موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (44-49)

ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ

غريب الكلمات:

كِسْفًا: أي: قِطْعةً أو قِطَعًا؛ يَجوزُ أنْ يكونَ وَاحِدًا، وأنْ يكونَ جمْعَ كِسْفَةٍ، مِثل سِدْرَةٍ وسِدْرٍ، وأمَّا (الكِسَف) -بفتْحِ السِّينِ- أي: القِطَعُ، فإنَّه جمْعُ كِسْفةٍ. والكِسْفةُ: القِطعةُ مِن الشَّيءِ، وأصلُ (كسف) هنا: يدُلُّ على قَطعِ شَيءٍ مِن شَيءٍ [404] يُنظَر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 397)، ((المفردات)) للراغب (ص: 711)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 215)، ((تاج العروس)) للزَّبِيدي (24/307). .
مَرْكُومٌ: أي: مُتراكِمٌ؛ بَعضُه فوقَ بَعضٍ، وأصلُ (ركم): يدُلُّ على تجَمُّعِ شَيءٍ [405] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 426)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 425)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/430)، ((المفردات)) للراغب (ص: 365)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 393). .
يُصْعَقُونَ: أي: يَموتونَ ويُهلَكونَ، وقيل: يُعذَّبون، والصَّاعِقةُ: هي الصَّوتُ الشَّديدُ مِن الجوِّ، ثمَّ يكونُ منه نارٌ فقط، أو عذابٌ، أو موتٌ، وقيل: الصَّاعقةُ: كلُّ عَذابٍ مُهلِكٍ، أو: هي اسمٌ للعذابِ على أيِّ حالٍ كان، وأصلُ (صعق): يدُلُّ على شِدَّةِ الصَّوتِ [406] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 49)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/285)، ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (4/1079)، ((البسيط)) للواحدي (2/206)، ((المفردات)) للراغب (ص: 484، 485)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/32)، ((تفسير الخازن)) (4/202). قال ابن جرير: (وأصْلُ الصَّاعِقةِ: كُلُّ أمْرٍ هائِلٍ رآه أو عايَنَه أو أصابَه، حتَّى يَصيرَ مِن هَوْلِه وعَظيمِ شَأْنِه إلى هَلاكٍ وعَطَبٍ، أو إلى ذَهابِ عَقلٍ وغُمورِ فَهْمٍ، أو فَقْدِ بَعضِ آلاتِ الجِسمِ؛ صَوتًا كان ذلك، أو نارًا، أو زَلزَلةً، أو رَجْفًا). ((تفسير ابن جرير)) (1/690، 691). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ تعالَى مبيِّنًا عنادَ المشركينَ ومُكابَرَتَهم للمحسوسِ: وإنْ يَرَ أولئك المُشرِكونَ قِطَعًا مِن السَّماءِ ساقِطةً عليهم، يقولوا: هذا سَحابٌ تراكَم بعضُه على بَعضٍ، ولا يُؤمِنوا بأنَّه عذابٌ مِنَ اللهِ تعالى؛ فاترُكْهم -يا محمَّدُ- حتَّى يُلاقُوا يومَهم الَّذي فيه يُعذَّبونَ؛ يومَ لا يَنفَعُهم كَيدُهم شَيئًا، ولا هم يُنصَرونَ، وإنَّ لِلَّذِين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ باللهِ تعالى عَذابًا قبْلَ عَذابِ ذلك اليَومِ، ولكِنَّ أكثَرَهم لا يَعلَمونَ!
ثمَّ يختمُ الله تعالى هذه الآياتِ بتوجيهِ الخِطابِ إلى نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، آمِرًا له بالصَّبرِ، وألَّا يعبأَ بهم، فيقولُ: واصبِرْ -يا محمَّدُ- لحُكْمِ رَبِّك؛ فإنَّك بمَرأًى مِنَّا، نَحُوطك ونَحميك، ونَزِّهْ ربَّك -يا محمَّدُ- عن النَّقائِصِ تَنزيهًا مُقتَرِنًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ حينَ تَقومُ، وسَبِّحْ رَبَّك في بَعضِ أوقاتِ اللَّيلِ وحينَ تَميلُ النُّجومُ للمَغِيبِ.

تفسير الآيات:

وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن فسادَ أقوالِهم وسُقوطَها عن درجةِ الاعتبارِ، أشار إلى أنَّه لم يَبْقَ لهم شيءٌ مِنْ وجهِ الاعتذارِ؛ فإنَّ الآياتِ ظَهَرتْ، والحُجَجَ تَمَيَّزَتْ، ولم يُؤْمِنوا [407] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/223). ، فبَعْدَ ذلك استحَقُّوا الانتقامَ [408] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/120). .
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44).
أي: وإنْ يَرَ المُشرِكونَ قِطَعًا من السَّماءِ ساقِطةً عليهم، يقولوا: هذا سَحابٌ تراكَم بعضُه على بَعضٍ، ولا يُؤمِنوا بأنَّه عذابٌ مِنَ اللهِ تعالى [409] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/77)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 817)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/79، 80)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). قال البِقاعي: (كِسْفًا أي: قِطعةً، وقيلَ: قِطَعًا، واحِدتُها كِسْفةٌ، مِثلُ: سِدْرةٍ وسِدْرٍ). ((نظم الدرر)) (19/34). وممَّن قال بالمعنى الأوَّلِ؛ أنَّ المرادَ بقولِه: كِسْفًا: أي: قِطعةً: ابنُ أبي زَمَنين، والثعلبيُّ، والبغوي، والبيضاوي، والنسفي، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/303)، ((تفسير الثعلبي)) (9/132)، ((تفسير البغوي)) (4/296)، ((تفسير البيضاوي)) (5/156)، ((تفسير النسفي)) (3/388)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/79). قال ابنُ عاشور: (الكِسْفُ -بكَسرِ الكافِ: القِطعةُ... ومِنَ تبعيضيَّة، أي: قِطعةً مِن أجزاءِ السَّماءِ مِثلَ القِطَعِ الَّتي تَسقُطُ مِنَ الشُّهُبِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/79). وممَّن قال بالمعنى الثَّاني -أي: أنَّها جمْعُ كِسفةٍ-: ابنُ جرير، والنَّحَّاسُ، والقُرطبيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/600)، ((إعراب القرآن)) للنحاس (4/176)، ((تفسير القرطبي)) (17/77). قال أبو حيَّان: (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ: كانت قُريشٌ قد اقتَرَحَتْ على رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم فيما اقتَرَحَتْ مِن قولِهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء: 92] ، فأخْبَر تعالَى أنَّهم لو رَأَوا ذلك عِيانًا، حَسَبَ اقتراحِهم، لَبَلَغ بهم عُتُوُّهم وجهلُهم أنْ يُغالِطوا أنفُسَهم فيما عايَنوه، وقالوا: هو سَحابٌ مركومٌ، تَرَاكَم بعضُه على بعضٍ مُمْطِرُنا، وليسَ بكِسفٍ ساقِطٍ للعذابِ). ((تفسير أبي حيان)) (9/576). واختار السعديُّ وابنُ عثيمينَ أنَّ المرادَ: قِطعٌ من العذابِ. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 817)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). !
قال تعالى: أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [سبأ: 9] .
وقال سُبحانَه: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا [الإسراء: 90 - 92] .
وقال تعالى حكايةً عن قَولِ أصحابِ الأَيْكةِ لِشُعَيبٍ عليه السَّلامُ: قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: 185 - 187] .
فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45).
أي: فاترُكْ -يا محمَّدُ- هؤلاء المُشرِكينَ المُعانِدينَ حتَّى يُلاقُوا اليَومَ الَّذي فيه يموتونَ ويهلكونَ [410] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/457)، ((تفسير الخازن)) (4/202)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). وقد ذهَب ابنُ جرير، والزمخشريُّ، والبيضاويُّ، وابنُ جُزَي: إلى أنَّ المرادَ بقولِه: يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ: النَّفخةُ الأُولى، كما قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] . يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/602)، ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير البيضاوي)) (5/156)، ((تفسير ابن جزي)) (2/315). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الحسَنُ. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/303). وذهب أبو السُّعودِ، وابنُ عجيبة، والألوسيُّ: إلى أنَّ المرادَ بذلك اليَومِ: يومُ بَدرٍ، واستَظْهَره البِقاعي. يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/152، 153)، ((تفسير ابن عجيبة)) (5/496)، ((تفسير الألوسي)) (14/39)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/35). قال ابن عجيبة: (هو اليَومُ الَّذي صُعِقُوا فيه بالقَتلِ يومَ بَدرٍ، لا عِندَ النَّفخةِ الأُولى كما قيلَ؛ إذ لا يُصعَقُ بها إلَّا مَن كان حيًّا حينَئذٍ). ((تفسير ابن عجيبة)) (5/496). وقال ابن عطية: (واختلَف النَّاسُ في اليومِ الَّذي تُوُعِّدوا به؛ فقال بعضُ المتأوِّلينَ: هو مَوتُهم واحدًا واحدًا، وهذا على تجَوُّزٍ، والصَّعقُ: التَّعذيبُ في الجملةِ، وإن كان الاستِعمالُ قد كثُر فيه فيما يُصيبُ الإنسانَ مِن الصَّيحةِ المُفرطةِ ونحوِه. ويحتملُ أن يكونَ اليومُ الَّذي تُوعِّدوا به يومَ بدرٍ؛ لأنَّهم عُذِّبوا فيه. وقال الجمهورُ: التَّوعُّدُ بيومِ القيامةِ؛ لأنَّ فيه صَعقةً تعُمُّ جميعَ الخلائقِ، لكنْ لا مَحالةَ أنَّ بيْنَ صعقةِ المؤمنِ وصعقةِ الكافر فرقًا). ((تفسير ابن عطية)) (5/194). وقال ابنُ عثيمين: (هو يومُ مَوتِهم، يعني: اترُكْ هؤلاءِ؛ فإنَّ مآلَهم إلى الموتِ وإنْ فَرُّوا، وهم إذا لاقَوا يَومَهم الَّذي يُوعَدونَ عَرَفوا أنَّهم على باطِلٍ، وأنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الحَقِّ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ: يَموتون ويهلكون: السَّمرقنديُّ، والرسعني، والخازن، وجلال الدين المحلي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/356)، ((تفسير الرسعني)) (7/ 457)، ((تفسير الخازن)) (4/202)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 700)، ((تفسير القاسمي)) (9/54). وقال مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ: (فَذَرْهُمْ فخَلِّ عنهم يا محمَّدُ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ فى الآخِرةِ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يعني: يُعذَّبون). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/149). .
كما قال الله تعالى: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ [الزخرف: 83] .
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا قال: يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ، وكُلُّ بَرٍّ وفاجرٍ يُلاقي يَومَه؛ أعاد صِفةَ يَومِهم، وذكَرَ ما يتمَيَّزُ به يومُهم عن يومِ المُؤمِنينَ؛ فقال [411] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/226). :
يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا.
أي: يومَ لا يَنفَعُهم كَيدُهم الَّذي كادوا به الحَقَّ شَيئًا [412] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/602)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). قال ابن كثير: (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا أي: لا يَنفَعُهم كَيدُهم ومَكْرُهم الَّذي استَعمَلوه في الدُّنيا، ولا يُجدي عنهم يومَ القيامةِ شَيئًا). ((تفسير ابن كثير)) (7/438). وقال ابن عاشور: (أي: لا يَستطيعونَ كيدًا يومَئذٍ كما كانوا في الدُّنيا، فالمعنى: لا كَيدَ لهم فيُغْنيَ عنهم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/81). !
كما قال الله تعالى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ [المرسلات: 38، 39].
وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
أي: ولا هم يُنصَرونَ؛ فيُنجِيَهم أحَدٌ مِن عَذابِه [413] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/602)، ((تفسير القرطبي)) (17/77)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). !
قال تعالى: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [الدخان: 41].
وقال سُبحانَه: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [الطارق: 10] .
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى عذابَ الظَّالِمينَ في القيامةِ؛ أخبَرَ أنَّ لهم عَذابًا دونَ عَذابِ يومِ القِيامةِ [414] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ.
أي: وإنَّ للَّذين ظَلَموا أنفُسَهم بالكُفرِ باللهِ تعالى عَذابًا قبْل ذلك اليَومِ [415] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/604، 605)، ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير القرطبي)) (17/78)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 75)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/461). قيل: العَذابُ المذكورُ هنا شامِلٌ لعَذابِ الدُّنيا بالقَتلِ أو غَيرِه، ولِعَذابِ البَرزخِ والقَبرِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى في الجملةِ: ابنُ جرير، والزمخشريُّ، وابن القيم، والسعدي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/604)، ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((الروح)) لابن القيم (ص: 75)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/461). قال ابن جرير: (الصَّوابُ مِن القولِ في ذلك عندي أن يُقالَ: إنَّ اللهَ تعالى ذِكرُه أخبَر أنَّ للَّذين ظلَموا أنفُسَهم بكُفرِهم به عذابًا دونَ يَومِهم الَّذي فيه يُصعقونَ، وذلك يومُ القيامةِ، فعذابُ القبرِ دونَ يومِ القيامةِ؛ لأنَّه في البَرزَخِ، والجوعُ الَّذي أصاب كفَّارَ قُرَيشٍ، والمصائبُ الَّتي تُصيبُهم في أنفُسِهم وأموالِهم وأولادِهم دونَ يومِ القيامةِ، ولم يَخصُصِ اللهُ نَوعًا مِن ذلك أنَّه لهم دونَ يومِ القيامةِ دونَ نَوعٍ، بل عَمَّ، فقال: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ، فكلُّ ذلك لهم عذابٌ). ((تفسير ابن جرير)) (21/604). وقال ابنُ القيِّم: (هذا يحتَمِلُ أن يُرادَ به عذابُهم بالقَتلِ وغَيرِه في الدُّنيا، وأن يرادَ به عذابُهم في البَرزخِ، وهو أظهَرُ؛ لأنَّ كثيرًا منهم مات ولم يُعَذَّبْ في الدُّنيا. وقد يُقالُ -وهو أظهَرُ-: إنَّ مَن مات منهم عُذِّبَ في البَرزخِ، ومَن بَقِيَ منهم عُذِّبَ في الدُّنيا بالقَتلِ وغَيرِه؛ فهو وَعيدٌ بعَذابِهم في الدُّنيا وفي البَرزخِ). ((الروح)) (ص: 75). وقال الشنقيطي: (الظَّاهرُ أنَّ قولَه: عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ هو ما عُذِّبوا به في دارِ الدُّنيا مِن القتلِ وغيرِه. كما دَلَّ على ذلك قولُه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ الآيةَ [السجدة: 21] ، وقولُه تعالَى: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التوبة: 14] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ، ولا مانِعَ مِن دُخولِ عَذابِ القَبرِ في ذلك؛ لأنَّه قد يَدخُلُ في ظاهِرِ الآيةِ). ((أضواء البيان)) (7/461). وقيل: المرادُ به: العَذابُ في الدُّنيا، واختلَفوا؛ فمِنهم مَنِ اقتصَر على كَونِه في الدُّنيا؛ كالخازِنِ، وابنِ كثير. ومِنهم مَن قصَر هذا العذابَ على القتلِ ببَدْرٍ؛ كابنِ جُزَي، والعُلَيمي، والشَّوكاني. ومِنهم مَن قال: عذابُ الجوعِ في سِنِي القَحطِ، وعذابُ السَّيْفِ يومَ بَدْرٍ، كابنِ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/315)، ((تفسير الخازن)) (4/202)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير العليمي)) (6/430)، ((تفسير الشوكاني)) (5/123)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). وقال ابن عثيمين: (عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ، يعني: دونَ عذابِ الموتِ، وهو ما أُصيبوا به مِن الجدبِ والقحطِ والخوفِ والحروبِ وغيرِ ذلك، ممَّا كان قبْلَ الموتِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). وممَّن قال بمعنى هذا القولِ مِن السَّلفِ -معَ تنَوُّعِ عباراتِهم-: (الجوع، والقحط، والقتل ببدر، وذهاب الأموال والأولاد)-: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ، ومجاهِدٌ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/604)، ((تفسير الثعلبي)) (9/132)، ((تفسير البغوي)) (4/296). ممَّن اختار أنَّ المرادَ بهذا العذابِ: عذابُ القبرِ: الكرماني، والرسعني. يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1149)، ((تفسير الرسعني)) (7/458). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: البَراءُ، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/603)، ((تفسير الثعلبي)) (9/132). قال ابن عاشور: (كلمةُ «دونَ» أصْلُها المكانُ المنفصِلُ عن شَيءٍ انفصالًا قريبًا، وكَثُر إطلاقُه على الأقلِّ، يُقالُ: هو في الشَّرفِ دونَ فلانٍ، وعلى السَّابقِ؛ لأنَّه أقرَبُ حُلولًا مِن المسبوقِ، وعلى معنَى «غيرِ». و«دُونَ» في هذه الآيةِ صالِحةٌ للثَّلاثةِ الأخيرةِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). وقال الرازي: (دُونَ ذَلِكَ، على قولِ أكثَرِ المفسِّرينَ معناه: «قبْلَ»، ويُؤَيِّدُه قولُه تعالَى: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [السَّجْدَةِ: 21]. ويحتمِلُ وجهَيْنِ آخَريْنِ: أحدُهما: دونَ ذلك، أي: أقلَّ مِن ذلك في الدَّوامِ والشِّدَّةِ... الثَّاني: على طريقةِ قولِ القائلِ: تحتَ لَجاجِكَ مفاسِدُ، ودونَ غَرَضِك متاعِبُ، وبَيانُه هو أنَّهم لَمَّا عَبَدوا غيرَ اللهِ ظلَموا أنفُسَهم، حيثُ وَضَعوها في غيرِ موضِعِها الَّذي خُلِقَتْ له، فقيلَ لهم: إنَّ لكم دونَ ذلك الظُّلمِ عذابًا). ((تفسير الرازي)) (28/228). ممَّن اختار أنَّ المرادَ: قبْلَ عذابِ الآخرةِ: البغويُّ، والخازنُ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/296)، ((تفسير الخازن)) (4/202)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). ويُنظر أيضًا: ((تفسير السمرقندي)) (3/356). واختار ابنُ عثيمينَ أنَّ المرادَ: قبْلَ عذابِ الموتِ. يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 201). .
كما قال تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة: 101] .
وقال سُبحانَه: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [السجدة: 21] .
وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ.
أي: ولكِنَّ أكثَرَ الكافِرينَ لا يَعلَمونَ ما سيَصيرونَ إليه مِنَ العَذابِ الواقِعِ بهم لا مَحالةَ [416] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/605)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير الشوكاني)) (5/123)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/82، 83)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 202). قال ابن عرفة: («الأكثر» إمَّا على بابِه، أو بمعنى «الجميعِ»، وعاقَبَهم على الجهلِ؛ لِتَمكُّنِهم مِن العِلمِ). ((تفسير ابن عرفة)) (4/90). !
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى الحُجَجَ والبَراهينَ على بُطلانِ أقوالِ المُكَذِّبينَ؛ أمَرَ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ألَّا يَعبَأَ بهم شَيئًا، وأن يَصبِرَ لحُكمِ رَبِّه القَدَريِّ والشَّرعيِّ بلُزومِه والاستِقامةِ عليه، ووَعَدَه اللهُ تعالى بالكفايةِ [417] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818). .
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا.
أي: واصبِرْ -يا محمَّدُ- لِحُكمِ ربِّك القَدَريِّ -ممَّا قدَّره عليك مِن ظُلمٍ يُصيبُك، وأذًى يَنالُك- ولحُكمِه الشَّرعيِّ؛ بلُزومِه، والاستقامةِ عليه، وتبليغِ رسالةِ الله؛ فإنَّك بمَرأًى مِنَّا، نَحوطُك ونَحفَظُك مِن كُلِّ سُوءٍ وكَيدٍ [418] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/605)، ((تفسير القرطبي)) (17/78)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/325، 326)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 202). قال القرطبي: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ قيل: لِقَضاءِ ربِّك فيما حمَّلَك مِن رسالتِه. وقيل: لِبَلائِه فيما ابتَلاك به مِن قَومِك). ((تفسير القرطبي)) (17/78). قيل: معنى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: لِما أمَرَك ربُّك، ونهاك عنه. وممَّن اختاره: السمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/357). وقيل: معنى وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: إلى أن يقَعَ بهم العذابُ الَّذي حكَمْنا عليهم. وممَّن اختاره: الواحديُّ، والبغوي، والخازن، والشوكاني. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/512)، ((تفسير البغوي)) (4/296)، ((تفسير الخازن)) (4/202)، ((تفسير الشوكاني)) (5/123). وقيل: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ أي: لِما حكَم به عليك. وممَّن اختاره: ابنُ جرير، والسَّمعانيُّ، وابن الجوزي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/605)، ((تفسير السمعاني)) (5/281)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/182)، ((تفسير القاسمي)) (9/55). وقيل: المعنى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالِهم، وما يَلحَقُك فيه مِن المشَقَّةِ والكُلفةِ وتمَكُّنِهم مِن أذاك، معَ مُقاساةِ الأحزانِ، ومُعاناةِ الهمومِ. وممَّن اختاره في الجملةِ: الزمخشريُّ، والبيضاوي، والرسعني، والنسفي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، والألوسي. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير البيضاوي)) (5/156)، ((تفسير الرسعني)) (7/458)، ((تفسير النسفي)) (3/388)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 700)، ((تفسير أبي السعود)) (8/153)، ((تفسير الألوسي)) (14/40). قال ابن كثير: (وقوله: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا أي: اصبِرْ على أذاهم، ولا تُبالِهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/438). وقال ابنُ عاشور: (المرادُ بحُكمِ رَبِّك: ما حَكَم به وقدَّره مِن انتفاءِ إجابةِ بَعضِهم، ومِن إبطاءِ إجابةِ أكثَرِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/83). وممَّن جمَع بيْنَ معنَيَيِ الحُكمِ، واختار أنَّ المرادَ: الأمرُ بالصَّبرِ على حُكمِ الله الشَّرعيِّ والكَونيِّ: السعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 202). قال ابن عثيمين: (قوله: لِحُكْمِ رَبِّكَ يَشملُ الحُكمَ الكَونيَّ، والحُكمَ الشَّرعيَّ، يعني: اصبِرْ لِما حكَم به ربُّك مِن وُجوبِ إبلاغِ الرِّسالةِ وإن أصابك ما يُصيبُك، واصبِرْ لِحُكمِ ربِّك القَدَريِّ الكَونيِّ، وهو ما يُقدِّرُه اللهُ تعالى عليك مِن هؤلاء السُّفهاءِ مِن السُّخريةِ والعُدوانِ والظُّلمِ، ولقد أُوذيَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم كما أُوذيَ إخوانُه مِن المُرسَلينَ، أُوذيَ إيذاءً عظيمًا). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 202). وقال ابن تيميَّة: (بعضُ المفسِّرينَ يقولُ: هذه الآيةُ منسوخةٌ بآيةِ السَّيفِ، وهذا يتوجَّهُ إن كان في الآيةِ النَّهيُ عن القتالِ، فيكون هذا النَّهيُ منسوخًا. ليس جميعُ أنواعِ الصَّبرِ منسوخةً، كيف والآيةُ لم تتعرَّضْ لذلك هنا لا بنَفْيٍ ولا إثباتٍ؟! بل الصَّبرُ واجبٌ لِحُكمِ الله ما زال واجبًا، وإذا أُمِر بالجهادِ فعليه أيضًا أن يَصبِرَ لِحُكمِ الله؛ فإنَّه يُبتلى مِن قتالِهم بما هو أعظَمُ مِن كلامِهم، كما ابتُليَ به يومَ أُحُدٍ والخَندقِ، وعليه حينَئذٍ أن يَصبِرَ ويَفعَلَ ما أُمِر به مِن الجهادِ. والمقصودُ هنا قولُه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ؛ فإنَّ ما فعَلوه مِن الأذى هو ممَّا حكَم به عليك قَدَرًا، فاصبِرْ لِحُكمِه وإن كانوا ظالِمينَ في ذلك، وهذا الصَّبرُ أعظَمُ مِن الصَّبرِ على ما جرى وفُعِل بالأنبياءِ). ((مجموع الفتاوى)) (8/325). وقال الرَّسْعَني: (وهذا مِن المواضعِ الَّتي يقولُ أكثرُ المفسِّرينَ: إنَّها منسوخةٌ. ولا يصحُّ). ((تفسير الرسعني)) (7/458). ويُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/182). وقال الرازي: (اللَّام في قولِه: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ تحتمِلُ وُجوهًا: الأوَّل: هي بمعنى «إلى»، أي: اصبِرْ إلى أن يَحكُمَ اللهُ. الثَّاني: الصَّبرُ فيه معنى الثَّباتِ، فكأنَّه يقولُ: فاثبُتْ لِحُكمِ ربِّك، يُقالُ: ثبَتَ فلانٌ لحملِ قِرنِه. الثَّالث: هي اللَّامُ الَّتي تُستعمَلُ بمعنى السَّببِ، يُقالُ: لِمَ خرَجْتَ؟ فيُقالُ: لِحُكمِ فُلانٍ علَيَّ بالخروجِ، فقال: واصبِرْ واجعَلْ سببَ الصَّبرِ امتِثالَ الأمرِ، حيثُ قال: واصبِرْ لهذا الحُكمِ عليك، لا لشَيءٍ آخَرَ). ((تفسير الرازي)) (28/229). .
كما قال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 94، 95].
وقال سُبحانَه: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35].
وقال تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل: 10] .
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ.
أي: ونزِّهْ ربَّك -يا محمَّدُ- عن النَّقائِصِ تَنزيهًا مُقتَرِنًا بوَصفِه بصِفاتِ الكَمالِ مَحبَّةً وتَعظيمًا له؛ حينَ تَقومُ [419] يُنظر: ((تفسير القرطبي)) (17/78-80)، ((تفسير ابن كثير)) (7/438، 439)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/84، 85)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). قال الماوَرْدي: (فيه أربعةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: أنْ يُسَبِّحَ اللهَ إذا قام مِن مَجلِسِه -قاله أبو الأحوصِ-؛ لِيَكونَ تَكفيرًا لِما أجرى في يَومِه. الثَّاني: حينَ تقومُ مِن مَنامِك؛ لِيَكونَ مُفتَتَحًا لعَمَلِه بذِكرِ الله. قاله حسَّانُ بنُ عطيَّةَ. الثَّالِثُ: حينَ تقومُ مِن نَومِ القائِلةِ لصَلاةِ الظُّهرِ. قاله زَيدُ بنُ أسلَمَ. الرَّابِعُ: أنَّه التَّسبيحُ في الصَّلاةِ إذا قام إليها. وفي هذا التَّسبيحِ قَولانِ: أحَدُهما: هو قَولُ: سُبحانَ رَبِّيَ العَظيمِ، في الرُّكوعِ، وسُبحانَ رَبِّيَ الأعلى، في السُّجودِ. الثَّاني: التوَجُّهُ في الصَّلاةِ بقَولِه: سُبحانَك اللَّهُمَّ وبحَمدِك، وتبارَكَ اسمُك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غَيرُك. قاله الضَّحَّاكُ). ((تفسير الماوردي)) (5/387). وقد ذكَرَ الرَّازي وُجوهًا أُخرى؛ منها: حينَ تَقومُ لأمرٍ ما، ولا سيَّما إذا قُمتَ مُنتَصِبًا لمجاهَدةِ قَومِك ومُعاداتِهم، والدُّعاءِ عليهم؛ فسَبِّحْ بحَمدِ رَبِّك، وبَدِّلْ قِيامَك للمُعاداةِ وانتِصابَك للانتِقامِ بقيامِك لذِكرِ اللهِ وتَسبيحِه. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/229). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ: التَّسبيحُ حينَ القيامِ مِن المَجلِسِ: الواحديُّ، والشوكانيُّ. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1037)، ((الوسيط)) للواحدي (4/191)، ((تفسير الشوكاني)) (5/123). قال الواحدي: (أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّه أُمِر أن يقولَ حينَ يقومُ مِن مَجلِسِه: سُبحانَ الله وبحَمدِه). ((البسيط)) (20/513). وممَّن اختار هذا القولَ مِن السَّلفِ: ابنُ مسعودٍ، ومجاهِدٌ، وعَطاءُ بنُ أبي رباحٍ، وأبو الأحوصِ عَوفُ بنُ مالكٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، وسُفْيانُ الثَّوريُّ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/133)، ((البسيط)) للواحدي (20/513)، ((تفسير القرطبي)) (17/78)، ((تفسير ابن كثير)) (7/439)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/637). وقال الزَّجَّاجُ: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: حينَ تقومُ مِن مَنامِك). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/68). وممَّن ذهب إلى أنَّ المرادَ قَولُ: سُبحانَ اللهِ وبحَمدِه، وإلى العُمومِ في معنى: حِينَ تَقُومُ فيَشملُ ذلك القيامَ مِن أيِّ شَيءٍ؛ كالقيامِ مِن النَّومِ، والقيامِ مِن المَجلِسِ، وغَيرِ ذلك: الزمخشريُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). ويُنظر أيضًا: ((تفسير القاسمي)) (9/55، 56). وقال مقاتل: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يقولُ: وصَلِّ بأمرِ ربِّك حِينَ تَقومُ إلى الصَّلاةِ المكتوبةِ). ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/150). وممَّن اختار أنَّ معنى وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: صَلِّ: ابنُ جرير، والسمرقنديُّ، والسمعانيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/606)، ((تفسير السمرقندي)) (3/357)، ((تفسير السمعاني)) (5/281)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/85). وممَّن اختار أنَّ معنى حِينَ تَقُومُ أي: للصَّلاةِ المكتوبةِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والتُّسْتَريُّ، والقُشَيريُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/150)، ((تفسير التستري)) (ص: 155)، ((تفسير القشيري)) (3/479). وممَّن ذهَبَ إلى أنَّ المرادَ: صلاةُ الظُّهرِ بعدَ القيامِ مِن نَومِ القائِلةِ: ابنُ جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/606). وقال ابن عاشور: (والقيامُ: جعلُ وَقْتٍ للصَّلَواتِ: إمَّا للنَّوافلِ، وإمَّا لصلاةِ الفريضةِ وهي الصُّبْحُ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/85). قال السعدي: (وأمَره أن يستعينَ على الصَّبرِ بالذِّكرِ والعبادةِ، فقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 818). وقال البقاعي: (وَسَبِّحْ أي: أوقِعِ التَّنزيهَ عن شائبةِ كلِّ نقصٍ بالقلبِ واللِّسانِ والأركانِ، متلبِّسًا بِحَمْدِ رَبِّكَ أي: المُحسِنِ إليك، فأثبِتْ له كلَّ كمالٍ، مع تنزيهِه له عن كلِّ نقصٍ، فلا يكونُ في مُلكِه ما لا يريدُ، ولا يريدُ إلا ما هو حِكمةٌ بالِغةٌ حِينَ تَقُومُ أي: مِن اللَّيلِ في جميعِ الأوقاتِ الَّتي هي مَظِنَّةُ القيامِ على الأمورِ الدُّنيويَّةِ، والأشغالِ النَّفسانيَّةِ، وهي أوقاتُ النَّهارِ، الَّذي هو للانتِشارِ بصلاةِ الصُّبحِ والظُّهرِ والعصرِ). ((نظم الدرر)) (19/38). .
كما قال تعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى [طه: 130] .
وقال عزَّ وجلَّ: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [غافر: 55] .
وقال تبارك وتعالى: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ [ق: 39، 40].
وعنْ عائِشةَ رَضِيَ الله عنها: أنَّها قالتْ: ((كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ أنْ يَقولَ في رُكوعِه وسُجودِه: سُبْحانكَ اللَّهُمَّ ربَّنا وبِحَمْدِك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي يَتأَوَّلُ القُرْآنَ )) [420] أخرجه البخاري (817)، ومسلِم (484). يتأوَّلُ القرآنَ أي: يعملُ ما أُمِر به في قولِ الله عزَّ وجلَّ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النصر: 3]، ويجعلُ ما أُمِر به مِن التَّسبيحِ والتَّحميدِ والاستِغفارِ في أشرَفِ الأوقاتِ والأحوالِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (4/201)، ((فتح الباري)) لابن حجر (8/734). .
وعنْ عائِشةَ أيضًا، قالتْ: ((كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُكثِرُ مِن قَولِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِه أسْتَغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إليه، قالتْ: فقُلْتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَرَاكَ تُكثِرُ مِن قَولِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِه أسْتَغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إليه؟ فقال: خَبَّرني رَبِّي أنِّي سأَرَى عَلامةً في أُمَّتِي، فإذا رَأَيْتُها أكثَرْتُ مِن قَولِ: سُبْحانَ اللهِ وبِحَمْدِه أسْتَغفِرُ اللهَ وأتُوبُ إليه، فقَدْ رَأَيْتُها إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر: 1] فَتْحُ مكَّةَ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 2، 3])) [421] أخرجه مسلم (484). .
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49).
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ.
أي: وسَبِّحْ رَبَّك -يا محمَّدُ- في بَعضِ أوقاتِ اللَّيلِ [422] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير ابن كثير)) (7/440)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/85)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). قال الماوَرْدي: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ ... فيه ثلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: أنَّها صَلاةُ اللَّيلِ. الثَّاني: التَّسبيحُ فيها. الثَّالِثُ: أنَّه التَّسبيحُ في صَلاةٍ وغَيرِ صَلاةٍ). ((تفسير الماوردي)) (5/387). وممَّن قال بأنَّ المرادَ قَولُ: سُبحانَ اللهِ وبحَمدِه في هذا الوقتِ: الزمخشريُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: صَلاةُ المَغرِبِ والعِشاءِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ جرير، والسمرقنديُّ. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/150)، ((تفسير ابن جرير)) (21/607)، ((تفسير السمرقندي)) (3/357). .
كما قال تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا [الإنسان: 26].
وَإِدْبَارَ النُّجُومِ.
أي: وسبِّحْه أيضًا حينَ تَميلُ النُّجومُ للمَغِيبِ [423] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415)، ((تفسير القرطبي)) (17/80)، ((تفسير ابن كثير)) (7/441)، ((تفسير السعدي)) (ص: 818)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/85، 86)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203، 204). وممَّن قال بأنَّ المرادَ قَولُ: سُبحانَ اللهِ وبحَمدِه إذا أدبرَتِ النُّجومُ مِن آخِرِ اللَّيلِ: الزمخشريُّ. يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/415). وممَّن قال بأنَّ المرادَ: صَلاةُ الفَجرِ: ابنُ جرير، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 609، 610)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 204). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: الضَّحَّاكُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/609)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/182). وقال السعدي: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ أي: آخِرَ اللَّيلِ، ويَدخُلُ فيه صَلاةُ الفَجرِ. والله أعلَمُ). ((تفسير السعدي)) (ص: 818). وقيل: المرادُ: الرَّكعتانِ قبْلَ الفَجرِ، وهو اختيارُ الواحدي -ونسَبه لقولِ الجميعِ-، ونسَبه البَغَويُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ، وابنُ الجوزي إلى الجُمهورِ. يُنظر: ((البسيط)) للواحدي (20/514)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1037)، ((تفسير البغوي)) (4/299)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/182). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وعليُّ بنُ أبي طالبٍ، وجابرُ بنُ عبدِ الله، وأنسُ بنُ مالكٍ، وأبو هُرَيرةَ، وابنُ عبَّاسٍ، وقَتادةُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/608)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/182)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/611، 638). قال ابنُ عاشور: (والإدبارُ: رُجوعُ الشَّيءِ مِن حَيثُ جاء؛ لأنَّه يَنقَلِبُ إلى جِهةِ الدُّبُرِ، أي: الظَّهْرِ. وإدبارُ النُّجومُ: سُقوطُ طَوالِعِها...، وسقوطُ طوالِعِها الَّتي تَطلُعُ: أنَّها تَسقُطُ في جِهةِ المَغرِبِ عندَ الفَجرِ إذا أضاء عليها ابتِداءُ ظُهورِ شُعاعِ الشَّمسِ؛ فإدبارُ النُّجومِ: وَقتُ السَّحَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/85، 86). وقال ابنُ عثيمين: (وَإِدْبَارَ النُّجُومِ يعني: وَقتَ إدبارِها، وهل المرادُ إدبارُ ضَوئِها بانتِشارِ نُورِ الشَّمسِ، أو إدبارُ ذَواتِها عند الغُروبِ؟ فالجَوابُ هذا وهذا، والمرادُ بذلك: صَلاةُ الفَجرِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203، 204). وقال التُّسْتَري: (قولُه تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ قال: يعني لا تَغفُلْ عن ذِكرِ مَن لا يَغفُلُ عن بِرِّك وحِفظِك في كلِّ الأوقات صباحًا ومساءً). ((تفسير التستري)) (ص: 155). وقال القُشَيري: (في الآيةِ دليلٌ وإشارةٌ إلى أنَّه أمَره أن يَذكُرَه في كلِّ وقتٍ، وألَّا يَخلوَ وقتٌ مِن ذِكرِه). ((تفسير القشيري)) (3/479). وقال ابن عاشور: (الآيةُ تُشيرُ إلى أوقاتِ الرَّغائِبِ مِن النَّوافِلِ وهي صلاةُ الفَجْرِ، والأشفاعُ بعدَ العشاءِ، وقيامُ آخِرِ اللَّيلِ، وقيل: أشارت إلى الصَّلَواتِ الخَمسِ بوَجهِ الإجمالِ، وبَيَّنَته السُّنَّةُ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/86). .

الفوائد التربوية:

1- قال اللهُ تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ هذه الآيةُ ينبغي أن يُقَرِّرَها كُلُّ مُؤمِنٍ في نفْسِه؛ فإنَّها تَفْسَحُ مَضايِقَ الدُّنيا [424] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/194). !
2- قال اللهُ تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ، وحُكمُ الله نَوعانِ: خَلْقٌ، وأمْرٌ؛ فالأوَّلُ: ما يُقدِّرُه مِن المصائبِ، والثَّاني: ما يأمُرُ به ويَنهى عنه، والعبدُ مأمورٌ بالصَّبرِ على هذا وعلى هذا؛ فعليه أن يَصبِرَ لِما أُمِر به ولِما نُهيَ عنه، فيَفعلَ المأمورَ ويَترُكَ المحظورَ، وعليه أن يَصبِرَ لِما قدَّره اللهُ عليه [425] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/325). .
3- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا إشارةٌ إلى أنَّ ممَّا يَنشَأُ عنه الرِّضا استِحضارَ اطِّلاعِ اللهِ عزَّ وجلَّ على عَبدِه في حالِ العَمَلِ له، وتَحَمُّلِ المَشاقِّ مِن أجْلِه؛ فمَن تَيَقَّنَ أنَّ البَلاءَ بعَينِ مَن يُحِبُّه هان عليه الألَمُ [426] يُنظر: ((مجموع رسائل ابن رجب)) (4/19). !
4- قَولُه تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ أي: قُلْ: سبحانَ اللهِ وبحمدِه حِينَ تَقُومُ حينَ تقومُ مِن مجلسِك، أو حِينَ تقومُ مِن منامِك، أو غير ذلك، فهي عامَّةٌ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، ولهذا كان كفَّارةُ المجلسِ أنْ يقولَ الإنسانُ: «سُبْحانَك اللَّهمَّ وبحَمدِك، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا أنت، أستَغفِرُك وأتوبُ إليك» [427] أخرجه أبو داود (4859)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10259)، وأحمد (19769) من حديث أبي بَرْزةَ الأسْلَميِّ رضي الله عنه حسَّن إسنادَه ابنُ القيِّم في ((تهذيب السنن)) (13/204)، وحسَّن الحديثَ السَّخاويُّ في ((البلدانيات)) (263)، وقال الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4859): (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (33/15). ، فينبغي للإنسانِ كلَّما قام مِن مجلسٍ أنْ يَخْتِمَ مجْلِسَه بهذا [428] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ إشارةٌ إلى أنَّهم حينَ يَعجِزونَ عن التَّكذيبِ، ولا يُمكِنُهم أن يعقِلوا وُقوعَ شيءٍ على الأرضِ، يَرجِعونَ إلى التَّأويلِ والتَّخييلِ [429] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/224)، ((تفسير ابن عادل)) (18/147). .
2- إنَّ اللهَ تعالى لم يُهلِكْ أحدًا ولم يُعَذِّبْه إلَّا بذَنْبٍ، وقد بيَّن الله تعالى ذلك في كتابِه، ومِن ذلك قَولُه تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ [430] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/424). .
3- قَولُه تعالى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ على القولِ بأنَّ معنَى دُونَ ذَلِكَ، أي: أقَلَّ مِن ذلك في الدَّوامِ والشِّدَّةِ ففيه فائِدةُ التَّنبيهِ على عذابِ الآخِرةِ العَظيمِ؛ وذلك لأنَّه إذا قال: عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ أي: قتْلًا وعذابًا في القبرِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-، فيَتفكَّرُ المتفكِّرُ ويقولُ: ما يكونُ القتْلُ دُونَه لا يكونُ إلَّا عظيمًا [431] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/228). !
4- قَولُه تعالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا هذا يَتضَمَّنُ الحِراسةَ والكِلاءةَ والحِفظَ؛ للصَّابرِ لحُكْمِه [432] يُنظر: ((عدة الصابرين)) لابن القيم (ص: 113). .
5- في قَولِه تعالى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا إثباتُ العَينِ للهِ عزَّ وجلَّ، وهي حقيقيَّةٌ، ولكِنَّها لا تُماثِلُ أعيُنَ الخَلقِ؛ لِقَولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [433] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). [الشورى: 11] .
6- في قَولِه تعالى: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا سُؤالٌ: كيف نَجمَعُ بيْن الجَمعِ وبيْن المُثَنَّى فيما ثَبَتَ مِن صفةِ العَينِ للهِ تعالَى؟
الجوابُ: الجَمْعُ بيْنَهما سَهلٌ، هو نَظيرُ الجَمعِ بيْنَ اليَدينِ الواردِ مَجيؤُهما بصِيغةِ التَّثنيةِ وبصيغةِ الجَمعِ؛ فإمَّا أنْ يُرادَ بالجَمعِ ما دونَ الثَّلاثةِ؛ لأنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ قد جاءتْ بالجَمعِ مُرادًا به ما دونَ الثَّلاثةِ، فيكونَ قولُه: بِأَعْيُنِنَا كقَولِه: بـ «عَينَيْنا»؛ لأنَّ أقلَّ الجَمعِ اثنانِ، وإمَّا أنْ يُقالَ: أقلُّ الجَمعِ ثلاثةٌ -كما هو الأكثَرُ-، ولكنَّ الجَمعَ هنا لا يُرادُ به مَدلولُه التعَدُّديُّ، وإنَّما يُرادُ به مَدلولُه المَعنويُّ، وهو التَّعظيمُ، فيكونُ اللهُ عزَّ وجلَّ جَمَعَ العَينَينِ، فقال: بِأَعْيُنِنَا؛ تَعظيمًا لهما، وأيضًا يُضافُ إلى التَّعظيمِ المناسَبةُ؛ لأنَّ «نا» دالَّةٌ على الجَمعِ في أصلِ الوَضعِ؛ فناسَبَ أنْ يكونَ المُضافُ إليها مَجموعًا للتَّعظيمِ، كما هي في قَولِه تعالى: بِأَعْيُنِنَا للتَّعظيمِ، فيَتناسَبُ هنا المُضافُ والمُضافُ إليه، وهذه المُناسَبةُ لَفظيَّةٌ [434] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (1/270). .
7- قَولُه تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ يعني: وسَبِّحْ ربَّك مِن اللَّيلِ لا كُلَّ اللَّيلِ، و«مِن» هنا للتَّبعيضِ؛ ولهذا لَمَّا سَمِع النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأقوامٍ مِن أصحابِه قال أحدُهم: «أنا أقومُ ولا أنامُ»، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لكنِّي أُصَلِّي وأنامُ -وفي لفظٍ: وأرقُدُ- فمَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فليس مِنِّي )) [435] أخرجه البخاري (5063)، ومسلم (1401). ؛ ولذلك يُكرَهُ للإنسانِ أن يَقومَ اللَّيلَ كلَّه حتَّى لو كان فيه قُوَّةٌ ونَشاطٌ، فلا يَقُمِ اللَّيلَ كلَّه إلَّا في العَشرِ الأواخِرِ مِن رمضانَ؛ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم كان يُحيي ليلَها كلَّه [436] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 203). . وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ.
8- قَولُه تعالى: وَإِدْبَارَ النُّجُومِ استَدلَّ بَعضُ الفُقَهاءِ بالآيةِ على أنَّ الإسفارَ بصَلاةِ الفَجرِ أفضَلُ؛ لأنَّ النُّجومَ لا إدبارَ لها، وإنَّما ذلك بالاستِتارِ عن العُيونِ [437] يُنظر: ((تفسير الكرماني)) (2/1150). قال القاسمي: (وهو استدلالٌ متينٌ). ((تفسير القاسمي)) (9/57). والمذكورُ هو مذهبُ الحنفيَّةِ، أمَّا مذهبُ جمهورِ الفُقهاءِ مِن المالكيَّةِ والشَّافعيَّةِ والحنابلةِ فهو أنَّ الأفضلَ تَعجيلُ صلاةِ الفَجرِ في أوَّلِ وقتِها إذا تَحقَّق طُلوعُ الفَجرِ، وهو التَّغليسُ. يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (1/366)، ((الشرح الكبير)) للدردير (1/180)، (المجموع)) للنووي (3/51)، ((منتهى الإرادات)) لابن النجار (1/152). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ عطْفٌ على جُملةِ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ [الطور: 30] وما بعْدَها مِن الجُمَلِ الحاكيةِ لأقوالِهم، بمُناسَبةِ اشتِراكِ مَعانيها معَ ما في هذه الجُملةِ في تَصويرِ بُهتانِهم ومُكابَرتِهم الدَّالَّةِ على أنَّهم أهْلُ البُهتانِ، فلو أُرُوا كِسْفًا ساقطًا مِن السَّماءِ، وقِيل لهم: هذا كِسْفٌ نازلٌ؛ كابَروا وقالوا: هو سَحابٌ مَرْكومٌ [438] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/79). .
- ووقَعَ سَحَابٌ مَرْكُومٌ خبَرًا عن مُبتدَأٍ مَحذوفٍ، وتَقديرُه: هو سَحابٌ، أو هذا سَحابٌ [439] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/80). .
2- قولُه تعالَى: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ لكَونِ المَقصودِ مِن قولِه: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ أنَّ العِنادَ شِيمتُهم، فُرِّعَ عليه أنْ أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ يَترُكَهم، أي: يَترُكَ عرْضَ الآياتِ عليهم، أي: ألَّا يَسأَلَ اللهَ إظهارَ ما اقتَرَحوه مِن الآياتِ؛ لأنَّهم لا يَقترِحون ذلك طلَبًا للحُجَّةِ، ولكنَّهم يُكابِرون، وليس المُرادُ ترْكَ دَعوتِهم، وعرْضَ القُرآنِ عليهم. ويجوزُ أنْ يكونَ الأمْرُ في قولِه: فَذَرْهُمْ مُستعمَلًا في تَهديدِهم؛ لأنَّهم يَسمَعونَه حِينَ يُقرَأُ عليهم القُرآنُ، كما يُقالُ للَّذي لا يَرْعوي عن غَيِّه: دَعْهُ؛ فإنَّه لا يُقلِعُ [440] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/80). .
- وأفادتِ الغايةُ أنَّه يَترُكُهم إلى الأبَدِ؛ لأنَّهم بعْدَ أنْ يُصْعَقوا لا تُعادُ مُحاجَّتُهم بالأدلَّةِ والآياتِ [441] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/80). .
- وإضافةُ اليَومِ إلى ضَميرِهم يَوْمَهُمُ؛ لأنَّهم اشْتُهِروا بإنكارِه، وعُرِفوا بالَّذين لا يُؤمِنون بالآخِرةِ، أو لأنَّه اليومُ الَّذي أُوعِدُوه؛ فالإضافةُ لِأدْنى مُلابَسةٍ [442] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/80). .
- والإتيانُ بالمَوصولِ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ؛ للتَّنبيهِ على خَطَئِهم في إنْكارِه [443] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/81). .
3- قولُه تعالَى: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
- قولُه: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا يَنْفي عنهم التَّخلُّصَ بوَسائلَ مِن فِعْلِهم، وعُطِفَ عليه وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ؛ لنَفْيِ أنْ يَتخلَّصوا مِن العَذابِ بفِعلِ مَن يُخلِّصُهم ويَنصُرُهم؛ فانْتَفَى نوعَا الوَسائلِ المُنجِيةِ [444] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/81، 82). .
- وفي قَولِه تعالى: يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا لم يَقُل: «يومَ لا يُغْنيهم كَيدُهم» مع أنَّ الإغناءَ يتعدَّى بنَفْسِه، وفي هذا فائدةٌ جليلةٌ، وهي: أنَّ قولَ القائِلِ: «أغناني كذا» يُفهَمُ منه أنَّه نفَعَني، وقولُه: «أغنى عنِّي» يُفهَمُ منه أنَّه دَفَع عنِّي الضَّرَرَ، فقَولُه: لَا يُغْنِي عَنْهُمْ أي: لا يَدفَعُ عنهم الضَّرَرَ، ولا شَكَّ أنَّ قَولَه: «لا يَدفَعُ عنهم ضررًا» أبلَغُ مِن قَولِه: «لا يَنفَعُهم نَفعًا»، وإنَّما في المؤمِنِ لو قال: «يومَ يُغْني عنهم صِدقُهم» لَمَا فُهِمَ منه نَفعُهم، فقال: يَوْمُ يَنْفَعُ [المائدة: 119] كأنَّه قال: «يومُ يُغْنيهم صِدقُهم»، فكأنَّه استعمَلَ في المؤمِنِ «يُغْنيهم»، وفي الكافِرِ «لا يُغْني عنهم». وهذا مِمَّا لا يَطَّلِعُ عليه إلَّا من يكونُ عِندَه مِن عِلمِ البَيانِ طَرَفٌ، ويتفَكَّرُ بقريحةٍ وقَّادةٍ آياتِ اللهِ، ووفَّقَه اللهُ [445] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/226). .
4- قولُه تعالَى: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ جُملةٌ مُعترِضةٌ، والواوُ اعتراضيَّةٌ، أي: وإنَّ لهم عذابًا في الدُّنيا قبْلَ عَذابِ الآخِرةِ، وهو عَذابُ الجُوعِ في سِنِي القَحْطِ، وعذابُ السَّيفِ يومَ بَدْرٍ [446] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). ، وهذا علَى قولٍ في تَفسيرِها.
- وفي قولِه: وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إظهارٌ في مَقامِ الإضمارِ؛ لأنَّ مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يُقالَ: وإنَّ لهم عَذابًا، جَرْيًا على أُسلوبِ قولِه: فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطور: 45]؛ فخُولِفَ مُقْتضى الظَّاهِرِ لإفادةِ عِلَّةِ استِحقاقِهم العَذابَ في الدُّنيا بأنَّها الإشراكُ باللهِ [447] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/152)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). .
- ولِكَونِ هذا العَذابِ مُستبْعَدًا عِندَهم، وهمْ يَرَون أنفُسَهم في نِعمةٍ مُستمِرَّةٍ، أُكِّدَ الخبَرُ بحرْفِ (إنَّ)؛ فالتَّأكيدُ مُراعًى فيه شكُّهُم حِينَ يَسمَعونَ القُرآنَ، كما دلَّ عليه تَعقيبُه بقولِه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [448] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). .
- قولُه: وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الاستِدراكُ الَّذي أفادَتْه (لكنَّ) راجِعٌ إلى مُفادِ التَّأكيدِ، أي: هو واقعٌ لا مَحالةَ، ولكنَّ أكثَرَهم لا يَعلَمون وُقوعَه، أي: لا يَخطُرُ بِبالِهم وُقوعُه، وذلك مِن بَطَرِهم وزَهْوِهم [449] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). .
- وأُسنِدَ عدَمُ العِلمِ إلى أكثَرِهم دونَ جَميعِهم؛ لأنَّ فيهم أهلَ رأْيٍ ونَظَرٍ يَتوقَّعون حُلولَ الشَّرِّ إذا كانوا في خَيرٍ [450] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/82، 83). . وقيل: الأكثرُ هنا بمعنَى الجميعِ [451] يُنظر: ((تفسير ابن عرفة)) (4/90). .
- ومَفعولُ لَا يَعْلَمُونَ مَحذوفٌ اختِصارًا؛ للعِلمِ به [452] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/82). .
5- قولُه تعالَى: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ عطْفٌ على جُملةِ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ ... [الطور: 45] إلخ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ، وكان مُفتتَحُ السُّورةِ خِطابًا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ابتداءً مِن قَولِه تَعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7] المَسوقِ مَساقَ التَّسليةِ له، وكان في مُعظَمِ ما في السُّورةِ مِن الأخبارِ ما يُخالِطُه في نفْسِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الكَدَرِ والأسَفِ على ضَلالِ قَومِه، وبُعْدِهم عمَّا جاءَهُم به مِن الهُدى؛ خُتِمَت السُّورةُ بأمْرِه بالصَّبرِ تَسليةً له، وبأمْرِه بالتَّسبيحِ وحمْدِ اللهِ، شُكرًا له على تَفضيلِه بالرِّسالةِ [453] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/83). .
- واللَّامُ في قولِه: لِحُكْمِ رَبِّكَ يَجوزُ أنْ تكونَ بمَعنى (على)؛ فتَكونَ لتَعديةِ فِعلِ (اصْبِرْ). ويَجوزُ فيها مَعنى (إلى)، أي: اصبِرْ إلى أنْ يَحكُمَ اللهُ بيْنَك وبيْنَهم. ويَجوزُ أنْ تكونَ للتَّعليلِ، فيكونَ لِحُكْمِ رَبِّكَ هو ما حَكَم به مِن إرسالِه إلى النَّاسِ، أي: اصبِرْ لأنَّك تقومُ بما وجَبَ عليك؛ فلِلَّامِ في هذا المكانِ مَوقعٌ جامعٌ لا يُفِيدُ غيرُ اللَّامِ مِثلَه [454] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/83). .
- والتَّفريعُ في قولِه: فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا تَفريعُ العِلَّةِ على المَعلولِ، أي: اصبِرْ لأنَّك بأعْيُنِنا، أي: بمرأًى مِنَّا وبمَحلِّ العِنايةِ والكِلاءةِ مِنَّا، ونحنُ نَعلَمُ ما تُلاقِيه وما يُرِيدَونه بك، فنحنُ نُجازِيك على ما تَلْقاهُ، ونَحرُسُك مِن شَرِّهم، ونَنتقِمُ لك منهم. وقال: لِحُكْمِ رَبِّكَ دونَ أنْ يقولَ: واصبِرْ لِحُكْمِنا، أو لحُكْمِ اللهِ؛ فإنَّ المَربوبيَّةَ تُؤذِنُ بالعِنايةِ بالمَربوبِ [455] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/83، 84). .
- وفيه مُناسَبةٌ حَسَنةٌ، حيثُ قال هاهنا: بِأَعْيُنِنَا، وكذا في قِصَّةِ نُوحٍ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [هود: 37] ، على الجَمْعِ، وقال في مَواضِعَ أُخَرَ: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] على الإفرادِ؛ ووَجْهُ ذلك: أنَّه لَمَّا وحَّدَ الضَّميرَ هناك -وهو ياءُ المتكلِّمِ- وحَّدَ العَينَ، ولَمَّا ذكَرَ هاهنا ضَميرَ الجمْعِ في قولِه: بِأَعْيُنِنَا -وهو النُّونُ- جمَعَ العَينَ وقال: بِأَعْيُنِنَا، وهذا مِن حيثُ اللَّفظُ. وأمَّا مِن حيثُ المعنى؛ فلأنَّ الحِفظَ هاهنا أتمُّ؛ لأنَّ الصَّبرَ مَطِيَّةُ الرَّحمةِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، حيثُ اجتمَعَ له النَّاسُ، وجمَعُوا له مَكايدَ، وتَشاوَروا في أمْرِه، وكذلك أمْرُه بالفُلكِ في قصَّةِ نوحٍ عليه السَّلامُ، وأمْرُه بالاتِّخاذِ عندَ عدَمِ الماءِ، وحِفْظُه مِن الغرَقِ -مع كَونِ كلِّ البِقاعِ مَغمورةً تحتَ الماءِ تَحتاجُ إلى حِفظٍ عَظيمٍ في نظَرِ الخلْقِ- [456] في مِثل قولِه تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا [القمر: 14]. ؛ فقال: بِأَعْيُنِنَا، وذلك خِلافُ قولِه في قِصَّةِ مُوسى: وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه: 39] ؛ فإنَّه تَعلُّقٌ واحِدٌ؛ بمَشْيِ أُختِه إلى آلِ فِرعونَ، وقولِها: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [457] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/229)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/84). [طه: 40] .
- والباءُ في قولِه: بِحَمْدِ رَبِّكَ للمُصاحَبةِ؛ جمْعًا بيْنَ تَعظيمِ اللهِ بالتَّنزيهِ عن النَّقائصِ، وبيْنَ الثَّناءِ عليه بأوْصافِ الكَمالِ [458] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/85). .
6- قولُه تعالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ: أفْرَدَ اللَّيلَ بالذِّكرِ دونَ النَّهارِ وقدَّمَه على الفِعلِ؛ لتَعظيمِه؛ لأنَّ العِبادةَ فيه أشقُّ على النَّفْسِ، وأبعَدُ مِن الرِّياءِ [459] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/156)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (7/311). .
- وقولُه: فَسَبِّحْهُ اكتِفاءٌ [460] الاكتفاءُ: هو أنْ يَقتضيَ المقامُ ذِكْرَ شيئَينِ بَيْنَهما تَلازُمٌ وارتباطٌ، فيُكتفَى بأحدِهما عن الآخَرِ؛ لنُكتةٍ بلاغيَّةٍ؛ ومثالُ ذلك قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [النحل: 81] ؛ ففي قولِه: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ إيجازٌ بالحذفِ على سبيلِ الاكتفاءِ، إذِ التَّقْديرُ: تَقيكُمُ الحَرَّ والبَرْدَ. يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) للزركشي (3/118)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 335)، ((البلاغة العربية)) للميداني (2/48). ، أي: واحْمَدْه [461] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/85). .