موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (26-30)

ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ

غريب الكلمات:

فَانٍ: أي: هالِكٌ [224] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/211)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/453). .
ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ: أي:المُستحِقُّ لأنْ يُجَلَّ - فهو ذو العَظَمةِ والكِبرياءِ والمجدِ-، ولأنْ يُكرَمَ؛ لاتِّصافِه بما يُوجبُ ذلك، والإجلالُ يتضمَّنُ التَّعظيمَ، والإكرامُ يتضمَّنُ الحمدَ والمحبةَ، والجَلالةُ: عِظَمُ القَدْرِ، والجَلالُ: التَّناهي في ذلك، وأصلُ (جلل): يدُلُّ على العَظَمةِ، وأصلُ (كرم): يدُلُّ على الشَّرَفِ [225] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/278)، ((تفسير أسماء الله الحسنى)) للزجاج (ص: 62)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/417) و(5/171)، ((البسيط)) للواحدي (21/159)، ((المفردات)) للراغب (ص: 198)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/296، 317)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830). .
شَأْنٍ: الشَّأْنُ: الحالُ والأمرُ، ولا يُقالُ إلَّا فيما يعظُمُ مِن الأحوالِ والأمورِ، فهو الشَّيءُ العظيمُ والحدثُ المهمُّ مِن مخلوقاتٍ وأعمالٍ مِن السَّمَواتِ والأرضِ، وأصل (شأن): يدُلُّ على ابْتِغاءٍ وطلَبٍ [226] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/238)، ((المفردات)) للراغب (ص: 470)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/437)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/255). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى عن تفرُّدِه بالبقاءِ بعدَ فناءِ جميعِ المخلوقاتِ على ظهرِ الأرضِ، فيقولُ: كلُّ مَنْ على الأرضِ مِن إنسٍ أو جِنٍّ أو غَيرِهما: هالِكٌ لا يَبقى، ولا يَبقى إلَّا وَجْهُ ربِّك -يا محمَّدُ- ذو العَظَمةِ والإكرامِ، المُستحِقُّ للتَّعظيمِ والمحبةِ؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
 وأنَّه تعالى يَسألُه مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ لقَضاءِ حاجاتِهم، وأنَّه سُبحانَه كُلَّ يَومٍ هو في شَأنٍ؛ يُفَرِّجُ كَربًا، ويَغفِرُ ذنْبًا، ويُجيبُ دُعاءً، ويَشفِي مَريضًا، ويُغْني فَقيرًا، ويُحيي خَلْقًا ويُميتُ آخَرِينَ، ويُعِزُّ قَومًا ويُذِلُّ آخَرِينَ -سُبحانَه وبِحَمْدِه! فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
بَعْدَ أن ذَكَر الله تعالى النِّعَمَ الَّتي أنعَمَ بها على عِبادِه في البَرِّ والبَحرِ، في السَّماءِ والأرضِ؛ رَدِفَ ذلك بيانُ أنَّ هذه النِّعَمَ تَفنى ولا تَبقى [227] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/114). .
وأيضًا لَمَّا كان قولُه: وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الرحمن: 24] مُؤْذِنًا بنِعمةِ إيجادِ أسبابِ النَّجاةِ مِن الهَلاكِ، وأسبابِ السَّعيِ لتَحصيلِ ما به إقامةُ العَيشِ؛ إذ يسَّرَ للنَّاسِ السُّفنَ عَونًا لهم على الأسْفارِ، وقَضاءِ الأوطارِ، مع السَّلامةِ مِن طُغيانِ ماءِ البِحارِ، وكان وَصْفُ السُّفنِ بأنَّها كالأعلامِ تَوسعةً في هذه النِّعمةِ؛ أتْبَعَه بالموعظةِ بأنَّ هذا لا يَحولُ بيْن النَّاسِ وبيْن ما قدَّره اللهُ لهم مِن الفَناءِ، على عادةِ القرآنِ في انتهازِ الفُرَصِ للموعظةِ والتَّذكيرِ [228] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/252، 253). .
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26).
أي: كلُّ مَنْ على الأرضِ مِن إنسٍ أو جِنٍّ أو غَيرِهما: هالِكٌ لا يَبقى [229] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/211)، ((الوسيط)) للواحدي (4/221)، ((تفسير ابن عطية)) (5/229)، ((تفسير ابن كثير)) (7/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/253)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 311). قال السمينُ الحلبي: (غَلَّبَ -بقَولِه مَنْ عَلَيْهَا- مَن يَعقِلُ على غَيرِه، وجَميعُهم مرادٌ. والضَّميرُ في عَلَيْهَا للأرضِ. قال بَعضُهم: وإنْ لم يَجْرِ لها ذِكرٌ... وقد رُدَّ على هذا القائِلِ، وقالوا: بل تقَدَّمَ ذِكرُها في قَولِه تعالى: وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا [الرحمن: 10]). ((الدر المصون)) (10/168). .
كما قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ [آل عمران: 185] .
وقال سُبحانَه وتعالى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] .
وقال عزَّ وجلَّ: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف: 7، 8].
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27).
أي: ويَبقَى وَجهُ ربِّك -يا محمَّدُ- الموصوفُ وَجهُه بالعَظَمةِ والإكرامِ، واستِحقاقِ التَّعظيمِ والمحبَّةِ، وإثباتِ صِفاتِ الكَمالِ والجَمالِ، فالله عزَّ وجلَّ هو الحيُّ الَّذي لا يموتُ أبدًا [230] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/211)، ((تفسير القرطبي)) (17/165)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/320-324)، ((تفسير ابن كثير)) (7/494)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). قال ابنُ عثيمين: (أي: يبقَى اللهُ عزَّ وجَلَّ ذو الوَجهِ الكَريمِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 311). وقال ابن تيميَّة: (والإجلالُ مِن جِنسِ التَّعظيمِ، والإكرامُ مِن جِنسِ الحُبِّ والحَمدِ،... فله الإجلالُ والمُلْكُ، وله الإكرامُ والحَمدُ). ((مجموع الفتاوى)) (16/320). وقال أيضًا: (وقولُه: ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فيه ثلاثةُ أقوالٍ: قيل: أهلٌ أنْ يُجَلَّ وأنْ يُكرَمَ. كما يُقالُ: إنَّه أَهْلُ التَّقْوَى، أي: المستحِقُّ لأنْ يُتَقَّى. وقيل: أهلٌ أنْ يجِلَّ في نفسِه، وأنْ يُكْرِمَ أهلَ ولايتِه وطاعتِه. وقيل: أهلٌ أنْ يجِلَّ في نفسِه، وأهلٌ أنْ يُكرَمَ... قلت: القولُ الأوَّلُ هو أقربُها إلى المرادِ معَ أنَّ الجلالَ هنا ليسَ مصدرَ جلَّ جلالًا، بل هو اسمُ مصدرِ أجلَّ إجلالًا... وإذا كان مستحقًّا للإجلالِ والإكرامِ، لزِم أنْ يكونَ متَّصِفًا في نفسِه بما يُوجِبُ ذلك). ((مجموع الفتاوى)) (16/317). ويُنظر: ((شأن الدعاء)) للخطابي (1/91). وقال السعدي: (ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ أي: ذو العظمةِ والكبرياءِ والمجدِ، الذي يعظَّمُ ويبجَّلُ ويجَلُّ لأجلِه، والإكرامُ الذي هو سَعةُ الفضلِ والجودِ، والداعي لأنْ يكرمَ أولياءَه وخواصَّ خلقِه بأنواعِ الإكرامِ، الذي يكرمُه أولياؤه ويُجِلُّونَه، [ويُعظمِّونَه] ويُحبُّونَه، ويُنيبونَ إليه ويَعبدونَه). ((تفسير السعدي)) (ص: 830).       وذكَر ابنُ عاشور أنَّ قَولَه: وَجْهُ رَبِّكَ خِطابٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه تعظيمٌ لقَدرِه،  وأنَّه يجوزُ أن يكونَ خِطابًا لغَيرِ مُعَيَّنٍ؛ ليَعُمَّ كُلَّ مُخاطَبٍ. ((تفسير ابن عاشور)) (27/253). .
كما قال تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88].
وقال سُبحانَه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ [الفرقان: 58] .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان المَوتُ نفْسُه فيه نِعَمٌ لا تُنكَرُ، وكان مَوتُ ناسٍ نعمةً على ناسٍ -معَ ما ختَم به الآيةَ مِن وصفِه بالإنعامِ-؛ قال [231] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/166). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [232] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/212)، ((تفسير القرطبي)) (17/165). ؟!
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا أفضَى الإخبارُ إلى حاجةِ النَّاسِ إليه تعالى، أتْبَعَ بأنَّ الاحتِياجَ عامٌّ في أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماءِ؛ فالجَميعُ يَسألونَه [233] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). .
يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
أي: إلى اللهِ يَفزَعُ جَميعُ مَن في السَّمَواتِ ومَن في الأرضِ بسُؤالِ حاجاتِهم؛ فلا يَستَغني الخَلائِقُ عن دُعاءِ رَبِّهم [234] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/212)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 183، 184)، ((تفسير ابن كثير)) (7/494)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/254)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 313). قال ابن كثير: (هذا إخبارٌ عن غِناه عمَّا سِواه، وافتِقارِ الخلائقِ إليه في جميعِ الآناتِ، وأنَّهم يَسألونه بلِسانِ حالِهم وقالِهم). ((تفسير ابن كثير)) (7/494). .
قال تعالى: وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] .
كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.
أي: كُلَّ يَومٍ يُحدِثُ اللهُ تعالى شأنًا عَظيمًا؛ كأنْ يُحييَ خَلْقًا ويُميتَ آخَرِينَ، أو يُفَرِّجَ كَربًا، أو يَغفِرَ ذنْبًا، أو يُجيبَ دُعاءً، أو يَشفِيَ مَريضًا، أو يُغنيَ فَقيرًا، أو يُعلِّمَ جاهِلًا، أو يَهدِيَ ضالًّا، أو يُعِزَّ قَومًا، ويُذِلَّ آخَرِينَ [235] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/212)، ((تفسير الزمخشري)) (4/447)، ((تفسير القرطبي)) (17/167)، ((الوابل الصيب)) لابن القيم (ص: 62)، ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: 243)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 123، 124)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/254-256)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 314). قال الواحدي: (قال المفَسِّرون: مِن شأنِه أنَّه يُحيي ويُميتُ، ويَرزُقُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويَشفي مريضًا، ويُجيبُ داعيًا، ويُعطي سائِلًا، ويَغفِرُ ذنْبًا، ويَكشِفُ كَربًا، إلى ما لا يُحصى من أفعالِه، وإحداثِه في خَلْقِه ما يشاءُ!). ((الوسيط)) (4/221). وقال السعدي: (وهذه الشؤونُ الَّتي أخبَر أنَّه تعالى كلَّ يومٍ هو في شأنٍ، هي تقاديرُه وتدابيرُه الَّتي قدَّرها في الأزلِ وقضاها، لا يزالُ تعالى يُمضيها ويُنفذُها في أوقاتِها الَّتي اقتضَتْه حكمتُه، وهي أحكامُه الدِّينيَّةُ الَّتي هي الأمرُ والنَّهيُ، والقَدَريَّةُ الَّتي يُجريها على عبادِه مدَّةَ مقامِهم في هذه الدَّارِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 830). وقال سُفْيانُ بنُ عُيَيْنةَ: (الدَّهرُ كلُّه عندَ الله سبحانه يَومانِ: أحدُهما مدَّةُ أيَّامِ الدُّنيا، والآخَرُ يومُ القيامةِ، والشَّأنُ الَّذي هو فيه اليَومَ الَّذي هو مدَّةُ الدُّنيا: الاختبارُ بالأمرِ والنَّهيِ، والإحياءِ والإماتةِ، والإعطاءِ والمنعِ، وشأنُ يومِ القيامةِ: الجزاءُ والحسابُ، والثَّوابُ والعِقابُ). ((تفسير الثعلبي)) (9/184). !
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [236] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/215). ؟!

الفوائد التربوية:

1- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الحَثُّ على العِبادةِ، وصَرفِ الزَّمانِ اليَسيرِ إلى الطَّاعةِ [237] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). ، والاستِعدادِ للحياةِ الباقيةِ بفِعلِ الصَّالحاتِ، والتَّفكُّرِ في عظيمِ قُدرةِ الله تعالَى، والإقبالِ على توحيدِه، وطَلَبِ مرضاتِه [238] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/252). .
2- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ المَنعُ مِن الوُثوقِ بما يكونُ للمَرءِ، فلا يقولُ إذا كان في نِعمةٍ: إنَّها لن تَذهَبَ؛ فيَترُكَ الرُّجوعَ إلى اللهِ تعالى مُعتَمِدًا على مالِه ومُلْكِه [239] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). !
3- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ الأمرُ بالصَّبرِ إن كان في ضُرٍّ -فلا يَكفُرُ باللهِ- مُعتَمِدًا على أنَّ الأمرَ ذاهِبٌ، والضُّرَّ زائِلٌ [240] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). .
4- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ تَركُ اتِّخاذِ الغَيرِ مَعبودًا، والزَّجرُ عن الاغتِرارِ بالقُربِ مِنَ المُلوكِ، وتَركِ التَّقَرُّبِ إلى اللهِ تعالى؛ فإنَّ أمْرَهم إلى الزَّوالِ قَريبٌ، فيبقى القَريبُ منهم -عن قَريبٍ- في نَدَمٍ عَظيمٍ؛ لأنَّه إن مات قَبْلَهم يَلقى اللهَ كالعَبدِ الآبِقِ، وإنْ مات المَلِكُ قبْلَه فيَبقى بيْنَ الخَلقِ وكُلُّ أحَدٍ يَنتَقِمُ منه، ويتشَفَّى فيه، ويَستحِي مِمَّن كان يتكَبَّرُ عليه، وإن ماتا جميعًا فلِقاءُ اللهِ عليه -بعدَ التَّوَفِّي- في غايةِ الصُّعوبةِ [241] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). !
5- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ حُسنُ التَّوحيدِ، وتَركِ الشِّركِ الظَّاهِرِ والخَفيِّ جميعًا؛ لأنَّ الفانيَ لا يَصلُحُ لِأنْ يُعبَدَ [242] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ لم يَقُلْ: «فيها»؛ لأنَّه عندَ الفَناءِ ليس الحالُ حالَ القَرارِ والتَّمكينِ [243] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (4/210). !
2- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ أنَّ الدُّنيا إنَّما خُلِقَتْ للفَناءِ؛ ما خُلِقَ النَّاسُ للبَقاءِ في الدُّنيا [244] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الصافات)) (ص: 127). !
3- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ قال الشَّعبيُّ: (إذا قرأتَ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ فلا تَسْكُتْ حتَّى تَقْرَأَ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ). وهذا مِن فِقْهِه في القُرآنِ، وكَمالِ عِلْمِه؛ إذِ المقصودُ: الإخبارُ بفَناءِ مَن عليها مع بَقاءِ وَجْهِه سُبحانَه؛ فإنَّ الآيةَ سِيقَتْ لِتَمْدَحَه بالبَقاءِ وَحْدَه، ومُجَرَّدُ فَناءِ الخَليقةِ ليس فيه مَدْحُه، إنَّما المدحُ في بَقائِه بعدَ فَناءِ خَلْقِه؛ فهي نظيرُ قَولِه تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [245] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (3/343). [القصص: 88] .
4- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ أفرَدَ كلمةَ فَانٍ؛ لأنَّهم لم يَجتَمِعوا في الفَناءِ [246] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/215). .
5- في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ سؤالٌ: أنَّ «مَنْ» للعُقَلاءِ، وكُلُّ ما على وَجهِ الأرضِ مع الأرضِ فانٍ، فما فائِدةُ الاختِصاصِ بالعُقَلاءِ؟
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
 الأوَّلُ: أنَّ المُنتَفِعَ بالتَّخويفِ هو العاقِلُ؛ فخَصَّه تعالى بالذِّكْرِ [247] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/355). .
الثَّاني: أنَّ الآيةَ دلَّتْ بفَناءِ العاقِلِ على فَناءِ غَيرِ العاقِلِ بطَريقِ الأَولى [248] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/165). .
الثَّالثُ: أنَّه ذكَره بلفظةِ مَنْ تغليبًا للعقلاءِ [249] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (4/227). .
6- اللهُ سُبحانَه وتعالى حيٌّ باقٍ يَرِثُ ولا يُورَثُ، كما قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ...، وقال سبحانه: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [250] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (9/152). [آل عمران: 180] .
7- لَمَّا كان الوَجهُ أشرَفَ ما في الوُجودِ، وكان يُعَبَّرُ به عمَّا أُريدَ به صاحِبُ الوَجهِ -مع أنَّه لا يُتصَوَّرُ بَقاءُ الوَجهِ بدُونِ صاحِبِه؛ فكان التَّعبيرُ به عن حقيقةِ ذلك الشَّيءِ أعظَمَ وأدَلَّ على الكَمالِ؛ قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [251] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/165، 166). .
8- في قَولِه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ بكافِ الخِطابِ: إشارةٌ إلى اللُّطفِ، والإبقاءُ إشارةٌ إلى القَهرِ، والمَوضِعُ مَوضِعُ بَيانِ اللُّطفِ وتَعديدِ النِّعَمِ؛ فلهذا قال بلَفظِ الرَّبِّ وكافِ الخِطابِ، ولم يقُل: (ويبقى وجهُ الرَّبِّ) [252] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/356)، ((تفسير الشربيني)) (4/165). .
9- في قَولِه تعالى: وَجْهُ رَبِّكَ أنَّ «الوَجهَ» صِفةٌ مِن صِفاتِ اللهِ العَلِيِّ، وَصَف بها نَفْسَه؛ فعَلَينا أن نُصَدِّقَ رَبَّنا، ونُؤمِنَ بما وَصَف به نفْسَه، مع التَّنزيهِ التَّامِّ عن مُشابَهةِ صِفاتِ الخَلقِ [253] يُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/501). ، فهو وجهٌ لا يُشْبِهُ أوجُهَ المخلوقينَ؛ لقولِه تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] [254] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 312). . وقد أثنى سُبحانَه على هذه الصِّفةِ ثَناءً خاصًّا لم يُثْنِ به على صِفةٍ غَيرِها؛ حيثُ قال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [255] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (1/315). .
10- في قَولِه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وفي قَولِه: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 78] يَرِدُ إشكالٌ؛ فجاء في الآيةِ الأُولى «ذو»، وفي الآيةِ الثَّانيةِ «ذي»!
الجوابُ: ذلك لأنَّ «ذو» في الآيةِ الأُولى صِفةٌ للوجهِ الَّذي هو فاعلُ الفعلِ «يَبْقَى»، قال تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وأمَّا «ذي» في الآيةِ الثَّانيةِ فهي صفةٌ للرَّبِّ تعالى، وليست صفةً للاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ لا يُوصَفُ! فهو صفةٌ للذَّاتِ، وليس صفةً للاسمِ، قال تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [الرحمن: 78]، فقال: رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ، وهذا يعني أنَّه لا يَصِحُّ أنْ يُوصفَ الاسمُ بأنه ذو جلالٍ وإكرامٍ! بخلافِ الوجهِ [256] يُنظر: ((شرح العقيدة السفارينية)) لابن عثيمين (ص: 251). .
11- في قَولِه تعالى: ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فائِدةٌ: أنَّه دَخَل في الْجَلَالِ جميعُ الصِّفاتِ الرَّاجِعةِ إلى التَّنزيهِ عن النَّقصِ، وفي (الْإِكْرَامِ) جميعُ صِفاتِ الكَمالِ الوُجوديَّةِ، وصِفاتِ الجَمالِ كالإحسانِ [257] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). .
12- قَولُه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فيه أنَّ حَمْلَ «وجْهِ اللهِ» على «ثوابِ اللهِ» باطلٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى وَصَفَ الوجهَ بالجَلالِ والإكرامِ، فقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، و«ذو» صِفةُ الوَجهِ، ومَعلومٌ أنَّ الثَّوابَ لا يُوصَفُ بأنَّه ذو الجَلالِ والإكرامِ [258] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) لابن عثيمين (2/17). !
13- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سُؤالٌ: أيُّ نِعمةٍ في قَولِه تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ حتَّى تُعَدَّ مِن نِعَمِ الدُّنيا؟!
الجوابُ مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ فيه التَّسويةَ بيْنَ الصَّغيرِ والكبيرِ، والأميرِ والمأمورِ، والمالِكِ والمملوكِ، والظَّالمِ والمظلومِ في الفَناءِ المؤدِّي إلى دارِ البَقاءِ، ومُجازاةِ المحسِنِ والمسيءِ بحَقِّه مِن الجزاءِ؛ فالمظلومُ يأخُذُ حَقَّه، والظَّالمُ يَفزَعُ فيَترُكُ الظُّلمَ له، وسَبَبُ الفَناءِ يَعلَمُه الإنسانُ باضطرارٍ؛ فلا نِعْمةَ إذَن أكبَرُ مِن هذه [259] يُنظر: ((درة التنزيل وغرة التأويل)) للإسكافي (ص: 1241). .
الثَّاني: أنَّ الموتَ سَبَبُ النَّقلِ إلى دارِ الجَزاءِ والثَّوابِ [260] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/324). ، فهو نِعمةٌ لأولياءِ اللهِ؛ حيثُ أفضَى بهم إلى السَّعادةِ الأبَديَّةِ، والنِّعمةِ العُظمَى [261] يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/558). .
14- في قَولِه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سُؤالٌ: كيف قال: رَبِّكُمَا خِطابًا مع الاثنَينِ، وقال: وَجْهُ رَبِّكَ خِطابًا مع الواحِدِ؟!
 الجَوابُ: عندَ قَولِه تعالى: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ وَقَعت الإشارةُ إلى فَناءِ كُلِّ أحَدٍ، وبَقاءِ اللهِ تعالى ذي الوجهِ الكريمِ، فقال: وَجْهُ رَبِّكَ أي: يا أيُّها السَّامِعُ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ فلا تلتَفِتْ إلى أحَدٍ غَيرِ اللهِ تعالى؛ فإنَّ كُلَّ مَن عَداه فانٍ [262] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/356). . وقيل: قَولُه: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ اقتَضَى تَعميمَ الخِطابِ لكلِّ مَن يَصلُحُ للخِطابِ -على قولٍ في التَّفسيرِ-؛ لعِظَمِ الأمْرِ وفَخامتِه، ويَندرِجُ فيه الثَّقلانِ أوَّليًّا، ولا كذلك الثَّاني؛ فترَكَه على ظاهِرِه [263] يُنظر: ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/163). .
15- في قَولِه تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ دَلالةٌ على التَّقديرِ اليَوميِّ -كما ذَكَرَه بعضُ أهلِ العِلمِ-؛ فهو سُبحانَه كلَّ يومٍ يُغْني فَقيرًا، ويُفقِرُ غَنيًّا، ويُوجِدُ مَعدومًا، ويُعْدِمُ موجودًا، ويَبسُطُ الرِّزقَ ويَقْدِرُه، ويُنشِئُ السَّحابَ والمطَرَ، وغيرَ ذلك [264] يُنظر: ((القول المفيد على كتاب التوحيد)) لابن عثيمين (2/405). .
16- في قَولِه تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أنَّ العِبادَ كلَّهم مُضطَرُّونَ إلى دُعاءِ الرَّبِّ سُبحانَه، وسُؤالِه وقَصْدِه، والافتِقارِ إليه [265] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (4/1306). .
17- قال تعالى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَسألُه أولياؤُه وأعداؤُه، ويُمِدُّ هؤلاء وهؤلاء، وأبغَضُ خَلْقِه عَدُوُّه إبليسُ، ومع هذا فقد سأله حاجةً فأعطاه إيَّاها، ومَتَّعَه بها، ولِيُعلَمَ أنَّ إجابةَ اللهِ لسائِليه ليست لكرامةِ السَّائِلِ عليه، بل يَسألُه عَبدُه الحاجةَ فيَقضِيها له وفيها هَلاكُه وشِقْوتُه، ويكونُ قَضاؤه له مِن هَوانِه عليه، وسُقوطِه مِن عَينِه، ويكونُ مَنْعُه منها لكرامتِه عليه، ومحبَّتِه له، فيَمنَعُه؛ حمايةً وصِيانةً وحِفظًا، لا بُخلًا، وهذا إنَّما يَفعَلُه بعَبدِه الَّذي يُريدُ كرامتَه ومَحبَّتَه، ويُعامِلُه بلُطْفِه، فيَظُنُّ بجَهْلِه أنَّ اللهَ لا يُحِبُّه ولا يُكرِمُه، ويَراه يقضي حوائِجَ غَيرِه، فيُسيءُ ظَنَّه برَبِّه [266] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/100). !
18- في قَولِه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ثُبوتُ الأفعالِ الاختياريَّةِ للرَّبِّ سُبحانَه، وقيامُها به [267] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) لابن القيم (2/211). .
19- في قَولِه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ سؤالٌ عن وَجهِ الجَمعِ معَ كونِ القَلَمِ جَفَّ بما هو كائِنٌ إلى يومِ القيامةِ!
الجوابُ: أنَّ قَولَه تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أنَّها شُؤونٌ يُبدِيها ولا يَبتدِيها [268] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/327). ، وقال الحسينُ بنُ الفضلِ: (هو سَوْقُ المَقاديرِ إلى المَواقيتِ) [269] يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/154). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ وُقوعُ هذه الجُملةِ عقِبَ ما عُدِّدَ مِن النِّعَمِ فيه إيماءٌ إلى أنَّ مَصيرَ نِعَمِ الدُّنيا إلى الفناءِ، وهذا تَذكيرٌ بالموتِ وما بعْدَه مِن الجزاءِ، والجُملةُ استِئنافٌ ابتدائيٌّ [270] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/252، 253). .
- وتَفريعُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ إنَّما هو تَفريعٌ على جُملةِ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ مِن أنَّه يَتضمَّنُ مُعامَلةَ خلْقِه مُعاملةَ العظيمِ الَّذي لا تَصدُرُ عنه السَّفاسِفُ، الكريمِ الَّذي لا يَقطَعُ إنعامَه، وذلك مِن الآلاءِ العظيمةِ [271] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). .
- وفي مَجموعِ قولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ نِعمةٌ عَظيمةٌ؛ فإنَّه تعالَى رتَّبَ بالفاءِ في قولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ على تِلك الآيةِ؛ تأنيبًا وتَوبيخًا على كُفرانِهم هذه النِّعمةَ السَّنِيَّةَ؛ فالمرادُ مِن الآيةِ مَلزومُ معْناها؛ لأنَّها كِنايةٌ عن مَجيءِ وقتِ الجَزاءِ، وهو مِن أجَلِّ النِّعَمِ؛ ولذلك خَصَّ الوَصفَينِ بالذِّكرِ -يعني: الجلالَ والإكرامَ-؛ لأنَّهما يدُلَّانِ على الإثابةِ والعِقابِ؛ ففي وصْفِه تعالَى بذلكَ بعْدَ ذِكرِ فَناءِ الخلْقِ وبَقائِه تعالى إيذانٌ يُفيضُ عليهم بعْدَ فَنائِهم أيضًا آثارَ لُطْفِه وكرَمِه حسبَما يُنبِئُ عنه قولُه تعالى: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ؛ فإنَّ إحياءَهم بالحَياةِ الأبديَّةِ وإثابتَهم بالنَّعيمِ المُقيمِ أجَلُّ النَّعماءِ، وأعظَمُ الآلاءِ [272] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/447)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/162)، ((تفسير أبي السعود)) (8/180). .
- وأيضًا في قولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ما يُعرَفُ في البَلاغةِ بالافتِنانِ [273] الافتنانُ: هو أنْ يَفْتَنَّ المتكلِّمُ، فيَأتيَ في كَلامِه بفَنَّينِ مِن فُنونِ الكَلامِ وأغراضِه؛ إمَّا مُتضادَّينِ، أو مُختلِفَينِ، أو مُتَّفقَينِ، والافتِنانُ في ضروبِ الفَصاحةِ أعلَى مِن الاسْتِمرارِ على ضَرْبٍ واحدٍ؛ ولهذا ورَد بعضُ آيِ القُرآنِ مُتماثِلَ المقاطعِ، وبعضُها غيرَ متماثلٍ. يُنظر: ((تحرير التحبير)) لابن أبي الإصبع (ص: 588)، ((خزانة الأدب)) لابن حجة الحموي (1/138)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 154، 155)، ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/405). ؛ فقدْ جمَعَ سُبحانه بيْنَ التَّعزيةِ والفخْرِ؛ إذ عزَّى جَميعَ المخلوقاتِ، وتمدَّحَ بالانفرادِ بالبَقاءِ بعْدَ فَناءِ الموجوداتِ، معَ وصفِ وجهِه الكريمِ بأنَّه ذو الجلالِ والإكرامِ [274] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/405). .
2- قولُه تعالَى: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ استِئنافٌ، والمعْنى أنَّ النَّاسَ تَنقرِضُ منهم أجيالٌ، وتَبْقى أجيالٌ، وكلُّ باقٍ مُحتاجٌ إلى أسبابِ بَقائِه، وصَلاحِ أحوالِه؛ فهُمْ في حاجةٍ إلى الَّذي لا يَفْنَى وهو غيرُ مُحتاجٍ إليهم، ولَمَّا أفْضى الإخبارُ إلى حاجةِ النَّاسِ إليه تعالى، أُتْبِعَ بأنَّ الاحتياجَ عامٌّ في أهلِ الأرضِ وأهلِ السَّماءِ، فالجميعُ يَسألونَه؛ فسُؤالُ أهلِ السَّمواتِ -وهم الملائكةُ- يُسبِّحون بحمْدِ ربِّهم ويَستغفِرون لِمَن في الأرضِ، ويَسأَلون رِضا اللهِ تعالى، ومَن في الأرضِ -وهم البشرُ- يَسأَلونَه نِعَمَ الحياةِ، والنَّجاةَ في الآخِرةِ، ورفْعَ الدَّرَجاتِ في الآخرةِ [275] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). .
- وحُذِفَ مَفعولُ يَسْأَلُهُ؛ لإفادةِ التَّعميمِ، أي: يَسأَلونه حَوائجَهم ومَهامَّهم [276] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254). .
- قولُه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ يَجوزُ أنْ تكونَ الجُملةُ حالًا مِن ضَميرِ النَّصبِ في يَسْأَلُهُ، أو تَذييلًا لجُملةِ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، أي: كلَّ يومٍ هو في شأْنٍ مِن الشُّؤونِ للسَّائلينَ وغيرِهم؛ فهو تعالى يُبرِمُ شُؤونًا مُختلِفةً مِن أحوالِ الموجوداتِ دَوامًا، ويكونَ كُلَّ يَوْمٍ ظَرْفًا مُتعلِّقًا بالاستِقرارِ في قولِه: هُوَ فِي شَأْنٍ، وقُدِّمَ على ما فيه مُتعلَّقُه؛ للاهتِمامِ بإفادةِ تَكرُّرِ ذلك ودَوامِه، والمعْنى: في شأْنٍ مِن شُؤونِ مَن في السَّمواتِ والأرضِ؛ مِنِ استِجابةِ سُؤْلٍ، ومِن زِيادةٍ، ومِن حِرمانٍ، ومِن تأخيرِ الاستِجابةِ، ومِن تَعويضٍ عن المسؤولِ بثَوابٍ، كما ورَدَ في أحاديثِ الدُّعاءِ [277] منها: حديثُ أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قال: ((ما مِن مُسلمٍ يدْعو بدَعوةٍ ليسَ فيها إثمٌ، ولا قطيعةُ رحِمٍ، إلَّا أعطاهُ الله بها إحْدَى ثَلاثٍ: إمَّا أنْ تُعجَّلَ له دعوتُه، وإمَّا أنْ يَدَّخِرَها له في الآخِرةِ، وإمَّا أنْ يَصرِفَ عنه مِن السُّوءِ مِثلَها. قالوا: إذَنْ نُكثِرُ! قال: اللهُ أكثرُ)). أخرجه أحمد (11133) واللَّفظُ له، والطَّبَرانيُّ في ((المعجم الأوسط)) (4368)، والحاكمُ (1816). ذكر ثبوتَه الشوكانيُّ في ((فتح القدير)) (1/274)، وابنُ باز في ((مجموع الفتاوى)) (26/122)، وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الأدب المفرد)) (547)، وجوَّد إسنادَه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17/214). ومنها: حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: ((ما على الأرضِ مُسلِمٌ يدْعو اللهَ بدَعوةٍ إلَّا آتاهُ اللهُ إيَّاها، أو صَرَف عنه مِن السُّوءِ مِثلَها، ما لم يَدْعُ بإثمٍ، أو قَطيعةِ رَحِمٍ. فقال رجُلٌ مِن القَومِ: إذَنْ نُكثِرُ! قال: اللهُ أكثرُ)). أخرجه الترمذي (3573) واللَّفظُ له، وعبدُ الله بنُ أحمدَ في ((زوائد المسند)) (22785) مختصرًا. صحَّحه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (11/98)، وابنُ باز في ((فتاوى نور على الدرب)) (10/137)، وقال الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3573): (حسَنٌ صحيحٌ)، وصحَّحه لغيرِه شعيبٌ الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (37/449). أنَّ استجابتَه تكونُ مُختلِفةً. ومعْنى (في) على هذا التَّفسيرِ: تَقويةُ ثُبوتِ الشُّؤونِ للهِ تعالى، وهي شُؤونُ تَصرُّفِه، ومَظاهرُ قُدْرتِه [278] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/254، 255). .
- والظَّرفيَّةُ المُستعمَلةُ فيها حرْفُ (في) تُفِيدُ شِدَّةَ التَّلبُّسِ والتَّعلُّقِ بتَصرُّفاتِ اللهِ تعالى بمَنزِلةِ إحاطةِ الظَّرفِ بالمظروفِ، أو بأسئلةِ المخلوقاتِ الَّذين في السَّماءِ والأرضِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/255، 256). .