موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الأوَّلُ: الفرقُ بَينَ أُصولِ الفِقهِ والفِقهِ


الفِقهُ وأُصولُ الفِقهِ عِلمانِ مُرتَبطانِ برِباطٍ وثيقٍ، فأحَدُهما أصلٌ، والآخَرُ فَرعٌ له [113] يُنظر: ((الوجيز)) لبورنو (ص: 19). . ومَعَ ذلك فهما مُختَلفانِ في حَقيقَتِهما، والمَعنى المُرادِ مِن كُلٍّ مِنهما.
أوَّلًا: التَّفريقُ بَينَهما مِن حَيثُ حَقيقةُ كُلٍّ مِنهما
فحَقيقةُ الفِقهِ: عِبارةٌ عنِ العِلمِ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ العَمَليَّةِ، المُكتَسَبِ مِن أدِلَّتِها التَّفصيليَّةِ [114] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 13). .
أمَّا حَقيقةُ الأُصولِ فهيَ: مَعرِفةُ دَلائِلِ الفِقهِ إجمالًا، وكَيفيَّةِ الاستِفادةِ مِنها، وحالِ المُستَفيدِ [115] ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 51)، ((الإبهاج)) لابن السبكي (2/ 45). ويُنظر أيضًا: ((قواعد الأصول)) لصفي الدين البغدادي (ص: 48)، ((الشامل)) لعبدالكريم النملة (1/104). .
فالفِقهُ يَختَصُّ بالعلمِ بالأحكامِ الشَّرعيَّةِ الثَّابتةِ لأفعالِ المُكَلَّفينَ، كالوُجوبِ والحَظرِ، والإباحةِ والنَّدبِ والكَراهةِ، وكَونِ العَقدِ صَحيحًا وفاسِدًا وباطِلًا، وكَونِ العِبادةِ قَضاءً وأداءً، وأمثالِه. ويَختَصُّ الفقيهُ ببَيانِ أحكامِ الأفعالِ مِن حَيثُ إنَّها واجِبةٌ ومَحظورةٌ، ومُباحةٌ ومَكروهةٌ ومَندوبٌ إليها.
أمَّا أُصولُ الفِقهِ فعِبارةٌ عن مَعرِفةِ أدِلَّةِ هذه الأحكامِ، ومَعرِفةِ وُجوهِ دَلالَتِها على الأحكامِ مِن حَيثُ الجُملةُ لا مِن حَيثُ التَّفصيلُ. فلا يَتَعَرَّضُ الأُصوليُّ في بَيانِ أدِلَّةِ الأحكامِ لإحدى المَسائِلِ التَّفصيليَّةِ، بَل يَتَعَرَّضُ فيها لأصلِ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، ولشَرائِطِ صِحَّتِها، وطُرُقِ ثُبوتِها، ثُمَّ لوُجوهِ دَلالَتِها الإجماليَّةِ على الأحكامِ، مِن غَيرِ أن يَتَعَرَّضَ فيها لمَسألةٍ خاصَّةٍ [116] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 5)، ((الواضح)) لابن عقيل (1/17)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/255). .
ثانيًا: التَّفريقُ بَينَهما مِن حَيثُ مَوضوعُ كُلٍّ مِنهما
يَختَلِفُ مَوضوعُ البَحثِ في كُلٍّ مِنهما عنِ الآخَرِ؛ فمَوضوعُ البَحثِ في عِلمِ أُصولِ الفِقهِ: الدَّليلُ الشَّرعيُّ الكُلِّيُّ مِن حَيثُ ما يَثبُتُ به مِنَ الأحكامِ الكُلِّيَّةِ؛ فالأُصوليُّ يَبحَثُ في القياسِ وحُجِّيَّتِه، والعامِّ وما يُخَصِّصُه، والأمرِ وما يَدُلُّ عليه، وهكذا.
وأمَّا مَوضوعُ البَحثِ في عِلمِ الفِقهِ: فهو فِعلُ المُكَلَّفِ مِن حَيثُ ما يَثبُتُ له مِنَ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ؛ فالفقيهُ يَبحَثُ في صَلاةِ المُكَلَّفِ، وصَومِه، وحَجِّه، وبَيعِه، وإجارَتِه، ورَهنِه، وتَوكيلِه، وسَرِقَتِه، وإقرارِه؛ لمَعرِفةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ المُتَعَلِّقِ بكُلِّ فِعلٍ مِن هذه الأفعالِ [117] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 12). .
مِثالُ ذلك: أنَّ القُرآنَ هو الدَّليلُ الشَّرعيُّ الأوَّلُ على الأحكامِ. ونُصوصُه التَّشريعيَّةُ لَم تَرِدْ على حالٍ واحِدةٍ، بَل مِنها ما ورَدَ بصيغةِ الأمرِ، ومِنها ما ورَدَ بصيغةِ النَّهيِ، ومِنها ما ورَدَ بصيغةِ العُمومِ، أو بصيغةِ الإطلاقِ؛ فصيغةُ الأمرِ، وصيغةُ النَّهيِ، وصيغةُ العُمومِ، وصيغةُ الإطلاقِ: أنواعٌ كُلِّيَّةٌ مِن أنواعِ الدَّليلِ الشَّرعيِّ العامِّ. وهو القُرآنُ. فالأُصوليُّ يَبحَثُ في كُلِّ نَوعٍ مِن هذه الأنواعِ؛ ليَتَوصَّلَ إلى نَوعِ الحُكمِ الكُلِّيِّ الذي يَدُلُّ عليه، مُستَعينًا في بَحثِه باستِقراءِ الأساليبِ العَرَبيَّةِ، والاستِعمالاتِ الشَّرعيَّةِ. فإذا وصَلَ ببَحثِه إلى أنَّ صيغةَ الأمرِ تَدُلُّ على الإيجابِ، وصيغةَ النَّهيِ تَدُلُّ على التَّحريمِ، وصيغةَ العُمومِ تَدُلُّ على شُمولِ جَميعِ أفرادِ العامِّ، وصيغةَ الإطلاقِ تَدُلُّ على ثُبوتِ الحُكمِ مُطلَقًا؛ وضَعَ القَواعِدَ الآتيةَ: الأمرُ للإيجابِ، والنَّهيُ للتَّحريمِ، والعامُّ يَنتَظِمُ جَميعَ أفرادِه، والمُطلَقُ يَدُلُّ على الفردِ الشَّائِعِ بغَيرِ قَيدٍ.
وهذه القَواعِدُ الكُلِّيَّةُ وغَيرُها -مِمَّا يَتَوصَّلُ الأُصوليُّ ببَحثِه إلى وضعِها- يَأخُذُها الفقيهُ قَواعِدَ مُسَلَّمةً، ويُطَبِّقُها على جُزئيَّاتِ الدَّليلِ الكُلِّيِّ؛ ليَتَوصَّلَ بها إلى الحُكمِ الشَّرعيِّ العَمَليِّ التَّفصيليِّ، فيُطَبِّقُ قاعِدةَ: الأمرُ للإيجابِ، على قَولِ اللهِ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة: 1] ويَحكُمُ على الإيفاءِ بالعُقودِ بأنَّه واجِبٌ. ويُطَبِّقُ قاعِدةَ النَّهيِ للتَّحريمِ على قَولِ اللهِ سُبحانَه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) [الحجرات: 11] ، ويَحكُمُ بأنَّ سُخريةَ قَومٍ مِن قَومِ مُحرَّمةٌ، ويُطَبِّقُ قاعِدةَ: العامُّ يَنتَظِمُ جَميعَ أفرادِه، على قَولِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) [النساء: 23] ، ويَحكُمُ بأنَّ كُلَّ أمِّ مُحَرَّمةٌ [118] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 13). .
ثالثًا: التَّفريقُ بَينَهما مِن حَيثُ استِمدادُ كُلٍّ مِنهما
يَختَلفُ كُلٌّ مِنهما مِن حَيثُ الاستِمدادُ؛ فأُصولُ الفِقهِ -كما سَبَقَ بَيانُه- يَستَمِدُّ مِن: نُصوصِ القُرآنِ والسُّنَّةِ، والعَرَبيَّةِ، وغَيرِ ذلك.
أمَّا عِلمُ الفِقهِ فيَستَمِدُّ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ، وغَيرِها مِنَ الأدِلَّةِ التَّابعةِ [119] يُنظر: ((أصول الفقه)) للبرديسي (ص: 38). .
رابعًا: التَّفريقُ بَينَهما مِن حَيثُ الغايةُ المَقصودةُ مِن كُلٍّ مِنهما
فالغايةُ المَقصودةُ مِن عِلمِ الفِقهِ هيَ تَطبيقُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ على أفعالِ النَّاسِ وأقوالِهم؛ فهو مَرجِعُ كُلِّ مُكَلَّفٍ لمَعرِفةِ الحُكمِ الشَّرعيِّ فيما يَصدُرُ عنه مِن أقوالٍ وأفعالٍ، وهذه هيَ الغايةُ المَقصودةُ مِن كُلِّ القَوانينِ في أيَّةِ أُمَّةٍ؛ فإنَّها لا يُقصَدُ مِنها إلَّا تَطبيقُ مَوادِّها وأحكامِها على أفعالِ النَّاسِ وأقوالِهم، وتَعريفُ كُلِّ مُكَلَّفٍ بما يَجِبُ عليه وما يَحرُمُ عليه. وأمَّا الغايةُ المَقصودةُ مِن عِلمِ أُصولِ الفِقهِ فهيَ تَطبيقُ قَواعِدِه ونَظَريَّاتِه على الأدِلَّةِ التَّفصيليَّةِ للتَّوصُّلِ إلى الأحكامِ الشَّرعيَّةِ التي تَدُلُّ عليها [120] ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 14). .

انظر أيضا: