موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (14-18)

ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖ ﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ

غريب الكلمات:

صَلْصَالٍ: أي: طينٍ يابسٍ له صَوتٌ وصَلْصَلةٌ، وأصلُ الصَّلصالِ: تردُّدُ الصَّوتِ مِن الشَّيءِ اليابسِ [150] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 437)، ((تفسير ابن جرير)) (14/57)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/23)، ((المفردات)) للراغب (ص: 488)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 256). .
كَالْفَخَّارِ: أي: الطِّينِ المَطبوخِ بالنَّارِ، إذا مَسَّه الماءُ فَخَر، أي: رَبَا وعَظُمَ، وهو الخَزَفُ. وأصلُ (فخر): يدُلُّ على عِظَمٍ [151] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 437)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 306)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (4/480)، ((المفردات)) للراغب (ص: 627)، ((تفسير ابن عطية)) (5/226)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 383)، ((تفسير الخازن)) (4/226). .
مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ: أي: الصَّافي مِن لَهَبِ النَّارِ الَّذي لا دُخَانَ فيه. وقيل: هو ما اختَلَط بعضُه ببَعضٍ مِنَ اللَّهَبِ الأحمَرِ والأصفَرِ والأخضَرِ الَّذي يعلو النَّارَ إذا أُوقِدَت؛ مِن قَولِهم: مَرَجَ أمرُ القَومِ: إذا اختَلَط، وأصلُ (مرج): يدُلُّ على مجيءٍ وذهابٍ واضطِرابٍ [152] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 438)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 425)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/315)، ((المفردات)) للراغب (ص: 764)، ((تفسير البغوي)) (7/444)، ((تفسير الخازن)) (4/226). .

المعنى الإجمالي:

يُخبِرُ اللهُ تعالى بأنَّه خَلَق آدَمَ أبا البَشَرِ مِن طِينٍ يابسٍ في غايةِ الصَّلابةِ، له صَوتٌ وصَلْصَلةٌ إذا نُقِرَ، كالخَزَفِ، وهو الطِّينُ المطبوخُ بالنَّارِ، وأنَّه تعالى خَلَق الجانَّ مِن لَهبِ النَّارِ الَّذي لا دُخَانَ له؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!
ثمَّ يذكرُ سبحانَه مَظهرًا آخَرَ مِن مظاهرِ قدرتِه، وهو أنَّه خالِقُ ومالِكُ مَشرِقِ الشَّمسِ وَمغرِبِها في الشِّتاءِ والصَّيفِ؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ -يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر اللهُ تعالى خَلْقَ العالَمِ الكبيرِ مِن السَّماءِ والأرضِ وما أوجَدَ فيهما مِن النِّعَمِ، وما فيهما مِنَ الدَّلالاتِ على وحدانيَّتِه وقُدرتِه؛ ذكَرَ خَلْقَ العالَمِ الصَّغيرِ، وهو مبدأُ مَن خُلِقَت له هذه النِّعَمُ [153] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/58)، ((تفسير ابن عادل)) (18/313). .
وأيضًا لَمَّا كان قد تقَدَّمَ في إشارةِ الخِطابِ الامتِنانُ بخَلقِ الإنسانِ، ثمَّ ذَكَر أصولَ النِّعَمِ عليه على وَجهٍ بديعِ الشَّأنِ إلى أنْ ذَكَر غِذاءَ رُوحِه «الرَّيحانَ»؛ أتْبَعَ ذلك تفصيلًا لِما أُجمِلَ، فقال [154] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/155). :
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ(14).
أي: خلَق اللهُ آدَمَ أبا البَشَرِ مِن طِينٍ يابسٍ في غايةِ الصَّلابةِ، له صَوتٌ وصَلْصَلةٌ إذا نُقِرَ، كالخَزَفِ، وهو الطِّينُ المطبوخُ بالنَّارِ [155] يُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/243)، ((تفسير ابن جرير)) (22/191)، ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/155)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/245)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/498)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 305). قال القرطبي: (خَلْقَ الْإِنْسَانِ باتِّفاقٍ مِن أهلِ التَّأويلِ يعني آدَمَ). ((تفسير القرطبي)) (17/160). .
كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] .
وقال سُبحانَه: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [السجدة: 7] .
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15).
أي: وخَلَق اللهُ الجانَّ مِن لَهبِ النَّارِ الَّذي لا دُخَانَ له [156] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/194)، ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((تفسير القرطبي)) (17/161)، ((تفسير ابن كثير)) (7/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/499). قال القرطبي: (قال الحَسَنُ: الجانُّ: إبليسُ، وهو أبو الجِنِّ. وقيل: الجانُّ واحِدُ الجِنِّ). ((تفسير القرطبي)) (17/161). وممَّن قال بقول الحَسَنِ: السمرقنديُّ، وابن جُزَي، وجلال الدين المحلي، والشربيني، والسعدي. يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/380)، ((تفسير ابن جزي)) (2/328)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 709)، ((تفسير الشربيني)) (4/162)، ((تفسير السعدي)) (ص: 829). وممَّن قال بأنَّ المرادَ به: إبليسُ دونَ وَصفِه بأبي الجِنِّ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، وابنُ أبي زَمَنين، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/327)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/245). وذهب كثيرٌ مِن المفَسِّرينَ إلى أنَّ الجانَّ هو أبو الجِنِّ، دونَ تَقييدِه بإبليسَ. ومنهم: الواحديُّ، والسمعاني، والزمخشري، والبِقاعي، والشنقيطي. يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((تفسير السمعاني)) (5/324)، ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/156)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/499). وقال ابنُ عطيَّة: (الجانُّ اسمُ جِنسٍ، كالجِنَّةِ). ((تفسير ابن عطية)) (5/226). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 306). ممَّن اختار أنَّ المارِجَ هو الصَّافي مِن لهبِ النَّارِ ليس له دُخَانٌ: مقاتلُ بنُ سُلَيمانَ، والسمرقنديُّ، والثعلبي، والواحدي، والبغوي، والزمخشري، والنسفي، والخازن، والشوكاني، والقاسمي، والشنقيطي. يُنظر: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/197)، ((تفسير السمرقندي)) (3/380)، ((تفسير الثعلبي)) (9/181)، ((الوسيط)) للواحدي (4/220)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1053)، ((تفسير البغوي)) (4/333)، ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((تفسير النسفي)) (3/411)، ((تفسير الخازن)) (4/226)، ((تفسير الشوكاني)) (5/161)، ((تفسير القاسمي)) (9/104)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/499). ونسَبَه الواحديُّ للأكثَرينَ. يُنظر: ((البسيط)) (21/152). وقال ابن جرير: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ وهو ما اختلَط بعضُه ببعضٍ، مِن بيْنِ أحمَرَ وأصفَرَ وأخضَرَ... وذلك هو لَهبُ النَّارِ ولسانُه). ((تفسير ابن جرير)) (22/194). وقال الزَّجَّاج: (المارِجُ: اللَّهَبُ المُختَلِطُ بسَوادِ النَّارِ). ((معاني القرآن وإعرابه)) (5/99). وقال ابن جُزَي: (المارجُ: اللَّهيبُ المُضطرِبُ مِن النَّارِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/328). وقال القرطبي: (والمارِجُ: اللَّهَبُ. عن ابنِ عبَّاسٍ، وقال: خَلَق اللهُ الجانَّ مِن خالِصِ النَّارِ. وعنه أيضًا: مِن لسانِها الَّذي يكونُ في طَرَفِها إذا التهَبَت. وقال اللَّيثُ: المارجُ: الشُّعلةُ السَّاطِعةُ ذاتُ اللَّهَبِ الشَّديدِ. وعن ابنِ عبَّاسٍ: أنَّه اللَّهَبُ الَّذي يعلو النَّارَ، فيَختَلِطُ بَعضُه ببَعضٍ أحمَرَ وأصفَرَ وأخضَرَ، ونحوُه عن مجاهدٍ، وكلُّه متقارِبُ المعنى. وقيل: المارِجُ: كُلُّ أمرٍ مُرسَلٍ غَيرِ مَمنوعٍ... وقال أبو عُبيدَةَ والحَسَنُ: المارِجُ: خلطُ النَّارِ، وأصلُه مِن مَرَجَ: إذا اضطَرَب واختَلَط). ((تفسير القرطبي)) (17/161). ويُنظر: ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (2/243). .
قال تعالى: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [الحجر: 27] .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((خُلِقَت الملائِكةُ مِن نُورٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن مارجٍ مِن نارٍ، وخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لكم )) [157] رواه مسلم (2996). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن خَلْقَ الثَّقَلينِ ومادَّةَ ذلك، وكان ذلك مِنَّةً منه تعالى على عِبادِه؛ قال: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [158] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 829). .
وأيضًا لَمَّا كان خَلْقُ هذين القَبيلَينِ على هذينِ الوَجهَينِ اللَّذَين هما في غايةِ التَّنافي: مَستورًا أحدُهما عن الآخَرِ، مع مَنعِ كُلٍّ مِن التَّسَلُّطِ على الآخَرِ إلَّا نادِرًا؛ إظهارًا لعظيمِ قُدرتِه وباهِرِ حِكمتِه- مِن أعظَمِ النِّعَمِ؛ قال مُسَبِّبًا عنه [159] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/157). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [160] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/197)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/246). ؟!
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَر سُبحانَه هذَينِ الجِنسَينِ -اللَّذينِ أحدُهما ظاهِرٌ والآخَرُ مُستَتِرٌ- إرشادًا إلى التَّأمُّلِ فيما فيهما مِن الدَّلالةِ على كَمالِ قُدرتِه؛ فكانا محتاجَينِ إلى ما هما فيه مِنَ المحَلِّ، وكان صلاحُه مِمَّا دَبَّر سُبحانَه فيه مِن منازلِ الشُّروقِ الَّذي هو سَبَبُ الأنوارِ والظُّهورِ، والغُروبِ الَّذي هو مَنشَأُ الظُّلمةِ والخَفاءِ؛ أتْبَعَه قَولَه مُنَبِّهًا على النَّظَرِ في بديعِ صُنعِه الدَّالِّ على توحيدِه [161] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/157). :
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17).
أي: اللهُ خالِقُ ومالِكُ ومُدَبِّرُ مَشرِقِ الشَّمسِ في الشِّتاءِ والصَّيفِ، ومَغرِبِ الشَّمسِ في الشِّتاءِ والصَّيفِ [162] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 306). وممَّن ذهب إلى المعنى المذكورِ: ابنُ جرير، وابن كثير، والسعدي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/197)، ((تفسير ابن كثير)) (7/492)، ((تفسير السعدي)) (ص: 830). ومِمَّن قال بهذا القَولِ مِن السَّلَفِ: ابنُ عبَّاسٍ في روايةٍ عنه، ومجاهِدٌ، وقَتادةُ، وعِكْرِمةُ، وابنُ زَيدٍ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/198)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/695). قال ابنُ عاشور: (المَشرِقُ: جِهةُ شُروقِ الشَّمسِ، والمَغرِبُ: جِهةُ غُروبِها، وتثنيةُ المَشرِقَينِ والمَغرِبَينِ باعتِبارِ أنَّ الشَّمسَ تَطلُعُ في فَصلَيِ الشِّتاءِ والرَّبيعِ مِن سَمْتٍ، وفي فَصلَيِ الصَّيفِ والخَريفِ مِن سَمْتٍ آخَرَ، وبِمُراعاةِ وَقْتِ الطُّولِ ووَقتِ القِصَرِ، وكذلك غُروبُها، وهي فيما بيْنَ هذَينِ المَشرِقَينِ والمَغرِبَينِ يَنتَقِلُ طُلوعُها وغُروبُها في دَرَجاتٍ مُتقارِبةٍ، فقد يُعتبَرُ ذلك فيُقالُ: المشارِقُ والمغارِبُ، كما في قَولِه تعالى: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ [المعارج: 40] ، ومَن زَعَم أنَّ تثنيةَ المَشرِقَينِ لِمُراعاةِ مَشرِقِ الشَّمسِ والقَمَرِ، وكذلك تثنيةُ المَغرِبَينِ- لم يَغُصْ على مَعنًى كبيرٍ! وعلى ما فَسَّر به الجُمهورُ المَشرِقَينِ والمَغرِبَينِ بمَشرِقَيِ الشَّمسِ ومَغرِبَيها فالمرادُ بـ الْمَشَارِقِ: النِّصفُ الشَّرقيُّ مِنَ الأرضِ، وبـ الْمَغْرِبَيْنِ: النِّصفُ الغَربيُّ منها). ((تفسير ابن عاشور)) (27/247). وقال ابنُ عثيمين: (ثَنَّى المَشرِقَ هنا باعتِبارِ مَشرِقِ الشِّتاءِ ومَشرِقِ الصَّيفِ، فالشَّمسُ في الشِّتاءِ تَشرُقُ مِن أقصى الجَنوبِ، وفي الصَّيفِ بالعَكسِ، والقَمَرُ في الشَّهرِ الواحِدِ يَشرُقُ مِن أقصى الجَنوبُ، ومِن أقصى الشَّمالِ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 306). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان في هذا مِنَ النِّعَمِ ما لا يُحصى؛ قال مُسَبِّبًا [163] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/159). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعشَرَ الإنسِ والجِنِّ [164] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/199). ؟!

الفوائد التربوية:

قال تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ في كُلِّ ما خَلَقه اللهُ إحسانٌ إلى عِبادِه يُحمَدُ عليه حَمْدَ شُكرٍ، وله فيه حِكمةٌ تَعودُ إليه يَستَحِقُّ مِن أجْلِها أن يُحمَدَ عليه حَمدًا يَستَحِقُّه لِذَاتِه؛ فجَميعُ المخلوقاتِ فيها إنعامٌ على العِبادِ، كالثَّقَلينِ المخاطَبَينِ بقَولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مِن جِهةِ أنَّها آياتٌ للرَّبِّ تعالى، يَحصُلُ بها هدايتُهم وإيمانُهم الَّذي يَسعَدونَ به في الدُّنيا والآخِرةِ، فيَدُلُّهم عليه وعلى وَحدانيَّتِه وقُدرتِه، وعِلْمِه وحِكْمتِه ورَحمتِه [165] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (14/302). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ تذكيرٌ ومَوعِظةٌ بمَظهَرٍ مِن مَظاهِرِ قُدرةِ اللهِ وحِكمتِه في خَلْقِ نَوعِ الإنسانِ وجِنسِ الجانِّ، وفيه إيماءٌ إلى ما سَبَق في القُرآنِ النَّازِلِ قبْلَ هذه السُّورة مِن تَفضيلِ الإنسانِ على الجانِّ؛ إذْ أمَرَ اللهُ إبليسَ -وهو مِن الجانِّ- بالسُّجودِ للإنسانِ، وما يَنطوي في ذلك مِن وَفرةِ مَصالحِ الإنسانِ على مَصالحِ الجانِّ، ومِن تأهُّلِه لعُمرانِ العالَمِ؛ لكَونِه مَخلوقًا مِن طِينتِه؛ إذ الفَضيلةُ تَحصُلُ مِن مَجموعِ أوصافٍ، لا مِن خُصوصيَّاتٍ مُفرَدةٍ [166] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/245). .
2- في قَولِه تعالى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ دَلالةٌ على شَرَفِ عُنصُرِ الآدَميِّ المخلوقِ مِنَ الطِّينِ والتُّرابِ -الَّذي هو محَلُّ الرَّزانةِ، والثِّقلِ، والمنافِعِ-، بخِلافِ عُنصُرِ الجانِّ، وهو النَّارُ، الَّتي هي محَلُّ الخِفَّةِ والطَّيشِ، والشَّرِّ والفَسادِ [167] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 829). .
3- قال اللهُ تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ إنْ قيلَ: إنَّ المقصودَ هنا تَعديدُ النِّعَمِ على الإنسانِ، فما وَجهُ بَيانِ خَلْقِ الجانِّ؟
الجوابُ مِن وُجوهٍ:
أحَدُها: أنَّ قَولَه: رَبِّكُمَا خِطابٌ مع الإنسِ والجِنِّ، يُعَدِّدُ عليهما النِّعَمَ، ليس على الإنسانِ وَحْدَه!
ثانيها: أنَّه بَيانُ فَضلِ اللهِ تعالى على الإنسانِ؛ حيثُ بَيَّن أنَّه خُلِقَ مِن أصلٍ كَثيفٍ كَدِرٍ، وخُلِقَ الجانُّ مِن أصلٍ لَطيفٍ، وجُعِلَ الإنسانُ أفضَلَ مِنَ الجانِّ؛ فإنَّه إذا نَظَر إلى أصلِه عَلِمَ أنَّه ما نال الشَّرَفَ إلَّا بفَضلِ اللهِ تعالى، فكيف يُكَذِّبُ بآلاءِ اللهِ؟!
ثالِثُها: أنَّ الآيةَ مَذكورةٌ لبَيانِ القُدرةِ، لا لبَيانِ النِّعْمةِ [168] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/349). .
4- في قَولِه تعالى: وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ سؤالٌ: وهو إذا كان الجِنُّ مِن نارٍ، فكيف تُحرِقُه النَّارُ؟
الجوابُ: أنَّ النَّارَ يكونُ بَعضُها أَقوى مِن بَعضٍ؛ فالأقوى يُؤَثِّرُ على الأضعَفِ، ومِمَّا يَشهَدُ له قَولُه تعالى: وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ [الملك: 5] ، والسَّعيرُ: أشَدُّ النَّارِ، ومَعلومٌ أنَّ النَّارَ طَبَقاتٌ بَعضُها أشَدُّ مِن بَعضٍ، وهذا أمرٌ مَلموسٌ؛ فقد تكونُ الآلةُ مَصنوعةً مِن حَديدٍ، وتُسَلَّطُ عليها آلةٌ مِن حَديدٍ أيضًا أَقوى منها فتَكسِرُها، كما قيل: «لا يَفُلُّ الحديدَ إلَّا الحَديدُ»، فلا يَمنَعُ كَونُ أصلِه مِن نارٍ ألَّا يتعَذَّبَ بالنَّارِ، كما أنَّ أصلَ الإنسانِ مِن طِينٍ مِن حَمَأٍ مَسنونٍ، ومِنْ صَلصالٍ كالفَخَّارِ، وبَعْدَ خَلْقِه فإنَّه لا يحتَمِلُ التَّعذيبَ بالصَّلصالِ ولا بالفَخَّارِ؛ فقد يُقضى عليه بضَربةٍ مِن قِطعةٍ مِن فَخَّارٍ [169] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (30/585)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/231). .
وأيضًا فإنَّ اللهَ تعالى أضاف الشَّياطينَ والجانَّ إلى النَّارِ حسَبَ ما أضاف الإنسانَ إلى التُّرابِ والطِّينِ والفَخَّارِ، والمرادُ به في حقِّ الإنسانِ أنَّ أصْلَه الطِّينُ، وليس الآدميُّ طينًا حقيقةً، لكنَّه كان طينًا، وكذلك الجانُّ كان نارًا في الأصلِ [170] يُنظر: ((آكام المرجان في أحكام الجان)) للشبلي (ص: 31، 32). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- إذا أُرِيدَ بالإنسانِ آدَمُ عليه السَّلامُ، فقد جاءتْ غاياتٌ له مُختلِفةٌ، وذلك بتَنقُّلِ أصْلِه؛ فكان أوَّلًا تُرابًا، ثمَّ طِينًا، ثمَّ حمَأً مَسنونًا، ثمَّ صَلْصالًا؛ فناسَبَ أنْ يُنسَبَ خلْقُه لكلِّ واحدٍ منها. وعلى القَولِ بأنَّ المرادَ بالإنسانِ الجِنْسُ كلُّه، فيَسوغُ ذلك؛ لأنَّ أباهم مَخلوقٌ مِن الصَّلصالِ [171] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/58). .
- وقولُه: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ تَمهيدٌ للتَّوبيخِ على إخلالِهم بمَواجِبِ شُكرِ النِّعمةِ المُتعلِّقةِ بذاتَيْ كلِّ واحدٍ مِن الثَّقلَينِ [172] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/179). .
- وجاءَ هنا أنَّ الإنسانَ خُلِقَ مِن صَلْصالٍ، وورَدَ في القرآنِ أنَّه خُلِقَ مِن التُّرابِ، وورَدَ أنَّه خُلِقَ مِن الطِّينِ، ومِن حمَأٍ، ومِن ماءٍ مَهينٍ، إلى غيرِ ذلك، كما في قولِه: مِنْ تُرَابٍ [الروم: 20] تارةً، ومِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20] أُخرى، وإنَّما ذلِك باعتِبارِ شَخصينِ: آدَمَ خُلِقَ مِن الصَّلصالِ ومِن حَمَأٍ، وأولادِه خُلِقوا مِن ماءٍ مَهِينٍ، ولولا خلْقُ آدَمَ لَما خُلِقَ أولادُه. ويجوزُ أنْ يُقالَ: «زيدٌ خُلِقَ مِن حمَأٍ»، بمعْنى أنَّ أصْلَه -الَّذي هو جدُّه- خُلِقَ منه [173] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/348). . وأمَّا قولُه: مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وقال تَعالى في سُورةِ (الحِجرِ): مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ [الحجر: 26] ، وقال تَعالى في (الصَّافاتِ): مِنْ طِينٍ لَازِبٍ [الصافات: 11] ، وقال تَعالى في (آلِ عِمرانَ): كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [آل عمران: 59] ؛ فكلُّه مُتَّفِقُ المعْنى؛ وذلك أنَّه أخَذَه مِن تُرابِ الأرضِ، فعَجَنَه بالماءِ، فصار طِينًا، ثمَّ تُرِكَ حتَّى صار حمَأً مَسنونًا ثمَّ مُنتِنًا، ثمَّ صوَّرَه -كما يُصوَّرُ الإبريقُ وغيرُه مِن الأواني-، ثمَّ أيْبَسَه حتَّى صار في غايةِ الصَّلابةِ، فصار كالخزَفِ -الَّذي إذا نُقِرَ صوَّتَ صَوتًا يُعلَمُ منه هل فيه عَيبٌ أو لا-؛ فالمذكورُ هنا آخِرُ تَخليقِه -وهو أنسَبُ بالرَّحمانيَّةِ-، وفي غيرِها تارةً مَبدؤه، وتارةً أثناؤه [174] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/161). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((تفسير البيضاوي)) (5/171)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 545)، ((تفسير أبي السعود)) (8/179). .
- وقولُه: مِنْ نَارٍ بَيانٌ لـ مَارِجٍ، كأنَّه قِيل: مِن صافٍ مِن نارٍ، أو مُختلِطٍ مِن نارٍ، أو أراد مِن نارٍ مَخصوصةٍ [175] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/445)، ((تفسير البيضاوي)) (5/171)، ((تفسير أبي حيان)) (10/59)، ((تفسير أبي السعود)) (8/179). .
2- قولُه تعالَى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ استِنئافٌ ابتدائيٌّ فيه بَيانٌ لجُملةِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ [الرحمن: 5]. وعُطِفَ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ؛ مِن أجْلِ مُراعاةِ المُزاوَجةِ [176] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/247). .
- وفي قولِه تَعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115] أفرَدَ سُبحانه المشرِقَ والمغربَ، وهنا ثَنَّاهما في سُورةِ (الرَّحمن)، وجمَعَهما في سُورةِ (سأَلَ سائلٌ) في قولِه: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج: 40] ، وأفرد المشارقَ بالذِّكرِ في سُورةِ (الصَّافَّات) في قولِه: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات: 5] ؛ فما وَجْهُ ذلك؟
الجوابُ: أنَّ قولَه: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115] وقولَه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 9] المرادُ به جِنسُ المشرقِ والمغربِ، فهو صادقٌ بكلِّ مَشرقٍ مِن مَشارقِ الشَّمسِ -الَّتي هي ثلاثُمئةٍ وسِتُّون-، وكلُّ مَغربٍ مِن مَغاربِها الَّتي هي كذلك. وقيل: قولُه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 9] باعتبارِ النَّاحيةِ؛ لأنَّ النَّواحيَ أربعٌ: مَشرِقٌ، ومَغرِبٌ، وشَمالٌ، وجَنوبٌ. وقولُه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، يعْني مَشرقَ الشِّتاءِ ومَشرقَ الصَّيفِ ومَغربَهما -كما عليه الجُمهورُ-، وقيل: مَشرقُ الشَّمسِ والقمرِ ومَغربُهما. وقولُه: بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج: 40] ، أي: مَشارقِ الشَّمسِ ومَغاربِها، فجَمعُ المغاربِ والمشارقِ باعتبارِ مَشْرِقِ كُلِّ يومٍ ومَغْرِبِه؛ لأنَّ الشَّمسَ كلَّ يومٍ تَشْرُقُ مِن غيرِ المكانِ الَّذي شَرَقَتْ منه بالأَمسِ؛ فالشَّمسُ يَتغَيَّرُ شُروقُها وغُروبُها كُلَّ يومٍ، ولا سيَّما عندَ تَساوي اللَّيلِ والنَّهارِ، فتَجِدُ الفَرقَ دقيقةً أو دقيقةً ونِصفًا بيْنَ غُروبِها بالأمسِ واليَوم، وكذلك الغُروبُ. وقيل: مَشارقِ الشَّمسِ والقمَرِ والكواكبِ ومَغاربِها، فجمع باعتبارِ الشَّارقاتِ والغارِباتِ، وهذه لا يُحصيها إلَّا اللهُ عزَّ وجلَّ [177] يُنظر: ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 22)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 307). .
وأمَّا كَونُه اكْتَفى بذِكرِ المشارقِ في قولِه: وَرَبُّ الْمَشَارِقِ [الصافات: 5] فلِوَجهَين؛ الأوَّلُ: أنَّه اكْتَفى بذِكرِ المشارقِ كقولِه: تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ، يعني: وتَقِيكم البرْدَ أيضًا. والثَّاني: أنَّ الشَّرقَ أقوى حالًا مِن الغروبِ، وأكثَرُ نفْعًا مِن الغروبِ؛ فذُكِرَ الشَّرقُ تَنبيهًا على كثرةِ إحسانِ اللهِ تَعالى على عِبادِه، ولهذه الدَّقيقةِ استَدلَّ إبراهيمُ عليه السَّلامُ بالمشرقِ فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ [178] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (26/316). [البقرة: 258] .
 وأمَّا ورُودُه مُثَنًّى في سورةِ (الرَّحمنِ)؛ فلأنَّه لَمَّا كان مَساقُ السُّورةِ مَساقَ المَثاني المُزدوجاتِ؛ فذَكَر أوَّلًا نَوعَيِ الإيجادِ -وهما الخَلقُ والتَّعليمُ-، ثمَّ ذكَر سِراجَيِ العالَمِ ومَظهَرَيْ نُورِه -وهما الشَّمسُ والقَمَرُ-، ثمَّ ذكَرَ نوعَيِ النَّباتِ؛ ما قام منه على ساقٍ، وما انبسَطَ منه على وَجهِ الأرضِ، -وهما النَّجمُ (على قولٍ) والشَّجرُ-، ثمَّ ذَكَر نَوعَيِ السَّماءِ المرفوعةِ والأرضِ الموضوعةِ، وأخبَرَ أنَّه رَفَع هذه، ووَضَع هذه، ووَسَّط بيْنَهما ذِكرَ الميزانِ، ثمَّ ذكَرَ العَدْلَ والظُّلمَ في الميزانِ، فأمَرَ بالعَدلِ ونَهى عن الظُّلمِ، وذكَرَ نَوعَيِ الخارجِ مِن الأرضِ -وهما الحبوبُ والثِّمارُ-، ثمَّ ذكَرَ خَلْقَ نَوعَيِ المكَلَّفِينَ -وهما نوعُ الإنسانِ ونوعُ الجانِّ-، ثمَّ ذكَرَ نَوعَيِ المشرِقَينِ ونَوعَيِ المغرِبَينِ، ثمَّ ذكَرَ بعد ذلك البَحرينِ المِلْحَ والعَذْبَ؛ فتأمَّلْ حُسنَ تَثنيةِ المشرِقِ والمغرِبِ في هذه السُّورةِ، وجلالةَ وُرودِهما لذلك، وقَدِّرْ مَوضِعَهما اللَّفظَ مُفردًا ومجموعًا، تجِدِ السَّمعَ يَنْبو عنه، ويَشهَدِ العَقلُ بمُنافَرتِه للنَّظمِ [179] يُنظر: ((بدائع الفوائد)) لابن القيم (1/121، 122). ويُنظر أيضًا: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 194، 195). !
- وكرَّرَ هنا في قولِه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ذِكرَ الرَّبِّ، بخِلافِ سُورتَي (المعارِجِ) و(المزمِّلِ)، حيثُ قالَ: فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ [المعارج: 40] ، وقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [المزمل: 9] ؛ تأكيدًا، وخَصَّ ما هنا بالتأْكيدِ؛ لأنَّه مَوضعُ الامتِنانِ، وتَعديدِ النِّعَمِ، ولأنَّ الخِطابَ فيه مِن جِنسينِ؛ هما: الإنسُ، والجنُّ، بخلافِ ذَينِك [180] يُنظر: ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 545). .
- وقولُه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فيه تَوبيخٌ على عدَمِ الاعتِرافِ بنِعَمِ اللهِ تعالى، جِيءَ فيه بمِثلِ ما جِيءَ به في نَظيرِه الَّذي سبَقَه؛ ليكونَ التَّوبيخُ بكَلامٍ مِثلِ سابقِه، وذلك تَكريرٌ مِن أُسلوبِ التَّوبيخِ ونحوِه أنْ يكونَ بمِثلِ الكلامِ السَّابقِ، فحَقُّ هذا أنْ يُسمَّى بالتَّعدادِ لا بالتَّكرارِ؛ لأنَّه ليس تَكريرًا لمُجرَّدِ التَّأكيدِ، فالفاءُ مِن قولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هنا تَفريعٌ على قولِه: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن: 17]؛ لأنَّ رُبوبيَّتَه تَقْتضي الاعتِرافَ له بنِعمةِ الإيجادِ والإمدادِ، وتَحصُلُ مِن تَماثُلِ الجُمَلِ المُكرَّرةِ فائدةُ التَّأكيدِ والتَّقريرِ أيضًا؛ فيَكونُ للتَّكريرِ غَرَضانِ. وفائدةُ التَّكريرِ تَوكيدُ التَّقريرِ بما للهِ تعالى مِن نِعَمٍ على المُخاطَبينَ، وتَعريضٌ بتَوبيخِهم على إشراكِهم باللهِ أصنامًا لا نِعمةَ لها على أحدٍ، وكلُّها دَلائلُ على تَفرُّدِ الإلهيَّةِ، فالتَّكريرُ طَرْدٌ للغَفْلةِ، وتأكيدٌ للحُجَّةِ، وهكذا القولُ في نَظائرِ قولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ المذكورِ هنا، إلى ما في آخِرِ السُّورة [181] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/59)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/246، 247). .