موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الخامِسةُ: هَل يُشتَرَطُ عَرضُ خَبَرِ الآحادِ على القُرآنِ؟


المُرادُ بعَرضِ الخَبَرِ على القُرآنِ: ألَّا يُكتَفى بالنَّظَرِ إلى السَّنَدِ في الحُكمِ على الحَديثِ، بَل يَجِبُ أن يُضافَ إليه النَّظَرُ في مَتنِه ومَعناه؛ للتَّأكُّدِ مِن أنَّه لم يَأتِ بما يُخالفُ القُرآنَ، فإن جاءَ الحَديثُ بما يُخالفُ القُرآنَ اعتُبِرَت هذه المُخالفةُ عِلَّةً يَضعُفُ بها الحَديثُ، وقَرينةً على خَطَأِ ما في الرِّوايةِ [534] يُنظر: ((الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث الهجري)) لعبد المجيد محمود عبد المجيد (ص: 201). .
والمُختارُ أنَّه لا يُشتَرَطُ في قَبولِ خَبَرِ الآحادِ عَرضُه على القُرآنِ. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [535] يُنظر: ((الرسالة)) (ص: 222- 226). ، واختارَه الشَّاشيُّ [536] نقله عنه الزركشي. يُنظر: ((البحر المحيط)) (6/ 264). ، والسَّمعانيُّ [537] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/ 365). ويُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 264). .
قال الخَطَّابيُّ: (لا حاجةَ بالحَديثِ أن يُعرَضَ على الكِتابِ، وأنَّه مَهما ثَبَتَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان حُجَّةً بنَفسِه، وأمَّا ما رَواه بَعضُهم أنَّه قال: "إذا جاءَكُم الحَديثُ فاعرِضوه على كِتابِ اللهِ، فإن وافقَه فخُذوه، وإن خالفه فدَعَوه" فإنَّه حَديثٌ باطِلٌ لا أصلَ له. وقد حَكى زَكَريَّا بنُ يَحيى السَّاجيُّ عن يَحيى بنِ مَعينٍ أنَّه قال: هذا حَديثٌ وضَعَته الزَّنادِقةُ) [538] ((معالم السنن)) (4/ 299). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ اللَّهَ تعالى أوجَبَ اتِّباعَ نَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأثبَتَ أنَّه لا يَنطِقُ عن الهَوى [539] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 264). .
قال اللهُ تعالى: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم: 3-4] فأخبَرَ اللهُ تعالى أنَّ مَصدَرَ الخَبَرِ النَّبَويِّ هو الوحيُ، كما أنَّ مَصدَرَ الكِتابِ الإلهيِّ هو الوَحيُ.
وقال اللهُ تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] ، وقال اللهُ سُبحانَه: يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59] . فأمَرَ باتِّباعِ سُنَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فوجَبَ قَبولُ ما ثَبَتَ عنه، ولم يَجُزِ التَّوقُّفُ عنه إلى أن يُعرَضَ على الكِتابِ؛ فهو حُجَّةٌ في نَفسِه [540] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 368). .
2- أنَّه لا يَخلو إمَّا أن يَكونَ الخَبَرُ موافِقًا للكِتابِ، فهو تَأكيدُ له، وإمَّا ألَّا يوجَدَ في الكِتابِ فهو ابتِداءُ شَرعٍ مِن اللهِ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: 7] ، وقد يَكونُ ذلك في الكِتابِ وإن ذَهَب عنَّا وَجهُه [541] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (6/ 264). .
3- عن المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ، قال: حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَومَ خَيبَرَ أشياءَ، ثُمَّ قال: ((يوشِكُ أحَدُكُم أن يُكَذِّبَني وهو مُتَّكِئٌ على أريكَتِه يُحَدِّثُ بحَديثي، فيَقولُ: بَينَنا وبَينَكُم كِتابُ اللهِ، فما وجَدْنا فيه مِن حَلالٍ استَحلَلْناه، وما وجَدْنا فيه مِن حَرامٍ حَرَّمناه، ألَا وإنَّ ما حَرَّمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِثلُ ما حَرَّمَ اللهُ [542] قال العَظيمُ آبادي: (ولقد ظَهَرَت مُعجِزةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ووقَعَ بما أخبَرَ به؛ فإنَّ رَجُلًا خَرَجَ مِن الفِنجابِ مِن إقليمِ الهِندِ وانتَسَبَ نَفسَه بأهلِ القُرآنِ، وشَتَّانَ بَينَه وبَينَ أهلِ القُرآنِ، بَل هو مِن أهلِ الإلحادِ والمُرتَدِّينَ، وكان قَبلَ ذلك مِن الصَّالحينَ، فأضَلَّه الشَّيطانُ وأغواه وأبعَدَه عن الصِّراطِ المُستَقيمِ، فتَفوَّهَ بما لا يَتَكَلَّمُ به أهلُ الإسلامِ، فأطال لسانَه في إهانةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ورَدَّ الأحاديثَ الصحيحةَ بأسرِها، وقال: هذه كُلُّها مَكذوبةٌ ومُفتَرياتٌ على اللهِ تعالى، وإنَّما يَجِبُ العَمَلُ على القُرآنِ العَظيمِ فقَط دونَ أحاديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإن كانت صحيحةً مُتَواتِرةً... وقد أفتى عُلماءُ العَصرِ بكُفرِه وإلحادِه وخُروجِه عن دائِرةِ الإسلامِ، والأمرُ كَما قالوا. واللهُ أعلَمُ). ((عون المعبود)) (12/ 233). ) [543] أخرجه الترمذي (2664)، وابن ماجه (12)، وأحمد (17194) واللفظ له. صحَّحه ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) (2/324)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (12)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17194). .
قال الشَّافِعيُّ: (في هذا تَثبيتُ الخَبَرِ عن رَسولِ اللهِ، وإعلامُهم أنَّه لازِمٌ لهم، وإن لم يَجِدوا له نَصَّ حُكمٍ في كِتابِ اللهِ) [544] ((الرسالة)) (ص: 404). .
وقال أيضًا: (فقد ضَيَّقَ رَسولُ اللهِ على النَّاسِ أن يَرُدُّوا أمرَه، بفَرضِ اللهِ عليهم اتِّباعَ أمرِه) [545] ((الرسالة)) (ص: 226). .
وقيل: يَجِبُ عَرضُ خَبَرِ الآحادِ على القُرآنِ، فإن لم يَكُنْ في الكِتابِ ما يَدُلُّ على خِلافِه قُبِل، وإلَّا رُدَّ. وذَهَبَ إليه جَماهيرُ الحَنَفيَّةِ [546] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/ 367)، ويُنظر أيضًا: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (3/ 16)، ويُنظر أيضًا: ((الاتجاهات الفقهية عند أصحاب الحديث في القرن الثالث)) لعبد المجيد محمود (ص: 202). وغَيرُهم [547] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/ 365)، ((المحصول)) للرازي (4/ 438)، ((الموافقات)) للشاطبي (3/ 189- 194)، ((البحر المحيط)) للشوكاني (6/ 263). .

انظر أيضا: