَتَلَهم، وأخَذَ أموالَهم، ثُمَّ جاءَ فأسلَمَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أمَّا الإسلامَ فأقبَلُ، وأمَّا المالُ فلَستُ منه في شَيءٍ. ثُمَّ إنَّ عُروةَ جَعَلَ يَرمُقُ أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَينَيه، قال: فواللهِ ما تَنَخَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهم، فدَلَكَ بها وَجهَه وجِلدَه، وإذا أمَرَهمُ ابتَدَروا أمرَه، وإذا تَوضَّأ كادوا يَقتَتِلونَ على وَضوئِه، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضوا أصواتَهم عِندَه، وما يُحِدُّونَ إلَيه النَّظَرَ تَعظيمًا لَه! فرَجَعَ عُروةُ إلى أصحابِه، فقال: أي قَومِ، واللهِ لَقد وفَدتُ على المُلوكِ، ووَفدتُ على قَيصَرَ وكِسرى والنَّجاشيِّ، واللهِ إن رَأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُه أصحابُه ما يُعَظِّمُ أصحابُ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُحَمَّدًا، واللهِ إن تَنَخَّمَ نُخامةً إلَّا وقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهم، فدَلَكَ بها وَجهَه وجِلدَه، وإذا أمَرَهمُ ابتَدَروا أمرَه، وإذا تَوضَّأ كادوا يَقتَتِلونَ على وَضوئِه، وإذا تَكَلَّمَ خَفَضوا أصواتَهم عِندَه، وما يُحِدُّونَ إلَيه النَّظَرَ تَعظيمًا لَه، وإنَّه قد عَرَضَ عليكُم خُطَّةَ رُشدٍ فاقبَلوها. فقال رَجُلٌ مِن بَني كِنانةَ: دَعوني آتيه، فقالوا: ائتِه، فلَمَّا أشرَف على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا فُلانٌ، وهو مِن قَومٍ يُعَظِّمونَ البُدنَ، فابعَثوها لَه، فبُعِثَت لَه، واستَقبَلَه النَّاسُ يُلَبُّونَ، فلَمَّا رَأى ذلك قال: سُبحانَ اللهِ! ما يَنبَغي لِهؤلاء أن يُصَدُّوا عنِ البَيتِ، فلَمَّا رَجَعَ إلى أصحابِه قال: رَأيتُ البُدنَ قد قُلِّدَت وأُشعِرَت، فما أرى أن يُصَدُّوا عنِ البَيتِ. فقامَ رَجُلٌ مِنهم يُقالُ لَه: مِكرَزُ بنُ حَفصٍ، فقال: دَعوني آتيه، فقالوا: ائتِه، فلَمَّا أشرَف عليهم قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا مِكرَزٌ، وهو رَجُلٌ فاجِرٌ، فجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبَينَما هو يُكَلِّمُه إذ جاءَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو. قال مَعمَرٌ: فأخبَرَني أيُّوبُ، عن عِكرِمةَ: أنَّه لَمَّا جاءَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَقد سَهُلَ لَكُم مِن أمرِكُم! قال مَعمَرٌ: قال الزُّهريُّ في حَديثِه: فجاءَ سُهَيلُ بنُ عَمرٍو، فقال: هاتِ اكتُبْ بَينَنا وبَينَكُم كِتابًا، فدَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الكاتِبَ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، قال سُهَيلٌ: أمَّا الرَّحمَنُ فواللهِ ما أدري ما هو؟! ولَكِنِ اكتُبْ «باسمِكَ اللهُمَّ» كَما كُنتَ تَكتُبُ، فقال المُسلِمونَ: واللهِ لا نَكتُبُها إلَّا «بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ»، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اكتُبْ «باسمِكَ اللهُمَّ»، ثُمَّ قال: هذا ما قاضى عليه مُحَمَّدٌ رَسولُ اللهِ، فقال سُهَيلٌ: واللهِ لَو كُنَّا نَعلَمُ أنَّكَ رَسولُ اللهِ ما صَدَدناكَ عنِ البَيتِ، ولا قاتَلناكَ، ولَكِنِ اكتُبْ «مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ»، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: واللهِ إنِّي لَرَسولُ اللهِ وإن كَذَّبتُموني، اكتُبْ «مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ» -قال الزُّهريُّ: وذلك لِقَولِه: لا يَسألوني خُطَّةً يُعَظِّمونَ فيها حُرُماتِ اللهِ إلَّا أعطَيتُهم إيَّاها- فقال لَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: على أن تُخَلُّوا بَينَنا وبَينَ البَيتِ، فنَطوفَ به، فقال سُهَيلٌ: واللهِ لا تَتَحَدَّثُ العَرَبُ أنَّا أُخِذنا ضُغطةً، ولَكِن ذلك مِنَ العامِ المُقبِلِ، فكَتَبَ، فقال سُهَيلٌ: وعلى أنَّه لا يَأتيكَ مِنَّا رَجُلٌ وإن كان على دينِكَ إلَّا رَدَدتَه إلَينا، قال المُسلِمونَ: سُبحانَ اللهِ! كَيف يُرَدُّ إلى المُشرِكينَ وقد جاءَ مُسلِمًا؟! فبَينَما هم كذلك إذ دَخَلَ أبو جَندَلِ بنُ سُهَيلِ بنِ عَمرٍو يَرسُفُ في قُيودِه، وقد خَرَجَ مِن أسفلِ مَكَّةَ حتَّى رَمى بنَفسِه بَينَ أظهرِ المُسلِمينَ! فقال سُهَيلٌ: هذا -يا مُحَمَّدُ- أوَّلُ ما أُقاضيكَ عليه أن تَرُدَّه إلَيَّ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّا لَم نَقضِ الكِتابَ بَعدُ، قال: فواللهِ إذًا لَم أُصالِحْكَ على شَيءٍ أبَدًا، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فأَجِزْه لي، قال: ما أنا بمُجيزِه لَكَ، قال: بَلى فافعَلْ، قال: ما أنا بفاعِلٍ، قال مِكرَزٌ: بَل قد أجَزناه لَكَ، قال أبو جَندَلٍ: أيْ مَعشَرَ المُسلِمينَ، أُرَدُّ إلى المُشرِكينَ وقد جِئتُ مُسلِمًا، ألا تَرَونَ ما قد لَقِيتُ؟! وكان قد عُذِّبَ عَذابًا شَديدًا في اللهِ! قال: فقال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ: فأتَيتُ نَبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقُلتُ: ألَستَ نَبيَّ اللهِ حَقًّا؟ قال: بَلى، قُلتُ: ألَسنا على الحَقِّ وعَدوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بَلى، قُلتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دينِنا إذًا؟! قال: إنِّي رَسولُ اللهِ، ولَستُ أعصيه، وهو ناصِري، قُلتُ: أولَيسَ كُنتَ تُحَدِّثُنا أنَّا سَنَأتي البَيتَ فنَطوفُ به؟ قال: بَلى، فأخبَرتُكَ أنَّا نَأتيه العامَ؟ قال: قُلتُ: لا، قال: فإنَّكَ آتيه ومُطَّوِّفٌ به، قال: فأتَيتُ أبا بَكرٍ فقُلتُ: يا أبا بَكرٍ، ألَيسَ هذا نَبيَّ اللهِ حَقًّا؟ قال: بَلى، قُلتُ: ألَسنا على الحَقِّ وعَدوُّنا على الباطِلِ؟ قال: بَلى، قُلتُ: فلِمَ نُعطي الدَّنيَّةَ في دينِنا إذًا؟! قال: أيُّها الرَّجُلُ، إنَّه لَرَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولَيسَ يَعصي رَبَّه، وهو ناصِرُه، فاستَمسِكْ بغَرزِه؛ فواللهِ إنَّه على الحَقِّ، قُلتُ: ألَيسَ كان يُحَدِّثُنا أنَّا سَنَأتي البَيتَ ونَطوفُ به؟ قال: بَلى، أفأخبَرَكَ أنَّكَ تَأتيه العامَ؟ قُلتُ: لا، قال: فإنَّكَ آتيه ومُطَّوِّفٌ به. قال الزُّهريُّ: قال عُمَرُ: فعَمِلتُ لِذلك أعمالًا. قال: فلَمَّا فرَغَ مِن قَضيَّةِ الكِتابِ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: قوموا فانحَروا ثُمَّ احلِقوا، قال: فواللهِ ما قامَ مِنهم رَجُلٌ حتَّى قال ذلك ثَلاثَ مَرَّاتٍ، فلَمَّا لَم يَقُمْ مِنهم أحَدٌ دَخَلَ على أُمِّ سَلَمةَ، فذَكَرَ لَها ما لَقيَ مِنَ النَّاسِ، فقالت أُمُّ سَلَمةَ: يا نَبيَّ اللهِ، أتُحِبُّ ذلك؟ اخرُجْ ثُمَّ لا تُكَلِّمْ أحَدًا مِنهم كَلِمةً، حتَّى تَنحَرَ بُدنَكَ، وتَدعوَ حالِقَكَ فيَحلِقَكَ، فخَرَجَ فلَم يُكَلِّمْ أحَدًا مِنهم حتَّى فعَلَ ذلك؛ نَحَرَ بُدنَه، ودَعا حالِقَه فحَلَقَه، فلَمَّا رَأوا ذلك قاموا، فنَحَروا، وجَعَلَ بَعضُهم يَحلِقُ بَعضًا حتَّى كادَ بَعضُهم يَقتُلُ بَعضًا غَمًّا ... أخرجه البخاري (2731، 2732). . فما ورَدَ النَّصُّ به فليس للمُؤمِنِ إلَّا طاعةُ اللهِ ورَسولِه، كما قال اللهُ تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا [الأحزاب: 36] ، ويَنبَغي أن يَتَلَقَّى ذلك بانشِراحِ الصَّدرِ والرِّضا؛ فإنَّ ما شَرَعَه اللهُ ورَسولُه يَجِبُ الإيمانُ والرِّضا به والتَّسليمُ له، كَما قال اللهُ تعالى: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء: 65] .
وأمَّا ما ليسَ فيه نَصٌّ مِنَ اللهِ ولا رَسولِه، ولا عَمَّن يُقتَدى بقَولِه مِنَ الصَّحابةِ وسَلَفِ الأمَّةِ، فإذا وقَعَ في نَفسِ المُؤمِنِ المُطَمئِنِّ قَلبُه بالإيمانِ المُنشَرِحِ صَدرُه بنورِ المَعرِفةِ واليَقينِ منه شَيءٌ، وحاكَ في صَدرِه بشُبهةٍ مَوجودةٍ، ولم يَجِدْ مَن يُفتي فيه بالرُّخصةِ إلَّا مَن يُخبِرُ عن رَأيِه، وهو مِمَّن لا يوثَقُ بعِلمِه وبِدينِه، بَل هو مَعروفٌ باتِّباعِ الهَوى، فهنا يَرجِعُ المُؤمِنُ إلى ما حاكَ في صَدرِه، وإن أفتاه هؤلاء المُفْتون.
قال ابنُ القَيِّمِ: (لا يَجوزُ له العَمَلُ بمُجَرَّدِ فتوى المُفتي إذا لم تَطمَئِنَّ نَفسُه، وحاكَ في صَدرِه مِن فتواه، وتَرَدَّدَ فيها؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((استَفتِ نَفسَك... وإن أفتاك النَّاسُ وأفتَوك)) [709] لَفظُه: عن وابِصةَ بنِ مَعبَدٍ، قال: أتَيتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنا أُريدُ ألَّا أدَعَ شَيئًا منَ البِرِّ والإثمِ إلَّا سَألتُه عنه، وإذا عِندَه جَمعٌ، فذَهَبتُ أتَخَطَّى النَّاسَ، فقالوا: إلَيك يا وابِصةُ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَيك يا وابِصةُ، فقُلتُ: أنا وابِصةُ، دَعوني أدنو منه؛ فإنَّه مِن أحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ أن أدنوَ منه، فقال لي: ادنُ يا وابِصةُ، ادنُ يا وابِصةُ، فدَنَوتُ منه حتَّى مَسَّت رُكبَتي رُكبَتَه، فقال: يا وابِصةُ أُخبِرُكَ ما جِئتَ تَسألُني عنه، أو تَسألُني؟ فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، فأخبِرْني، قال: جِئتَ تَسألُني عنِ البِرِّ والإثمِ؟ قُلتُ: نَعَمْ، فجَمَعَ أصابِعَه الثَّلاثَ فجَعَلَ يَنكُتُ بها في صَدري، ويَقولُ: يا وابِصةُ، استَفتِ نَفسَكَ، البِرُّ ما اطمَأنَّ إلَيه القَلبُ، واطمَأنَّت إلَيه النَّفسُ، والإثمُ ما حاكَ في القَلبِ، وتَرَدَّدَ في الصَّدرِ، وإن أفتاكَ النَّاسُ وأفتَوكَ. أخرجه أحمد (18001) واللفظ له، والدارمي (2575)، وأبو يعلى (1586). حسَّنه النووي في ((الأذكار)) (504)، والشوكاني في ((إرشاد الفحول)) (2/284)، وحسَّنه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1734)، وحسَّن إسنادَه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/23). ، فيَجِبُ عليه أن يَستَفتيَ نَفسَه أوَّلًا. ولا تُخَلِّصُه فتوى المُفتي مِنَ اللهِ إذا كان يَعلَمُ أنَّ الأمرَ في الباطِنِ بخِلافِ ما أفتاه، كَما لا يَنفَعُه قَضاءُ القاضي له بذلك، كَما قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن قَضَيتُ له بشَيءٍ مِن حَقِّ أخيه فلا يَأخُذْه؛ فإنَّما أقطَعُ له قِطعةً مِن نارٍ)) [710] أخرجه البخاري (6967)، ومسلم (1713) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أمِّ سَلَمةَ رَضِيَ اللهُ عنها، ولفظُ البخاري: ((إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكُم تَختَصِمونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعضَكُم أن يَكونَ ألحَنَ بحُجَّتِه مِن بَعضٍ، وأقضيَ لَه على نَحوِ ما أسمَعُ، فمَن قَضَيتُ لَه مِن حَقِّ أخيه شَيئًا فلا يَأخُذْ؛ فإنَّما أقطَعُ لَه قِطعةً مِنَ النَّارِ)). . والمُفتي والقاضي في هذا سَواءٌ، فلا يَظُنَّ المُستَفتي أنَّ مُجَرَّدَ فتوى الفقيهِ تُبيحُ له ما سَألَ عنه، إذا كان يَعلَمُ أنَّ الأمرَ بخِلافِه في الباطِنِ، سَواءٌ تَرَدَّدَ أو حاكَ في صَدرِه؛ لعِلمِه بالحالِ في الباطِنِ، أو لشَكِّه فيه، أو لجَهلِه به، أو لعِلمِه جَهلَ المُفتي، أو مُحاباتِه في فتواه، أو عَدَمِ تَقَيُّدِه بالكِتابِ والسُّنَّةِ، أو لأنَّه مَعروفٌ بالفتوى بالحيَلِ والرُّخَصِ المُخالِفةِ للسُّنَّةِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأسبابِ المانِعةِ مِنَ الثِّقةِ بفتواه، وسُكونِ النَّفسِ إليها. فإن كان عَدَمُ الثِّقةِ والطُّمَأنينةِ لأجلِ المُفتي سَألَ ثانيًا وثالِثًا حتَّى تَحصُلَ له الطُّمَأنينةُ، فإن لم يَجِدْ فلا يُكَلِّفُ اللهُ نَفسًا إلَّا وُسعَها، والواجِبُ تَقوى اللهِ بحَسَبِ الاستِطاعةِ) [711] ((إعلام الموقعين)) (5/ 168- 169). .

انظر أيضا: