موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (19-25)

ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ

غريب الكلمات:

مَرَجَ: أي: خلَطَ أو خلَّى بَيْنَهما وأرسَلَهما، وأصلُ (مرج): يدُلُّ على مجيءٍ وذَهابٍ واضطرابٍ [182] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 438)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 422)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/315)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 876). .
بَرْزَخٌ: أي: حاجِزٌ وحَدٌّ، وأصلُ (برزخ): يدُلُّ على الحدِّ بيْنَ الشَّيئينِ [183] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 300)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 126)، ((المفردات)) للراغب (ص: 118)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 226). .
يَبْغِيَانِ: أي: يَختَلِطانِ ويَلتَقيانِ، وأصلُ (بغي) هنا: جنسٌ مِن الفَسادِ [184] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/271)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 383)، ((تفسير القرطبي)) (17/162)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 977). .
الْجَوَارِ: أي: السُّفُنُ، وأصلُ (جري): يدُلُّ على انسِياحِ شَيءٍ [185] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393، 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/448)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 370). .
الْمُنْشَآَتُ: أي: المخلوقاتُ المُسخَّراتُ، أو المرفوعاتُ القِلاعِ، أو اللَّواتي أُنْشِئْنَ، أي: ابتُدِئَ بهنَّ في البحرِ، وأصلُ (نشأ): يدُلُّ على ارتفاعٍ في شَيءٍ [186] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 438)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 177)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/428)، ((تفسير البغوي)) (7/445)، ((تفسير القرطبي)) (17/164)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493). .
كَالْأَعْلَامِ: أي: كالجِبالِ، واحِدُها عَلَمٌ: وهو الجَبَلُ الطَّويلُ، شَبَّهَ السُّفُنَ في البَحرِ بالجِبالِ في البَرِّ، وأصلُ (علم): يدُلُّ على أَثَرٍ مُمَيِّزٍ [187] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 393، 438)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/109)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 342)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 370). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى أنَّه أرسَل البَحرَ المِلْحَ والبَحرَ العَذْبَ يتَّصِلانِ مِن غَيرِ أن يختَلِطا، وجَعَل بَيْنَهما حاجِزًا يَمنَعُ اختِلاطَ أحَدِهما بالآخَرِ؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
 ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّه يَخرُجُ مِنَ البَحرينِ -المِلْحِ والعَذْبِ- اللُّؤلُؤُ والمَرْجانُ اللَّذانِ يتَّخِذُهما النَّاسُ حِلْيةً وزِينةً؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
وللهِ سُبحانَه السُّفُنُ الجارياتُ المُنشَآتُ في البِحارِ، فتَبدو كالجِبالِ؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر تعالى المَشرِقَ والمَغرِبَ -وهما حركتانِ في الفَلَكِ-؛ ناسَبَ ذلك ذِكرُ البَحرينِ؛ لأنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ يَجرِيانِ في الفَلَكِ كما يجري الإنسانُ في البَحرِ؛ قال تعالى: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس: 40] ؛ فذَكَر البَحرينِ عَقِيبَ المَشرِقَينِ والمَغرِبَينِ [188] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/350). .
وأيضًا فإنَّ المَشرِقَينِ والمَغرِبَينِ فيهما إشارةٌ إلى البَحرِ؛ لانحِصارِ البَرِّ والبَحرِ بيْنَ المشرِقِ والمَغرِبِ، لكِنَّ البَرَّ كان مذكورًا بقَولِه تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا [الرحمن: 10]؛ فذكَرَ هاهنا ما لم يكُنْ مَذكورًا [189] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/350). .
وأيضًا لَمَّا ذكَرَ أنَّه سُبحانَه رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، وكانتِ الأبحُرُ والأنهارُ في جِهاتِ الأرضِ؛ ناسَبَ الانتِقالُ إلى الاعتِبارِ بخلْقِهما، والامتِنانِ بما أودَعَهما مِن مَنافعِ النَّاسِ [190] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/248). .
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19).
أي: أرسَل اللهُ البَحرَ المِلْحَ والبَحرَ العَذْبَ وتَرَكَهما يتَّصِلانِ مِن غَيرِ أن يختَلِطا [191] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((تفسير القرطبي)) (17/162)، ((تفسير ابن كثير)) (7/492)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/248)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 308). قال الشنقيطي: (لفظة: مرَج، تُطلَقُ في اللُّغةِ إطلاقَينِ: الأوَّلُ: مرَج بمعنى: أرسَل وخلَّى... وعلى هذا فالمعنى: أرسَل البحَرينِ وخلَّاهما لا يَختلِطُ أحدُهما بالآخَرِ. والإطلاقُ الثَّاني: مرَج بمعنى: خلَط... فعلى القولِ الأوَّلِ: فالمرادُ بالبحرَينِ: الماءُ العَذبُ في جميعِ الدُّنيا، والماءُ المِلْحُ في جميعِها... وأمَّا على القولِ الثَّاني بأنَّ مرَج بمعنى خلَط، فالمعنى: أنَّه يوجَدُ في بعضِ المواضعِ اختِلاطُ الماءِ المِلْحِ والماءِ العَذبِ في مجرًى واحدٍ، ولا يَختلِطُ أحدُهما بالآخَرِ، بل يكونُ بيْنَهما حاجزٌ مِن قدرةِ الله تعالى). ((أضواء البيان)) (6/65). وفي البَحرَينِ أقوالٌ أخرى. يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (4/150). قال الشوكاني: (يَلْتَقِيَانِ أي: يَتجاوَرانِ لا فصْلَ بيْنَهما في مَرْأَى العَينِ، ومعَ ذلك فلم يَخْتَلِطا). ((تفسير الشوكاني)) (5/161). ((تفسير الزمخشري)) (4/445). وقال ابن عاشور: (يَلْتَقِيَانِ: يتَّصِلانِ بحيثُ يصُبُّ أحدُهما في الآخَرِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/248). وقال الرازي: (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسَل بعضَهما في بعضٍ، وهُما عندَ الإرسالِ بحيثُ يَلتَقيانِ أو مِن شأنِهما الاختِلاطُ والالتِقاءُ، ولكنَّ اللهَ تعالى منَعَهما عمَّا في طبعِهما، وعلى هذا يَلْتَقِيَانِ حالٌ مِن البحرَينِ، ويحتملُ أن يُقالَ: مِن مَحذوفٍ تقديرُه: ترَكَهما فهُما يَلتَقيانِ إلى الآنَ ولا يَمتَزِجانِ. وعلى الأوَّلِ فالفائدةُ إظهارُ القُدرةِ في النَّفعِ؛ فإنَّه إذا أرسَل الماءَينِ بعضَهما على بعضٍ وفي طبعِهما بخَلقِ الله وعادَتِه السَّيلانُ والالتِقاءُ ويَمنَعُهما البَرزخُ الَّذي هو قدرةُ الله أو بقُدرةِ الله، يكونُ أدَلَّ على القُدرةِ ممَّا إذا لم يَكونا على حال يَلتَقيانِ.... وعلى الوجهِ الثَّاني: الفائدةُ في بيانِ القُدرةِ أيضًا على المنعِ مِن الاختِلاطِ؛ فإنَّ الماءَينِ إذا تَلاقَيا لا يَمتزِجانِ...). ((تفسير الرازي)) (29/351). .
كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا [الفرقان: 53] .
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20).
أي: بيْنَ البَحرِ المِلْحِ والبَحرِ العَذْبِ حاجِزٌ يَمنَعُ اختِلاطَ أحَدِهما بالآخَرِ، وتَغييرَ طَعْمِه وصِفاتِه [192] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/328)، ((البسيط)) للواحدي (21/154)، ((تفسير السمعاني)) (5/326)، ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/248). وممَّن ذهب إلى هذا المعنى المذكورِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ ونسَبَه إلى أكثَرِ المفَسِّرينَ، والسَّمعانيُّ، والزمخشريُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: المصادر السَّابقة. قال الواحدي: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ أي: حاجِزٌ مِن قُدرةِ اللهِ تعالى، فلا يَبْغي المِلْحُ على العَذْبِ؛ فيُفسِدَه، ولا يَبغي على المِلحِ؛ فيَختَلِطَ به. والمعنى: لا يَطلُبانِ أن يَخرُجا ممَّا حُدَّ لهما. هذا قَولُ مقاتلٍ وأكثَرِ المفَسِّرينَ). ((البسيط)) (21/154). وممَّن فسَّر الحاجِزَ بالأرضِ اليابِسةِ: ابنُ كثير، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 308). قال الشنقيطي: (هذا الحاجزُ هو اليَبْسُ مِن الأرضِ الفاصلُ بيْنَ الماءِ العَذبِ والماءِ المِلْحِ على التَّفسيرِ الأوَّلِ [أي أنَّ مرَج بمعنى أرسَل]. وأمَّا على التَّفسيرِ الثَّاني [أي أنَّ مرَج بمعنى خلَط]: فهو حاجزٌ مِن قدرةِ الله، غيرُ مَرئيٍّ للبشَرِ). ((أضواء البيان)) (6/66). قال ابن عثيمين: (بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ وهو اليابسُ مِن الأرضِ لَا يَبْغِيَانِ أي: لا يَبغي أحدُهما على الآخَرِ، ولو شاء اللهُ تعالى لَسَلَّط البحارَ ولَفاضتْ على الأرضِ وأغرَقَت الأرضَ، لأنَّ البحرَ عندَما تقفُ على السَّاحلِ لا تجدُ جِدارًا يمنعُ انسيابَه إلى اليابسِ، معَ أنَّ الأرضَ كرويَّةٌ، ومع ذلك لا يَسيحُ البحرُ؛ لا هاهنا ولا هاهنا، بقدرةِ الله عزَّ وجلَّ... إذَنِ البَرزخُ الَّذي بيْنَهما هو اليابسُ مِن الأرضِ...، وقال بعضُ أهلِ العِلمِ: بل البرزخُ أمرٌ معنويٌّ يَحولُ بيْن المالحِ والعَذبِ أن يَختلِطَ بعضُهما ببعضٍ، وقالوا: إنَّه يوجَدُ الآنَ في عمقِ البحارِ عيونٌ عَذْبةٌ تَنبَعُ مِن الأرضِ... ومعَ ذلك لا تُفسِدُها مياهُ البحارِ، فإذا ثبت ذلك فلا مانعَ مِن أن نقولَ بقولِ علماءِ الجغرافيا وقولِ علماءِ التَّفسيرِ، واللهُ على كلِّ شَيءٍ قديرٌ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 308). وجوَّز ابنُ عاشور أن يكون المرادُ بالبَحرينِ: بحرَينِ مِلْحَينِ مُعيَّنَينِ، واستظهَرَ أنَّهما البَحرُ الأحمَرُ وبَحرُ العَرَبِ، والحاجِزُ بيْنَهما مَضِيقُ بابِ المَندَبِ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/249). .
كما قال تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا [النمل: 61].
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [193] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/204)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/249). ؟!
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر المِنَّةَ بالبَحرِ؛ ذَكَر النِّعمةَ بما يَنبُتُ فيه، كما فَعَل بالبَرِّ [194] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/161). .
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22).
أي: يَخرُجُ مِنَ البَحرينِ -المِلْحِ والعَذْبِ- اللُّؤلُؤُ والمَرْجانُ اللَّذانِ يتَّخِذُهما النَّاسُ حِلْيةً وزِينةً [195] يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/500)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 309). وممَّن قال: إنَّهما يَخرُجانِ مِن الماءِ المِلحِ، ويَخرُجانِ أيضًا مِن الماءِ العَذْبِ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والشنقيطيُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/500)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 309). وقد أثبت العِلمُ والواقعُ أنَّ اللَّآلئَ تُستخرَجُ مِن المياهِ العَذبةِ، كما تُستخرَجُ مِن البحارِ المِلْحةِ. يُنظر: ((مفاتيح التفسير)) للخطيب (2/705). وقيل: المرادُ: أنَّهما يَخرُجانِ مِن الماءِ المِلْحِ فقط. وممَّن ذهب إلى هذا القَولِ: الزَّجَّاجُ، والسمرقنديُّ، ومكِّي، والواحدي، والسمعاني، والبغوي، والقرطبي. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/100)، ((تفسير السمرقندي)) (3/381)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7221)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1054)، ((تفسير السمعاني)) (5/327)، ((تفسير البغوي)) (4/334)، ((تفسير القرطبي)) (17/163). قال الواحدي: (وقَولُه: مِنْهُمَا وإنَّما يخرُجُ مِن أحَدِ البَحرَينِ، وهو المِلحُ دونَ العَذبِ، قال أبو عُبَيدةَ: العرَبُ تَجمَعُ الجِنسَينِ ثمَّ تُخبِرُ عن أحَدِهما، كقَولِه تعالى يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ [الأنعام: 130] وإنَّما الرُّسُلُ مِن الإنسِ، وتقول: أكلتُ خُبزًا ولَبنًا، وإنَّما يقَعُ الأكلُ على الخُبزِ. وقال أبو إسحاقَ [الزَّجَّاجُ]: إنَّ اللهَ تعالى قد ذكَرَهما وجمَعَهما، فإذا أُخرِجَ مِن أحَدِهما فقد خَرَج منهما، ومِثلُ ذلك قَولُه: أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا [نوح: 15، 16] والقَمَرُ في السَّماءِ الدُّنيا، إلَّا أنَّه لَمَّا أجمَلَ ذِكرَ السَّبْعِ كأنَّ ما في إحداهنَّ فيهِنَّ). ((البسيط)) (21/155). ويُنظر ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/244)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/100). وقال الشنقيطي: (جماعةٌ مِن أهلِ العِلمِ قالوا: إنَّ المرادَ بقَولِه في هذه الآيةِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا أي: مِن مَجموعِهما الصَّادِقِ بالبَحرِ المِلْحِ، وإنَّ الآيةَ مِن إطلاقِ المَجموعِ وإرادةِ بَعْضِه، وإنَّ اللُّؤلُؤَ والمَرْجانَ يَخرُجانِ مِنَ البَحرِ المِلْحِ وَحْدَه دونَ العَذْبِ. وهذا القَولُ الَّذي قالوه في هذه الآيةِ -مع كَثرتِهم وجلالتِهم- لا شَكَّ في بُطلانِه؛ لأنَّ اللهَ تعالى صَرَّحَ بنَقيضِه في سورةِ «فاطرٍ»، ولا شَكَّ أنَّ كُلَّ ما ناقَضَ القُرآنَ فهو باطِلٌ، وذلك في قَولِه تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر: 12] ؛ فالتَّنوينُ في قَولِه: «مِنْ كُلٍّ» تنوينُ عِوَضٍ، أي: مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ العَذبِ والمِلْحِ تأكُلونَ لَحمًا طَرِيًّا، وتَستَخرِجونَ حِليةً تَلبَسونَها، وهي اللُّؤلؤُ والمَرْجانُ، وهذا مِمَّا لا نِزاعَ فيه). ((أضواء البيان)) (7/500). ويُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 309، 310). وقال السمعاني: (ذَكَر القَفَّالُ الشَّاشي في تفسيرِه: أنَّ اللُّؤلؤَ والمَرْجانَ لا يكونُ إلَّا في مُلتقى البَحرينِ في أوَّلِ ما يُخلَقُ، ثمَّ حينَئذٍ مَوضِعُ الأصدافِ هو البَحرُ المِلْحُ دونَ العَذْبِ؛ فصَحَّ قولُه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا؛ لأنَّهما في ابتِداءٍ عندَ مُلتقى البَحرينِ، وهذا قَولٌ حَسَنٌ إن كان كذلك). ((تفسير السمعاني)) (5/327). ويُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/161، 162). وقال ابنُ عاشور: (أي: يَخرُجُ اللُّؤلُؤُ والمَرْجانُ بسَبَبِهما، أي: بسَبَبِ مَجموعِهما؛... قال الرُّمَّاني: لَمَّا كان الماءُ العَذبُ كاللِّقاحِ للماءِ المِلْحِ في إخراجِ اللُّؤلؤِ، قيل: يَخرجُ منهما، كما يُقالُ: يتخَلَّقُ الوَلَدُ مِنَ الذَّكَرِ والأُنثى... والمَرْجانُ: لا يَخرُجُ مِن مُلتقى البَحرينِ المِلْحِ والعَذْبِ، بل مِنَ البَحرِ المِلْحِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/250). واللُّؤلُؤُ هو الدُّرُّ الكِبارُ، والمَرْجانُ هو ما صَغُرَ منها. وممَّن ذهب إلى هذا: ابنُ جريرٍ، ونَسَبه الواحديُّ إلى جَميعِ أهلِ اللُّغةِ، ونَقَله ابنُ الجوزيِّ عن أكثَرِ المفَسِّرينَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/208)، ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/209). ويُنظر أيضًا: ((منهاج السنة النبوية)) لابن تيمية (7/250). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: عليٌّ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، وقَتادةُ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، والضَّحَّاكُ، وأبو رَزِينٍ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/205)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493). وذهب مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ إلى عَكسِ ذلك. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ في روايةٍ عنه، وابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، والرَّبيعُ بنُ أنسٍ، ومُرَّةُ الهَمْدانيُّ، ومجاهِدٌ في روايةٍ عنه، والسُّدِّيُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/206)، ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/697). ممَّن اختار أنَّ اللُّؤلُؤَ هو الدُّرُّ، وأنَّ المَرجانَ هو الخرزُ الأحمرُ: ابنُ عطيَّةَ، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/228)، ((تفسير العليمي)) (6/482، 483)، ((تفسير الشوكاني)) (5/161)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/500). وممَّن قال مِن السَّلفِ: إنَّ المَرجانَ هو الخرزُ الأحمرُ: ابنُ مسعود، وأبو مالكٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/181)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/210)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/697). وقال ابن عاشور: (اللُّؤلُؤُ: الدُّرُّ. ويُقالُ له: الجُمَانُ والجَوهَرُ، وهو حُبوبٌ بَيضاءُ وصَفراءُ ذاتُ بَريقٍ رَقراقٍ، تُستخرَجُ مِن أجوافِ حَيوانٍ مائيٍّ حَلَزونيٍّ مُستَقِرٍّ في غِلافٍ ذي دَفَّتَينِ مُغلَقَتينِ عليه، يَفتَحُهما بحَرَكةٍ حَيويَّةٍ منه؛ لامتِصاصِ الماءِ الَّذي يَسبَحُ فيه، ويُسَمَّى غِلافُه صَدَفًا، فتُوجَدُ في جَوفِ الحيوانِ حَبَّةٌ ذاتُ بَريقٍ، وهي تتفاوَتُ بالكِبَرِ والصِّغَرِ، وبصَفاءِ اللَّونِ وبَياضِه). ((تفسير ابن عاشور)) (17/232). وقال ابنُ عاشور أيضًا: (والمَرْجانُ: حَيوانٌ بَحريٌّ ذو أصابِعَ دَقيقةٍ، يَنشَأُ لَيِّنًا ثمَّ يتحَجَّرُ ويتلَوَّنُ بلَونِ الحُمرةِ، ويتصَلَّبُ كلَّما طال مُكثُه في البَحرِ، فيُستخرَجُ منه كالعُروقِ تُتَّخَذُ منه حِلْيةٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/250). .
كما قال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [فاطر: 12] .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [196] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/210)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 310). ؟!
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24).
القَراءاتُ ذاتُ الأَثَرِ في التَّفسيرِ:
1- قِراءةُ: الْمُنْشِآتُ بكَسرِ الشِّينِ. قيل بمعنى: الرَّافِعاتِ الشُّرُعِ. وقيل: المعنى: المُنشِئاتُ السَّيرَ، فنَسَب الفِعلَ إليها على الاتِّساعِ، كما يُقالُ: مات زَيدٌ، ومَرِضَ عَمرٌو، وغَيرُ ذلك مِمَّا يُضافُ الفِعلُ إليه إذا وُجِدَ فيه، وهو في الحقيقةِ لِغَيرِه. وقيل: يجوزُ أن يكونَ المُنشِئاتُ مُشتَقًّا مِن أنشَأَ السَّيرَ: إذا أسرَعَ، أي: الَّتي يَسيرُ بها النَّاسُ سَيرًا سَريعًا [197] قرأ بها حمزةُ، وشُعبةُ عن عاصمٍ في أحدِ الوجهينِ. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/381). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/100)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/248)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 691، 692)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). .
2- قِراءةُ: الْمُنْشَآَتُ بفَتحِ الشِّينِ. قيل: المعنى: المَرفوعاتُ الشُّرُعِ. وقيل: المعنى: أنَّها أُجرِيَت وفُعِل بها الإنشاءُ، ولم تَفعَلْ ذلك بنَفْسِها [198] قرأ بها الباقون. يُنظر: ((النشر)) لابن الجزري (2/381). ويُنظر لمعنى هذه القراءةِ: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/100)، ((الحجة للقراء السبعة)) لأبي علي الفارسي (6/248)، ((حجة القراءات)) لابن زنجلة (ص: 692)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). .
وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24).
أي: وللهِ -ملْكًا وتَدبيرًا وتَسخيرًا- السُّفُنُ الجارياتُ، المنشَآتُ، فتَبدو في البِحارِ كالجِبالِ [199] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/210، 211)، ((تفسير القرطبي)) (17/164)، ((تفسير ابن كثير)) (7/493)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/251)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 310). قال البغوي: (الْمُنْشَآَتُ... أي: المرفوعاتُ، وهي الَّتي رُفِعَ خَشَبُها بَعضُها على بعضٍ. وقيل: هي ما رُفِعَ قِلْعُه [أي: شِراعُه] مِنَ السُّفُنِ، وأمَّا ما لم يُرفَعْ قِلْعُه فليس مِن المُنشَآتِ. وقيل: المخلوقاتُ المسَخَّراتُ). ((تفسير البغوي)) (4/334). ممَّن اختار أنَّ المعنى: المرفوعاتُ الشُّرُعِ: ابنُ جرير، والزَّجَّاجُ، والسمعاني، والرَّسْعَني، والنسفي، والقاسمي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/210)، ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/100)، ((تفسير السمعاني)) (5/327)، ((تفسير الرسعني)) (7/556)، ((تفسير النسفي)) (3/412)، ((تفسير القاسمي)) (9/105). قال ابن جرير: (الْمُنْشَآَتُ بفتحِ الشِّينِ، بمعنَى: المرفوعاتِ القِلاعِ، اللَّاتي تُقْبِلُ بهنَّ وتُدْبِرُ). ((تفسير ابن جرير)) (22/210). وممَّن اختار أنَّ المعنى: المرفوعاتُ، وهي الَّتي رُفِعَ خَشَبُها بعضُها على بعضٍ: البغويُّ، والخازن، والعُلَيمي، والشوكاني. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/334)، ((تفسير الخازن)) (4/227)، ((تفسير العليمي)) (6/483)، ((تفسير الشوكاني)) (5/162). وممَّن اختار أنَّ المعنى: أنشاها النَّاسُ: ابنُ جُزَي، والسعدي، وابنُ عاشور، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جزي)) (2/328)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/251)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 310). قال ابن عاشور: (الْمُنْشَآَتُ بفتحِ الشِّينِ، هو اسمُ مفعولٍ، إذا أُوجِدَ وصُنِع، أي: الَّتي أنشأها النَّاسُ بإلهامٍ مِن الله). ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). وقال ابن عطيَّة: (أي: أنشأها اللهُ تعالى، أو النَّاسُ). ((تفسير ابن عطية)) (5/228). وقال جلال الدين المحلي: (الْمُنْشَآَتُ: المُحْدَثاتُ). ((تفسير الجلالين)) (ص: 710). وقال الثعلبي: (أي: المخلوقاتُ المرفوعاتُ المسخَّراتُ في البَحرِ). ((تفسير الثعلبي)) (9/182). .
كما قال تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الشورى: 32].
وقال سُبحانَه: وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [إبراهيم: 32] .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما في الجواري مِن المنافِعِ هو بالتَّكَسُّبِ مِن البَحرِ بالصَّيدِ وغَيرِه، والتَّوصُّلِ إلى البِلادِ الشَّاسِعةِ للفوائِدِ الهائِلةِ؛ سَبَّبَ عن ذلك قَولَه تعالى [200] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/164). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [201] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/211). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ سمَّى اللهُ تعالى الأنهارَ والبِحارَ المِلْحةَ بِحارًا [202] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 195). .
2- في قَولِه تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ على قولِ مَن قال: إنَّ اللُّؤلؤَ لا يَخرُجُ إلَّا مِنَ البحرِ المِلْحِ، فكيفَ يُوجَّهُ قولُه تعالى: مِنْهُمَا؟
الجوابُ إنْ صَحَّ قَولُهم في اللُّؤلُؤِ: إنَّه لا يَخرُجُ إلَّا مِنَ البَحرِ المِلْحِ، فنَقولُ: فيه وُجوهٌ:
أحَدُها: أنَّ الصَّدَفَ لا يتوَلَّدُ فيه اللُّؤلُؤُ إلَّا مِنَ المطَرِ، وهو بَحرُ السَّماءِ.
ثانيها: أنَّه يتولَّدُ في مُلتقاهما ثمَّ يَدخُلُ الصَّدَفُ في الماءِ المِلْحِ عندَ انعِقادِ الدُّرِّ فيه؛ طالِبًا للمُلوحةِ، فيَثقُلُ هناك فلا يُمكِنُه الدُّخولُ في العَذبِ.
ثالِثُها: أنَّ ما ذكَرتُم إنَّما كان يَرِدُ أنْ لو قال: «يَخرُجُ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنهما»، فأمَّا على قَولِه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا فلا يَرِدُ؛ إذِ الخارِجُ مِن أحَدِهما -مع أنَّ أحَدَهما مُبهَمٌ- خارِجٌ مِنهما، كما قال تعالى: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا [نوح: 16] .
رابِعُها: أنَّ «مِنْ» ليست لابتداءِ شَيءٍ، كما يُقالُ: «خرَجْتُ مِنَ الكُوفةِ»، بل لابتِداءٍ عَقليٍّ، كما يُقالُ: «خُلِقَ آدَمُ مِن ترابٍ، ووُجِدَت الرُّوحُ مِن أمرِ اللهِ»؛ فكذلك اللُّؤلُؤُ يَخرُجُ مِن الماءِ، أي: منه يتوَلَّدُ [203] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/352). .
خامسُها: أنَّ هذا مِن بابِ التَّغليبِ، والتَّغليبُ أنْ يُغَلَّبَ أحدُ الجانبَينِ على الآخَرِ، مِثلَما يُقالُ: العُمَرانِ: لأبي بكرٍ وعُمرَ، ويُقالُ: القَمَرانِ: للشَّمسِ والقَمَرِ، فهذا مِن بابِ التَّغليبِ، فـ مِنْهُمَا المرادُ: واحِدٌ منهما.
سادسُها: أنَّ هذا على حَذفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: يَخرُجُ مِن أحَدِهما [204] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 309). .
3- قَولُه تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ أي: منهما جميعًا يَخرُجُ اللُّؤلؤُ والمَرجانُ، وإنِ امتاز المِلْحُ بأنَّه أكثَرُ وأطيَبُ، وهذا الَّذي يُوافِقُ ظاهِرَ القرآنِ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا وهو خالِقُهما، وهو يَعلَمُ ماذا يَخرُجُ منهما، فإذا كانتِ الآيةُ ظاهِرُها أنَّ اللُّؤلؤَ يَخرُجُ مِنهما جميعًا وَجَبَ الأخذُ بظاهِرِها، لكنْ لا شكَّ أنَّ اللُّؤلؤَ مِن الماءِ المِلْحِ أكثَرُ وأطيَبُ، لكِنْ لا يَمنَعُ أنْ نَقولَ بظاهِرِ الآيةِ، بل يَتعيَّنُ أنْ نَقولَ بظاهِرِ الآيةِ، وهذه قاعِدةٌ في القُرآنِ والسُّنَّةِ: أنَّنا نَحْمِلُ الشَّيءَ على ظاهِرِه ولا نُؤَوِّلُ، اللَّهمَّ إلَّا لضَرورةٍ، فإذا كان هناك ضرورةٌ فلا بُدَّ أنْ نَتَمَشَّى على ما تَقتَضيه الضَّرورةُ، أمَّا بغيرِ ضَرورةٍ فيَجِبُ أنْ نَحمِلَ القُرآنَ والسُّنَّةَ على ظاهِرِهما [205] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 309). . فظاهِرُ كَلامِ اللهِ تعالى أَولى بالاعتِبارِ مِن كَلامِ بَعضِ النَّاسِ، الَّذي لا يُوثَقُ بقَولِه! ومَن عَلِمَ أنَّ اللُّؤلُؤَ لا يَخرُجُ مِنَ الماءِ العَذْبِ؟! وهَبْ أنَّ الغوَّاصِينَ ما أخرَجوه إلَّا مِنَ المِلْحِ وما وَجَدوه إلَّا فيه، لكِنْ لا يَلزَمُ مِن هذا ألَّا يُوجَدَ في الغَيرِ، وكيف يُمكِنُ الجَزمُ والأمورُ الأرضيَّةُ الظَّاهِرةُ خَفِيَت عن التُّجَّارِ الَّذين قَطَعوا المفاوِزَ، ودارُوا البِلادَ، فكيف لا يَخفى أمرُ ما في قَعرِ البَحرِ عليهم [206] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/352). ؟!
4- في قَولِه تعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ فائدةٌ عَظيمةٌ في جمعِ الجَواري وتوحيدِ البَحرِ وجَمعِ الأعلامِ، وهي أنَّ ذلك إشارةٌ إلى عَظَمةِ البَحرِ، ولو قال: «في البِحارِ» لَكانت كلُّ جاريةٍ في بَحرٍ، فيَكونُ البَحرُ دونَ بَحرٍ يكونُ فيه الجَواري الَّتي هي كالجِبالِ، وأمَّا إذا كان البَحرُ واحِدًا، وفيه الجواري الَّتي هي كالجِبالِ، يكونُ ذلك بحرًا عَظيمًا، وساحِلُه بَعيدًا؛ فيَكونُ الإنجاءُ بقُدرةٍ كامِلةٍ [207] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/354). .
5- في قَولِه تعالى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ أنَّه لَمَّا كانت الأركانُ أربعةً: التُّرابُ، والماءُ، والهواءُ، والنَّارُ؛ فاللهُ تعالى بَيَّن بقَولِه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ [الرحمن: 14] أنَّ التُّرابَ أصلٌ لمخلوقٍ عَجيبٍ، وبَيَّنَ بقَولِه: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ [الرحمن: 15] أنَّ النَّارَ أيضًا أصلٌ لمخلوقٍ عَجيبٍ، وبَيَّنَ بقَولِه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22] أنَّ الماءَ أصلٌ لمخلوقٍ آخَرَ كالحَيوانِ عَجيبٍ، بَقِيَ الهواءُ لكِنَّه غيرُ مَحسوسٍ؛ فلم يَذكُرْ أنَّه أصلُ مَخلوقٍ، لكِنْ ذكَر أنَّ الهواءَ له تأثيرٌ عظيمٌ في جَرْيِ السَّفينةِ كالأعلامِ [208] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/352، 353)، ((روح البيان)) للخلوتي (9/297). ، وذلك على قولٍ.

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ خبَرٌ آخَرُ عن لَفظِ الرَّحْمَنُ، قُصِدَ منه العِبرةُ بخلْقِ البحارِ والأنهارِ، وذلك خلْقٌ عَجيبٌ دالٌّ على عَظَمةِ قُدرةِ الله وعِلمِه وحِكمتِه [209] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/248). .
- قولُه: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي: أرسَلَ البَحرينِ لا يَحبِسُ ماءَهُما عن الجرْيِ حاجزٌ، وهذا تَهيئةٌ لقولِه بعْدُ: يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، والمرادُ: أنَّه خلَقَهما ومرَجَهُما؛ لأنَّه ما مرَجَهُما إلَّا عقِبَ أنْ خلَقَهُما [210] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/248). .
- وذِكرُ البَرْزخِ تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: بيْنَهما مِثلُ البَرْزخِ، وهو معْنى لَا يَبْغِيَانِ، أي: لا يَبْغي أحدُهما على الآخَرِ، أي: لا يَغلِبُ عليه فيُفسِدَ طَعْمَه؛ فعُبِّرَ عن هذِه الغَلبةِ بلفْظِ (البغي) [211] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/249). .
- وجُملةُ لَا يَبْغِيَانِ مُبيِّنةٌ لجُملةِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ [212] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/249). .
2- قولُه تعالَى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: يَخْرُجُ قُرِئ يُخْرَجُ على البناءِ للمجهولِ [213] قرأ بها (أي: بضَمِّ الياءِ وفتحِ الرَّاءِ) نافعٌ وأبو عَمرٍو وأبو جعفرٍ ويعقوبُ، وقرأ الباقون يُخْرَجُ بفتحِ الياءِ وضمِّ الرَّاءِ. يُنظر: ((النشر في القراءات العشر)) لابن الجزري (2/380). ، وعلى قراءةِ: يَخْرُجُ ففيه ما يُعرَفُ في البلاغةِ بالاتِّساعِ [214] الاتِّساع: هو أن يأتيَ المتكلِّمُ بكلامٍ يتَّسِعُ فيه التَّأويلُ بحسَبِ ما تحتمِلُه ألفاظُه، فيتَّسِعُ التَّأويلُ فيه على قدرِ عقولِ النَّاسِ، وتفاوُتِ أفهامِهم. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 454)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (2/403)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (2/453). ؛ فقد أُسنِدَ الخُروجُ إلى اللُّؤلؤِ والمَرجانِ؛ لأنَّه إذا أُخرِجَ ذلك فقدْ خرَجَ [215] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/250)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/404). .
3- قولُه تعالَى: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ عطْفٌ على جُملةِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن: 22]؛ لأنَّ هذا مِن أحوالِ البَحرينِ، وقد أغْنَتْ إعادةُ لفظِ (البحر) عن ذِكرِ ضَميرِ البحرَينِ الرَّابطِ لجُملةِ الحالِ بصاحبِها [216] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). .
- واللَّامُ في (لَهُ) للمِلكِ، وهو مِلْكُ تَسخيرِ السَّيرِ فيها؛ قال تعالَى: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا [الشورى: 32 - 34] ؛ فالمعْنى: أنَّ الجواريَ في البَحرِ في تَصرُّفِه تعالَى؛ قال تعالَى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج: 65] . والإخبارُ عن الجَواري بأنَّها له؛ للتَّنبيهِ على أنَّ إنشاءَ البشرِ للسُّفنِ لا يُخرِجُها عن مِلكِ الله سُبحانَه [217] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). ، فتَخصيصُ الجَواري بأنَّها له -وهو تعالى له مُلكُ السَّمَواتِ والأرضِ وما فِيهِنَّ-؛ لأنَّهم لَمَّا كانوا هم مُنشِئِيها، أسنَدَها تعالى إليه؛ إذ كان تمامُ مَنفَعتِها إنَّما هو منه تعالى، فهو في الحقيقةِ مالِكُها [218] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/61). .
- والْجَوَارِ صِفةٌ لمَوصوفٍ مَحذوفٍ دلَّ عليه مُتعلِّقُه، وهو قولُه: فِي الْبَحْرِ، والتَّقديرُ: السُّفنُ الجَواري؛ إذ لا يَجري في البحرِ غيرُ السُّفنِ [219] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/251). .
- وتقديمُ الجارِّ «له» فيه إشارةٌ إلى أنَّ السَّائِرَ في الفُلْكِ لا تصريفَ له، وإنْ ظَهَر له تصريفٌ؛ فهو -لضَعفِه- كَلَا تصريفٍ [220] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/163). .
- قولُه: الْمُنْشَآَتُ قُرِئَ بفتْحِ الشِّينِ؛ فهو اسمُ مَفعولٍ، إذا أُوجِدَ وصُنِعَ، أي: الَّتي أنشَأَها النَّاسُ بإلهامٍ مِن اللهِ تعالى؛ فحصَلَ مِن الكلامِ مِنَّتانِ: مِنَّةُ تَسخيرِ السُّفنِ للسَّيرِ في البحرِ، ومِنَّةُ إلهامِ النَّاسِ لإنْشائِها. وقُرِئَ بكسْرِ الشِّينِ (المُنْشِآتُ)؛ فهو اسمُ فاعلٍ، فيَجوزُ أنْ يكونَ المُنشِآتُ مُشتَقًّا مِن: أنشَأَ السَّيرَ؛ إذا أسرَعَ، أي: الَّتي يَسيرُ بها النَّاسُ سَيرًا سريعًا، والآيةُ تَحتمِلُ المعْنيَينِ على القراءتَينِ باستِعمالِ الاشتِقاقِ في معْنَيَيِ المُشتقِّ منه، ويكونُ في ذلك تَذكيرٌ بنِعمةِ إلهامِ النَّاسِ إلى اختِراعِ الشِّراعِ لإسراعِ سَيرِ السُّفنِ [221] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/251، 252). .
- ووُصِفَتِ الجواري بأنَّها كالأعلامِ -أي: الجِبالِ- وَصْفًا يُفيدُ تَعظيمَ شأْنِها في صُنْعِها المُقتضي بَداعةَ إلْهامِ عُقولِ البشَرِ لصُنعِها، والمُقتضي عِظَمَ المِنَّةِ بها؛ لأنَّ السُّفنَ العظيمةَ أمكَنُ لحمْلِ العددِ الكثيرِ مِن النَّاسِ والمَتاعِ [222] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/252). .
- قولُه: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ تَشبيهٌ؛ فقد شَبَّهَ السُّفنَ وهي تَمخَرُ عُبابَ البحرِ رائحةً جائيةً بالجِبالِ [223] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/404). .