موسوعة أصول الفقه

الفَرعُ السَّادِسُ: أقسامُ القياسِ باعتِبارِ مُماثَلةِ الفَرعِ لحُكمِ الأصلِ أو مُناقَضَتِه له أو عَدَمِهما


يَنقَسِمُ بهذا الاعتِبارِ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ: قياسُ الطَّردِ، وقياسُ العَكسِ، وقياسُ الاستِدلالِ [1592] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 651). .
وذلك لأنَّ النَّاشِئَ عن الأصلِ لا بُدَّ أن يَدُلَّ على حُكمٍ، وذلك الحُكمُ: إمَّا أن يَكونَ مُماثِلًا للأصلِ، وإمَّا أن يَكونَ مُناقِضًا لحُكمِ الأصلِ، وإمَّا أن يَكونَ ليسَ بمُماثِلٍ ولا مُناقِضٍ.
فإن كان مُماثِلًا لحُكمِ الأصلِ فلا بُدَّ مِن المُغايَرةِ بَينَ الحُكمَينِ في المَحَلِّ، فيَكونُ لكُلٍّ مِنهما مَحَلٌّ يَختَصُّ به؛ لاستِحالةِ اجتِماعِ المِثلَينِ، وإذا تَغايَرَ المَحَلَّانِ فذلكَ هو قياسُ الطَّردِ.
وإن كان مُناقِضًا لحُكمِ الأصلِ فلا بُدَّ مِن المُغايَرةِ بَينَهما في المَحَلِّ؛ لاستِحالةِ اجتِماعِ النَّقيضَينِ، وذلك هو قياسُ العَكسِ.
وإن كان ليسَ بمُماثِلٍ ولا مُناقِضٍ فذلك هو الاستِدلالُ.
فانحَصَرَ الكَلامُ في ثَلاثةِ أقسامٍ: قياسُ طَردٍ، وقياسُ عَكسٍ، وقياسُ استِدلالٍ [1593] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 651). . وفيما يَلي بَيانُ هذه الأقسامِ:
الأوَّلُ: قياسُ الطَّردِ: وهو عِبارةٌ عن إلحاقِ صورةٍ مَجهولةِ الحُكمِ بصورةٍ مَعلومةِ الحُكمِ؛ لأجلِ أمرٍ جامِعٍ بَينَهما يَقتَضي ذلك الحُكمَ [1594] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 652). .
مِثالُه: قياسُ النَّبيذِ -الذي هو مَجهولُ الحُكمِ ومَحَلُّ النِّزاعِ- على الخَمرِ الذي هو مَعلومُ الحُكمِ ومحَلُّ الاتِّفاقِ.
فالخَمرُ هو الأصلُ، والنَّبيذُ هو الفرعُ، والجامِعُ: الإسكارُ، والحُكمُ المَطلوبُ إثباتُه في الفرعِ: التَّحريمُ [1595] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 652). .
الثَّاني: قياسُ العَكسِ: وهو إثباتٌ نَقيضِ حُكمِ الأصلِ في الفرعِ؛ لافتِراقِهما في العِلَّةِ [1596] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 731). .
مِثالُه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((وفي بُضعِ أحَدِكُم صَدَقةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أيَأتي أحَدُنا شَهوتَه ويَكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: أرَأيتُم لو وضَعَها في حَرامٍ أكان عليه فيها وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضَعَها في الحَلالِ كان له أجرٌ)) [1597] أخرجه مسلم (1006) من حديثِ أبي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه. يَعني: كما أنَّه إذا وضَعَها في حَرامٍ يَأثَمُ، كذلك إذا وضَعَها في حَلالٍ يُؤجَرُ؛ فاستُنتِجَ مِن ثُبوتِ الحُكمِ -أي: الوِزرِ في الوطءِ الحَرامِ- انتِفاؤُه في الوطءِ الحَلالِ الصَّادِقِ بحُصولِ الأجرِ حينَما عَدَل بوضعِ الشَّهوةِ عنِ الحَرامِ إلى الحَلالِ، وهذا الاستِنتاجُ يُسَمَّى قياسَ العَكسِ [1598] يُنظر: ((شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع)) (2/351). ويُنظر أيضًا: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (3/222). .
ومِن أمثِلتِه أيضًا: احتِجاجُ المالكيَّةِ على أنَّ الوُضوءَ لا يَجِبُ مِن كثرةِ القَيءِ بقياسِ كثيرِ القَيءِ على كثيرِ البَولِ في الافتِراقِ في الحُكمِ، ويَستَدِلُّونَ على افتِراقِهما في الحُكمِ بافتِراقِهما في العِلَّةِ؛ فإنَّه لمَّا لم يَجِبِ الوُضوءُ مِن قَليلِه لم يَجِبْ مِن كثيرِه، عَكسُه البَولُ؛ لمَّا وجَبَ الوُضوءُ مِن قَليلِه وجَبَ مِن كثيرِه [1599] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 731). .
الثَّالثُ: قياسُ الاستِدلالِ: والمُرادُ بالاستِدلالِ هنا: قياسٌ مَنطِقيٌّ يَستَنِدُ إلى تَلازُمٍ بَينَ الحُكمَينِ، أو إلى تَنافٍ بَينَهما [1600] يُنظر: ((قياس الشبه)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 153). .
فإن كان بطَريقِ التَّلازُمِ فهو ثَلاثةُ أقسامٍ: استِدلالٌ بالعِلَّةِ على المَعلولِ، واستِدلالٌ بالمَعلولِ على العِلَّةِ، واستِدلالٌ بأحَدِ المَعلولينِ على الآخَرِ [1601] قال الغَزاليُّ: (إن استَدللتَ بالعِلَّةِ على المَعلولِ فقياسُك قياسُ عِلَّةٍ، وإن استَدلَلتَ بالمَعلولِ على العِلَّةِ فهو قياسُ دَلالةٍ، وكذلك لو استَدلَلتَ بأحَدِ المَعلولَينِ على الآخَرِ). ((محك النظر)) (ص: 243). .
وإن كان بطَريقِ التَّنافي فهو ثَلاثةُ أقسامٍ أيضًا: استِدلالٌ بالتَّنافي بَينَ الحُكمَينِ وجودًا وعَدَمًا، واستِدلالٌ بالتَّنافي بَينَهما وجودًا فقَط، واستِدلالٌ بالتَّنافي بَينَهما عَدَمًا فقَط [1602] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 734)، ((قياس الشبه)) لمحمود عبد الرحمن (ص: 153). .
مِثالُ الاستِدلالِ بالعِلَّةِ على المَعلولِ: احتِجاجُ المالكيَّةِ على أنَّ بَيعَ الغائِبِ صَحيحٌ؛ لأنَّه حَلالٌ عَمَلًا بقَولِ اللهِ تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275] ، وإذا كان حَلالًا وجَبَ أن يَكونَ صحيحًا؛ لأنَّ الحِلَّ عِلَّةُ الصِّحَّةِ [1603] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 737). .
مِثالُ الاستِدلالِ بالمَعلولِ على العِلَّةِ: الاستِدلالُ على أنَّ الوِترَ يَجوزُ أن يُؤَدَّى على الرَّاحِلةِ، وما يَجوزُ أن يُؤَدَّى على الرَّاحِلةِ فهو نَفلٌ؛ فالوِترُ نَفلٌ.
وبَيانُ ذلك أنَّ جَوازَ الأداءِ على الرَّاحِلةِ مَعلولٌ مِن مَعلولاتِ التَّنَفُّلِ وأثَرٌ مِن آثارِه؛ ولذلك لا تُؤَدَّى الفرائِضُ على الرَّاحِلةِ [1604] يُنظر: ((شفاء الغليل)) للغزالي (ص: 441)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 735). .
مِثالُ الاستِدلالِ بأحَدِ المَعلولَينِ على الآخَرِ: استِدلالُ الشَّافِعيَّةِ على وُجوبِ الزَّكاةِ على المِدْيانِ في النَّقدَينِ، بوُجوبِها عليه في الحَرثِ والماشيةِ؛ إذ هما مَعًا مَعلولانِ لعِلَّةٍ واحِدةٍ، وهيَ مِلكُ النِّصابِ [1605] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 739). .
مِثالُ التَّنافي بَينَ الحُكمَينِ وُجودًا وعَدَمًا: استِدلالُ المالكيَّةِ على أنَّ المِدْيانَ لا تَجِبُ عليه الزَّكاةُ، بأنَّ أخذَه للزَّكاةِ وإعطاءَه إيَّاها مُتَنافيانِ وُجودًا وعَدَمًا.
وبَيانُ ذلك: أنَّه إمَّا أن يَكونَ غَنيًّا، وإمَّا أن يَكونَ فقيرًا، وعلى كِلا التَّقديرَينِ يَلزَمُ أحَدُ الحُكمَينِ، ويَمتَنِعُ الآخَرُ.
فإن كان غَنيًّا فيَلزَمُ وُجوبُ إعطائِه الزَّكاةَ، وحَرُم عليه أخذُها، وإن كان فقيرًا فيَلزَمُ إباحةُ أخذِه للزَّكاةِ، وسَقَطَ عنه إعطاؤُها. وإذا ثَبَتَ التَّنافي بَينَ الحُكمَينِ وُجودًا وعَدَمًا، وقد ثَبَتَ أحَدُهما -وهو جَوازُ أخذِه للزَّكاةِ إجماعًا- فوجَبَ عَدَمُ الآخَرِ، وهو وُجوبُها عليه [1606] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 740). .
مِثالُ التَّنافي بَينَ الحُكمَينِ وُجودًا فقَط [1607] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 741). : استِدلالُ الشَّافِعيَّةِ على عَدَمِ نَجاسةِ المَنيِّ بأنَّ نَجاسةَ المَنيِّ وجَوازَ الصَّلاةِ به مُتَنافيانِ، لكِنْ لمَّا كانت الصَّلاةُ به جائِزةً فهو ليسَ بنَجِسٍ.
وإنَّما كانت الصَّلاةُ به جائِزةً؛ لحَديثِ عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسلُتُ المَنيَّ مِن ثَوبِه ثُمَّ يُصَلِّي فيه، ويَحُتُّه مِن ثَوبِه يابسًا ثُمَّ يُصَلِّي فيه)) [1608] أخرجه أحمد (26059)، وابن خزيمة (294) باختلافٍ يسيرٍ، والبيهقي (4229) مُختَصَرًا، ولفظُ أحمَدَ وابنِ خُزَيمةَ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَسلُتُ المَنيَّ مِن ثَوبِه بعِرقِ الإذخِرِ، ثُمَّ يُصَلِّي فيه، ويَحُتُّه مِن ثَوبِه يابسًا، ثُمَّ يُصَلِّي فيه)). صَحَّحه شُعَيب الأرناؤوط في تَخريج ((مسند أحمد)) (26059) دونَ قَولِها: بعِرقِ الإذخِرِ، وحَسَّنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4953)، وصحَّح إسنادَه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (21/589). .
مِثالُ التَّنافي بَينَ الحُكمَينِ عَدَمًا فقَط: استِدلالُ المالكيَّةِ على طَهارةِ مَيتةِ البَحرِ بعَدَمِ تَحريمِ أكلِها؛ فإنَّ الطَّهارةَ وحُرمةَ الأكلِ لا يَرتَفِعانِ؛ لأنَّ كُلَّ ما ليسَ بطاهرٍ فهو حَرامُ الأكلِ، وكُلَّ ما ليسَ بحَرامِ الأكلِ فهو طاهِرٌ، لكِنَّ مَيتةَ البَحرِ ليسَت بحَرامِ الأكلِ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتَتُه)) [1609] أخرجه أبو داود (83)، والترمذي (69)، والنسائي (59) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه البخاري كما في ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/91)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/228)، وابن حبان في ((صحيحه)) (5258). ، فوجَبَ أن تَكونَ مَيتةُ البَحرِ طاهِرةً [1610] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 742). .

انظر أيضا: