موسوعة أصول الفقه

المسألةُ الرَّابعُة: أقسامُ الواجِبِ


أوَّلًا: أقسامُ الواجِبِ باعتبارِ ذاتِه
يَنقَسِمُ الواجِبُ باعتِبارِ ذاتِه -أي: بحَسَبِ الفِعلِ المُكلَّفِ به- إلى: واجِبٍ مُعيَّنٍ، وواجِبٍ مُخيَّرٍ.
1- الواجِبُ المُعَيَّنُ:
وهو: ما طَلَبَه الشَّارِعُ طَلَبًا جازِمًا بعينِه دونَ تَخييرٍ بينَه وبينَ غيرِه، فالخِطابُ في الواجِبِ المُعيَّنِ قَد تَعَلَّق بواحِدٍ مُعيَّنٍ لا يَقومُ غيرُه مَقامَه [148] يُنظر: ((قواعد الأصول)) للبغدادي (ص: 50)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 26). .
حُكمُه:
يَتَعيَّنُ على كُلِّ مُكلَّفٍ أن يوقِعَه بعَينِه، ولا تَبرَأُ ذِمَّةُ المُكلَّفِ إلَّا بأدائِه بعَينِه، ولا يُجزِئُ فِعلُ غيرِه مَكانَه؛ لأنَّه ليس لَه بَدَلٌ [149] يُنظر: ((قواعد الأصول)) للبغدادي (ص: 50)، ((شرح العضد على مختصر ابن الحاجب)) (2/152)، ((علم أصول الفقه)) لخلّاف (ص: 111). .
مِثالُه: الصَّلَواتُ الخَمسُ، والصِّيامُ، ونَحوُها مِنَ الواجِباتِ، وكذا التَّوجُّهُ إلى الكعبةِ عِندَ الصَّلاةِ، وكذا إعطاءُ ثَمَنُ المُشتَرى، وأجرُ المُستَأجَرِ، ورَدُّ المَغصوبِ [150] يُنظر: ((قواعد الأصول)) للبغدادي (ص50)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/572)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/403)، ((علم أصول الفقه)) لخلَّاف (ص111). .
2- الواجِبُ المُخيَّرُ:
وهو: ما طَلَبَ الشَّارِعُ فِعلَه طَلَبًا جازِمًا لا بعَينِه، بَل خيَّرَ الشَّارِعُ في فِعلِه بينَ أفرادِه المُعيَّنةِ، بأن كان مُبهَمًا في أقسامٍ مَحصورةٍ أو غيرِ مَحصورةٍ [151] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/524)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 26). .
حُكمُه:
الخِطابُ في الواجِبِ المُخيَّرِ قَد تعَلَّق بواحِدٍ مُبهَمٍ مِنَ الأُمورِ المُخيَّرِ بينَها، والمُكلَّفُ مُخيَّرٌ في تَحقيقِ الخِطابِ في أيِّ فردٍ مِنَ الأفرادِ المُعيَّنةِ المُخيَّرِ بينَها، وأيٌّ مِنها فَعلَه المُكلَّفُ فقَد سَقَطَ عنه الفرضُ وبَرِئَت ذِمَّتُه. وهو قَولُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّةِ الفُقَهاءِ [152] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/149)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 128)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/230). قال ابنُ تَيميَّةَ: (... ثُمَّ اضطِرابُ النَّاسِ هنا: هل الواجِبُ الثَّلاثةُ، فلا يَكونُ هناك فَرقٌ بينَ المَعَيَّنِ وبينَ المُخيَّرِ، أوِ الواجِبُ واحِدٌ لا بعينِه، فيَكونُ المَأمورُ به مُبهَمًا غيرَ مَعلومٍ للمَأمورِ؟ ولا بُدَّ في الأمرِ مِن تَمَكُّنِ المَأمورِ مِنَ العِلمِ بالمَأمورِ به والعَمَلِ به، والقَولُ بإيجابِ الثَّلاثةِ يُحكى عنِ المُعتَزِلةِ، والقَولُ بإيجابٍ واحِدٍ لا بعينِه هو قَولُ الفُقَهاءِ. وحَقيقةُ الأمرِ: أنَّ الواجِبَ هو القَدرُ المُشتَرَكُ بينَ الثَّلاثةِ، وهو مُسَمَّى أحَدِها. فالواجِبُ أحَدُ الثَّلاثةِ، وهذا مَعلومٌ مُتَميِّزٌ مَعروفٌ للمَأمورِ، وهذا المُسَمَّى يوجَدُ في هذا المُعيَّنِ، وهذا المُعَيَّنِ، وهذا المُعيَّنِ، فلَم يَجِبْ واحِدٌ بعينِه غيرُ مُعيَّنٍ، بَل وجَبَ أحَدُ المُعيَّناتِ، والامتِثالُ يَحصُلُ بواحِدٍ مِنها وإن لَم يُعيِّنْه الآمِرُ. والمُتَناقِضُ هو أن يوجِبَ مُعيَّنًا ولا يُعَيِّنَه، أمَّا إذا كان الواجِبُ غَيرَ مُعيَّنٍ بَل هو القَدرُ المُشتَرَكُ، فلا مُنافاةَ بينَ الإيجابِ وتَركِ التَّعيينِ). ((درء تعارض العقل والنقل)) (1/215). .
أدِلَّةُ الوُجوبِ في الواجِبِ المُخيَّرِ:
1- الإجماعُ؛ فقَد نَقَلَ الباقِلَّانيُّ إجماعَ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّةِ الفُقَهاءِ عليه [153] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/149)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/230). .
2- الوُقوعُ؛ حيثُ وقَعَ التَّخييرُ بينَ واجِباتٍ في الشَّرعِ -كما سيَأتي في الأمثِلةِ- والوُقوعُ في الشَّرعِ يَستَلزِمُ الجَوازَ [154] يُنظر: ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 26). وقال الآمدي: (الوقوع ‌في ‌الشرع أدل الدلائل على الجواز الشرعي) ((الإحكام)) (3/136). .
3- أنَّ العَقلَ لا يَمنَعُ مِن ذلك، فلَو قال السَّيِّدُ لعَبدِه: (خِطْ هذا الثَّوبَ أوِ ابنِ هذا الحائِطَ) أو قال لَه: (أمَرتُك أن تَشتَريَ لَحمًا أو سَمنًا) لَكان هذا قَولًا مَعقولًا، فيَكونُ الواجِبُ على العَبدِ أحَدَ الأمرينِ لا كِلَيهما ولا واحِدًا بعَينِه [155] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/283)، ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 26). .
شُروطُ الواجِبِ المُخيَّرِ:
1- أن تَكونَ الأشياءُ المُخيَّرُ بينَها مَعلومةً للمُخاطَبِ ومُعيَّنةً؛ حَتَّى يُحيطَ المُكلَّفُ بها ويوازِنَ بينَها.
2- أن تَتَساوى تلك الأشياءُ المُخيَّرُ بينَها في الرُّتبةِ؛ فيُخيَّرَ بَينَ واجِبٍ وواجِبٍ، ولا يَجوزُ التَّخييرُ بَينَ واجِبٍ ومَندوبٍ.
3- أن لا يُخيَّرَ بينَ شيئينِ مُتَساويينِ تَمامَ التَّساوي، بحيثُ لا يَتَميَّزُ أحَدُهما عنِ الآخَرِ، كما لَو خُيِّرَ بينَ أن يُصَلِّيَ أربَعَ رَكعاتٍ وبينَ أن يُصَلِّيَ أربَعَ رَكعاتٍ، بَل لا بُدَّ أن تَكونَ الأشياءُ المُخيَّرُ بينَها تَتَميَّزُ بَعضُها عن بَعضٍ.
4- أن يَتَعَلَّقَ التَّخييرُ بما يَستَطيعُ فِعلَه، فلا يَصِحُّ التَّخييرُ بينَ شيءٍ يَستَطيعُه، وآخَرَ لا يَستَطيعُه [156] يُنظر: ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 27). .
أمثِلةٌ للواجِبِ المُخيَّرِ:
1- تَخييرُ المُكلَّفِ بينَ خِصالِ كفَّارةِ اليَمينِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ ‌فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ [المائدة: 89] . فكفَّارةُ اليَمينِ واجِبةٌ، ويَتَحَقَّقُ فِعلُ الواجِبِ بخَصلةٍ واحِدةٍ مِن ثَلاثٍ: إطعامِ عَشَرةِ مَساكينَ، أو كِسوتِهم، أو عِتقِ رَقَبةٍ. فأيُّ واحِدةٍ فَعَلها الحانِثُ أجَزَأَته؛ لأنَّ الآيةَ ورَدَت بصيغةِ التَّخييرِ بحَرفِ "أو"، وقد قال أحمَدُ: (كُلُّ شيءٍ في كِتابِ اللهِ تعالى "أو" فهو تَخييرٌ) [157] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/302). . والأصلُ: حَملُ ألفاظِ الكِتابِ والسُّنَّةِ على مُقتَضياتِها الظَّاهرةِ المَشهورةِ في اللُّغةِ [158] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/287). .
2- تَزويجُ المَرأةِ الطَّالبةِ للنِّكاحِ مِن أحَدِ الكُفْأينِ الخاطِبَينِ؛ فلَو تَقَدَّمَ رَجُلانِ قَدِ استَويا في الكفاءةِ لخِطبةِ امرَأةٍ مُستَحِقَّةٍ للنِّكاحِ، فإنَّها مُخيَّرةٌ بينَ هَذينِ الخاطِبَينِ الكُفأَينِ.
ففي هذينِ المِثالَينِ يَجِبُ واحِدٌ لا بعَينِه، ولا يُمكِنُ أن يُقالَ فيه بإيجابِ الجَميعِ ولا بسُقوطِ إيجابِ الجَميعِ [159] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 12)، ((أصول الفقه على منهج أهل السنة)) للسعيدان (1/104). .
حُكمُ الجَمعِ بينَ خِصالِ الواجِبِ المُخيَّرِ:
يَنقَسِمُ الواجِبُ المُخيَّرُ بهذا الاعتِبارِ إلى ثَلاثةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: ما يُستَحَبُّ فيه الجَمعُ بينَ أفرادِه، مِثلُ: الجَمعِ بينَ خِصالِ كفَّارةِ اليَمينِ، وهي الإطعامُ والكِسوةُ والإعتاقُ.
الثَّاني: ما يُباحُ فيه الجَمعُ، مِثلُ: سَترِ العَورةِ بثَوبٍ بَعدَ ثَوبٍ.
الثَّالِثُ: ما يَحرُمُ فيه الجَمعُ بينَ أفرادِه، مِثلُ تَزويجِ المَرأةِ مِن خاطِبَينِ [160] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/169)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 40). .
ثانيًا: أقسامُ الواجِبِ باعتِبارِ فاعِلِه
يَنقَسِمُ الواجِبُ باعتِبارِ فاعِلِه إلى واجِبٍ عَينيٍّ، وواجِبٍ كِفائيٍّ.
1- الواجِبُ العَينيُّ:
وهو ما يُطلَقُ عليه فَرضُ عَينٍ، وهو ما طَلَبَ الشَّارِعُ فِعلَه مِن كُلِّ فَردٍ مِن أفرادِ المُكلَّفينَ.
وسُمِّي واجِبًا عَينيًّا؛ لأنَّ خِطابَ الشَّارِعِ توجَّهَ إلى كُلِّ مُكلَّفٍ بعَينِه، ولا تَبرَأُ ذِمَّةُ المُكلَّفِ مِنه إلَّا بأدائِه بنَفسِه، ولا يُجزِئُه قيامُ مُكلَّفٍ آخَرَ به، كالصَّلاةِ والزَّكاةِ والحَجِّ، واجتِنابِ الخَمرِ والميسِرِ [161] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 155)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/324). .
وحُكمُه: أنَّه يَجِبُ على جَميعِ المُكلَّفينَ القيامُ به، ولا يَسقُطُ الوُجوبُ بقيامِ البَعضِ به عنِ الباقينَ، بَل لا بُدَّ مِن فِعلِ كُلِّ واحِدٍ مِمَّن وجَبَ عليه [162] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/405). .
2- الواجِبُ الكِفائيُّ:
وهو: ما يُطلَقُ عليه فَرضُ الكِفايةِ، وهو ما طَلَبَ الشَّارعُ فِعلَه مِن مَجموعِ المُكلَّفينَ، لا مِن كُلِّ فردٍ بعَينِه، فإن قامَ به بَعضُ المُكلَّفينَ فقَد تَأدَّى الواجِبُ وسَقَطَ الإثمُ عنِ الباقينَ.
وسُمِّي واجِبًا كِفائيًّا؛ لأنَّ قيامَ بَعضِ المُكلَّفينَ به يَكفي للوُصولِ إلى مَقصَدِ الشَّارِعِ، فالغَرَضُ مِنه: وُجودُ الفِعلِ في الجُملةِ؛ ولذلك يَسقُطُ بفِعلِ البَعضِ.
وذلك كالأمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عنِ المُنكَرِ، والقيامِ بالفتوى والحُكمِ بينَ النَّاسِ، ورَدِّ السَّلامِ، والجِهادِ، وتَعَلُّمِ العُلومِ، كالطِّبِّ وغيرِه، وتَجهيزِ المَوتى بالغُسلِ والتَّكفينِ، والصَّلاةِ عليهم، ودَفنِهم [163] يُنظر: ((الرسالة)) للشافعي (ص: 360)، ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1455)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/324). .
وحُكمُه: أنَّه يَسقُطُ بفِعلِ البَعضِ مَعَ القُدرةِ وعَدَمِ الحاجةِ [164] يُنظر: ((قواعد الأصول)) للبغدادي (ص: 51). .
ولا يُشتَرَطُ فيه تَحَقُّقُ الفِعلِ، بَل يَكفي ظَنُّه، فإذا غَلَبَ على ظَنِّ هذه الطَّائِفةِ أنَّ تلك فَعَلَت سَقَطَ عن هذه، وإذا غَلَبَ على ظَنِّ تلك الطَّائِفةِ أنَّ هذه فعَلَت سَقَطَ عنها، وإذا غَلَبَ على ظَنِّ الطَّائِفتَينِ فِعلُ كُلِّ واحِدةٍ مِنهما سَقَطَ عنهما [165] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 156)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (1/144). .
الفَرقُ بينَ فَرضِ العَينِ، وفَرضِ الكِفايةِ:
يُمكِنُ التَّفريقُ بينَ فَرضِ العَينِ، وفَرضِ الكِفايةِ مِن ثَلاثةِ أوجُهٍ:
الوَجهُ الأوَّلُ: أنَّ المَقصودَ في فَرضِ الكِفايةِ تَحصيلُ المَصلَحةِ، وفي فَرضِ العَينِ تَعَبُّدُ الأعيانِ بفِعلِه؛ فالتَّعَبُّدُ والمَصلَحةُ مُشتَرَكانِ بينَ فَرضِ الكِفايةِ وفَرضِ العَينِ، فكُلُّ واحِدٍ مِنهما عِبادةٌ تَتَضَمَّنُ مَصلَحةً؛ فالجِهادُ عِبادةٌ، بمَعنى أنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ أمَر به، وطاعَتُه فيه واجِبةٌ، والانقيادُ إلى امتِثالِ أمرِه فيه لازِمٌ، ومَصلَحَتُه ظاهِرةٌ. والمَصلَحةُ في الحَجِّ ونَحوِه مِنَ العِباداتِ هي طاعةُ اللهِ بفِعلِها؛ تَعظيمًا لأمرِه ولِما يَتَرَتَّبُ عليها للمُكلَّفينَ مِنَ الفوائِدِ الأُخرَويَّةِ، والتَّعَبُّدُ فيه ظاهِرٌ.
وإذا كان التَّعَبُّدُ والمَصلَحةُ مَوجودينِ في فَرضِ الكِفايةِ والعَينِ، فالفَرقُ بينَهما: أنَّ المَقصودَ في فَرضِ الكِفايةِ تَحصيلُ المَصلَحةِ التي تَضَمَّنها، وفي فَرضِ العَينِ تَعَبُّدُ الأعيانِ بفِعلِه [166] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/404). .
الوَجهُ الثَّاني: أنَّ فَرضَ العَينِ حَقٌّ خالِصٌ للهِ تعالى، وفَرضُ الكِفايةِ مُشتَرَكٌ بينَ حَقِّ اللهِ تعالى وحَقِّ العَبدِ.
فالحُقوقُ ثَلاثةُ أقسامٍ: إمَّا خالِصٌ للهِ عَزَّ وجَلَّ، كالتَّوحيدِ، والصَّلاةِ، والصِّيامِ، والحَجِّ.
أو خالِصٌ للآدَميِّ، كالتَّمَلُّكاتِ بالعُقودِ، والتَّشَفِّي بالقِصاصِ، ونَحوِ ذلك.
أو مُشتَرَكٌ بينَهما، بمَعنى: أنَّ للهِ عَزَّ وجَلَّ فيه طاعةً خالصةً، وللعَبدِ فيه مَصلَحةً عامَّةً.
فالأوَّلُ، وهو حَقُّ اللهِ سُبحانَه وتعالى، هو فَرضُ العَينِ. والثَّالِثُ -وهو المُشتَرَكُ- هو فَرضُ الكِفايةِ، كتَجهيزِ المَوتى، والصَّلاةِ عليهم، ودَفنِهم، أمَر اللهُ تعالى به، ولَهم فيه مَصلَحةٌ عامَّةٌ، وكذلك الجِهادُ، ووِلايةُ القَضاءِ، والإعانةُ عليه، وغيرُ ذلك مِنَ المَصالحِ العامَّةِ، المَأمورِ بها شَرعًا [167] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/405). .
الوَجهُ الثَّالِثُ: أنَّ فَرضَ العَينِ ما تَكرَّرَت مَصلحَتُه بتَكرُّرِه، وفَرضُ الكِفايةِ ما لا تَتَكرَّرُ مَصلَحَتُه بتَكرُّرِه.
فالفِعلُ على قِسمَينِ: الأوَّلُ: ما تَتَكرَّرُ مَصلَحَتُه بتَكرُّرِه كالصَّلَواتِ الخَمسِ؛ فإنَّ مَصلَحَتَها تَعظيمُ اللهِ تعالى، والخُضوعُ لَه، وهو مُتَكرِّرٌ بتَكرُّرِ الصَّلاةِ.
والثَّاني: ما لا تَتَكرَّرُ مَصلَحَتُه بتَكرُّرِه، كإنقاذِ الغَريقِ؛ فإنَّه إذا تَمَّ إنقاذُه مِنَ البَحرِ فالنَّازِلُ بَعدَ ذلك إلى البَحرِ لا يُحصِّلُ شيئًا مِنَ المَصلَحةِ، والأمرُ به مِن بابِ العَبَثِ، وكذلك إطعامُ الجائِعِ، وكِسوةُ العُريانِ، وقَتلُ الكُفَّارِ.
فالقِسمُ الأوَّلُ: جَعَله الشَّرعُ على جَميعِ الأعيانِ؛ تَكثيرًا للمَصلَحةِ بتَكرُّرِ ذلك الفِعلِ.
وأمَّا القِسمُ الثَّاني: فجَعله على الكِفايةِ؛ نَفيًا للعَبَثِ في الأفعالِ.
وقد يُعتَرَضُ على هذا الفَرقِ بصَلاةِ الجِنازةِ؛ فإنَّها واجِبةٌ على الكِفايةِ مَعَ أنَّ مَصلَحَتَها المَغفِرةُ للميِّتِ، وذلك غيرُ مَعلومِ الحُصولِ، فيَنبَغي أن يُصَلَّى عليه أبَدًا، ويَكونَ على الأعيانِ، بخِلافِ إنقاذِ الغَريقِ؛ فإنَّ مَصلَحَتَه حَصَلَت ويَتَعَذَّرُ تَكرُّرُها.
والجَوابُ: أنَّ مَصلَحةَ صَلاةِ الجِنازةِ حُصولُ المَغفِرةِ ظَنًّا، وقد حَصَلَ ظَنُّ المَغفِرةِ بالدُّعاءِ في المَرَّةِ الأولى؛ لقَولِ اللهِ تعالى: ادْعُونِي ‌أَسْتَجِبْ ‌لَكُمْ [غافر: 60] ، ولأنَّه لا يَحصُلُ القَطعُ بحُصولِ المَغفِرةِ أبَدًا، والشَّرعُ إنَّما يُكلِّفُ بالمَصالحِ التي يُمكِنُ تَحصيلُها قَطعًا أو ظَنًّا، وهذا لا يُمكِنُ أن يَحصُلَ فيه القَطعُ، فلَو لَم يَكُنِ الظَّنُّ كافيًا لتَعَذَّر التَّكليفُ [168] يُنظر: ((الفروق)) (1/126)، ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 157) كلاهما للقرافي. .
ضابطُ الفِعلِ الذي يوصَفُ بفَرضِ الكِفايةِ:
الذي يوصَفُ بأنَّه فَرضُ كِفايةٍ لَه شَرطانِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن يَكونَ فيه مَصلَحةٌ شَرعيَّةٌ، أو وسيلةٌ لمَصلَحةٍ شَرعيَّةٍ.
والمَصالحُ الشَّرعيَّةُ: كضَبطِ أُصولِ الدِّينِ وفُروعِه، والكِتابِ والسُّنَّةِ، وأنواعِ المَدارِكِ والأدِلَّةِ، وأن يوصِلَها كُلُّ قَرنٍ إلى مَن بَعدَه [169] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1460). .
وذَكرَ الغَزاليُّ أنَّه يُشتَرَطُ في الطَّائِفةِ القائِمةِ بهذا الشَّأنِ شُروطٌ أربَعةٌ:
أن يَكونوا وافِري العُقولِ؛ لأنَّ هذا العِلمَ لا يُحَقِّقُه إلَّا الأذكياءُ.
وأن يَكونَ اشتِغالُهم كثيرًا.
وأن يَكونوا ديَّانينَ؛ فإنَّ قَليلَ الدِّينِ لا يَطلُبُ جَوابَ الشُّبهةِ إذا وقَعَت لَه.
وأن يَكونوا فُصَحاءَ.
ومِن ذلك تَعليمُ القُرآنِ للصِّبيانِ، والفُروعِ للطَّلَبةِ، والنَّحوِ واللُّغةِ وما يَتَعَلَّقُ بالكِتابِ والسُّنَّةِ مِنَ القِراءاتِ السَّبعِ، ونَحوِ ذلك [170] يُنظر: ((إحياء علوم الدين)) للغزالي (1/99). ويُنظر أيضًا: ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1460)، ((شرح الكوكب الساطع)) للسيوطي (2/441). .
قال القَرافيُّ: (فَرضُ الكِفايةِ: هو العِلمُ الذي لا يَتَعَلَّقُ بحالةِ الإنسانِ، فيَجِبُ على الأُمَّةِ أن تَكونَ مِنهم طائِفةٌ يَتَفقَّهونَ في الدِّينِ؛ ليَكونوا قُدوةً للمُسلمينَ حِفظًا للشَّرعِ مِنَ الضَّياعِ، والذي يَتَعيَّنُ لهذا مِنَ النَّاسِ مَن جادَ حِفظُه، وحَسُنَ إدراكُه، وطابَت سَجيَّتُه وسَريرَتُه، ومَن لا فلا؛ لأنَّ مَن لا يَكونُ كذلك لا يَحصُلُ مِنه المَقصودُ، إمَّا لتَعَذُّرِه كسيِّئِ الفَهمِ؛ لأنَّه يَتَعَذَّرُ عليه أن يَصِلَ لرُتبةِ الاقتِداءِ، أو لسُوءِ الظَّنِّ به، فيَنفِرُ النَّاسُ عنه، فلا يَحصُلُ مِنه مَقصودُ الاقتِداءِ) [171] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 435). .
وأمَّا الوَسائِلُ للمَصالحِ الشَّرعيَّةِ: كالصَّنائِعِ والحِرَفِ التي لا يَستَغني عنها النَّاسُ، فيَجِبُ أن يَخرُجَ لكُلِّ حِرفةٍ طائِفةٌ تَقومُ بها، فإن كان لَهم في ذلك نيَّةٌ أُثيبوا على حِرَفِهم ثَوابَ الواجِبِ، وإلَّا فلا.
الشَّرطُ الثَّاني: أن يَكونَ مِمَّا لا تَتَكرَّرُ مَصلَحَتُه بتَكرُّرِه، كإنقاذِ الغَريقِ؛ فإنَّه إذا نَزَلَ الأوَّلُ في البَحرِ، ثُمَّ نَزَلَ آخَرُ بَعدَه، لَم يَحصُلْ بنُزولِه مَصلَحةٌ، وكذلك إطعامُ الجَوعانِ، وكِسوةُ العُريانِ [172] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (3/1460). .
حقيقةُ فَرضِ الكِفايةِ:
اختَلَف الأُصوليُّونَ في حَقيقةِ فَرضِ الكِفايةِ:
أهو فَرضٌ على الجَميعِ، ثُمَّ يَسقُطُ الفَرضُ بفِعلِ البَعضِ؟
أو هو فَرضٌ على واحِدٍ لا بعَينِه -أيَّ واحِدٍ كان- كالواجِبِ المُخيَّرِ في خِصالِ الكفَّارةِ؟
أو هو واجِبٌ على مَن حَضَرَ وتَعَيَّن، أعني: حَضَرَ الجِنازةَ أوِ المُنكَرَ، أمَّا مَن لَم يَتَعيَّنْ فهو نَدبٌ في حَقِّه؟
والرَّاجِحُ: هو عُمومُ الفَرضيَّةِ على جَميعِ المُكلَّفينَ؛ فالخِطابُ مُتَوجِّهٌ على الجَميعِ، ويَسقُطُ بفِعلِ البَعضِ، فإذا قامَ به بَعضُهم سَقَطَ عنِ الباقينَ، ولَو فعَلَه الجَميعُ نالَ كُلُّ واحِدٍ مِنهم ثَوابَ الفَرضِ، ولَوِ امتَنَعوا عَمَّ الإثمُ الجَميعَ، ويُقاتِلُهمُ الإمامُ على تَركِه؛ لأنَّ سُقوطَ الفَرضِ بدونِ الأداءِ مُمكِنٌ إمَّا بالنَّسخِ أو بسَبَبٍ آخَرَ.
قال الشَّاطِبيُّ: (طَلَبُ الكِفايةِ، يَقولُ العُلماءُ بالأصولِ: إنَّه مُتَوجِّهٌ على الجَميعِ، لكِن إذا قامَ به بَعضُهم سَقَطَ عنِ الباقينَ، وما قالوه صَحيحٌ مِن جِهةِ كُلِّيِّ الطَّلَبِ، وأمَّا مِن جِهةِ جُزئيِّه ففيه تَفصيلٌ، ويَنقَسِمُ أقسامًا، ورُبَّما تَشَعَّبَ تَشَعُّبًا طَويلًا، ولكِنَّ الضَّابطَ للجُملةِ مِن ذلك أنَّ الطَّلبَ وارِدٌ على البَعضِ، ولا على البَعضِ كَيف كان، ولكِن على مَن فيه أهليَّةُ القيامِ بذلك الفِعلِ المَطلوبِ، لا على الجَميعِ عُمومًا) [173] ((الموافقات)) (1/278). .
أمَّا الإيجابُ على واحِدٍ لا بعَينِه فمُحالٌ؛ لأنَّ المُكلَّفَ يَنبَغي أن يَعلَمَ أنَّه مُكلَّفٌ، وإذا أُبهم الوُجوبُ تَعذَّر الامتِثالُ. وهذا بخِلافِ إيجابِ خَصلةٍ مِن خَصلَتينِ في الواجِبِ المُخيَّرِ؛ فإنَّ التَّخييرَ فيهما لا يوجِبُ تَعَذُّرَ الامتِثالِ؛ حيثُ إنَّ المُكلَّفَ مُخيَّرٌ بينَ أُمورٍ مُعيَّنةٍ [174] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 217)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/584)، ((الموافقات)) للشاطبي (1/278). .
وإذا ثَبَت وُجوبُه على الجَميعِ، فالقادِرُ عليه يَقومُ بنَفسِه به، وغيرُ القادِرِ يَحُثُّ غيرَه على القيامِ به؛ لأنَّ الخِطابَ موجَّهٌ لكُلِّ مُكلَّفٍ.
فإذا قامَ به بَعضُهم فقَد بَرِئَت ذِمَّةُ الجَميعِ؛ لأنَّ الإثمَ يَتَعَلَّقُ بالجَميعِ عِندَ عَدَمِ الفِعلِ، ويَسقُطُ هذا الإثمُ بفِعلِ البَعضِ، فإذا لَم يُؤَدِّه أحَدٌ أثِمَ الجَميعُ؛ لأنَّ القادِرَ لَم يُؤَدِّه، وغيرَ القادِرِ لَم يُحِثَّ عليه [175] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/325). .
والقَولُ بتَعَلُّقِ الوُجوبِ بالجَميعِ هو قَولُ الأئِمَّةِ الأربَعةِ، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ [176] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/876). . فالخِطابُ يَتَوجَّهُ إلى جَميعِ المُكلَّفينَ، وعلى هذا لا فرقَ بينَ فَرضِ الكِفايةِ وفَرضِ العَينِ في الابتِداءِ، وإنَّما يَفتَرِقانِ في ثاني الحالِ [177] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 254). .
قال ابنُ القَيِّمِ: (وأمَّا فَرضُ الكِفايةِ فلا أعلمُ فيه ضابطًا صحيحًا؛ فإنَّ كُلَّ أحَدٍ يُدخِلُ في ذلك ما يَظُنُّه فرضًا... فإنَّ فَرضَ الكِفايةِ كفَرضِ العَينِ في تَعَلُّقِه بعُمومِ المُكَلَّفينَ، وإنما يُخالفُه في سُقوطِه بفِعلِ البَعضِ) [178] ((مفتاح دار السعادة)) (1/444-445). .
قال الشَّافِعيُّ: (حَقٌّ على النَّاسِ غُسلُ الميِّتِ، والصَّلاةُ عليه ودَفنُه، لا يَسَعُ عامَّتَهم تَركُه، وإذا قامَ بذلك مِنهم مَن فيه كِفايةٌ لَه أجزَأَ إن شاءَ اللهُ تعالى، وهو كالجِهادِ عليهم حَقٌّ أنْ لا يَدَعوه، وإذا ابتَدَرَ مِنهم مَن يَكفي النَّاحيةَ التي يَكونُ بها الجِهادُ أجزَأَ عنهم، والفضلُ لأهلِ الوِلايةِ بذلك على أهلِ التَّخَلُّفِ عنه) [179] ((الأم)) (1/312). .
وقال أحمَدُ: (الغَزوُ واجِبٌ على النَّاسِ كُلِّهم، فإذا غَزا بَعضُهم أجزَأ عنهم) [180] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 30)، ((أصول الفقه) لابن مفلح (1/198). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الجِهادَ فَرضُ كِفايةٍ، وقد وجَبَ على جَميعِ المُكلَّفينَ بقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 123] .
ثُمَّ أجمَعَ المُسلِمونَ على سُقوطِه عن جَميعِهم بفِعلِ مَن يَقومُ بطَردِ العَدوِّ، وكَفِّ شَرِّه عنِ المُسلِمينَ [181] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/405). .
2- أنَّه لَو لَم يَكُنِ الخِطابُ مُتَوجِّهًا لكُلِّ واحِدٍ لَما عَصى الكُلُّ بالتَّركِ [182] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/341). .
أيُّهما أَولى بالتَّقديمِ: الكِفائيُّ أوِ العَينيُّ؟
إذا تَعارَضَ الواجِبانِ: الكِفائيُّ والعَينيُّ، يُقَدَّمُ فَرضُ العَينِ على فَرضِ الكِفايةِ؛ لأنَّه آكَدُ وأفضلُ، وهذا قَولُ الأكثَرِ [183] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (2/883)، ((موسوعة القواعد الفقهية)) للبورنو (2/362). .
وذلك للآتي:
1- شِدَّةُ اعتِناءِ الشَّارِعِ بفَرضِ العَينِ بقَصدِ حُصولِه مِن كُلِّ مُكلَّفٍ في الأغلَبِ، ففَرضُ العينِ أهَمُّ، ولأجلِ ذلك وجَبَ على الأعيانِ.
2- أنَّ فَرضَ الكِفايةِ يَعتَمِدُ عَدَمَ تَكرُّرِ المَصلَحةِ بتَكرُّرِ الفِعلِ، وفرضَ الأعيانِ يَعتَمِدُ تَكرُّرَ المَصلَحةِ بتَكرُّرِ الفِعلِ، والفِعلُ الذي تَتَكرَّرُ مَصلَحَتُه في جَميعِ صُوَرِه أقوى في استِلزامِ المَصلَحةِ مِنَ الذي لا توجَدُ المَصلَحةُ مَعَه إلَّا في بَعضِ صُوَرِه [184] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/339)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 28)، ((الفروق)) للقرافي (2/203)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/410)، ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 255)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/377). قال الزَّركشيُّ: (قال الشَّيخُ كمالُ الدِّينِ الزَّمَلكانيُّ: ما ذُكِرَ مِن تَفضيلِ فَرضِ الكِفايةِ على فَرضِ العَينِ مَحمولٌ على ما إذا تَعارَضا في حَقِّ شَخصٍ واحِدٍ، ولا يَكونُ ذلك إلَّا عِندَ تَعيُّنِهما، وحينَئِذٍ هما فَرضا عينٍ، وما يُسقِطُ الحَرَجَ عنه وعن غيرِه أَولى، وأمَّا إذا لَم يَتَعارَضا، وكان فرضُ العينِ مُتَعَلِّقًا بشَخصٍ، وفَرضُ الكِفايةِ لَه مَن يَقومُ به، ففَرضُ العينِ أَولى). ((البحر المحيط)) (1/ 333). وقال الطُّوفيُّ بَعدَ أن ذَكرَ الخِلافَ في الأفضَليَّةِ: (يُمكِنُ الجَمعُ بينَ القَولينِ، بأنَّ كُلًّا مِنهما أفضَلُ مِن وَجهٍ). ((شرح مختصر الروضة)) (2/ 410). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
أوَّلًا: أنَّ مِن شُروطِ الاشتِغالِ بعِلمِ الخِلافِ: أن لا يَشتَغِلَ به -وهو مِن فُروض الكِفاياتِ- مَن لَم يَتَفرَّغْ مِن فُروضِ الأعيانِ. قال الغَزاليُّ: (ومَن عليه فَرضُ عَينٍ فاشتَغَلَ بفَرضِ كِفايةٍ، وزَعمَ أنَّ مَقصودَه الحَقُّ، فهو كذَّابٌ، ومِثالُه: مَن يَترُكُ الصَّلاةَ في نَفسِه ويَتَجَرَّدُ في تَحصيلِ الثِّيابِ ونَسجِها، ويَقولُ: غَرَضي أستُرُ عَورةَ مَن يُصَلِّي عُريانًا ولا يَجِدُ ثَوبًا) [185] ((إحياء علوم الدين)) (1/ 43). .
ثانيًا: لَوِ اجتَمَعَت جِنازةٌ وجُمعةٌ، وضاقَ الوقتُ، قُدِّمَتِ الجُمعةُ [186] يُنظر: ((المنثور في القواعد الفقهية)) للزركشي (3/ 40). .
ثالثًا: أنَّ مَن عليه دَينٌ حالٌّ ليس لَه أن يَخرُجَ في سَفَرِ الجِهادِ، إلَّا بإذنِ المُدايِنِ؛ إذ لا يَجوزُ أن يَترُكَ الفَرضَ المُتَعيِّنَ عليه، ويَشتَغِلَ بفَرضِ الكِفايةِ [187] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/333)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 28)، ((حاشية العطار)) (1/238). .
قال الزَّركشيُّ: (وكُلُّ هذا يَرُدُّ إطلاقَ مَن أطلَقَ أنَّ القيامَ بفَرضِ الكِفايةِ أفضَلُ مِنَ القيامِ بفَرضِ العَينِ مِن جِهةِ إسقاطِه الحَرَجَ عنِ الأُمَّةِ، والعَمَلُ المُتَعَدِّي أفضَلُ مِنَ القاصِرِ، ومِن هذا ليس للوالِدَينِ مَنعُ الولَدِ مِن حَجَّةِ الإسلامِ على الصَّحيحِ، بخِلافِ الجِهادِ؛ فإنَّه لا يَجوزُ إلَّا برِضاهما؛ لأنَّ بِرَّهما فَرضُ عَينٍ، والجِهادُ فرضُ كِفايةٍ، وفَرضُ العَينِ مُقَدَّمٌ. نَعَم، سَوَّوا بينَهما في طَلَبِ العِلمِ، فقالوا: إن كان مُتَعيِّنًا فليس لَهما مَنعُه، وكذا إن كان فَرضَ كِفايةٍ على الصَّحيحِ؛ لأنَّه بالخُروجِ إليه يَدفعُ الإثمَ عن نَفسِه، كالفَرضِ المُتَعيِّنِ) [188] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (1/339). .
وفي فتاوى النَّوويِّ: أنَّ الجِهادَ ما دامَ فَرضَ كِفايةٍ، فالاشتِغالُ بالعِلمِ أفضَلُ مِنه، فإن صارَ الجِهادُ فَرضَ عينٍ، فهو أفضَلُ مِنَ العِلمِ، سَواءٌ كان العِلمُ فَرضَ عَينٍ أو كِفايةٍ [189] يُنظر: ((فتاوى النووي)) (ص: 170). .
هل يَنقَلبُ فَرضُ الكِفايةِ إلى فَرضِ عَينٍ؟
قَد يَنقَلبُ فَرضُ الكِفايةِ إلى فَرضِ عَينٍ في الأحوالِ التَّاليةِ:
الحالُ الأولى: إذا شَرَعَ المُكلَّفُ في فِعلِه.
الحالُ الثَّانيةُ: حالةُ التَّعيُّنِ لأدائِه، كما إذا طَلبَ الإمامُ أو مَن لَه حَقٌّ خاصٌّ في الفَرضِ الكِفائيِّ مِن شَخصٍ أو طائِفةٍ القيامَ به.
الحالُ الثَّالِثةُ: إذا ظَنَّ المُخاطَبُ به أنَّ غيرَه لَم يَقُمْ به [190] يُنظر: ((الفرض الكفائي)) للعتيبي (ص: 136). .
وفيما يَلي بيانُ هذه الحالاتِ:
الحالُ الأولى: الشُّروعُ في فَرضِ الكِفايةِ:
تَتَبيَّنُ صورةُ المَسألةِ فيمَن شَرَعَ في فِعلِ فَرضٍ مِن فُروضِ الكِفايةِ، كمَن شَرَعَ في حِفظِ القُرآنِ الكريمِ، أو تَعَلُّمِ الطِّبِّ، أو شَرَعَ في الجِهادِ، أو في صَلاةِ الجِنازةِ، أوِ القَضاءِ، أوِ الإفتاءِ، فهل يَلزَمُه إتمامُ هذا العَمَلِ، ويَصيرُ الإتمامُ فَرضَ عَينٍ عليه، أو أنَّه مُخيَّرٌ بينَ إتمامِه والانقِطاعِ عنه [191] يُنظر: ((سلاسل الذهب)) للزركشي (ص: 116). ؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في ذلك، وهذا الخِلافُ -في تَعيينِ فَرضِ الكِفايةِ بالشُّروعِ فيه- إنَّما هو في غيرِ الجِهادِ، أمَّا هو فمُتَّفَقٌ على تَعَيُّنِه بالشُّروعِ فيه [192] يُنظر: ((الضياء اللامع)) لحلولو (1/198)، ((حاشية العطار)) (1/241)، ((تهذيب الفروق والقواعد السنية)) لمحمد المالكي (1/163)، ((الفرض الكفائي)) للعتيبي (ص: 136). .
فاختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على أربَعةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ فَرضَ الكِفايةِ يَلزَمُ بالشُّروعِ فيه، أي: يَصيرُ به كفَرضِ العَينِ في وُجوبِ إتمامِه على مَن شَرَعَ فيه. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ والمالِكيَّةِ؛ فهم يَرَونَ وُجوبَ إتمامِ النَّفلِ بالشُّروعِ فيه، فالفَرضُ مِن بابِ أَولى [193] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/115)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/150)، ((الفرض الكفائي)) للعتيبي (ص: 141). . وهو الأظهَرُ عِندَ الحنابِلةِ [194] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 60)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/378). ، وبه قال الطُّوفيُّ [195] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (2/410). ، وابنُ السُّبكيِّ [196] يُنظر: ((جمع الجوامع)) لتاج الدين السبكي (ص: 17). ، وصَحَّحهُ السُّيوطيُّ [197] يُنظر: ((شرح الكوكب الساطع)) للسيوطي (1/144). ونُسِب إلى ابنِ الرِّفْعةِ تصحيحُه. .
واستدلُّوا بما يلي:
1- القياسُ على فَرضِ العَينِ بجامِعِ الفرضيَّةِ في كُلٍّ، فأُلحِقَ به في تَعيُّنِه بالشُّروعِ فيه؛ فكما يَجِبُ على المُكلَّفِ إتمامُ فَرضِ العَينِ، كصَلاةِ الظُّهرِ أوِ العَصرِ، وصيامِ رَمَضانَ، وغَيرِها مِن فُروضِ الأعيانِ، كذلك يَجِبُ عليه إتمامُ فَرضِ الكِفايةِ؛ لأنَّه انقَلَبَ إلى فَرضِ عَينٍ بالشُّروعِ فيه [198] يُنظر: ((البدر الطالع)) للمحلي (1/142)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 28)، ((حاشية العطار)) (1/240). .
2- أنَّه بالشُّروعِ فيه تَعَلَّقَ به حَقُّ الغيرِ، وهو انعِقادُ سَبَبِ بَراءةِ ذِمَّتِه مِنَ التَّكليفِ بفَرضِ الكِفايةِ، وخُروجِه مِن عُهدَتِه، فلا يَجوزُ لَه إبطالُ ما تَعَلَّقَ به حَقُّ غيرِه، كما لَو أقَرَّ بحَقٍّ، لَم يَجُزْ لَه الرُّجوعُ عنه [199] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/410). .
3- القياسُ على مَسألةِ حِفظِ القُرآنِ؛ فإنَّ حِفظَ القُرآنِ فَرضُ كِفايةٍ إجماعًا، ولَكِن إذا حَفِظَه مُسلِمٌ ثُمَّ تَرَك تِلاوتَه مِن غيرِ عُذرٍ حَتَّى نَسيَه، فإنَّه يَحرُمُ على الصَّحيحِ، فكذلك باقي فُروضِ الكِفايةِ يَجِبُ إتمامُها قياسًا على حِفظِ القُرآنِ؛ بجامِعِ أنَّ الكُلَّ فرضُ كِفايةٍ، فوجَبَ أن يَتَّحِدَ الحُكمُ فيها دونَ تَفرِقةٍ بينَ فرضٍ وفرضٍ آخَرَ [200] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 188)، ((التحبير)) للمرداوي (2/884)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/378)، ((شرح المختصر في أصول الفقه للبعلي)) للشثري (ص: 147). .
القَولُ الثَّاني: لا يَلزَمُ فَرضُ الكِفايةِ بالشُّروعِ فيه. وهو وَجهٌ عِندَ الشَّافِعيَّةِ [201] يُنظر: ((شرح الكوكب الساطع)) للسيوطي (1/144). ، وصرَّح به القَفَّالُ [202] ذَهَبَ القَفَّالُ إلى أنَّه لا يَلزَمُ فَرضُ الكِفايةِ بالشُّروعِ فيه، وقال: لا يَليقُ بأصلِ الشَّافِعيِّ تَعيينُ الحُكمِ بالشُّروعِ. يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/331)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (2/497). ، وصحَّحه الغَزاليُّ [203] يُنظر: ((الوجيز)) (2/189). .
واستدَلُّوا بما يلي:
1- القياسُ على النَّفلِ؛ وذلك أنَّ ما لا يَجِبُ الشُّروعُ فيه لا يَجِبُ إتمامُه، وفَرضُ الكِفايةِ لا يَجِبُ الشُّروعُ فيه، فلا يَجِبُ إتمامُه كصَومِ النَّفلِ.
ولأنَّه لَو تَعيَّنَ بالشُّروعِ لَما جازَ للقاضي أن يَعزِلَ نَفسَه، لَكِنَّه جائِزٌ باتِّفاقٍ [204] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/410). .
2- أنَّ القَصدَ به حُصولُ الفَرضِ في الجُملةِ، فلا يَتَعيَّنُ حُصولُه مِمَّن شَرَعَ فيه، كما لا يَتَعيَّنُ إذا فعَلَه غيرُه مِنَ المُكلَّفينَ؛ فإنَّه يَسقُطُ [205] يُنظر: ((البدر الطالع)) للمحلي (1/142)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 28). .
القَولُ الثَّالِثُ: لا يَلزَمُ فَرضُ الكِفايةِ بالشُّروعِ فيه إلَّا في الجِهادِ وصَلاةِ الجِنازةِ. وهو قَولُ إمامِ الحَرَمينِ [206] يؤخَذُ مذهَبُه من نصوصِه الفِقهيَّةِ. يُنظر: ((نهاية المطلب)) (8/517)، و (17/423). ، والبارزيُّ [207] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/330)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 82). وقال حُلُولُو: (الأقرَبُ عِندي أنَّه لا يَتَعيَّنُ بالشُّروعِ إن كان هناك مَن يَقومُ به؛ لأنَّ المَقصودَ حُصولُ الفِعلِ مِن غيرِ نَظَرٍ بذلك إلى فاعِلِه، إلَّا فيما قامَ الدَّليلُ على وُجوبِ إتمامِه بالشُّروعِ، كصَلاةِ الجِنازةِ، بخِلافِ تَكفينِ الميِّتِ ودَفنِه). ((الضياء اللامع)) (1/327). . وبه قال الزَّركَشيُّ وزادَ عليه الحَجَّ تَطَوُّعًا؛ فإنَّه لا يَقَعُ إلَّا فَرضَ كِفايةٍ [208] يُنظر: ((المنثور في القواعد)) (3/38). ، وزَكريَّا الأنصاريُّ وزاد: الحَجَّ والعُمرةَ [209] يُنظر: ((غاية الوصول)) (ص: 28). .
واستَدَلُّوا على أنَّه لا يَلزَمُ فَرضُ الكِفايةِ بالشُّروعِ فيه إلَّا في الجِهادِ وصَلاةِ الجِنازةِ بشِدَّةِ شَبَهِها بفَرضِ العَينِ، ولِما في عَدَمِ التَّعيينِ في الجِهادِ مِن كسرِ قُلوبِ الجُندِ، وهَدمِ الرُّوحِ المَعنَويَّةِ بينَهم، ولِما في عَدَمِ لُزومِ صَلاةِ الجِنازةِ مِن هَتكِ حُرمة الميِّتِ، وأيضًا فإنَّها تَعَلَّقَت بعَينِ المُصَلِّي، ولَم تَكُنْ مُتَعَلِّقةً به قَبلَ الشُّروعِ، فيَتَعَلَّقُ الإتمامُ بها [210] يُنظر: ((نهاية المطلب)) للجويني (17/423)، ((التحبير)) للمرداوي (2/886)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 28). .
القَولُ الرَّابعُ: التَّوقُّفُ، فلا يُرَجَّحُ في هذه القاعِدةِ شيءٌ بخُصوصِه. وهو قَول الرَّافِعيِّ، والنَّوويِّ [211] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/256)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 82). .
واستَدَلُّوا بأنَّ هذه القاعِدةَ مِنَ القَواعِدِ المُختَلَفِ فيها التي لا يُطلَقُ فيها التَّرجيحُ؛ بسَبَبِ اختِلافِ التَّرجيحِ في فُروعِها [212] يُنظر: ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 83). .
مَنشَأُ الخِلافِ في المسألةِ:
سَبَبُ اختِلافِ الأُصوليِّينَ في هذه المَسألةِ هو تَرَدُّدُ فَرضِ الكِفايةِ بينَ فَرضِ العَينِ والنَّفلِ مِن جِهةِ وُجوبِه والعِصيانِ بتَركِه مُطلَقًا، ومِن جِهةِ جَوازِ تَركِه عِندَ فِعلِ بَعضِ المُكلَّفينَ له [213] يُنظر: ((الفرض الكفائي)) للعتيبي (ص: 139). .
وهذا الشَّبَهُ بينَ فَرضِ العَينِ وفَرضِ الكِفايةِ هو الذي جَعَلَ ابنَ بَرهانَ يَقولُ: إنَّه لا فرقَ بينَ فَرضِ العَينِ وفَرضِ الكِفايةِ [214] يُنظر: ((الوصول)) (1/80). .
الرَّاجِحُ:
هو التَّفصيلُ بالتَّفرِقةِ بينَ أنواعِ فُروضِ الكِفاياتِ؛ فمِنها ما يَلزَمُ مِن قَطعِه بُطلانُ ما مَضى مِنَ الفِعلِ كصَلاةِ الجِنازةِ، والجِهادِ في سَبيلِ اللهِ تعالى، فمِثلُ هذه الفُروضِ الكِفائيَّةِ يَجِبُ إتمامُها بالشُّروعِ فيها، لا سيَّما وأنَّها شَديدةُ الشَّبَهِ بفَرضِ العَينِ.
ومِنها ما لا تَفوتُ بقَطعِه المَصلَحةُ المَقصودةُ للشَّارِعِ على الجُملةِ، كما إذا شَرَعَ في إنقاذِ غَريقٍ ثُمَّ حَضَرَ آخَرُ لإنقاذِه، جازَ قَطعًا، وكالحِرَفِ والصِّناعاتِ، والاشتِغالِ بالعُلومِ الشَّرعيَّةِ، وغيرِها، فمِثلُ هذه الفُروضِ الكِفائيَّةِ لا تَتَعيَّنُ بالشُّروعِ فيها، بشَرطِ وُجودِ مَن تَحصُلُ الكِفايةُ بقيامِه بها [215] يُنظر: ((المنثور)) للزركشي (2/244). .
الحالُ الثَّانيةُ: حالةُ التَّعيينِ لأدائِه
وفي هذه الحالِ: إمَّا أن يَتَعيَّنَ على جَميعِ المُكلَّفينَ، أو يَتَعيَّنَ على فردٍ واحِدٍ:
أوَّلًا: أن يَتَعيَّنَ جَميعُ المُكَلَّفينَ لأداءِ فَرضِ الكِفايةِ، فيَنقَلبُ الواجِبُ الكِفائيُّ إلى واجِبٍ عينيٍّ على كُلِّ مُسلمٍ في بَعضِ الحالاتِ، كالجِهادِ في سَبيلِ اللهِ؛ فهو واجِبٌ كِفائيٌّ، ولَكِن إذا تَعَرَّضَت بلادُ المُسلمينَ للغَزوِ أوِ الاعتِداءِ، فيُصبحُ الجِهادُ واجِبًا عينيًّا على كُلِّ مُكلَّفٍ قادِرٍ يَستَطيعُ حَملَ السِّلاحِ وحِمايةَ الوطَنِ والذَّودَ عن حياضِه، وإقامةَ حُكمِ اللهِ وشَرعِه في الأرضِ، فإذا دَخَلَ العَدوُّ أرضَ المُسلمينَ تَعَيَّن على جَميعِ المُكلَّفينَ أن يَهُبُّوا لقِتالِه، كُلٌّ على قَدرِ استِطاعَتِه، ولا يُكلِّفُ اللهُ نَفسًا إلَّا وُسعَها.
ثانيًا: أن يَتَعيَّنَ فردٌ واحِدٌ لأدائِه؛ فالواجِبُ الكِفائيُّ إذا انحَصَرَ في شَخصٍ واحِدٍ صارَ واجِبًا عينيًّا عليه، ووجَبَ عليه القيامُ به، كما إذا أشرَف مَريضٌ على المَوتِ، ولَم يوجَدْ بالمَكانِ إلَّا طَبيبٌ واحِدٌ؛ فإنَّه يَتَعيَّنُ عليه إسعافُه.
ومِثلُ وُجودِ عالمٍ واحِدٍ للفتوى، وشاهدٍ واحِدٍ في القَضيَّةِ، وسَبَّاحٍ واحِدٍ أمامَ الغَريقِ، ففي كُلِّ هذه الأمثِلةِ تَعيَّنَ الواجِبُ على كُلٍّ مِنهم، وصارَ الواجِبُ الكِفائيُّ واجِبًا عينيًّا عليهم [216] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/326). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
حُكمُ أخذِ الأُجرةِ على تَحَمُّلِ الشَّهادةِ:
فمَن قال بالتَّعيينِ يَمنَعُ أخذَ الأُجرةِ عليه؛ لأنَّ فَرضَ العَينِ لا يَجوزُ أخذُ الأُجرةِ عليه.
ومَن قال بعَدَمِ التَّعيينِ يُجيزُ ذلك [217] يُنظر: ((الضياء اللامع)) لحلولو (1/327). .
الحالُ الثَّالثةُ: إذا ظَنَّ المُكلَّفُ به أنَّ غيرَه لَم يَقُمْ به
فيَجِبُ فرضُ الكِفايةِ وُجوبًا عينيًّا على مَن ظَنَّ أنَّ غيرَه لَم يَقُمْ به؛ وذلك لأنَّ التَّكليفَ في فَرضِ الكِفايةِ مَنوطٌ بالظَّنِّ لا بالتَّحقيقِ، فإن ظَنَّ المُكلَّفُ أنَّ غيرَه قامَ به سَقَطَ عنه الفرضُ، وإن أدَّى ذلك إلى أن لا يَفعَلَه أحَدٌ، وإن ظَنَّ أنَّ غيرَه لَم يَقُمْ به وجَبَ عليه فِعلُه، وإن أدَّى ذلك إلى فِعلِ الجَميعِ [218] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/573)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/326)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/376). .
ثالثًا: أقسامُ الواجِبِ باعتِبارِ تَقديرِه
يَنقَسِمُ الواجِبُ باعتِبارِ تَقديرِه وتَحديدِه إلى واجِبٍ مُقَدَّرٍ وواجِبٍ غيرِ مُقَدَّرٍ.
1- الواجِبُ المُقَدَّرُ:
أيِ المُحَدَّدُ مِنَ الشَّارِعِ، وهو الفِعلُ الذي طَلَبَه الشَّارِعُ طَلَبًا جازِمًا، وعيَّن لَه مِقدارًا مَعلومًا، بحيثُ لا تَبرَأُ ذِمَّةُ المُكلَّفِ مِن هذا الواجِبِ إلَّا إذا أدَّاه على الوَجهِ الذي عيَّنَه الشَّارِعُ [219] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلّاف (ص: 109)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/321). .
أمثِلتُه:
أوَّلًا: الصَّلَواتُ الخَمسُ: فكُلُّ فريضةٍ مِنَ الصَّلَواتِ الخَمسِ مَشغولةٌ بها ذِمَّةُ المُكلَّفِ حَتَّى تُؤَدَّى بعَدَدِ رَكعاتِها وأركانِها وشُروطِها المُحَدَّدةِ.
ثانيًا: أنصِبةُ الزَّكاةِ ومِقدارُ الواجِبِ فيها، والدُّيونُ الماليَّةُ؛ فالزَّكاةُ مَشغولةٌ بها ذِمَّةُ المُكلَّفِ حَتَّى تُؤَدَّى بمِقدارِها في مَصرِفِها.
ثالثًا: مَن نَذَرَ أن يَتَصَدَّقَ بمبلَغٍ مُعيَّنٍ فالواجِبُ عليه بالنَّذرِ واجِبٌ مُحَدَّدٌ [220] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 110). .
حُكمُه:
يَلزَمُ المُكلَّفَ، ولا تَبرَأُ ذِمَّتُه إلَّا بأدائِه على ما تَمَّ تَعيينُه، ولا يَجوزُ لَه أن يُغيِّرَ شيئًا مِنَ الفِعلِ المُحَدَّدِ والمُعيَّنِ، وإذا تَوقَّف وجودُه أوِ العِلمُ بوُجودِه على شيءٍ، يَكونُ ما تَوقَّف عليه واجِبًا؛ لأنَّه لا تَبرَأُ الذِّمَّةُ إلَّا بأدائِه بمِقدارِه الذي قَدَّرَه الشَّارِعُ، وهو مِن بابِ: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ [221] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 109)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/210). .
2- الواجِبُ غيرُ المُقَدَّرِ:
وهو ما لَم يُعَيِّنِ الشَّارِعُ مِقدارَه، بَل طَلَبه مِنَ المُكلَّفِ بغيرِ تَحديدٍ.
أمثِلَتُه:
أوَّلًا: مِقدارُ النَّفقةِ الواجِبةِ على الزَّوجِ لزَوجَتِه، والواجِبةِ على القَريبِ لقَريبِه.
ثانيًا: التَّصَدُّقُ على الفُقَراءِ إذا وجَبَ بالنَّذرِ.
ثالثًا: إطعامُ الجائِعِ وإغاثةُ المَلهوفِ.
وغيرُ ذلك مِنَ الواجِباتِ التي لَم يُحَدِّدْها الشَّارِعُ، لأنَّ المَقصودَ بها سَدُّ الحاجةِ، ومِقدارُ ما تُسَدُّ به الحاجةُ يَختَلِفُ باختِلافِ الحاجاتِ والمُحتاجينَ والأحوالِ [222] يُنظر: ((علم أصول الفقه)) لخلاف (ص: 110). .
حُكمُه:
أنَّ الشَّارِعَ طَلَبَه مِنَ المُكلَّفِ بغيرِ تَحديدٍ، وتَركَ تَقديرَه لأهلِ الذِّكرِ في الأُمَّةِ، مِثلُ مِقدارِ التَّعزيرِ على الجَرائِمِ التي نَهى الشَّارِعُ عنها، ولَم يُحَدِّدْ مِقدارَ العُقوبةِ لَها؛ لأنَّ القَصدَ تَحقيقُ العَدالةِ، وهذا يَختَلفُ بحَسَبِ الأشخاصِ والأزمانِ والأماكِنِ والظُّروفِ، فليس لهذه الواجِباتِ تَقديراتٌ شَرعيَّةٌ، ولَكِن يَعودُ تَقديرُها إلى الظُّروفِ وإدراكِ المُكلَّفِ، أو إلى العُرفِ، أو قَضاءِ القاضي [223] يُنظر: ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/211)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/322). .
رابعًا: أقسامُ الواجِبِ باعتِبارِ وقتِه
الوقتُ عِندَ الأُصوليِّينَ: هو الزَّمانُ المَنصوصُ عليه للفِعلِ مِن جِهةِ الشَّرعِ [224] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/189). .
والفِعلُ المَأمورُ به تارةً يُعيِّنُ الآمِرُ وقتَه، كالصَّلَواتِ الخَمسِ وتَوابعِها، وصيامِ رَمَضانَ، وزَكاةِ الفِطرِ؛ فإنَّ جَميعَ ذلك قُصِدَ فيه زَمانٌ مُعيَّنٌ.
وتارةً يَطلُبُ الفِعلَ مِن غيرِ تَعَرُّضٍ للزَّمانِ، وإن كان الأمرُ يَدُلُّ على الزَّمانِ بالالتِزامِ؛ إذ مِن ضَرورةِ الفِعلِ وُقوعُه في زَمانٍ، ولَكِنَّه ليس مَقصودًا للشَّارِعِ، ولا مَأمورًا به قَصدًا.
فالقِسمُ الأوَّلُ يُسَمَّى مُؤَقَّتًا، والقِسمُ الثَّاني يُسَمَّى غيرَ مُؤَقَّتٍ.
وسَواءٌ قيلَ في القِسمِ الثَّاني: إنَّ الأمرَ يَقتَضي الفورَ أوِ التَّراخيَ، أو كان قَد دَلَّ على ذلك قَرينةٌ، كإنقاذِ الغَريقِ ونَحوِ ذلك، أو لا؛ فإنَّ المَقصودَ مِن هذا كُلِّه إنَّما هو الفِعلُ مِن غيرِ تَعَرُّضٍ إلى الزَّمانِ.
والقِسمُ الأوَّلُ: قُصِد فيه الفِعلُ والزَّمانُ، إمَّا لمَصلَحةٍ اقتَضَت تَعيينَ ذلك الزَّمانِ، وإمَّا تَعَبُّدًا مَحضًا.
والقِسمُ الثَّاني: ليس فيه إلَّا قَصدُ الفِعلِ، فالقِسمُ الثَّاني لا يوصَفُ فِعلُه بأداءٍ ولا قَضاءٍ؛ لأنَّهما فرعا الوَقتِ، ولا وَقتَ لَه.
ومِن هذا القِسمِ: الأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكرِ، فهو وإن كان وقتُه وقتَ سَبَبِه، ولَكِنَّه ليس وقتًا مُعيَّنًا مِن حيثُ هو، وإنَّما هو حُضورُه، وكذا زَكاةُ المالِ إذا حالَ الحَولُ، فكُلُّ هذه واجِباتٌ فوريَّةٌ غيرُ مُؤَقَّتةٍ. وكذا الواجِباتُ على التَّراخي بلا حَدٍّ [225] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/200). .
وبهذا يَنقَسِمُ الواجِبُ باعتِبارِ وقتِ أدائِه إلى قِسمينِ: واجِبٌ غيرُ مُؤَقَّتٍ، وواجِبٌ مُؤَقَّتٌ.
أوَّلًا: الواجِبُ غيرُ المُؤَقَّتِ
وهو ما طَلَبَ الشَّارِعُ فِعلَه مِن غيرِ تَعَرُّضٍ للزَّمانِ، فلَم يُحَدِّدْ أداءَه بزَمَنٍ مُعيَّنٍ [226] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/190). .
أمثِلَتُه:
الحُدودُ والكفَّاراتُ، والأمرُ بالمَعروفِ والنَّهيُ عنِ المُنكَرِ، وقَضاءُ ما أفطَرَه المُكلَّفُ بعُذرٍ مِن رَمَضانَ.
فقَدِ انعَقَدَ الإجماعُ على أنَّ الحُدودَ؛ كحَدِّ الزِّنا والسَّرِقةِ والقَتلِ، والكفَّاراتِ؛ ككفَّارةِ الظِّهارِ والجِماعِ في نَهار رَمَضان: إذا تَحَقَّقَ سَبَبُها لا يَتَعيَّنُ فِعلُها وقتَ حُصولِ سَبَبها بالإجماعِ، مَعَ القَولِ بوُجوبِها [227] يُنظر: ((لباب المحصول)) لابن رشيق (1/220). .
حُكمُه:
يَفعَلُه المُكلَّفُ في أيِّ وقتٍ شاءَ، ولا يوصَفُ فِعلُه بأداءٍ ولا قَضاءٍ؛ لأنَّهما فَرعُ الوقتِ المُحَدَّدِ، ولا وقتَ له [228] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/190). .
2- الواجِبُ المُؤَقَّتُ:
هو ما طَلَبَ الشَّارِعُ إيقاعَه مِنَ المُكلَّفِ طَلَبًا جازِمًا، وحَدَّدَ لَه وقتًا مُعيَّنًا لأدائِه وإيقاعِه به [229] يُنظر: ((الجامع)) لعبدالكريم النملة (ص: 28). .
ومُقتَضى المُؤَقَّتِ: الإتيانُ بالفِعلِ في الوقتِ المُعيَّنِ، فإذا فاتَ الوقتُ بَقيَ وُجوبُ الإتيانِ بالفِعلِ.
والأمرُ بالواجِبِ المُؤَقَّتِ يَقتَضي الإتيانَ بشيئينِ:
أحَدُهما: الواجِبُ، كصَلاةِ الفَجرِ.
والثَّاني: إيقاعُ ذلك الواجِبِ في ذلك الوَقتِ المُعيَّنِ، وهو ما بينَ طُلوعِ الفَجرِ وطُلوعِ الشَّمسِ في صَلاةِ الفجرِ، فإذا فاتَ الوقتُ المُعيَّنُ بالتَّأخيرِ -وهو أحَدُ الأمرينِ اللَّذينِ اقتَضاهما الأمرُ- بَقيَ وُجوبُ الإتيانِ بالفِعلِ، وهو الأمرُ الآخَرُ، فيَأتي به في زَمَنِ القَضاءِ [230] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/395، 397). .
أمثِلَتُه:
الصَّلَواتُ الخَمسُ وتَوابعُها، وصيامُ رَمَضانَ، وزَكاةُ الفِطرِ؛ لأنَّ ذلك قُصِدَ فيه الفِعلُ والزَّمانُ، إمَّا لمَصلَحةٍ اقتَضَت تَعيينَ ذلك الزَّمانِ، وإمَّا تَعَبُّدًا مَحضًا [231] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/190). .
أقسامُ الواجِبِ المُؤَقَّتِ:
يَنقَسِمُ الواجِبُ المُؤَقَّتُ إلى قِسمينِ: واجِبٌ مُضيَّقٌ، وواجِبٌ موسَّعٌ:
والمُضيَّقُ والموسَّعُ بالحَقيقةِ هو الوَقتُ، ويوصَفُ به الواجِبُ والوُجوبُ مَجازًا، ومَقصودُه الواجِبُ بالفِعلِ [232] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/258). .
أوَّلًا: الواجِبُ المُضيَّقُ
وهو الذي يَكونُ فيه الفِعلُ مُساويًا للوقتِ، لا يَزيدُ عليه ولا يَنقُصُ، كصَومِ رَمَضانَ [233] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/358)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 41). .
ومَعنى التَّضييقِ فيه: أنَّ المُكلَّفَ لَم يُجعَلْ لَه فُسحةٌ في التَّأخيرِ مِن زَمانٍ إلى زَمانٍ آخَرَ؛ لأنَّه قَد ضُيِّقَ عليه فيه، حَتَّى لا يَجِدَ سَعةً يُؤَخِّرُ فيها الفِعلَ أو بَعضَه، ثُمَّ يَتَدارَكُه؛ إذ كُلُّ مَن تَرَك شيئًا مِنه لَم يُمكِنْ تَدارُكُه إلَّا قَضاءً [234] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/651)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/312). .
حُكمُه:
يَجِبُ فِعلُه في أوَّلِ الوقتِ على الفورِ باتِّفاقِ الأُصوليِّينَ، ولا يَجوزُ تَركُه مُطلَقًا بالنِّسبةِ إلى وقتِه، ويُعاقَبُ المُكلَّفُ على تَركِه مُطلَقًا [235] يُنظر: ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/110)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/560)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/334). .
ثانيًا: الواجِبُ الموسَّعُ
وهو: الذي يَكونُ وَقتُه المُقَدَّرُ لَه أوَّلًا شَرعًا، بحيثُ يَسَعُ فِعلُه وفِعلُ مِثلِه مِنَ العِباداتِ. وأطلَقَ عليه الحَنَفيَّةُ اسمَ (الظَّرف) الذي يَتَّسِعُ لأشياءَ.
وذلك كوقتِ الظُّهرِ مَثَلًا وَقتٌ موسَّعٌ، يُمكِنُ للمُكَلَّفِ أن يُؤَدِّيَ فيه صَلاةَ الظُّهرِ وغيرَها في الوقتِ نَفسِه [236] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/30)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (1/160). .
وقتُ الوُجوبِ في الواجِبِ الموسَّعِ:
اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّ الواجِبَ الموسَّعَ إذا فُعِلَ في أوَّلِ الوقتِ سَقَطَ الفَرضُ، ولَكِنَّهمُ اختَلَفوا في وقتِ وُجوبِ الفِعلِ [237] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/227)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/87)، ((الإحكام)) لابن حزم (3/52)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/221)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 104)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/544). .
قال الجَصَّاصُ: (إذا ورَدَ الأمرُ مُؤَقَّتًا بوقتٍ لَه أوَّلٌ وآخِرٌ، وأُجيزَ لَه تَأخيرُه إلى آخِرِ الوقتِ، نَحوُ صَلاةِ الظُّهرِ؛ فإنَّ أهلَ العِلمِ مُختَلِفونَ في وقتِ وُجوبِه) [238] ((الفصول)) (2/123). .
والرَّاجِحُ: أنَّ الواجِبَ الذي حَدَّ لَه الشَّارِعُ وَقتًا مُحَدَّدًا يَكونُ موسَّعًا، والأمرُ بالفِعلِ يَقتَضي إيقاعَه في أيِّ جُزءٍ مِن أجزاءِ الوقتِ، سَواءٌ كان أوَّلًا أو آخِرًا، أي: أنَّه يَجِبُ في أوَّلِ الوقتِ وُجوبًا موسَّعًا، فإذا انتَهى إلى آخِرِ الوَقتِ بمِقدارِ ما يُؤَدَّى فيه الفَرضُ، صارَ وُجوبُه مُضيَّقًا.
وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [239] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/332)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/263)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص: 223). مِنَ المالِكيَّةِ [240] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/221)، ((المحصول)) لابن العربي (ص: 61). ، والشَّافِعيَّةِ [241] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 60)، ((الإحكام)) للآمدي (1/143). ، والحنابِلةِ [242] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/240)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/43)، ((التذكرة)) للمقدسي (ص: 221). ، وبه قال بَعضُ الحَنَفيَّةِ [243] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/123)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/219)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/60). ، واختاره منهم أبو زَيدٍ الدَّبُوسيُّ [244] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) (ص: 68). ، والسَّرَخْسيُّ [245] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/31). ، وذَهَب إليه ابنُ حَزمٍ [246] يُنظر: ((الإحكام)) لابن حزم (3/65). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الوُجوبَ مُستَفادٌ مِنَ الأمرِ، والأمرُ جَعَلَ جَميعَ أجزائِه وقتًا للوُجوبِ مِن غيرِ إشعارٍ بالتَّخصيصِ ببَعضِ أجزائِه؛ لأنَّه جَعَلَها وقتًا لاقتِضاءِ الفِعلِ.
يُبَيِّنُ ذلك أنَّ اللَّهَ تعالى قال: أَقِمِ الصَّلَاةَ ‌لِدُلُوكِ ‌الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء: 78] .
وَجهُ الدَّلالةِ من الآيةِ:
أنَّ الدُّلوكَ: وقتٌ عُلِّقَ عليه الفِعلُ بالأمرِ المُطلَقِ، وهو الغُروبُ، وسيقَ الأمرُ فيه إلى غايةٍ هي الغَسَقُ، وليس يَقتَضي امتِدادُ فِعلِها تَطويلًا لَها إلى غَسَقِ اللَّيلِ، فلَم يَبقَ إلَّا أنَّه أرادَ امتِدادَ الوقتِ لابتِداءِ فِعلِها في أيِّ أجزاءِ الوقتِ الذي ابتِداؤُه الغُروبُ، وآخِرُه الغَسَقُ، وهو غَيبوبةُ الشَّفَقِ. ولَو أرادَ تَعَلُّقَ الوُجوبِ ببَعضِ الوقتِ لبيَّنه كما بيَّن آخِرَ الوَقتِ [247] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/243)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/46)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/549). .
2- عن أبي موسى الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((أنَّه أتاه سائِلٌ يَسألُه عن مَواقيتِ الصَّلاةِ، فلَم يَرُدَّ عليه شيئًا، قال: فأقامَ الفجرَ حينَ انشَقَّ الفجرُ، والنَّاسُ لا يَكادُ يَعرِفُ بَعضُهم بَعضًا، ثُمَّ أمَرَه فأقامَ بالظُّهرِ حينَ زالَتِ الشَّمسُ، والقائِلُ يَقولُ: قَدِ انتَصَف النَّهارُ. وهو كان أعلَمَ مِنهم، ثُمَّ أمَرَه فأقامَ بالعَصرِ والشَّمسُ مُرتَفِعةٌ، ثُمَّ أمَرَه فأقامَ بالمَغرِبِ حينَ وقَعَتِ الشَّمسُ، ثُمَّ أمَرَه فأقامَ العِشاءَ حينَ غابَ الشَّفَقُ، ثُمَّ أخَّرَ الفَجرَ مِنَ الغَدِ حَتَّى انصَرَفَ مِنها، والقائِلُ يَقولُ: قَد طَلَعَتِ الشَّمسُ أو كادَت. ثُمَّ أخَّرَ الظُّهرَ حَتَّى كان قَريبًا مِن وقتِ العَصرِ بالأمسِ، ثُمَّ أخَّرَ العَصرَ حَتَّى انصَرَف مِنها والقائِلُ يَقولُ: قَدِ احمَرَّتِ الشَّمسُ، ثُمَّ أخَّرَ المَغرِبَ حَتَّى كان عِندَ سُقوطِ الشَّفَقِ، ثُمَّ أخَّرَ العِشاءَ حَتَّى كان ثُلُثُ اللَّيلِ الأوَّلُ، ثُمَّ أصبَحَ فدَعا السَّائِلَ، فقال: الوَقتُ بينَ هَذينِ)) [248] أخرجه مسلم (614). .
وَجهُ الدَّلالةِ من الحديثِ:
أنَّ قَولَه: ((الوَقتُ بينَ هَذينِ)) يَتَناولُ جَميعَ أجزائِه، وفي ذلك إشارةٌ إلى وقتِ الوُجوبِ؛ لأنَّ هذا في مَعرِضِ التَّعليمِ، وهو أيضًا وقتُ الحاجةِ إلى البيانِ [249] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/654)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/337)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (2/29). .
وبناءً على هذا القَولِ فالمُصَلِّي مُخيَّرٌ بينَ أن يُقَدِّمَ الصَّلاةَ في أوائِلِ أوقاتِها، وبينَ أن يوسِّطَها، أو يُؤَخِّرَها، بحيثُ يَقَعُ التَّحَلُّلُ مِنها قَبلَ انقِضاءِ أوقاتِها [250] يُنظر: ((قواعد الأحكام)) للعز (1/242). .
وعلى ذلك: فما حَدَّ لَه الشَّارِعُ وقتًا مَحدودًا مِنَ الواجِباتِ أوِ المَندوباتِ، فإيقاعُه في وقتِه لا تَقصيرَ فيه شَرعًا ولا عَتبَ ولا ذَمَّ، وإنَّما العَتبُ والذَّمُّ في إخراجِه عن وَقتِه، سَواءٌ كان وقتُه مُضيَّقًا أو موسَّعًا [251] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (1/240). .
وقد اختَلَف أصحابُ هذا القَولِ في أنَّه: هل يَلزَمُ المُكلَّفَ إذا تَرَك الفِعلَ في أوَّلِ الوقتِ أو وسَطَه أن يَترُكَه إلى بَدَلٍ، أو لا يَلزَمُه البَدَلُ؟ فقال بَعضُهم: ليس لَه تَركُه إلَّا إلى بَدَلٍ، وهو العَزمُ على أدائِه في بَقيَّةِ الوقتِ. وهو قَولُ جُمهورِ المالكيَّةِ [252] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/228)، ((المحصول)) لابن العربي (ص: 62)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 152). ، والشَّافِعيَّةِ [253] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 56)، ((الإحكام)) للآمدي (1/105). ((المجموع)) للنووي (3/49). ((البحر المحيط)) للزركشي (1/279). ، والحنابِلةِ [254] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/311)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (1/204)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/369). . وذلك لحَديثِ أبي بَكرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إذا التَقى المُسلِمانِ بسَيفَيهما فالقاتِلُ والمَقتولُ في النَّارِ. فقُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، هذا القاتِلُ، فما بالُ المَقتولِ؟! قال: ((إنَّه كان حَريصًا على قَتلِ صاحِبِه)) [255] أخرجه البخاري (31) واللفظ له، ومسلم (2888). .
ووَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ الحَديثَ فيه تَعليلُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لكونِ المَقتولِ في النَّارِ بكونِه حَريصًا على قَتلِ صاحِبِه، وهذا دَليلٌ على أنَّ العَزمَ يَقومُ مَقامَ الفِعلِ [256] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 213). .
وقيل: لا يُشتَرَطُ البَدَلُ، وللمُكَلَّفِ أن يَترُكَه إلى أن يَبقى مِنَ الوقتِ ما يَستَغرِقُه مِن غيرِ بَدَلٍ يَفعَلُه. وعَزاه السُّبكيُّ [257] يُنظر: ((الإبهاج)) (2/263). والزَّركَشيُّ [258] يُنظر: ((البحر المحيط)) (1/278). إلى جُمهورِ الفُقَهاءِ. واختاره السَّمعانيُّ [259] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/79). ، والرَّازيُّ [260] يُنظر: ((المحصول)) (2/175)، ((المعالم)) (ص: 68). ، وابنُ الحاجِبِ [261] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (1/298). ، وتاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ [262] يُنظر: ((جمع الجوامع)) (ص: 17). .
وقيل: إنَّ الوُجوبَ يَختَصُّ بأوَّلِ الوَقتِ، فإن فَعَلَه في آخِرِه كان قَضاءً.
وهذا القَولُ نَقَلَه الشَّافِعيُّ عن بَعضِ أهلِ الكلامِ [263] يُنظر: ((الأم)) (2/128). ،وقال إمامُ الحَرَمينِ: ذَهَبَ إلى ذلك شِرذِمةٌ مِنَ الأصحابِ [264] ((البرهان)) (1/78)، وعزاه في ((التلخيص)) (1/348) إلى بعضِ المنتَمين إلى الفُقَهاءِ. ، وعَزاه الرَّازِيُّ والبَيضاويُّ لبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [265] يُنظر: ((المحصول)) (2/174)، ((منهاج الوصول)) (ص: 61). أنكرَ بَعضُ الشَّافِعيَّةِ نِسبةَ هذا القَولِ لبَعضِهم. قال تَقيُّ الدِّينِ السُّبكيُّ: (سَألتُ ابنَ الرِّفعةِ، وهو أوحَدُ الشَّافِعيَّةِ في زَمانِه، فقال: تَتَبَّعتُ هذا في كُتُبِ المَذهَبِ فلَم أجِدْه. وقال أيضًا: هذا القَولُ نُسِبَ إلى بَعضِ أصحابِنا. وقد كثُرَ سُؤالُ النَّاسِ مِنَ الشَّافِعيَّةِ عنه فلَم يَعرِفوه، ولا يوجَدُ في شيءٍ مِن كُتُبِ المَذهَبِ. وأقَمتُ حينًا مِنَ الدَّهرِ أظُنُّ أنَّ الوهمَ سَرى إلى ناقِلِه مِن قَولِ أصحابِنا: إنَّ الصَّلاةَ تَجِبُ بأوَّلِ الوقتِ وُجوبًا موسَّعًا. وقَولِ بَعضِهم: تَجِبُ في أوَّلِ الوقتِ، ويَنصِبونَ الخِلافَ في ذلك مَعَ الحَنَفيَّةِ، وقَولِهم: إنَّها تَجِبُ بآخِرِه. وقَصَدَ أصحابُنا بقَولِهم: تَجِبُ الصَّلاةُ في أوَّلِ الوقتِ: كونَ الوُجوبِ في أوَّلِ الوقتِ، لا كونَ الصَّلاةِ في أوَّلِ الوَقتِ واجِبةً، فحَصَلَ الالتِباسُ في العِبارةِ، ومُتَعَلَّقُ الجارِّ والمَجرورِ). ((الإبهاج)) (2/265). ويُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/283). وقال ابنُ التِّلِمْسانيِّ: (هذا الوَجهُ لا يُعرَفُ مِن مَذهَبِ الشَّافِعيِّ، ولَعَلَّه التَبَسَ عليه بوَجهِ الإصطَخريِّ أنَّ ما يُفعَلُ فيما زادَ على بيانِ جِبريلَ عليه السَّلامُ في العَصرِ والصُّبحِ مَثَلًا يُعَدُّ قَضاءً، وهو لا يُنكِرُ التَّوسِعةَ، وإنَّما قَصرَها على بيانِ جِبريلَ عليه السَّلامُ). ((شرح المعالم)) (1/335). .
وقيل غير ذلك [266] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/124، 125)، ((أصول السرخسي)) (1/31)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 217، 218)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 105). .
الأمثِلةُ التَّطبيقيَّةُ المُخَرَّجةُ على هذه المَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ فُروعٌ فِقهيَّةٌ؛ مِنها:
1- إذا حاضَتِ المَرأةُ في أوَّلِ الوقتِ، فهل يَلزَمُها قَضاءُ هذه الصَّلاةِ؟
فاختَلَف الفُقَهاءُ في هذه المَسألةِ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: إن أدرَكت مِن أوَّلِ الوقتِ مِقدارَ ما تُصَلِّي فيه الظُّهرَ، ثُمَّ حاضَت يَلزَمُها القَضاءُ بَعدَ الطُّهرِ، وهذا بناءً على أنَّ الصَّلاةَ تَجِبُ بدُخولِ أوَّلِ الوقتِ، وهي قَد أدرَكت وقتَ الوُجوبِ؛ لأنَّها إذا حاضَت وقد مَضى مِنَ الوقتِ ما يُمكِنُ أن تَقَعَ فيه الصَّلاةُ فقَد وجَبَت عليها الصَّلاةُ. وهو قَولُ الشَّافِعيَّةِ [267] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 92). ، وأحَدُ قَولَيِ المالِكيَّةِ [268] يُنظر: ((الشرح الصغير)) للدردير (1/236). ، وأصَحُّ الرِّوايتَينِ عِندَ الحنابِلةِ [269] يُنظر: ((القواعد)) لابن اللحام (ص105)، ((التحبير)) للمرداوي (2/915). .
القَولُ الثَّاني: لا يَلزَمُها قَضاءُ تلك الصَّلاةِ، بناءً على أنَّ الوُجوبَ يَختَصُّ بآخِرِ الوقتِ، فحينَما جاءَ عليها وقتُ الوُجوبِ لَم تَكُنْ مِن أهلِ التَّكليفِ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [270] يُنظر: ((الآثار)) لمحمد بن الحسن (1/92)، ((الفصول في الأصول)) للجصاص (2/124)، ((أصول السرخسي)) (1/31). ، وأحَدُ قَولَيِ المالكيَّةِ. وعَلَّلَ المالكيَّةُ على أنَّها لا يَلزَمُها القَضاءُ بأنَّ الحيضَ أصابَها في وقتِ الأداءِ، فنافى الوُجوبَ، فتَصيرُ بمَثابةِ ما إذا أصابَها الحيضُ مِن أوَّلِ الوقتِ [271] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/108)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/657). .
وقد خالَف المالكيَّةُ بهذا أُصولهَم؛ فقَد سَبَقَ النَّقلُ عنهم في القَولِ الأوَّلِ أنَّهم يَقولونَ: إنَّ الصَّلاةَ تَجِبُ في أوَّلِ الوقتِ وُجوبًا موسَّعًا.
قال ابنُ رُشدٍ: (فهذا -كما تَرى- لازِمٌ لقَولِ أبي حَنيفةَ، أعني: جاريًا على أُصولِه، لا على أُصولِ قَولِ مالكٍ) [272] ((بداية المجتهد)) (1/108). .
2- إذا صَلَّى الصَّبيُّ في أوَّلِ الوقتِ، ثُمَّ بَلَغَ قَبلَ انقِضاءِ الوَقتِ الموسَّعِ، فهل تُجزِئُه تلك الصَّلاةُ ولا إعادةَ عليه، أو لا تُجزِئُه وعليه الإعادةُ؟
اختَلَف الفُقَهاءُ في هذه المَسألةِ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الصَّلاةَ التي صَلَّاها في أوَّلِ الوَقتِ تُجزِئُه، ولا إعادةَ عليه. وهو قَولُ الجُمهورِ القائِلينَ بالواجِبِ الموسَّعِ [273] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لإمام الحرمين (2/108)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص91)، ((روضة الطالبين)) للنووي (1/188). .
وهذا بناءً على أنَّ الوُجوبَ عِندَهم ثابتٌ في أوَّلِ الوَقتِ، كما هو ثابتٌ في وسَطِه وآخِرِه، وقد بَلَغَ الصَّبيُّ قَبلَ انقِضاءِ زَمَنِ الوُجوبِ، فلا إعادةَ عليه كما لَو بَلَغَ بَعدَ انقِضاءِ الوقتِ [274] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 390). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الصَّلاةَ التي صَلَّاها في أوَّلِ الوقتِ لا تُجزِئُه، وعليه الإعادةُ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ القائِلينَ بأنَّ الوُجوبَ يَتَعَلَّقُ بآخِرِ الوقتِ [275] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (2/95). .
وهذا بناءً على أنَّ الوُجوبَ يَثبُتُ في آخِرِ الوقتِ، وقد صارَ فيه أهلًا للوُجوبِ، فبانَ أنَّ ما أدَّاه لَم يَكُنْ وظيفةَ وَقتِه، بخِلافِ البالغِ إذا صَلَّى في أوَّلِ الوقتِ فإنَّه كان أهلًا للوُجوبِ [276] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 91). .
وقال المالكيَّةُ: مَن بَلَغَ أو أسلمَ في وسَطِ الوقتِ أو آخِرِه، فإنَّ الصَّلاةَ واجِبةٌ عليه كوُجوبِها على مَن أدرَك أوَّلَه، ولَم يَسقُطْ فَرضُها بما تَقَدَّم مِن صَلاتِه قَبلَ البُلوغِ، وإنَّ ما يَفعَلُه مِن ذلك يَفعَلُه واجِبًا، ويَكونُ مُؤَدِّيًا لا قاضيًا وُجوبًا مبتدأً بنيَّةٍ، مِثلُ الذي يَلزَمُ مُدرِكَ أوَّلِه.
والعِلَّةُ عِندَ المالكيَّةِ أنَّ الوُجوبَ عِندَهم مُتَعَلِّقٌ بجَميعِ أجزاءِ الوقتِ [277] يُنظر: ((الإشراف)) لعبد الوهاب (1/211)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/184).
حُكمُ مَن غَلَبَ على ظَنِّه عَدَمُ البَقاءِ في الواجِبِ الموسَّعِ:
قَد يتضَيَّقُ الواجِبُ الموسَّعُ على المُكلَّفِ، كما إذا ظَنَّ المُكلَّفُ أوَّلَ الوقتِ عَدَمَ البَقاءِ إلى آخِرِه في الواجِبِ الموسَّعِ؛ لِما قامَ عِندَه مِنَ الأسبابِ الموجِبةِ لهذا الظَّنِّ، بأن ظَنَّ الإخراجَ عنِ الوقتِ بأيِّ سَبَبٍ يَمنَعُ مِنَ الوُجوبِ، كالحَيضِ، أوِ الإغماءِ؛ فإنَّ الوقتَ يتضيَّقُ عليه بالظَّنِّ، فإن أخَّرَ الفِعلَ فإنَّه يَعصي بذلك التَّأخيرِ عِندَ الجُمهورِ.
وسَبَبُ العِصيانِ: أنَّه تَركَ العَمَلَ بالظَّنِّ الرَّاجِحِ، وعَمِل بالظَّنِّ المَرجوحِ، وهذا لا يَجوزُ؛ لِما فيه مِنَ التَّفريطِ [278] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/263)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/208). .
ولا يَتَحَقَّقُ العِصيانُ على مَذهَبِ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ؛ لأنَّ مَذهَبَهم أنَّ الوُجوبَ يَتَعَلَّقُ بآخِرِ الوقتِ، فكيف يَكونُ عاصيًا بتَركِ ما لَم يَكُنْ واجِبًا عليه [279] قال اللكنويُّ: (لا يَستَقيمُ الحُكمُ بالمَعصيةِ على رَأيِنا، كيف ولَم يَتَوجَّهِ الخِطابُ عِندَنا في غيرِ الآخَرِ، ولا مَعصيةَ مِن غيرِ مُخالَفةِ الخِطابِ). ((فواتح الرحموت)) (1/70). ؟
مسألةٌ: لَو أخَّرَ المُكلَّفُ الواجِبَ الموسَّعَ إلى آخِرِ الوقتِ، مَعَ أنَّه غَلَبَ على ظَنِّه في أوَّلِ الوقتِ عَدَمُ البَقاءِ إلى آخِرِه، ثُمَّ بانَ لَه خَطَأُ ظَنِّه فبَقيَ وفعَلَ ذلك الواجِبَ في آخِرِ الوقتِ، فهل يوصَفُ فِعلُه بالأداءِ أوِ القَضاءِ؟ فيه خِلافٌ [280] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/182)، ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/675)، ((الإحكام)) للآمدي (1/109)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/324). .
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الفِعلَ يَكونُ أداءً لا قَضاءً. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [281] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/340)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/324)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/308)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/71). وهو الرَّاجِحُ.
ويدُلُّ على ذلك ما يلي:
1- أنَّ الفِعلَ قَد وقَعَ في وقتِه المُحَدَّدِ لَه شَرعًا، فيَكونُ أداءً؛ لصِدقِ حَدِّ الأداءِ عليه؛ لأنَّ النَّظَرَ في الأداءِ والقَضاءِ يَكونُ إلى أمرِ الشَّارِعِ لا إلى غيرِه [282] يُنظر: ((السراج الوهاج)) للجاربردي (1/126)، ((شرح المنهاج)) لشمس الدين الأصفهاني (1/79)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (1/262). .
2- أنَّه قَد بانَ لَه خَطَأُ ظَنِّه، ولا عِبرةَ بالظَّنِّ البيِّنِ خَطَؤُه؛ لأنَّه لَمَّا انكشَف خِلافُ ما ظَنَّ زالَ حُكمُه، وصارَ كما لَو عَلمَ أنَّه يَعيشُ، فيَنبَغي أن يَنويَ الأداءَ، كالمَريضِ إذا أخَّرَ الحَجَّ إلى السَّنةِ الثَّانيةِ، وهو مُشرِفٌ على الهلاكِ، ثُمَّ شُفيَ.
وبذلك يُعرَفُ أنَّ التَّضييقَ ليس مُؤَثِّرًا في نَفسِ الأمرِ، وأنَّ عِصيانَه بالتَّأخيرِ لا يَخرُجُ الوقتُ عن كونِه وقتًا للأداءِ، كما لَو غَلبَ على ظَنِّه دُخولُ الوقتِ المُعيَّنِ لَه، وأخَّرَه، ثُمَّ تَبيَّنَ بَقاءُ الوقتِ؛ فإنَّه يَكونُ أداءً بالإجماعِ [283] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 76)، ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/340)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/218). .
وضابطُ هذا: أنَّ كُلَّ فِعلٍ يُتَلَقَّى وُجوبُه مِنَ الدَّليلِ الأوَّلِ مِن غيرِ حاجةٍ إلى دَليلٍ جَديدٍ، ويَقَعُ الفِعلُ موافِقًا لذلك الطَّلَبِ، فهو أداءٌ. وكُلُّ فِعلٍ افتَقَرَ المُكلَّفُ في إيقاعِه طاعةً إلى خِطابٍ جَديدٍ، تَدارُكًا لفواتِ مُتَعَلقِ الطَّلَبِ الأوَّلِ فهو قَضاءٌ.
فعلى هذا، مَن غَلَبَ على ظَنِّه أنَّه يَموتُ قَبلَ عامٍ آخَرَ جَديدٍ، ولَم يَحُجَّ، عَصى مِن جِهةِ عَزمِه على تَركِ الواجِبِ، فإذا لَم يَمُتْ فهو مُطالَبٌ بالحَجِّ بخِطابِ اللهِ تعالى: ‌وَلِلَّهِ ‌عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] ، فلا يكونُ قاضيًا بحالٍ [284] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/676). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الفِعلَ يَكونُ قَضاءً لا أداءً. وهو قَولُ القاضي الباقِلَّانيِّ [285] قال القاضي الباقِلَّانيُّ: (قَد يَتَوقَّفُ الواجِبُ على التَّراخي عِندَ غَلَبةِ الظَّنِّ بحُصولِ الاختِرامِ قَبلَ أدائِه، ويَكونُ المُؤَخِّرُ لَه عن ذلك الوقتِ مَأثومًا، ويَكونُ فِعلُه فيما بَعدُ واقِعًا على سَبيلِ القَضاءِ، لا على وَجهِ الأداءِ؛ لأنَّه قَد تَعيَّنَ وُجوبُ فِعلِه بغَلَبةِ الظَّنِّ؛ للاختِرامِ، فيَجِبُ أن يَكونَ ما يُفعَلُ بَعدَ ذلك مَعَ بَقاءِ الظَّانِّ المُكلَّفِ، مَفعولًا على وَجهِ القَضاءِ). ((التقريب والإرشاد)) (2/231). ، والقاضي حُسَينٍ [286] يُنظر: ((جمع الجوامع)) لابن السبكي (ص: 18)، ((البحر المحيط)) للزركشي (2/46)، ((تيسير الوصول)) لابن إمام الكاملية (1/377). .
مِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
1- إذا ظَنَّ المُكلَّفُ أوَّلَ الوقتِ أنَّه لا يَعيشُ إلى آخِرِه، كمَن قَتَلَ عَمدًا عُدوانًا، وثَبَتَ عليه القَتلُ، فرَفعَ أولياءُ الدَّمِ أمرَه للحاكِمِ، فحَكم بالقِصاصِ مِنه، وأمَر بتَنفيذِ القِصاصِ عليه، ولَكِن تَخَلَّف ظَنُّه وعاشَ إلى آخِرِ الوقتِ؛ لأنَّ أولياءَ الدَّمِ عَفَوا عنه، فأدَّى الصَّلاةَ آخِرَ الوقتِ، ولَم يَفعَلْ ما وجَبَ عليه مِن أدائِها أوَّلَ الوقتِ.
فهل يَكونُ فِعلُه للصَّلاةِ آخِرَ الوقتِ أداءً أو قَضاءً؟ فيه خِلافٌ بينَ الفُقَهاءِ:
فقيلَ: إنَّ فِعلَه للصَّلاةِ آخِرَ الوقتِ يُعتَبَرُ أداءً؛ لأنَّه إيقاعٌ للعِبادةِ في وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا؛ فتَعريفُ الأداءِ مُنطَبِقٌ عليه، ولا عِبرةَ بما ظَنَّه؛ لأنَّه ظَنٌّ تَبيَّنَ خَطَؤُه. وهذا قَولُ الجُمهورِ، وهو الرَّاجِحُ لقوَّةِ تَعليلِه [287] يُنظر: ((جمع الجوامع)) للسبكي (ص: 18)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 33)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/70). .
وقيلَ: الفِعلُ آخِرَ الوَقتِ مِنَ المُكلَّفِ يُعتَبَرُ قَضاءً؛ لأنَّ الوقتَ كان ضيِّقًا عليه بحَسبِ ظَنِّه، وكانتِ الصَّلاةُ واجِبةً عليه أوَّلَ الوقتِ، ففِعْلُها آخِرَ الوقتِ يُعتَبَرُ إيقاعًا للعِبادةِ بَعدَ وقتِها المُضيَّقِ عليه بحَسبِ ظَنِّه؛ فيَكونُ هذا الفِعلُ قَضاءً [288] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/71). .
2- إذا ظَنَّتِ المَرأةُ أنَّ الحيضَ يَأتيها آخِرَ الوقتِ؛ لأنَّ عادَتَها ذلك، كأن تَعتادَ المَرأةُ طُروءَ الحَيضِ عليها في أثناءِ الوقتِ مِن يَومٍ مُعيَّنٍ، فإنَّ الوقتَ يتضيَّقُ عليها، ويَتَعيَّنُ عليها إيقاعُ الصَّلاةِ في أوَّلِ الوقتِ، فإن تَخَلَّف ظَنُّها ولَم يَأتِها الحيضُ في آخِرِ الوقتِ، وفعَلَتِ الصَّلاةَ آخِرَ الوقتِ، ولَم تَفعَلْها في أوَّلِه كما هو الواجِبُ عليها: فهل يَكونُ فِعلُها للصَّلاةِ آخِرَ الوقتِ أداءً أو قَضاءً؟ فيه الخِلافُ:
قال الجُمهورُ: إنَّ فِعلَها للصَّلاةِ آخِرَ الوقتِ يُعتَبَرُ أداءً؛ لأنَّه إيقاعٌ للعِبادةِ في وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا؛ فتَعريفُ الأداءِ مُنطَبِقٌ عليه، ولا عِبرةَ بما ظَنَّته المَرأةُ؛ لأنَّه ظَنٌّ تَبيَّنَ خَطَؤُه. وهذا هو الرَّاجِحُ [289] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 64)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/70). .
وعِند الباقِلَّانيِّ: الفِعلُ آخِرَ الوَقتِ مِنَ المَرأةِ يُعتَبَرُ قَضاءً؛ لأنَّ الوقتَ كان ضيِّقًا عليها بحَسبِ ظَنِّها، وكانتِ الصَّلاةُ واجِبةً عليها أوَّلَ الوقتِ، ففِعلُها آخِرَ الوقتِ يُعتَبَرُ إيقاعًا للعِبادةِ بَعدَ وقتِها المُضيَّقِ عليها بحَسبِ ظَنِّها؛ فيَكونُ هذا الفِعلُ قَضاءً [290] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/71). .
تَقسيمُ الواجِبِ المُؤَقَّتِ باعتِبارِ الوقتِ المَضروبِ للعِبادةِ:
العِبادةُ إمَّا أن يَكونَ لَها وقتٌ مُعيَّنٌ، أي: مَضبوطٌ بنَفسِه مَحدودُ الطَّرَفينِ لَه مَبدَأٌ ونِهايةٌ، أو لا يَكونُ لَها وقتٌ مُعيَّنٌ:
فإنْ لَم يَكُنْ لَها وقتٌ مُعيَّنٌ مِن قِبَلِ الشَّارِعِ فإمَّا أن يَكونَ لَها سَبَبٌ، مِثلُ تَحيَّةِ المَسجِدِ؛ فإنَّ سَبَبَها دُخولُ المَسجِدِ، ومِثلُ سَجدةِ التِّلاوةِ؛ فإنَّ سَبَبَها قِراءةُ آيةِ السَّجدةِ.
وإمَّا أن لا يَكونَ للعِبادةِ سَبَبٌ، مِثلُ الأذكارِ المُطلَقةِ.
فالعِبادةُ التي ليس لَها وقتٌ مُحَدَّدُ الطَّرَفينِ لا توصَفُ بأداءٍ ولا قَضاءٍ، سَواءٌ كانت مِن ذَواتِ السَّبَبِ أو كانت مِمَّا لا سَبَبَ لَها، وقد توصَفُ بالإعادةِ، مِثلُ تَحيَّةِ المَسجِدِ؛ فإنَّ مَن أتى بها ظانًّا أنَّه مُتَطَهِّرٌ ثُمَّ تَبيَّنَ أنَّه مُحدِثٌ؛ فإنَّه بَعدَ الطَّهارةِ يَأتي بالتَّحيَّةِ، ويوصَفُ فِعلُه الثَّاني بالإعادةِ.
وأمَّا العِبادةُ التي لَها وَقتٌ مُعيَّنٌ: فلا يَخلو فِعلُ المُكَلَّفِ للواجِبِ المُؤَقَّتِ: إمَّا أن يَكونَ في وقتِه المُحَدَّدِ لَه والمُعيَّنِ مِن قِبَلِ الشَّارِعِ، فيَكونُ أداءً. وإمَّا أن يَكونَ بَعدَ خُروجِ الوَقتِ فيَكونُ قَضاءً، وإمَّا أن يَكونَ في وقتِه غيرَ كامِلٍ، ثُمَّ أعادَه مَرَّةً ثانيةً في نَفسِ الوقتِ فيَكونُ إعادةً [291] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/67)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/317). .
والمَقصودُ بالعِبادةِ هنا: ما يَشمَلُ الفَرضَ والنَّفلَ، فكُلٌّ مِنهما إذا كان مُؤَقَّتًا يوصَفُ بالثَّلاثةِ، فالواجِبُ والمَندوبُ كُلٌّ مِنهما يوصَفُ بالأداءِ، والإعادةِ، والقَضاءِ [292] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/200). .
وعلى هذا تَكونُ أقسامُ الواجِبِ: إمَّا أداءً، أو إعادةً، أو قَضاءً.
وأمَّا الفِعلُ قَبلَ وقتِه فإنَّه لا وُجوبَ لَه، وفيما جازَ فيه يُسَمَّى تَعجيلًا، كالزَّكاةِ قَبلَ الحَولِ [293] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (1/204). .
وفيما يَلي بيانُ هذه الأقسامِ:
أوَّلًا: التَّعجيلُ
وهو إيقاعُ العِبادةِ قَبلَ وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا؛ حيثُ أجازَ الشَّارِعُ تَقديمَها على الوقتِ.
مِثالُه: إخراجُ زَكاةِ الفِطرِ في أوَّلِ شَهرِ الصَّومِ [294] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/67). .
ثانيًا: الأداءُ
وهو إيقاعُ العِبادةِ في وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا، ولَم تُسبَقْ بأداءٍ مُختَلٍّ [295] يُنظر: ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 57). .
ومَعنى: لَم تُسبَقْ بأداءٍ مُختَلٍّ: ألَّا تُسبَقَ بأداءٍ أصلًا، مِثلُ إيقاعِ الظُّهرِ ابتِداءً في وقتِها، وألَّا تُسبَقَ بأداءٍ لا خَلَلَ فيه، مِثلُ أن يُصَلِّيَ شَخصٌ الظُّهرَ في جَماعةٍ بَعدَ أن يُصَلِّيَها مُنفرِدًا، وكِلتا الصَّلاتينِ في الوقتِ، فإنَّ صَلاتَه في جَماعةٍ توصَفُ بالأداءِ، كما أنَّ صَلاتَه مُنفرِدًا توصَفُ بالأداءِ كذلك.
فصَلاتُه مُنفرِدًا أداءٌ؛ لأنَّها لَم تُسبَقْ بفِعلٍ، وصَلاتُه في جَماعةٍ أداءٌ؛ لأنَّها سُبِقَت بفِعلٍ لا خَلَلَ فيه [296] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/136)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (1/498)، ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/67)، ((المهذب)) لعبدالكريم النملة (1/421). .
ثالثًا: الإعادةُ
وهي عِندُ الحَنَفيَّةِ: إيقاعُ الفِعلِ في وَقتِه المُقَدَّرِ شَرعًا ثانيًا لخَلَلٍ واقِعٍ في الفِعلِ الأوَّلِ غَيرِ الفَسادِ، كتَركِ الفاتِحةِ [297] يُنظر: ((فصول البدائع)) للفناري (1/204)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/69). .
فالإعادةُ عِندَ الحَنَفيَّةِ لا تُطلقُ إلَّا على فِعلِ العِبادةِ ثانيًا في وقتِ الأداءِ؛ لتَركِ واجِبٍ لا تَفوتُ الصِّحَّةُ بفواتِه. أمَّا إذا تَرَك رُكنًا كانتِ الصَّلاةُ فاسِدةً، فالفِعلُ المُعتَدُّ به هو الثَّاني، والأوَّلُ لَغوٌ، فلا يُسَمَّى فِعلُه ثانيًا إعادةً، وكذلك فِعلُ المَأمورِ به ثانيًا بلا خَلَلٍ، بَل لعُذرٍ، كإدراكِ فَضلِ الجَماعةِ، فليس أداءً ولا قَضاءً ولا إعادةً عِندَ الحَنَفيَّةِ، بَل هو فِعلٌ أَدرَك به المُتَعَبِّدُ فَضلَ الجَماعةِ فقَط، والفَرضُ المُسقِطُ للتَّعَبُّدِ عنِ المُكلَّفِ هو الأوَّلُ بلا شُبهةٍ عِندَهم [298] يُنظر: ((سلم الوصول)) للمطيعي (1/110). .
وعِندَ المالكيَّةِ: الإعادةُ: عِبارةٌ عنِ الفِعلِ المَطلوبِ ثانيًا في وقتِه؛ لجَبرِ خَلَلٍ في الفِعلِ الأوَّلِ، وذلك الخَلَلُ قَد يُخِلُّ بالإجزاءِ، وقد يُخِلُّ بالكمالِ، فإن أخَلَّ بالإجزاءِ وجَبَتِ الإعادةُ إن كان مَطلوبًا طَلَبًا على الوُجوبِ، وإن أخَلَّ بالكمالِ استُحِبَّتِ الإعادةُ [299] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) للأبياري (1/731). .
وعِندَ الشَّافِعيَّةِ طَريقانِ في بيانِ الإعادةِ:
الأوَّلُ: أنَّ الإعادةَ تَكونُ بسَبَبِ خَلَلٍ هو الفسادُ، وعلى ذلك عَرَّفوا الإعادةَ بأنَّها: إيقاعُ العِبادةِ في وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا، مَعَ سَبقِها بأداءٍ مُختَلٍّ [300] يُنظر: ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 57). .
والمُرادُ بالأداءِ المُختَلِّ: ما فقَدَ رُكنًا أو شَرطًا، فمَعنى المُختَلِّ: الفاسِدُ [301] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/207). .
فإذا أمَرَ الشَّارِعُ بعِبادةٍ في وقتٍ ففَعَلها المُكلَّفُ فيه سُمِّيَ ذلك أداءً حَقيقةً. وإن شَرع فيها في الوَقتِ ثُمَّ أفسَدَها وأعادَها سُمِّي ذلك الفِعلُ أداءً وإعادةً [302] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/253). .
الثَّاني: أنَّ الإعادةَ: ما فُعِلَ في وقتِ الأداءِ ثانيًا لخَلَلٍ أو لعُذرٍ [303] يُنظر: ((البدر الطالع)) للمحلي (1/112). .
والفرقُ بينَ الطَّريقينِ: يَظهَرُ في الصَّلاةِ المُكرَّرةِ في وَقتِ الأداءِ في جَماعةٍ بَعدَ الانفِرادِ مِن غيرِ خَلَلٍ.
فإذا صَلَّى المُنفرِدُ بلا خَلَلٍ، ثُمَّ صَلَّى مَعَ الجَماعةِ ثانيًا في وقتِ الأداءِ لعُذرِ إحرازِ فَضلِ الجَماعةِ، كانت إعادةً على الثَّاني دونَ الأوَّلِ [304] يُنظر: ((البدر الطالع)) للمحلي (1/112)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (1/111). .
والإعادةُ عِندَ الحَنابلةِ: ما فُعِلَ مِنَ العِبادةِ في وقتِه المُقَدَّرِ ثانيًا مُطلَقًا، أي: سَواءٌ كانتِ الإعادةُ لخَلَلٍ في الفِعلِ الأوَّلِ، أو غيرِ ذلك، فيَدخُلُ في ذلك: لَو صَلَّى الصَّلاةَ في وقتِها صَحيحةً، ثُمَّ أُقيمَتِ الصَّلاةُ وهو في المَسجِدِ، وصَلَّى. فإنَّ هذه الصَّلاةَ تُسَمَّى مُعادةً مِن غيرِ حُصولِ خَلَلٍ ولا عُذرٍ [305] يُنظر: ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/368). .
رابعًا: القضاءُ
وهو إيقاعُ العِبادةِ بَعدَ وقتِها المُقَدَّرِ لَها شَرعًا [306] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/70). .
أقسامُ القَضاءِ:
يَنقَسِمُ القَضاءُ إلى أربَعةِ أقسامٍ:
الأوَّلُ: قَضاءٌ كان الأداءُ فيه واجِبًا: مِثلُ: قَضاءِ الصَّلاةِ التي تُرِكت في وقتِها بدونِ عُذرٍ.
الثَّاني: قَضاءٌ لَم يَكُنْ أداؤُه واجِبًا، وإنَّما كان الأداءُ مُمكِنًا شَرعًا وعَقلًا، مِثلُ: قَضاءِ المُسافِرِ والمَريضِ لِما تَرَكه مِنَ الصَّومِ في السَّفَرِ والمَرَضِ؛ فإنَّ كُلًّا مِنَ المُسافِرِ والمَريضِ لا يَجِبُ عليه أداءُ الصَّومِ؛ لقَولِ اللهِ تعالى: ‌فَمَنْ ‌شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] ، ولَكِن في استِطاعةِ كُلٍّ مِنهما أن يَصومَ في سَفَرِه أو مَرَضِه، ولا مانِعَ مِن ذلك عَقلًا ولا شَرعًا.
الثَّالِثُ: قَضاءٌ لَم يَجِبْ أداؤُه، والأداءُ مُمتَنِعٌ عَقلًا، مِثلُ: قَضاءُ الشَّخصِ لِما فاتَه مِنَ الصَّلاةِ بسَبَبِ النَّومِ في وقتِها حَتَّى خَرَجَ الوَقتُ؛ فإنَّ الصَّلاةَ لا تَجِبُ على النَّائِمِ أثناءَ نَومِه؛ لقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ)) وذَكرَ مِنهمُ النَّائِمَ حَتَّى يَستيقِظَ [307] لَفظُه: عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: لَقَد عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِعَ القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حَتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حَتَّى يَستيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حَتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داود (4402) واللفظ له، وأحمد (1328) بنحوِه. صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). .
ولا شَكَّ أنَّ أداءَ النَّائِمِ للصَّلاةِ وهو نائِمٌ مُستَحيلٌ عَقلًا؛ لأنَّ مِن أركانِها النِّيَّةَ، وهي القَصدُ إلى الفِعلِ، والقَصدُ مَعَ النَّومِ مُحالٌ.
الرَّابعُ: قَضاءٌ لَم يَجِبْ أداؤُه، والأداءُ مُمتَنِعٌ شَرعًا، مِثلُ: قَضاءِ المَرأةِ لِما فاتَها مِنَ الصَّومِ بسَبَبِ الحيضِ أوِ النِّفاسِ؛ فإنَّ الصَّومَ غيرُ واجِبٍ على الحائِضِ والنُّفساءِ؛ لوُجودِ المانِعِ مِنَ الوُجوبِ، وهو الحيضُ والنِّفاسُ، وصَومُ الحائِضِ والنُّفَساءِ مُمتَنِعٌ شَرعًا؛ لأنَّه مَنهيٌّ عنه ويوجِبُ الإثمَ [308] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (1/70). .
هل يَحتاجُ القَضاءُ إلى دَليلٍ جَديدٍ، أو يَثبُتُ بنَفسِ الدَّليلِ الذي أوجَبَ الأداءَ؟
مَعنى هذه المَسألةِ: أنَّ الأمرَ إذا ورَدَ بعِبادةٍ في وقتٍ مُعيَّنٍ، ولَم تُفعَلْ في ذلك الوقتِ لعُذرٍ أو لغيرِ عُذرٍ، أو فُعِلَت مَعَ اختِلالِ بَعضِ أركانِها، فهل يَجِبُ قَضاؤُها بَعدَ ذلك الوقتِ بالأمرِ الأوَّلِ [309] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/538). ؟
وتَتَّضِحُ صورةُ المَسألةِ بما إذا أمَرَ الشَّارِعُ بصَلاةِ الفَجرِ في وقتِها المُعيَّنِ لَها، فلَم يُصَلِّها المُكلَّفُ حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمسُ: فهل تَسقُطُ بذلك صَلاةُ الفَجرِ، ويَتَوقَّفُ وُجوبُ قَضائِها على أمرٍ جَديدٍ؟ أو لا تَسقُطُ، ويَجِبُ قَضاؤُها بالأمرِ الأوَّلِ، الذي وجَبَت به صَلاةُ الفَجرِ في وَقتِها [310] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/395). ؟
وقد اتَّفقَ الفُقَهاءُ على وُجوبِ قَضاءِ الواجِباتِ التي لَم يُؤَدِّها المُكلَّفُ في وَقتِها المُحَدَّدِ لَها شَرعًا، كالصَّلاةِ والصِّيامِ، سَواءٌ أكان عَدَمُ الأداءِ لعُذرٍ أم لغَيرِ عُذرٍ.
واختَلَفوا في دَليلِ قَضاءِ الواجِبِ: هل هو نَفسُ الدَّليلِ الذي أوجَبَ الأداءَ أو يَحتاجُ قَضاءُ الواجِبِ إلى دَليلٍ جَديدٍ، على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ القَضاءَ يَجِبُ بدَليلٍ جَديدٍ غيرِ الدَّليلِ الذي أوجَبَ الأداءَ. وهو قَولُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [311] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/251)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/321). ، والعِراقيِّينَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [312] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/45)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/139). ، وحَكاه ابنُ التِّلِمْسانيِّ عنِ المُحَقِّقينَ مِنَ الأُصوليِّينَ [313] يُنظر: ((شرح المعالم)) (1/368). ، واختارَه أبو الخَطَّابِ مِنَ الحَنابلةِ [314] يُنظر: ((التمهيد)) (1/252). .
واستَدَلُّوا بأنَّ الواجِبَ بالأمرِ هو أداءُ العِبادةِ، ولا مَدخَلَ للرَّأيِ في مَعرِفةِ العِبادةِ، فإذا كان نَصُّ الأمرِ مُقيَّدًا بوقتٍ كان عِبادةً في ذلك الوقتِ، ومَعنى العِبادةِ إنَّما يَتَحَقَّقُ في امتِثالِ الأمرِ، وفي المُقيَّدِ بالوقتِ لا تَصَوُّرَ لذلك بَعدَ فواتِ الوقتِ؛ لأنَّ القاضيَ بَعدَ فواتِ الوقتِ ليس مُمتَثِلًا؛ فإنَّ المُمتَثِلَ هو الموافِقُ لمُقتَضى الصِّيغةِ، وإذا لَم يَكُنِ القَضاءُ امتِثالًا لَم يَكُنِ الأمرُ الأوَّلُ مُقتَضيًا له [315] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/45)، ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/89). .
وقد عَرَفْنا أنَّ الوُجوبَ بدَليلٍ مُبتَدَأٍ، وهو قَولُ اللهِ تعالى في الصَّومِ: فَعِدَّةٌ ‌مِنْ ‌أَيَّامٍ ‌أُخَرَ [البقرة: 184] .
وكذلك قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ: ((مَن نامَ عن صَلاةٍ أو نَسيَها فليُصَلِّها إذا ذَكَرَها)) [316] أخرجه من طرق الدارمي (1229) باختلاف يسير، وأبو يعلى (3086)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6129) واللفظ لهما. صحَّحه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (23/90). والحديثُ أخرجه البخاري (597) دونَ ذِكرِ النَّومِ، ومسلم (684) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ مُسلِمٍ: عن أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن نَسِيَ صَلاةً فليُصَلِّها إذا ذَكرَها، لا كفَّارةَ لَها إلَّا ذلك)). وفي رِوايةٍ: ((مَن نَسيَ صَلاةً أو نامَ عنها فكفَّارَتُها أن يُصَلِّيَها إذا ذَكرَها)) أخرَجَها مُسلم (684). وفي أُخرى: ((إذا رَقَدَ أحَدُكُم عنِ الصَّلاةِ أو غَفلَ عنها فليُصَلِّها إذا ذَكرَها؛ فإنَّ اللَّهَ يَقولُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) أخرَجَها مُسلم (684). .
فهذا أمرٌ ثانٍ بقَضائِها، والأصلُ في الكلامِ التَّأسيسُ دونَ التَّأكيدِ، وذلك يَدُلُّ على وُجوبِ القَضاءِ بالأمرِ الثَّاني دونَ الأوَّلِ [317] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/541). .
كما استَدَلُّوا بأنَّ ما يُفعَلُ بَعدَ الوقتِ لَم يَتَناوَلْه الأمرُ الأوَّلُ، فلَم يَجِبْ فيه الفِعلُ، كما قَبلَ الوَقتِ.
وبيانُ ذلك أنَّ الواجِبَ المُؤَقَّتَ واجِبانِ: واجِبُ الفِعلِ، وواجِبُ الوَقتِ، وطَلَبُ فِعلِه يَشمَلُ الأمرينِ، أي: أداءَ الواجِبِ في الوقتِ المُحَدَّدِ، فإذا فاتَ الوقتُ فلا بُدَّ مِن دَليلٍ جَديدٍ للإيجابِ؛ لأنَّ الدَّليلَ الأوَّلَ لا يَتَضَمَّنُ القَضاءَ [318] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 64). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ وُجوبَ القَضاءِ ثابتٌ بالدَّليلِ الأوَّلِ الذي أوجَبَ الأداءَ عِندَ فواتِه. وهو قَولُ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ [319] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/46)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/200). ، والحَنابِلةِ [320] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/251)، ((روضة الناظر)) لابن قدامة (1/577)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/395). ، وبعضِ الشَّافِعيَّةِ [321] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 64)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/250). ، وحَكاه إمامُ الحَرَمينِ، وابنُ السَّمعانيِّ عن بَعضِ الفُقَهاءِ [322] يُنظر: ((البرهان)) (1/89)، ((قواطع الأدلة)) (1/92). ، وصَحَّحَه السَّرَخْسيُّ [323] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/46). .
واستَدَلُّوا بقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن نامَ عن صَلاةٍ أو نَسيَها فليُصَلِّها إذا ذَكرَها)) [324] أخرجه من طرقٍ: الدارمي (1229) باختلافٍ يسيرٍ، وأبو يعلى (3086)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (6129) واللفظ لهما. صحَّحه ابنُ تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (23/90). والحديثُ أخرجه البخاري (597)، ومسلم (684)، ولَفظُ مُسلِمٍ: عن أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن نَسِيَ صَلاةً فليُصَلِّها إذا ذَكرَها، لا كفَّارةَ لَها إلَّا ذلك)). وفي رِوايةٍ: ((مَن نَسيَ صَلاةً أو نامَ عنها فكفَّارَتُها أن يُصَلِّيَها إذا ذَكرَها)) أخرَجَها مُسلم (684). وفي أُخرى: ((إذا رَقَدَ أحَدُكُم عنِ الصَّلاةِ أو غَفلَ عنها فليُصَلِّها إذا ذَكرَها؛ فإنَّ اللَّهَ يَقولُ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي)) أخرجها مسلم (684). .
وَجهُ الدَّلالةِ: أنَّ الهاءَ في قَولِه: ((فليُصَلِّها)) كِنايةٌ عنِ الصَّلاةِ المَنسيَّةِ، فدَلَّ على أنَّه يَجِبُ قَضاؤُها، وفيه دَليلٌ على أنَّ الأمرَ الأوَّلَ باقٍ عليه، وأنَّ الواجِبَ بَعدَ خُروجِ الوَقتِ هذا الذي كان واجِبًا في الوقتِ [325] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 65)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/93). .
كما استَدَلُّوا بأنَّ الذِّمَّةَ إذا اشتَغَلَت بواجِبٍ للشَّرعِ أو لآدَميٍّ، لَم تَبرَأ مِنه إلَّا بالامتِثالِ، وهو الأداءُ، أو إبراءٌ مِنَ المُستَحِقِّ للواجِبِ، بأن يَقولَ الشَّرعُ: نَسَختُ عنك هذه العِبادةَ، أو يَقولَ الآدَميُّ: أبرَأتُك مِن هذا الدَّينِ. وإذا كانتِ الذِّمَّةُ مَشغولةً بالواجِبِ ما لَم يوجَدْ أداءٌ لَه، أو إبراءٌ مِن مُستَحِقِّه، فقَد أجمَعنا على أنَّ الذِّمَّةَ مَشغولةٌ بالواجِبِ المُؤَقَّتِ في وقتِه، والأصلُ بَقاء ما كان فيه على ما كان.
والتَّقديرُ أنَّ المُكلَّفَ لَم يوجَدْ مِنه أداءٌ، ولَم يوجَدْ مِنَ الشَّرعِ إبراءٌ؛ فوجَبَ القَولُ ببَقاءِ الواجِبِ في الذِّمَّةِ: فتَكونُ بَراءَتُها مِنه مَوقوفةً على الأداءِ أوِ الإبراءِ. لَكِنَّ الإبراءَ صارَ بَعدَ انقِضاءِ زَمَنِ الوَحيِ مُمتَنِعًا؛ فتَعيَّنَ الأداءُ لبَراءةِ الذِّمَّةِ، لَكِنَّ وقتَ الأداءِ اصطِلاحًا قَد فاتَ بالتَّأخيرِ؛ فتَعيَّن القَضاءُ فيما بَعدَه لإبراءِ الذِّمَّةِ، وذلك يَقتَضي أن يَكونَ بالأمرِ الأوَّلِ؛ لأنَّه بَدَلٌ عنه [326] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/396). .
مَنشَأُ الخِلافِ في المَسألةِ:
الخِلافُ في هذه المَسألةِ مَبنيٌّ على قاعِدَتينِ:
القاعِدةُ الأولى: أنَّ الأمرَ بالمُرَكَّبِ أمرٌ بأجزائِه.
القاعِدةُ الثَّانيةُ: أنَّ الأمرَ بالفِعلِ في وقتٍ مُعيَّنٍ لا يَكونُ إلَّا لمَصلَحةٍ تَختَصُّ بذلك الوقتِ، وإلَّا لَكان تَخصيصُ ذلك الفِعلِ بذلك الوقتِ مِن بينِ سائِرِ الأوقاتِ تَرجيحًا مِن غيرِ مُرَجِّحٍ.
فمَن لحَظَ القاعِدةَ الأولى قال: الأمرُ في الوقتِ المُعيَّنِ بالصَّلاةِ المُعيَّنةِ يَقتَضي الأمرَ بشيئينِ: بالصَّلاةِ، وبكونِها في ذلك الوقتِ، فهو أمرٌ بمُرَكَّبٍ، فإذا تَعَذَّرَ أحَدُ جُزأَيِ المَركَّبِ -وهو خُصوصُ الوقتِ- بَقيَ الجُزءُ الآخَرُ، وهو الفِعلُ؛ فيوقِعُه في أيِّ وقتٍ شاءَ. فيَكونُ القَضاءُ بالأمرِ الأوَّلِ.
ومَن لحَظَ القاعِدةَ الثَّانيةَ قال: الأوقاتُ لا تَتَساوى، ولا تَتَقارَبُ في المَصالحِ إلَّا بدَليلٍ، فلا قَضاءَ إلَّا بأمرٍ جَديدٍ يَدُلُّ على أنَّ الوقتَ الثَّانيَ فيه مَصلَحةٌ لفِعلِ المَأمورِ به كالوَقتِ الأوَّلِ، فإذا دَلَّ الدَّليلُ على وُجوبِ القَضاءِ عَلِمْنا أنَّ الوقتَ الثَّانيَ يُقارِبُ الأوَّلَ في مَصلَحةِ الفِعلِ، وإذا لَم يَدُلَّ دَليلٌ فلا [327] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 145)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/542). قال القَرافيُّ: (هاهنا قاعِدَتانِ هما سِرُّ البَحثِ في هذه المَسألةِ: القاعِدةُ الأولى: أنَّ المُقتَضيَ للمُرَكَّباتِ في جِهةِ الثُّبوتِ، فإذا أوجَبَ اللهُ تعالى الصَّومَ في رَمَضانَ فقد أوجَبَ الصَّومَ، وزيادةَ إلزامِ كَونِه في رَمَضانَ، فالمَأمورُ به مُرَكَّبٌ مِن أصلِ الصَّومِ، واختِصاصِه المُعَيَّن. فإذا فاتَ وَصفُ الزَّمانِ بالتَّعَذُّرِ يَصيرُ النَّصُّ كالعامِّ المَخصوصِ، إذا بَطَل الحُكمُ في أحَدِ مُفرَداتِه يَبقى حُجَّةً في الباقي، فيَبقى النَّصُّ هاهنا حُجَّةً في أصلِ الفِعلِ بَعدَ تَعَذُّرِ صَومِه المَخصوصِ، فيوقِعُه المُكَلَّفُ بَعدَ ذلك. فمَن لاحَظَ هذه القاعِدةَ قال: القَضاءُ بالأمرِ بالأوَّلِ. القاعِدةُ الثَّانيةُ: أنَّ الأوامِرَ تَتبَعُ المَصالِحَ كَما أنَّ النَّواهيَ تَتبَعُ المَفاسِدَ، فإذا أمَرَ اللهُ تعالى بفِعلٍ في وقتٍ فلا بُدَّ لتَعيينِ ذلك الوقتِ مِن مَصلحةٍ تَقتَضي اختِصاصَ الفِعلِ به؛ لأنَّه عادةُ الشَّرعِ في شَرائِعِه في رِعايةِ المَصالِحِ، وحينَئِذٍ إذا خَرَجَ ذلك الوقتُ لا يُعلَمُ هَل الوقتُ الثَّاني مُشارِكٌ الوقتَ الأوَّلَ في المَصلحةِ أم لا؟ فإنَّ مَن قال لغُلامِه قَبلَ الفَجرِ بيَسيرٍ في رَمَضانَ: اسقِني الآنَ ماءً. فتَرَكَه إلى نِصفِ النَّهارِ ثُمَّ أتاه بالماءِ، فهذا الوقتُ لا يُشارِكُ ذلك الوقتَ في مَصلحةِ السَّقيِ، وأنَّه قَبلَ الفَجرِ يَتَقَوَّى به على الصَّومِ، والآنَ يُفسِدُ عليه الصَّومَ، وإذا حَصَل الشَّكُّ في اشتِراكِ الأوقاتِ في المَصالحِ لم يَثبُتْ وُجوبُ الفِعلِ الذي هو القَضاءُ في وقتٍ أو آخَرَ إلَّا بدَليلٍ مُنفصِلٍ، وإن كان في بَعضِ الصُّورِ قد عُلِمَ مُشارَكةُ الأوقاتِ في تلك المَصلحةِ إلَّا أنَّ ذلك يَكونُ بدَليلٍ مِن خارِجٍ في خُصوصِ تلك المادَّةِ لا مِن جِهةِ الأمرِ بما هو أمرٌ، وأيضًا تَقدَّم أنَّ الخُصوصيَّاتِ قد تَكونُ شُروطًا في المَعاني الكُلِّيَّةِ، فلعَلَّ خُصوصَ هذا الزَّمانِ شَرطٌ فُقِدَ فيَعدَمُ المَشروطُ. فمَن لاحَظَ هذه القاعِدةَ قال: القَضاءُ بأمرٍ جَديدٍ، وهو مَشهورُ المَذاهِبِ، فهذا سِرُّ المَسألةِ). ((نفائس الأصول)) (4/1601). .
وتَظهَرُ فائِدةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ فيما إذا استُدِلَّ بأمرٍ مُطلَقٍ ورَدَ في عِبادةٍ مُؤَقَّتةٍ على وُجوبِ قَضائِها بَعدَ فواتِ الوَقتِ:
فمَن قال: إنَّ القَضاءَ بالأمرِ الأوَّلِ: أجازَ الاستِدلالَ به فيه.
ومَن قال: إنَّه يَفتَقِرُ إلى أمرٍ آخَرَ: يَمنَعُ مِنَ الاستِدلالِ به على إيجابِه [328] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/250). .
المَسألةُ الخامِسةُ: مَسائِلُ مُتَعَلِّقةٌ بالواجِبِ
أوَّلًا: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ
ومَعنى ذلك: وُجوبُ وَسيلةِ الواجِبِ بالأمرِ الأوَّلِ الذي وجَبَ به الواجِبُ [329] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/658). . وهذا هو المُسَمَّى عِندَ الأُصوليِّينَ بمُقدِّمةِ الواجِبِ [330] تَنقَسِمُ مُقَدِّمةُ الواجِبِ إلى قِسمَينِ: الأوَّلُ: مُقَدِّمةُ الوُجوبِ: وهي التي يَتَعَلَّقُ بها التَّكليفُ بالواجِبِ، أي: شَغلُ الذِّمَّةِ به، كدُخولِ الوَقتِ بالنِّسبةِ للصَّلاةِ، فهو مُقَدِّمةٌ لوُجوبِ الواجِبِ في ذِمَّةِ المُكلَّفِ، وكالاستِطاعةِ لوُجوبِ الحَجِّ، وحَوَلانِ الحَولِ لوُجوبِ الزَّكاةِ. الثَّاني: مُقدِّمةُ الوُجودِ: وهي التي يَتَوقَّفُ عليها وُجودُ الواجِبِ بشَكلٍ صَحيحٍ، أي: صِحَّةُ تَفريغِ الذِّمَّةِ مِنَ الواجِبِ، إمَّا مِن جِهةِ الشَّرعِ، كالوُضوءِ بالنِّسبةِ للصَّلاةِ، فلا توجَدُ الصَّلاةُ الصَّحيحةُ إلَّا بوُجودِ الوُضوءِ، والعَدَدِ بالنِّسبةِ لصَلاةِ الجُمُعةِ، وإمَّا مِن جِهةِ العَقلِ، كالسَّيرِ وقَطعِ المَسافةِ للحَجِّ. كما تَكونُ المُقَدِّمةُ: إمَّا سَبَبًا للواجِبِ، كالبُلوغِ، ودُخولِ الوَقتِ للصَّلاةِ والصَّومِ، والصِّيغةِ للعِتقِ الواجِبِ بنَذرٍ أو كفَّارةٍ، والاعتِداءِ والقَتلِ للضَّمانِ والقِصاصِ. وإمَّا أن تَكونَ شَرطًا للواجِبِ، كالعَقلِ للتَّكليفِ بالواجِبِ، والقُدرةِ للحَجِّ، والطَّهارةِ للصَّلاةِ. يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/329). .
وعَبَّرَ بَعضُ الأُصوليِّينَ عنها بقَولِهم: (ما لا يَتِمُّ المَأمورُ إلَّا به يَكونُ مَأمورًا به) قال المَرداويُّ: (وهو أجودُ وأشمَلُ؛ مِن حيثُ إنَّ الأمرَ قَد يَكونُ للنَّدبِ، فتَكونُ مُقَدِّمَتُه مَندوبةً، ورُبَّما كانت واجِبةً كالشُّروطِ في صَلاةِ التَّطَوُّعِ، إلَّا أنَّه لَمَّا وجَبَ الكَفُّ عن فاسِدِ الصَّلاةِ عِندَ إرادةِ التَّلَبُّسِ بالصَّلاةِ مَثَلًا، وجَبَ ما لا يَتِمُّ الكفُّ مَعَ التَّلَبُّسِ إلَّا به، فلَم يَخرُجْ عَن: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ) [331] ((التحبير)) (2/931). .
صورةُ المسألةِ:
إذا أمَرَ اللهُ تعالى عَبدَه بفِعلٍ مِنَ الأفعالِ، وأوجَبَه عليه، وكان المَأمورُ لا يَتَوصَّلُ إلى فِعلِه إلَّا بفِعلِ غيرِه؛ فهل يَجِبُ عليه فِعلُ ما لا يتَوصَّلُ إلى فِعلِ الواجِبِ إلَّا به [332] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/419). ؟
فما يَتَوقَّفُ عليه الواجِبُ: إمَّا أن يَكونَ توقُّفُه عليه في وُجوبِه، أو في إيقاعِه بَعدَ تَحَقُّقِ وُجوبِه.
وقد اتَّفقَ الأُصوليُّونَ على أنَّ مُقَدِّمةَ الوُجوبِ ليست واجِبةً على المُكلَّفِ؛ لأنَّها ليست في مَقدورِه، سَواءٌ كانت سَبَبًا أو شَرطًا، أوِ انتِفاءَ مانِعٍ؛ فكُلُّ ما يَتَوقَّفُ الوُجوبُ عليه مِن سَبَبٍ أو شَرطٍ أوِ انتِفاءِ مانِع، لا يَجِبُ تَحصيلُه إجماعًا، مَعَ التَّوقُّفِ عليه. وقد نَقَل الإجماعَ على ذلك: القَرافيُّ [333] قال: (أسبابُ الوُجوبِ وشُروطُه وانتِفاءُ مَوانِعِه؛ فإنَّها لا تَجِبُ إجماعًا). ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 160). ، والزَّركَشيُّ [334] قال: (ما يَتَوقَّفُ عليه الواجِبُ: إمَّا أن يَكونَ توقُّفُه عليه في وُجوبِه، أو في إيقاعِه بَعدَ تَحَقُّقِ وُجوبِه، فأمَّا ما يَتَوقَّفُ عليه إيجابُ الواجِبِ فلا يَجِبُ بالإجماعِ). ((البحر المحيط)) (1/296). ، وابنُ اللَّحَّامِ [335] قال: (ما لا يَتِمُّ الوُجوبُ إلَّا به ليس بواجِبٍ إجماعًا، قَدَرَ عليه المُكلَّفُ كاكتِسابِ المالِ للزَّكاةِ، أو لا، كاليَدِ في الكِتابةِ، وحُضورِ الإمامِ والعَدَدِ في الجُمُعةِ) في ((المختصر)) (ص: 62). .
فالسَّبَبُ كالنِّصابِ، يَتَوقَّفُ عليه وُجوبُ الزَّكاةِ، ولا يَجِبُ تَحصيلُه على المُكلَّفِ لتَجِبَ عليه الزَّكاةُ. والشَّرطُ كالإقامةِ، هي شَرطٌ لوُجوبِ أداءِ الصَّومِ، ولا يَجِبُ تَحصيلُها إذا عَرَضَ مُقتَضى السَّفَرِ. والمانِعُ كالدَّينِ، ولا يَجِبُ نَفيُه لتَجِبَ الزَّكاةُ.
أمَّا مُقَدِّمةُ الوُجودِ، وهي ما يَتَوقَّفُ عليه إيقاعُ الواجِبِ ودُخولُه في الوُجودِ بَعدَ تَحَقُّقِ الوُجوبِ، فهي نَوعانِ:
- نَوعٌ لا يَقدِرُ المُكلَّفُ على فِعلِه، فلا يَجِبُ عليه، كحُضورِ العَدَدِ في صَلاةِ الجُمُعةِ.
- نَوعٌ يَقدِرُ المُكلَّفُ على فِعلِه، مِثلُ صيامِ جُزءٍ مِنَ اللَّيلِ حَتَّى يَكونَ صَومُ النَّهارِ الواجِبُ صَحيحًا، ومِثلُ غَسلِ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ، حَتَّى يَكونَ غَسلُ الوَجهِ الواجِبُ في الوُضوءِ صَحيحًا، وهذا النَّوعُ واجِبٌ باتِّفاقِ الأُصوليِّينَ، وهو المَقصودُ مِن قَولِهم: "ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ".
لَكِنَّهمُ اختَلَفوا في دَليلِ الإيجابِ: هل هو نَفسُ دَليلِ الواجِبِ الأصليِّ، أم هو دَليلٌ آخَرُ؟ أي: هل إيجابُ الواجِبِ يَدُلُّ على إيجابِ مُقَدِّمَتِه، أم لا يَدُلُّ عليها، ولا بُدَّ مِن إيجابٍ جَديدٍ؟ كما إذا تَقَرَّرَ أنَّ الطَّهارةَ شَرطٌ للصَّلاةِ، ثُمَّ ورَدَ الأمرُ بالصَّلاةِ، فهل يَدُلُّ الأمرُ بها على اشتِراطِ الطَّهارةِ لَها؟
وهذا هو مَوضِعُ النِّزاعِ؛ ولهذا عَبَّر بَعضُهم عنه بالمُقدِّمةِ؛ لأنَّ المُقَدِّمةَ خارِجةٌ عنِ الشَّيءِ مُتَقَدِّمةٌ عليه. بخِلافِ الجُزءِ؛ فإنَّه داخِلٌ فيه، وهو واجِبٌ اتِّفاقًا؛ لأنَّ الأمرَ بالماهيَّةِ المُرَكَّبةِ أمرٌ بكُلِّ واحِدٍ مِن أجزائِها ضِمنًا.
وعلى هذا فأقسامُ ما لا يَتِمُّ الواجِبُ الخارِجُ إلَّا به -وهو المُسَمَّى بالمُقَدِّمةِ المُتَوقَّفِ عليها- سِتَّةٌ، ومَحَلُّ الخِلافِ فيها لا غيرُ، وهي: السَّبَبُ، والشَّرطُ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهما: إمَّا شَرعيٌّ، أو عَقليٌّ، أو عاديٌّ، فهذه سِتَّةُ أقسامٍ.
مِثالُ السَّبَبِ الشَّرعيِّ: صيغةُ العِتقِ في الواجِبِ مِن كفَّارةٍ أو نَذرِ، وكذا صيغةُ الطَّلاقِ حيثُ وجَبَ.
ومِثالُ السَّبَبِ العَقليِّ: النَّظَرُ الموصِلُ إلى العِلمِ.
ومِثالُ السَّبَبِ العاديِّ: السَّفرُ إلى الحَجِّ.
ومِثالُ الشَّرطِ الشَّرعيِّ: الطَّهارةُ للصَّلاةِ ونَحوِها.
ومِثالُ الشَّرطِ العَقليِّ: تَركُ أضدادِ المَأمورِ به.
ومِثالُ الشَّرطِ العاديِّ: غَسلُ الزَّائِدِ على حَدِّ الوَجهِ في غَسلِ الوَجهِ، ليَتَحَقَّقَ غَسلُ جَميعِه [336] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/110)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 160)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/297)، ((التحبير)) للمرداوي (2/924)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (1/329). .
وقد اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على أقوالٍ؛ مِنها:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ دَليلَ الواجِبِ يَدُلُّ على وُجوبِ المُقَدِّمةِ مُطلَقًا، سَواءٌ أكانت سَبَبًا أم شَرطًا، وسَواءٌ كان الشَّرطُ شَرعيًّا، كالوُضوءِ للصَّلاةِ، أو عَقليًّا، كتَركِ أضدادِ الواجِبِ، أو عاديًّا، كغَسلِ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ لغَسلِ الوَجهِ. وبذلك يَكونُ الخِطابُ دالًّا على شيئينِ:
أحَدُهما: بطَريقِ المُطابَقةِ، وهو وُجوبُ الشَّيءِ. وثانيهما: بطَريقِ الالتِزامِ، وهو وُجوبُ ما يَتَوقَّفُ ذلك الشَّيءُ عليه مِن حيثُ الوُجودُ.
وهذا القَولُ ذَهَبَ إليه جُمهورُ الأُصوليِّينَ [337] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 160)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/369)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (1/350). ، وقال الزَّركَشيُّ: هذا هو الأصَحُّ عِندَ الأصوليِّينَ [338] يُنظر: ((البحر المحيط)) (1/298). وقد اختَلَف أصحابُ هذا القَولِ في أنَّ وُجوبَ المُقَدِّمةِ: هل يُتَلَقَّى مِن نَفسِ صيغةِ الأمرِ بالأصلِ، أو مِن دَلالَتِها؟ أشارَ السَّمعانيُّ إلى حِكايةِ الأوَّلِ. يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/103). وقال الزَّركشيُّ: (هو ضَعيفٌ، والجُمهورُ على الثَّاني). ((البحر المحيط)) (1/298). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه قَدِ انعَقَدَ إجماعُ الأُمَّةِ على إطلاقِ القَولِ بوُجوبِ تَحصيلِ ما أوجَبَه الشَّارِعُ، وتَحصيلُه إنَّما يَكونُ بتَعاطي الأُمورِ المُمكِّنةِ مِنَ الإتيانِ به [339] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/111). .
2- أنَّه لَو لَم يَكُنْ واجِبًا لَكان: إمَّا مَحظورًا، أو مَندوبًا، أو مَكروهًا، أو مُباحًا؛ لانحِصارِ الأحكامِ في هذه الخَمسةِ، ولا جائِزَ أن يَكونَ مَحظورًا؛ لأنَّ الأمرَ بالمُتَوسَّلِ إليه مَعَ مَنعِ الوسيلةِ تَكليفٌ بالمُحالِ، ولا جائِزَ أن يَكونَ مُباحًا، أو مَندوبًا، أو مَكروهًا؛ لأنَّ جَميعَ ذلك يَسوغُ تَركُه، وفي تَجويزِ تَركِه تَجويزُ تَركِ الواجِبِ [340] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/346). .
3- أنَّ التَّكليفَ بالمَشروطِ دونَ التَّكليفِ بالشَّرطِ مُحالٌ؛ لأنَّ المُكلَّفَ إذا كان مُكلَّفًا بالمَشروطِ فلا يَجوزُ لَه تَركُه، وإذا لَم يَكُنْ مُكلَّفًا بالشَّرطِ جاز لَه تَركُه، ويَلزَمُ مِن جَوازِ تَركِه جَوازُ تَركِ المَشروطِ؛ لأنَّ عَدَمَ الشَّرطِ يَلزَمُ مِنه عَدَمُ المَشروطِ، فيَلزَمُ الحُكمُ بعَدَمِ جَوازِ تَركِ المَشروطِ وبجَوازِ تَركِه، وذلك جَمعٌ بينَ النَّقيضينِ، وهو مُحالٌ [341] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 46). .
وهذا القَولُ الذي قال به الجُمهورُ -وهو أنَّ: ما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ- هو الرَّاجِحُ.
وهو مشروطٌ بثلاثةِ شُروطٍ:
1- أن يَكونَ الأمرُ بالواجِبِ مُطلَقًا لا مُقيَّدًا، والواجِبُ المُطلَقُ: هو الذي أُطلقَ إيجابُه، أي: لَم يُقيَّدْ إيجابُه بسَبَبٍ، ولا شَرطٍ، ولا مانِعٍ.
والمَقصودُ بالإطلاقِ هنا: أي: لا يَكونُ بالنَّظَرِ إلى تلك المُقَدِّمةِ التي يَتَوقَّفُ عليها مُقيَّدًا، وإن كان مُقيَّدًا بقُيودٍ أُخَرَ، فإنَّه لا يُخرِجُه عنِ الإطلاقِ، كقَولِ اللهِ تعالى: أَقِمِ الصَّلَاةِ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] ؛ فإنَّ وُجوبَ الصَّلاةِ في هذا النَّصِّ مُقيَّدٌ بالدُّلوكِ، وغيرُ مُقيَّدٍ بالوُضوءِ والاستِقبالِ [342] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 161)، ((التحبير)) للمرداوي (2/934)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (1/349). .
2- أن تَكونَ هذه المُقَدِّمةُ في مَقدورِ المُكلَّفِ، أي: يُمكِنُ تَحصيلُها للمُكلَّفِ؛ احتِرازًا مِنَ المَعجوزِ عنها [343] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/189)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/658). .
3- ألَّا يُعارِضَ المُقدِّمةَ ما هو أقوى مِنها. ومِثالُه: أنَّه يَجِبُ على المَرأةِ المُحرِمةِ كَشفُ وَجهِها [344] اتَّفقَتِ المَذاهِبُ الفِقهيَّةُ الأربَعةُ على أنَّ المَرأةَ المُحرِمةَ لا يَجوزُ لَها تَغطيةُ وَجْهِها إلَّا لحاجةٍ كمُرورِ أجانِبَ. يُنظر: ((الهداية)) للمرغيناني (1/152)، ((التاج والإكليل)) للمواق (3/141)، ((المجموع)) للنووي (7/250، 261)، ((الفروع)) لابن مفلح (5/527). وسَترُ رَأسِها في الإحرامِ، ولا بُدَّ في استيعابِ كَشفِ الوَجهِ مِن كشفِ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ، ولا بُدَّ في استيعابِ تَغطيةِ الرَّأسِ مِن تَغطيةِ جُزءٍ مِنَ الوَجهِ. وجَوَّزَ الفُقَهاءُ لَها أن تُغَطِّيَ القَدرَ اليسيرَ مِنه الذي يَلي الرَّأسَ؛ لأنَّه لا يُمكِنُ استيعابُ سَترِ الرَّأسِ إلَّا بسَترِه، وكأنَّهم رَأوا أنَّ السَّترَ أحوطُ مِنَ الكشفِ [345] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (1/343)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/306). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الخِطابَ الدَّالَّ على إيجابِ شَيءٍ لا يَدُلُّ على إيجابِ ما يَتَوقَّفُ الشَّيءُ عليه مُطلَقًا، سَواءٌ كان شَرطًا أو سَبَبًا، وسَواءٌ كان كُلٌّ مِنهما شَرعيًّا أو عَقليًّا أو عاديًّا. حَكاه السَّمعانيُّ عنِ الشَّافِعيَّةِ [346] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/100). ، وعَزاه الآمِديُّ لبَعضِ الأُصوليِّينَ [347] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/111). .
القَولُ الثَّالِثُ: أنَّ الخِطابَ الدَّالَّ على إيجابِ الشَّيءِ يَدُلُّ على إيجابِ ما يَتَوقَّفُ عليه إذا كان شَرطًا شَرعيًّا، ولا يَدُلُّ على إيجابِ غَيرِه مِنَ الشَّرطِ العَقليِّ أوِ العاديِّ، أوِ السَّبَبِ مُطلَقًا.
فالشَّرطُ الشَّرعيُّ يَجِبُ حيثُ يَكونُ الفِعلُ يَتَأتَّى بدونِه عَقلًا أو عادةً، لَكِنَّ الشَّرعَ جَعَلَه شَرطًا للفِعلِ كالوُضوءِ. وأمَّا ما لَم يَتَأتَّ اسمُ الفِعلِ إلَّا به عَقلًا أو عادةً، كالأمرِ بغَسلِ الوَجهِ فهو واجِبٌ في نَفسِه، ولا نُسَمِّيه شَرطًا؛ إذ لا يَتِمُّ عادةً غَسلُ الوَجهِ إلَّا بغَسلِ شَيءٍ مِنَ الرَّأسِ.
والفَرقُ بينَهما: أنَّ الشَّرطَ الشَّرعيَّ يُمكِنُ دُخولُه في الأمرِ بالمَشروطِ هاهنا، بخِلافِ غيرِ الشَّرعيِّ، نَحوُ غَسلِ جُزءٍ مِنَ الرَّأسِ؛ فإنَّه لَم يَقَعْ مِنَ الشَّرعِ نَصٌّ على إيجابِه، بَل ورَدَ الأمرُ بغَسلِ الوَجهِ مُطلَقًا، والعادةُ تَقضي بأنَّ غَسلَ الوَجهِ لا يَحصُلُ إلَّا بغَسلِ جُزءٍ مِنَ الرَّقَبةِ، فبهذا افتَرَقَ الشَّرطُ الشَّرعيُّ وغيرُه. وهو قَولُ إمامِ الحَرَمينِ [348] يُنظر: ((البرهان)) (1/85). ، وابنِ بَرهانَ [349] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/301). ، وابنِ الحاجِبِ [350] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (1/306). ، والطُّوفيِّ [351] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) (1/335). .
وقيل غيرُ ذلك [352] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/189)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 162)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/301). .
الأمثِلةُ التَّطبيقيَّةُ للمَسألةِ:
وهي أمثلة تطبيقية يترتب فيها الواجب على غيره، منها:
1- إذا وقَعَتِ النَّجاسةُ في الماءِ وجَبَ الامتِناعُ عنِ استِعمالِ الماءِ؛ لأنَّ الامتِناعَ عنِ استِعمالِ النَّجاسةِ واجِبٌ، ولا يُتمكَّنُ مِن ذلك إلَّا بالامتِناعِ عنِ استِعمالِ الماءِ؛ فيَجِبُ عليه ذلك [353] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 85). .
2- إذا خَفِيَ على المُسلمِ مَوضِعُ النَّجاسةِ مِنَ الثَّوبِ وجَبَ عليه غَسلُ الثَّوبِ كُلِّه؛ لأنَّه بذلك يَتيَقَّنُ إزالَتَها [354] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/304)، ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 136). .
3- إذا اختَلَطَ مَوتى المُسلمينَ بمَوتى الكُفَّارِ وجَبَ غَسْلُ الجَميعِ وتَكفينُهم والصَّلاةُ عليهم، وهو بالخيارِ: إن شاءَ صَلَّى على الجَميعِ دَفعةً واحِدةً، ويَنوي الصَّلاةَ على المُسلمينَ مِنهم؛ لأنَّ الصَّلاةَ على المُسلمينَ لا تَتَأتَّى إلَّا بالصَّلاةِ على الجَميعِ، وإن شاءَ صَلَّى على كُلِّ واحِدٍ مُنفرِدًا، ويَنوي أنَّه يُصَلِّي عليه إن كان مُسلِمًا [355] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 85)، ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 135). .
ثانيًا: هل يَبقى الجَوازُ إذا ارتَفعَ الوُجوبُ؟
إذا ثَبَتَ الوُجوبُ في شيءٍ، ثُمَّ نُسِخَ الوُجوبُ بدونِ أن يَدُلَّ النَّاسِخُ على حُكمٍ آخَرَ مِنَ الأحكامِ الباقيةِ. فهل يَبقى جَوازُ الفِعلِ بالنَّصِّ المَنسوخِ أم لا؟ وهل يُستَدَلُّ بالدَّليلِ الشَّرعيِّ الدَّالِّ على الوُجوبِ على أنَّ حُكمَ اللهِ تعالى بَعدَ نَسخِ الوُجوبِ الجَوازُ [356] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/308)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/83). ويُنظر أيضًا: ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1516). ؟
فنَسخُ الوُجوبِ على أنواعٍ:
الأوَّلُ: نَسخُ الوُجوبِ بنَصٍّ دالٍّ على الإباحةِ والجَوازِ، ومِثالُه: نَسخُ صَومِ عاشوراءَ.
الثَّاني: نَسخُ الوُجوبِ بالنَّهيِ عنه، ومِثالُه: نَسخُ التَّوجُّهِ إلى بيتِ المَقدِسِ؛ فإنَّه مَنهيٌّ عنه.
الثَّالثُ: نَسخُ الوُجوبِ مِن غيرِ إبانةِ جَوازٍ أو تَحريمٍ.
ففي الأوَّلِ: الجَوازُ بالنَّصِّ النَّاسِخِ ثابتٌ. وفي الثَّاني: لا جَوازَ أصلًا بالإجماعِ.
فبَقيَ الكلامُ في الثَّالثِ، وفيه خِلافٌ بينِ الأُصوليِّينَ [357] يُنظر: ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/83). .
فإذا أوجَبَ الشَّارِعُ شيئًا، ثُمَّ نَسخَ وُجوبَه، فيَجوزُ الإقدامُ عليه؛ عَمَلًا بالبَراءةِ الأصليَّةِ، ولَكِنَّ الدَّليلَ الدَّالَّ على الإيجابِ قَد كان أيضًا دالًّا على الجَوازِ دَلالةَ تَضمُّنٍ، فتلك الدَّلالةُ على الجَوازِ هل هي باقيةٌ أم زالَت بزَوالِ الوُجوبِ؟ هذا مَحَلُّ الخِلافِ في المَسألةِ [358] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 51). .
وهذه المَسألةُ تَتَعَرَّضُ لأحَدِ العَوارِضِ التي تَعرِضُ للأمرِ، أي: تَطرَأُ عليه، وعارِضُ الشَّيءِ: هو أمرٌ أجنَبيٌّ عن حَقيقَتِه، وليس بذاتيٍّ، أي: لَم يوضَعْ لَه لَفظُ الأمرِ. ومِنَ العَوارِضِ لحُكمِ الأمرِ: النَّسخُ [359] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/517). .
صورةُ المسألةِ:
أن يَرِدَ الأمرُ بالوُجوبِ، ثُمَّ يَقولَ الآمِرُ بَعدَ ذلك: رَفعتُ عنكُمُ الوُجوبَ، أو نَسختُ الوُجوبَ، أو نَسختُ تَحريمَ التَّركِ.
فأمَّا إذا نُسِخَ الوُجوبُ بالتَّحريمِ، مِثلُ أن يَقولَ الآمِرُ بَعدَ الأمرِ بالشَّيءِ: حَرَّمتُ عليكُم ذلك الشَّيءَ. أو يَقولَ: رَفعتُ جَميعَ ما دَلَّ عليه الأمرُ السَّابقُ مِن جَوازِ الفِعل ومَنعِ التَّركِ، يَثبُتُ التَّحريمُ قَطعًا، ولا يُستَدَلُّ بذلك الأمرِ على الجَوازِ [360] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص141)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 51). .
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى: كُتِبَ عَلَيْكمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة: 180] .
فإنَّه نُسِخَ [361] قال الشَّوكانيُّ: (اختَلَف أهلُ العِلمِ في هذه الآيةِ: هل هي مُحكَمةٌ أو مَنسوخةٌ؟ فذَهَبَ جَماعةٌ إلى أنَّها مُحكَمةٌ، قالوا: وهي وإن كانت عامَّةً فمَعناها الخُصوصُ. والمُرادُ بها: مِنَ الوالِدَينِ مَن لا يَرِثُ كالأبَوينِ الكافِرَينِ، ومَن هو في الرِّقِّ، ومِنَ الأقرَبينَ مَن عَدا الورَثةَ مِنهم. قال ابنُ المُنذِرِ: أجمَعَ كُلُّ مَن نَحفظُ عنه مِن أهلِ العِلمِ على أنَّ الوصيَّةَ للوالِدَينِ اللَّذينِ لا يَرِثانِ، والأقرِباءِ الذينَ لا يَرِثونَ جائِزةٌ. وقال كثيرٌ مِن أهلِ العِلمِ: إنَّها مَنسوخةٌ بآيةِ المَواريثِ، مَعَ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا وصيَّةَ لوارِثٍ))... وقال بَعضُ أهلِ العِلمِ: إنَّه نُسِخَ الوُجوبُ، وبَقيَ النَّدبُ، ورُويَ عنِ الشَّعبيِّ، والنَّخعيِّ، ومالِكٍ). ((فتح القدير)) (1/ 205). ومِمَّن ذَهَبَ إلى أنَّ الآيةَ غيرُ مَنسوخةٍ: ابنُ جَريرٍ. يُنظر: ((تَفسير ابن جَرير)) (3/124)، والنَّحَّاس. يُنظر: ((النَّاسِخ والمَنسوخ)) (ص: 88)، والسَّعديّ. يُنظَرُ: ((تفسير السعدي)) (ص: 85). وذَهَبَ إلى ذلك أيضًا: الحَسَنُ البَصريُّ، وطاوسٌ، وقَتادةُ، والعَلاءُ بنُ زَيدٍ، ومُسلِمُ بنُ يَسارٍ. يُنظر: ((الناسخ والمنسوخ)) لهبة الله (ص: 41). ومِمَّن قال بأنَّ الآيةَ مَنسوخةٌ بآيةِ المَواريثِ: الواحِديُّ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (1/268-269)، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (1/492)، وابن عاشور. يُنظر: ((التحرير والتنوير)) (2/149). ورُويَ ذلك عنِ ابنِ عُمَرَ، وأبي موسى الأشعَريِّ، وسَعيدِ بنِ المُسيِّبِ، والحَسَنِ، ومُجاهِدٍ، وعَطاءٍ، وسَعيدِ بنِ جُبَيرٍ، ومُحَمَّدِ بنِ سِيرينَ، وزيدِ بنِ أسلَمَ، والرَّبيعِ بنِ أنَسٍ، وقتادةَ، والسُّدِّيِّ، ومُقاتِلِ بنِ حيَّانَ، وإبراهيمَ النَّخَعيِّ، والضَّحَّاكِ، والزُّهريِّ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي حاتم)) (1/299). بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا وصيَّةَ لوارِثٍ)) [362] لَفظُه: عن أبي أُمامةَ قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((إنَّ اللَّهَ قَد أعطى كُلَّ ذي حَقٍّ حَقَّه؛ فلا وصيَّةَ لوارِثٍ)). أخرجه أبو داود (2870) واللفظ له، والترمذي (2120)، وابن ماجه (2713). صحَّحه ابنُ العربي في ((عارضة الأحوذي)) (4/432)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (2870)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/215)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (2870). .
وقد تَعَدَّدَت عِباراتُ الأُصوليِّينَ في هذه المَسألةِ:
فعَبَّر بَعضُهم عنها بقَولِهم: (الأمرُ الصَّادِرُ على جِهةِ الوُجوبِ إذا نُسِخَ موجَبُه، هل يَبقى جَوازُ فِعلِه بالأمرِ به أم لا؟) ومِن هؤلاء الباقِلَّانيُّ [363] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/253). .
وعَبَّر بَعضُهم عنها بقَولِهم: (إذا نُسِخَ الوُجوبُ بَقيَ الجَوازُ) ومِن هؤلاء الرَّازيُّ [364] يُنظر: ((المحصول)) (2/203). ، والبَيضاويُّ [365] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 64). .
وعَبَّرَ عنها ابنُ بَرهانَ بقَولِه: (ليس في الواجِبِ مَعنى الجائِزِ) [366] يُنظر: ((الوصول)) (1/179). .
وعَبَّر بَعضُهم عنها بقَولِهم: (المُباحُ: هل هو داخِلٌ في مُسَمَّى الواجِبِ أم لا؟) ومِن هؤلاء الآمِديُّ [367] يُنظر: ((الإحكام)) (1/125). ، وابنُ الحاجِبِ [368] يُنظر: ((مختصر منتهى السول والأمل)) (1/332). .
وعَبَّرَ السُّيوطيُّ وغيره عنها بلَفظِ: إذا بَطَلَ الخُصوصُ هل يَبقى العُمومُ؟ [369] يُنظر: ((الأشباه والنظائر)) (ص: 182). ويُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 101) حيث قال: (وهذا الخلاف كثيرا ما يعبر عنه الفقهاء بقولهم إذا بطل الخصوص هل يبطل العموم؟). .
وقد اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: إذا نُسِخَ الوُجوبُ لَم يَبقَ الجَوازُ، فإذا نُسِخَ وُجوبُ الأمرِ لَم يَجُزْ أن يُستَدَلَّ به على الجَوازِ، وإنَّما يَرجِعُ الأمرُ إلى ما كان قَبلَ الوُجوبِ مِنَ البَراءةِ الأصليَّةِ، أوِ الإباحةِ، أوِ التَّحريمِ، وصارَ الوُجوبُ بالنَّسخِ كأن لَم يَكُنْ. وهو قَولُ العِراقيِّينَ مِنَ الحَنَفيَّةِ [370] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/64)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/83). ، وقولُ بَعضِ المالكيَّةِ [371] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/226)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 141). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [372] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 96)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/309). ، واختاره الباقِلَّانيُّ [373] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/253). ، وصَحَّحه السَّرَخْسيُّ [374] ((أصول السرخسي)) (1/65) قال: (الأصَحُّ عِندي: أنَّ بانتِفاءِ حُكمِ الوُجوبِ لقيامِ الدَّليلِ يَنتَسِخُ الأمرُ، ويَخرُجُ مِن أن يَكونَ أمرًا شَرعًا، والمَصير إلى بيانِ مُوجِبِه ابتِداءً). ، والقاضي أبو الطَّيِّبِ الطَّبَريُّ، وإلْكِيا الطَّبَريُّ، وابنُ القُشَيريِّ [375] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/309). ، والغَزاليُّ [376] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 59). ، واختاره ابنُ بَرهانَ [377] يُنظر: ((الوصول)) (1/179). .
ومنَ الأدِلَّةِ علَى ذلكَ:
أنَّ الأمرَ الواجِبَ يَقتَضي وُجوبَ الفِعلِ، وأن يُستَحَقَّ بتَركِه العِقابُ، وهذا ضِدُّ الجَوازِ؛ لأنَّ الجائِزَ: ما جازَ فِعلُه وتَركُه، وذلك إنَّما يَكونُ مُباحًا أو مَندوبًا إليه. فإذا ثَبَتَ أنَّ مَعنى الجَوازِ مُناقِضٌ لمَعنى الوُجوبِ استَحالَ أن يَكونَ أحَدُهما مِن مُقتَضى الآخَرِ. فإذا كان ذلك كذلك وجَبَ أن يَكونَ نَسخُ الواجِبِ رَفعًا لجَميعِ موجِبِه، وأن يَعودَ الشَّيءُ بَعدَ رَفعِ وُجوبِه إلى ما كان عليه قَبلَ وُجوبِه [378] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/253)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/226). .
القَولُ الثَّاني: إذا نُسِخَ الوُجوبُ بَقيَ الجَوازُ بالنَّصِّ المَنسوخ، فإذا نُسِخَ وُجوبُ الأمرِ جازَ الاستِدلالُ بذلك الأمرِ المَنسوخِ على جَوازِ الفِعلِ المَنسوخِ [379] اختَلَف هؤلاء في تَفسيرِ الجَوازِ: فقال فريقٌ مِنهم: إذا نُسِخَ الوُجوبُ يبقى الجَوازُ، بمَعنى رَفعِ الحَرَجِ عنِ الفِعلِ غيرَ مُقيَّدٍ بالتَّخييرِ على السَّواءِ، ولا برُجحانِ الفِعلِ على التَّركِ، ولا برُجحانِ التَّركِ على الفِعلِ. وعلى هذا يُحتَمَلُ أن يَكونَ مُباحًا، وأن يَكونَ مَندوبًا، وأن يَكونَ مَكروهًا أو خِلافَ الأَولى. فهؤلاء يَجعَلونَ الباقيَ بَعدَ نَسخِ الوُجوبِ هو الجَوازَ، بمَعنى القَدرِ المُشتَرَكِ بينَ النَّدبِ، والإباحةِ، والكراهةِ وخِلافِ الأَولى، في ضِمنِ أيِّ واحِدٍ مِنها. وقال الفريقُ الثَّاني: إذا نُسِخَ الوُجوبُ يبقى الجَوازُ، بمَعنى رَفعِ الحَرَجِ عنِ الفِعلِ مُقيَّدًا بالتَّخييرِ على السَّواءِ، وهو الإباحةُ. فهؤلاء يَجعَلونَ الجَوازَ مُعيَّنًا في الإباحةِ. وقال الفريقُ الثَّالثُ: إذا نُسِخَ الوُجوبُ يبقى الجَوازُ، بمَعنى رَفعِ الحَرَجِ عنِ الفِعل والتَّركِ، لا على السَّواءِ، ولا مُطلَقًا، بَل مَعَ رُجحانِ الفِعلِ على التَّركِ؛ فيَكونُ مُستَحَبًّا. فهؤلاء يَجعَلونَه مُعيَّنًا برُجحانِ الفِعلِ على التَّركِ، وهو الاستِحبابُ، أيِ: النَّدبُ. يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 100)، ((البدر الطالع)) للمحلي (1/135)، ((سلم الوصول)) للمطيعي (1/236). والقولُ بقاءِ النَّدبِ بَعدَ نَسخِ الوُجوبِ، هو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ وبَعضِ الحَنابلةِ. يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/308)، ((البدر الطالع)) للمحلي (1/135). ويُنظر أيضا: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/174)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/431). وقال الزَّركشيُّ: حَكاه الطُّرطُوشيُّ في المُعتَمَدِ، قال: وعليه يَدُلُّ مَذهَبُ مالِكٍ؛ فإنَّ صيامَ عاشوراءَ لمَّا نُسِخَ بَقيَ صيامُه مُستَحَبًّا، ولمَّا نُسِخَ فَرضُ قيامِ اللَّيلِ بالصَّلَواتِ الخَمسِ بَقيَ مُستَحَبًّا، وكذلك الضِّيافةُ كانت واجِبةً في أوَّلِ الإسلامِ ثُمَّ نُسِخَ كُلُّ حَقٍّ كان في المالِ بالزَّكاةِ، وبَقيَ ذلك كُلُّه مُستَحَبًّا؛ فيَجوزُ على هذا الأصلِ أن يُحتَجَّ بالآثارِ المَنسوخةِ على الاستِحبابِ وعلى الجَوازِ. ((البحر المحيط)) (1/308). . وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ [380] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 141)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/518). ويُنظر أيضا: ((الإشارة)) للباجي (ص: 172). ، وجمهورِ الشَّافِعيَّةِ [381] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 51)، ((الإبهاج)) لتاج الدين السبكي (2/342). ويُنظر أيضًا: ((المحصول)) (2/203)، ((المعالم)) (ص: 72) كلاهما للرازي، ((منهاج الوصول)) للبيضاوي (ص: 64). ، وبَعضِ الحنابِلةِ [382] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 16)، ((القواعد)) لابن اللحام (ص: 225)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/430). ، واختاره البهاريُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ [383] يُنظر: ((مسلم الثبوت)) (1/65). ، وحكاه الباقِلَّانيُّ عن بَعضِ الفُقَهاءِ [384] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/253). .
ويدُلُّ على ذلك:
أنَّ الأمرَ بالفِعلِ يَقتَضي وُجوبَ الفِعلِ وجَوازَه، والجَوازُ ألزَمُ لَه؛ لأنَّه قَد يَكونُ جائِزًا ولا يَكونُ واجِبًا، ومُحالٌ أن يَكونَ واجِبًا ولا يَكونَ جائِزًا؛ لأنَّه يَستَحيلُ أن يُؤمَرَ بفِعلِ ما لا يَجوزُ لَه فِعلُه [385] يُنظر: ((الإشارة)) للباجي (ص: 172). .
وبيانُ ذلك: أنَّ الوُجوبَ مُرَكَّبٌ مِن: جَوازِ الفِعلِ، ومِنَ المَنعِ مِنَ التَّركِ. فالجَوازُ جُزءٌ مِن ماهيَّةِ الوُجوبِ، فاللَّفظُ الذي دَلَّ على الوُجوبِ يَدُلُّ بالتَّضَمُّنِ على الجَوازِ، والماهيَّةُ المُرَكَّبةُ مِن أجزاءٍ تَرتَفِعُ بارتِفاعِ أحَدِ أجزائِها؛ فإذا ارتَفعَ المَنعُ مِنَ التَّركِ بالنَّسخِ بَقيَ الجَوازُ؛ لأنَّ النَّاسِخَ إنَّما وَرَد على الوُجوبِ، وهو لا يُنافي الجَوازَ؛ لارتِفاعِ الوُجوبِ بارتِفاعِ المَنعِ مِنَ التَّركِ [386] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/203)، ((الإبهاج)) لتاج الدين السبكي (2/343)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/521). .
مَنشَأُ الخِلافِ في المَسألةِ:
مَنشَأُ الخِلافِ في المَسألةِ: أنَّ الجَوازَ هل هو داخِلٌ في حَقيقةِ الواجِبِ أم لا؟
فمَن قال: إنَّه داخِلٌ فيها. قال يبقى الجَوازِ إذا نُسِخَ الوُجوبُ، وهذا القائِلُ يُفسِّرُ الجَوازَ برَفعِ الحَرَجِ عنِ الفِعلِ فقَط، ولا شَكَّ أنَّه داخِلٌ في ماهيَّةِ الواجِبِ.
ومَن قال: إنَّه غيرُ داخِلٍ فيها بَل هو يُنافيها. قال: لا يبقى الجَوازُ. وهذا القائِلُ يُفسِّرُ الجَوازَ برَفعِ الحَرَجِ عنِ الفِعلِ والتَّركِ، ولا شَكَّ أنَّه غيرُ داخِلٍ فيها، بَل هو يُنافيها [387] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (2/591). ويُنظر أيضًا: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 142). وقد اختَلَفوا في نَوعِ الخِلافِ: هل هو لَفظيٌّ أو مَعنَويٌّ. يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (1/126)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (1/404)، ((الإبهاج)) لتاج الدين السبكي (2/347)، ((البحر المحيط)) للزركشي (1/311) ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (1/432). .
الأمثِلةُ التَّطبيقيَّةُ للمَسألةِ:
1- في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حَلَف على يَمينٍ فرَأى غيرَها خيرًا مِنها، فليَأتِ الذي هو خيرٌ، وليَكُفِّرْ عن يَمينِه)) [388] أخرجه مسلم (1650) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال السَّرَخْسيُّ: (صيغةُ الأمرِ بهذه الصِّفةِ توجِبُ التَّكفيرَ سابقًا على الحِنثِ، وقد انعَدَمَ هذا الوُجوبُ بدَليلِ الإجماعِ، فبَقيَ الجَوازُ عِندَه أيِ الشَّافِعيِّ، ولَم يَبقَ عِندَنا.
وحُجَّتُه في ذلك: أنَّ مِن ضَرورةِ وُجوبِ الأداءِ: جَوازَ الأداءِ، والثَّابتُ بضَرورةِ النَّصِّ كالمَنصوصِ، وليس مِن ضَرورةِ انتِفاءِ الوُجوبِ انتِفاءُ الجَوازِ، فيَبقى حُكمُ الجَوازِ بَعدَما انتَفى الوُجوبُ بالدَّليلِ، واستُدِلَّ عليه بصَومِ عاشوراءَ؛ فبانتِساخِ وُجوبِ الأداءِ فيه لَم يَنتَسِخْ جَوازُ الأداءِ.
ولَكِنَّا نَقولُ: موجِبُ الأمرِ أداءً هو مُتَعيِّنٌ على وجهٍ لا يَتَخيَّرُ العَبدُ بينَ الإقدامِ عليه وبينَ تَركِه شَرعًا، والجَوازُ فيما يَكونُ العَبدُ مُخيَّرًا فيه، وبينَهما مُغايَرةٌ على سَبيلِ المُنافاةِ، فإذا قامَ الدَّليلُ على انتِساخِ موجِبِ الأمرِ لا يَجوزُ إبقاءُ غيرِ موجِبِ الأمرِ مُضافًا إلى الأمرِ) [389] ((أصول السرخسي)) (1/65). .
2- بَعدَما نُسِخَ الأمرُ بصَومِ عاشوراءَ: لا نَقولُ: جَوازُ الصَّومِ في ذلك اليَومِ موجِبُ ذلك الأمرِ، بَل هو موجِبُ كَونِ الصَّومِ مَشروعًا فيه للعَبدِ، كما في سائِرِ الأيَّامِ، وقد كان ذلك ثابتًا قَبلَ إيجابِ الصَّومِ فيه بالأمرِ شَرعًا، فبَقيَ على ما كان [390] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/65). .
ومَن قال: يَبقى النَّدبُ. يَقولُ: إنَّ صيامَ عاشوراءَ لمَّا نُسِخَ بَقيَ صيامُه مُستَحَبًّا [391] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/308). .

انظر أيضا: