موسوعة التفسير

سورةُ الرَّحْمنِ
الآيات (37-45)

ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ

غريب الكلمات:

وَرْدَةً كَالدِّهَانِ: وَرْدَةً: أي: حَمراءَ كالوردةِ المعروفةِ، وقيل: المرادُ: كالفَرَسِ الوَرْدِ، يُقالُ له ذلك إذا كان يَتلَوَّنُ بألوانٍ مُختَلِفةٍ، والدِّهانُ: جمعُ دُهْنٍ، قيل: هو دُرْدِيُّ الزَّيتِ، وذلك أنَّ السَّماءَ يَعتَريها يومَ القيامة ذَوبٌ وتَمَيُّعٌ؛ مِن شِدَّةِ الهَولِ. وقيل: تحمَرُّ احمِرارَ الوَردِ، ثمَّ تذوبُ ذَوَبانَ الدُّهنِ. وقيل: تَمورُ كالدُّهنِ صافِيَةً. وقيل: الدِّهانُ اسمٌ لِما يُدهَنُ به، وقيل: الدِّهانُ: الأديمُ الأحمرُ، وأصلُ (ورد) هنا: لَوْنٌ مِن الألوانِ، وأصلُ (دهن): يدُلُّ على لِينٍ وسُهولةٍ [324] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 379، 380)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 485)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/308) و(6/105)، ((المفردات)) للراغب (ص: 320)، ((تفسير ابن عطية)) (5/231)، ((تفسير القرطبي)) (17/173)، ((تفسير البيضاوي)) (5/173)، ((تفسير النيسابوري)) (6/231). ((تفسير الثعالبي)) (5/353). .
بِسِيمَاهُمْ: أي: بعَلاماتِهم وآثارِهم، وأصلُ (وسم): يدُلُّ على أثَرٍ ومَعْلَمٍ [325] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 380)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/110)، ((المفردات)) للراغب (ص: 871)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 116)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 519). .
فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ: أي: تُضَمُّ ناصيةُ كُلٍّ منهم (أي: مُقَدَّمُ رأسِه) إلى قَدَمَيه مِن خَلفٍ أو قُدَّامٍ، ويُلقَى في النَّارِ [326] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 471)، ((تفسير البغوي)) (7/450)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 384)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 308). .
حَمِيمٍ آَنٍ: أي: ماءٍ مُغْلًى بَلَغ الغايةَ في شِدَّةِ حَرِّه، وأصلُ (حمم): يدُلُّ على الحَرارةِ، وأصلُ (أنى) هنا: يدُلُّ على إدراكِ الشَّيءِ [327] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 439)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/141) و(2/23)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 202). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالى مبينًا جانبًا مِن أهوالِ يومِ القيامةِ، والعذابِ الَّذي ينزِلُ بالمجرِمينَ: فإذا انشَقَّت السَّماءُ يومَ القيامةِ، فصارت مِثلَ الوَردةِ حمراءَ، كالدُّهنِ؛ فما أعظَمَ الهَولَ يومَئِذٍ! فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟! ففي ذلك اليَومِ لا يُسأَلُ إنسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ عمَّا اقتَرَف مِن ذنْبٍ؛ فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
ثمَّ يُبينُ الله سُبحانَه ما يحلُّ بالمجرِمينَ في هذا اليَومِ مِن عذابٍ، فيقولُ: ويُعرَفُ المُجرِمونَ يومَ القيامةِ بعَلاماتٍ تُمَيِّزُهم عن غَيرِهم، فيُؤخَذُ بمُقَدَّمِ رُؤوسِهم وبأقدامِهم، فيُدْفَعون إلى جَهنَّمَ! فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!
يُقالُ لهم: هذه جَهنَّمُ الَّتي يُكذِّبُ بها المُجرِمونَ في الدُّنيا، يَطوفونَ بَيْنَها وبيْنَ حَميمٍ قد بَلَغ النِّهايةَ في حَرِّه! فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ؟!

تفسير الآيات:

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
أنَّها إشارةٌ إلى ما هو أعظَمُ مِن إرسالِ الشُّوَاظِ على الإنسِ والجِنِّ، فكأنَّه تعالى ذَكَر أوَّلًا ما يَخافُ منه الإنسانُ، ثمَّ ذَكَر ما يَخافُ منه كُلُّ واحِدٍ مِمَّن له إدراكٌ؛ مِن الجِنِّ والإنسِ والمَلَكِ، حيثُ تخلو أماكِنُ الملائِكةِ بالشَّقِّ، ومَساكِنُ الجِنِّ والإنسِ بالخَرابِ [328] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/364). !
وأيضًا لَمَّا عَدَّد -عَزَّت قُدرتُه- نَعماءَه على عِبادِه، وما يجِبُ مِن شُكرِهم عليها، ثمَّ أرشَدَهم إلى أنَّ هذه النِّعَمَ لا بقاءَ لها ولا ثباتَ، ثمَّ ذَكَر أنَّ النَّاسَ مُحاسَبونَ على الصَّغيرِ والكَبيرِ مِن أعمالِهم، وسيَلقَونَ الجَزاءَ عليها، ولا مَهرَبَ حينَئذٍ مِنها، ولا نَصيرَ لهم يُنقِذُهم مِمَّا سيَحُلُّ بهم مِنَ العذابِ- ذكَرَ هنا أنَّه إذا جاء ذلك اليَومُ اختَلَّ نِظامُ العالَمِ [329] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/120). .
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37).
أي: فإذا انشَقَّت السَّماءُ يومَ القيامةِ، فصارت مِثلَ الوَردةِ حَمراءَ، كالدُّهْنِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/226، 229)، ((تفسير القرطبي)) (17/173)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/501، 502). قال الرَّسْعَني: (قال ابنُ قُتَيْبةَ: فكانت حَمْراءَ في لَونِ الفَرَسِ الوَرْدِ. وهذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ، وقَتادةَ، والضَّحَّاكِ، والرَّبيعِ، وجمهورِ المفسِّرينَ. وقيل: هي وردةُ النَّباتِ، وقد تختلِفُ ألوانُها، إلَّا أنَّ الأغلَبَ عليها الحُمْرةُ). ((تفسير الرسعني)) (7/563). ممَّن اختار القولَ الأوَّلَ: الفرَّاءُ، وابنُ قُتَيْبةَ، وابنُ جريرٍ، ومكِّيٌّ، والواحديُّ ونسَبَه للأكثَرِ، والبَغَويُّ، والخازنُ. ويُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/117)، ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 439)، ((تفسير ابن جرير)) (22/226)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7229)، ((الوسيط)) للواحدي (4/223)، ((البسيط)) للواحدي (21/175)، ((تفسير البغوي)) (4/337)، ((تفسير الخازن)) (4/229). وممَّن اختار القولَ الثَّاني -أي: تكونُ مِثلَ الوردةِ في الحُمرةِ: الزَّجَّاجُ، والزمخشري، والبيضاوي، وابنُ جُزَي، وجلال الدين المحلي، وأبو السعود، والشربيني، والشوكاني، وابن عاشور، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/101)، ((تفسير الزمخشري)) (4/449)، ((تفسير البيضاوي)) (5/173)، ((تفسير ابن جزي)) (2/330)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 711)، ((تفسير أبي السعود)) (8/182)، ((تفسير الشربيني)) (4/168)، ((تفسير الشوكاني)) (5/165)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/261)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/501)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 317). قال ابنُ عاشور: (والوَردةُ: واحِدةُ الوَرْدِ، وهو زَهرٌ أحمَرُ مِن شَجَرةٍ دَقيقةٍ ذاتِ أغصانٍ شائِكةٍ تَظهَرُ في فَصلِ الرَّبيعِ، وهو مَشهورٌ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/261). وقال الشنقيطي: (والقولُ بِأنَّ الوردةَ تشبيهٌ بالفَرَسِ الكُمَيْتِ وهو الأحمرُ؛ لأنَّ حُمْرَتَه تَتَلَوَّنُ باختلافِ الفصولِ، فتَشْتَدُّ حُمْرَتُها في فَصْلٍ، وتميلُ إلى الصُّفْرةِ في فصلٍ، وإلى الغَبَرةِ في فصلٍ، وأنَّ المرادَ بالتَّشْبيهِ كَونُ السَّماءِ عندَ انْشِقاقِها تَتَلَوَّنُ بألوانٍ مُختلفةٍ: واضِحُ البُعدِ عن ظاهِرِ الآيةِ). ((أضواء البيان)) (7/502). وقال الشنقيطي أيضًا: (وقولُه: كَالدِّهَانِ فيه قَولانِ معروفانِ للعلماءِ: الأوَّلُ منهما: أَنَّ الدِّهانَ هو الجلدُ الأحمَرُ، وعليه فالمعنَى أنَّها تَصِيرُ وَرْدةً مُتَّصِفَةً بلَونِ الوَرْدِ مُشابِهةً للجِلْدِ الأحمرِ في لونِه. والثَّاني: أنَّ الدِّهانَ هو ما يُدهنُ به، وعليه، فالدِّهانُ، قيل: هو جمعُ دُهْنٍ، وقيلَ: هو مُفْرَدٌ، لأنَّ العربَ تُسَمِّي ما يُدْهَنُ به دِهانًا، وهو مُفْرَدٌ، ... وحَقيقةُ الفرْقِ بيْنَ القولينِ أنَّه على القولِ بأنَّ الدِّهانَ هو الجلدُ الأحمَرُ يَكونُ اللهُ وصَفَ السَّماءَ عندَ انْشِقاقِها يومَ القيامةِ بوصْفٍ واحِدٍ، وهو الحُمْرةُ، فشَبَّهَها بحُمْرةِ الورْدِ، وحُمرةِ الأديمِ الأحْمَرِ. قال بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّها يَصِلُ إليها حرُّ النَّارِ فتَحْمَرُّ مِنْ شِدَّةِ الحرارةِ. وقال بعضُ أهلِ العلمِ: أصلُ السَّماءِ حمراءُ، إلَّا أنَّها لشِدَّةِ بُعْدِها وما دُونَها مِنَ الحَواجِزِ لم تَصِلِ العيونُ إلى إدراكِ لَوْنِها الأحمرِ على حقيقتِه، وأنَّها يومَ القيامةِ تُرَى على حقيقةِ لَوْنِها. وأمَّا على القولِ بأنَّ الدِّهانَ هو ما يُدهنُ به، فإنَّ اللهَ قد وصَفَ السَّماءَ عندَ انْشِقاقِها بوصفَينِ؛ أحدُهما: حُمْرةُ لَونِها، والثَّاني: أنَّها تَذوبُ وتَصيرُ مائعةً كالدُّهْنِ. أمَّا على القولِ الأوَّلِ، فلم نَعلَمْ آيةً مِن كتابِ اللهِ تُبَيِّنُ هذه الآيةَ، بأنَّ السَّماءَ ستَحْمَرُّ يومَ القيامةِ حتَّى تكونَ كلَونِ الجلدِ الأحمرِ. وأمَّا على القولِ الثَّاني الَّذي هو أنَّها تَذُوبُ وتَصيرُ مائعةً، فقد أوضَحه اللهُ في غيرِ هذا الموضعِ، وذلك في قولِه تعالَى في «المعارِجِ»: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ [المعارج: 6 - 8] ، والمُهْلُ شَيءٌ ذائِبٌ على كِلا القولَينِ، سواءٌ قُلْنا: إنَّه دُرْدِيُّ الزَّيْتِ وهو عَكَرُه، أو قُلْنا: إنَّه الذَّائِبُ مِن حَديدٍ أو نُحاسٍ أو نحوِهما). ((أضواء البيان)) (7/501). ممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المرادَ أنَّها تُذابُ وتكونُ كالزَّيتِ أو المُهلِ والرَّصاصِ المُذابِ ونحوِ ذلك: النسفيُّ، وابنُ جُزَي، والقاسمي، والسعدي. يُنظر: ((تفسير النسفي)) (3/415)، ((تفسير ابن جزي)) (2/330)، ((تفسير القاسمي)) (9/110)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831). وممَّن اختار أنَّ المرادَ أنَّها تكونُ كالجِلدِ الأحمرِ: أبو حيَّان، وجلالُ الدِّينِ المحليُّ، والعُلَيمي. يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/52)، ((تفسير الجلالين)) (ص: 711)، ((تفسير العليمي)) (6/488). ويُنظر أيضًا: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 317). قال ابن كثير: (وقولُه: فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ أي: تَذوبُ كما يَذوبُ الدُّردِيُّ والفِضَّةُ في السَّبْكِ، وتتلَوَّنُ كما تتلَوَّنُ الأصباغُ الَّتي يُدَّهَنُ بها؛ فتارةً حمراءُ، وصفراءُ، وزرقاءُ، وخَضراءُ؛ وذلك مِن شِدَّةِ الأمرِ، وهَولِ يومِ القيامةِ العَظيمِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/498). وقيل: إنَّه عُنيَ به الدُّهنُ في إشراقِ لَونِه وصفائِه. وممَّن اختاره في الجملةِ: ابنُ جرير، وأبو القاسمِ النَّيسابوريُّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/226، 229)، ((إيجاز البيان عن معاني القرآن)) لأبي القاسم النيسابوري (2/789). ويُنظر أيضًا: ((تفسير مقاتل بن سليمان)) (4/200). وممَّن قال بنحوِ ذلك مِن السَّلفِ: مجاهِدٌ، والضَّحَّاكُ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/228، 229). وقال البِقاعي: (كَالدِّهَانِ أي: ذائبةً صافيةً كالشَّيءِ الَّذي يُدهنُ به، أو كالأديمِ الأحمَرِ، والمكانِ الزَّلِقِ). ((نظم الدرر)) (19/174). وقال القرطبي: (وقيل: المعنى أنَّها تمرُّ وتَجيءُ. قال الزَّجَّاجُ: أصلُ الواوِ والرَّاءِ والدَّالِ للمَجيءِ والإتيانِ). ((تفسير القرطبي)) (17/173). قال الشنقيطي: (وقولُ مَن قال: إنَّها تَذْهَبُ وتَجيءُ - مَعْناه له شاهدٌ في كتابِ اللهِ، وذلك في قولِه تعالَى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا الآيةَ [الطور: 9]، ولكِنَّه لا يَخْلو عِندي مِنْ بُعْدٍ). ((أضواء البيان)) (7/502). وقال ابنُ عطيَّة: (جوابُ «إذا» -في قَولِه تعالى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ- محذوفٌ، مقصودٌ به الإبهامُ، كأنَّه يقولُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فما أعظَمَ الهَولَ!). ((تفسير ابن عطية)) (5/231). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان حِفظُ السَّماءِ عن مِثلِ ذلك -بتأخيرِ إرسالِ هذا وغَيرِه مِنَ الأسبابِ- وجَعلُها محَلَّ الرُّوحِ والحياةِ والرِّزقِ- مِن أعظَمِ الفواضِلِ؛ قال مُسَبِّبًا عنه [331] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/175). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [332] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/229). ؟!
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا بَيَّن تعالى أنَّ العذابَ في الدُّنيا مُؤَخَّرٌ -بقَولِه: سَنَفْرُغُ لَكُمْ [الرحمن: 31]- بَيَّن أنَّه في الآخِرةِ لا يُؤخَّرُ بقَدْرِ ما يُسْألُ [333] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/367). !
وأيضًا لَمَّا كان يومُ القيامةِ ذا ألوانٍ كثيرةٍ، ومواقِفَ مَهُولةٍ طَويلةٍ شَهيرةٍ، تكونُ في كُلٍّ مِنها شُؤونٌ عَظيمةٌ وأمورٌ كَبيرةٌ؛ ذكَرَ بَعضَ ما سَبَّبَه هذا الوَقتُ مِن التَّعريفِ بالعاصي والطَّائعِ، بآياتٍ جَعَلها اللهُ سَبَبًا في عِلْمِها؛ فقال [334] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/175). :
فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39).
أي: ففي ذلك اليَومِ لا يُسْألُ إنسِيٌّ ولا جِنِّيٌّ عمَّا اقتَرَف مِن ذنْبٍ [335] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/229)، ((الوسيط)) للواحدي (4/224)، ((تفسير القرطبي)) (17/174)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 424)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/503، 504). قال السعدي: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ أي: سُؤالَ استِعلامٍ بما وقع؛ لأنَّه تعالى عالِمُ الغَيبِ والشَّهادةِ، والماضي والمستقبَلِ، ويُريدُ أن يُجازيَ العِبادَ بما عَلِمَه مِن أحوالِهم، وقد جَعَل لأهلِ الخَيرِ والشَّرِّ يومَ القيامةِ علاماتٍ يُعرَفونَ بها). ((تفسير السعدي)) (ص: 831). !
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40).
 أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [336] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/231). ؟!
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41).
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ.
أي: يُعرَفُ المُجرِمونَ يومَ القيامةِ بعَلاماتٍ تُمَيِّزُهم عن غَيرِهم [337] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/231)، ((الوسيط)) للواحدي (4/224)، ((تفسير ابن عطية)) (5/232)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/262)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/504)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 317). قال ابنُ جزي: (والمجرِمونَ هنا الكفَّارُ بدليلِ قولِه: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ [الرحمن: 43]). ((تفسير ابن جزي)) (2/330). وقال ابنُ عاشور: (أي: يُستغنَى عن سُؤالِهم بظُهورِ عَلاماتِهم للملائِكةِ، ويَعرفونَهم بسِيماهم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/262). وقال البقاعي: (يُعْرَفُ أي: لكلِّ أحدٍ). ((نظم الدرر)) (19/176). وقال الواحدي: (قال جماعةُ المفَسِّرينَ: يُعرَفُ بسَوادِ الوُجوهِ، وزُرقةِ الأعيُنِ، ودليلُ ذلك قَولُه تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] ، وقَولُه تعالى: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [طه: 102] ). ((البسيط)) (21/179). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/504). قال ابنُ كثيرٍ: (وهذا كما يُعرَفُ المؤمِنونَ بالغُرَّةِ والتَّحْجيلِ مِن آثارِ الوضوءِ). ((تفسير ابن كثير)) (7/499). وقيل: سِيماهم ما يَعْلوهم مِن الحزنِ والكآبةِ. يُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/166). .
فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ.
أي: فيُؤخَذ بمُقَدَّمِ رُؤوسِ المُجرِمينَ وبأقدامِهم، ويُلقَوْن في جَهنَّمَ [338] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/231)، ((الوسيط)) للواحدي (4/224)، ((تفسير ابن كثير)) (7/499)، ((تفسير السعدي)) (ص: 831)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/263). قال ابنُ جُزَي: (فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ قيل: معناه: يُؤخَذُ بعضُ الكفَّارِ بناصيتِه، وبعضُهم بقدميه. وقيل: بل يُؤخَذُ كلُّ واحدٍ بناصيتِه وقدميه فيُطوى ويُطرحُ في النَّارِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/330). .
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [339] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/231). ؟!
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أخْذُهم على هذا الوَجهِ مُؤذِنًا بأنَّه يَصيرُ إلى خِزيٍ عَظيمٍ؛ صَرَّح به، فقال تعالى [340] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/177). :
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43).
أي: يُقالُ لهم: هذه هي جَهنَّمُ الَّتي يُكذِّبُ بوُجودِها المُجرِمونَ في الدُّنيا، هاهي حاضِرةٌ يُشاهِدونَها في الآخِرةِ عِيانًا [341] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/232)، ((الوسيط)) للواحدي (4/224)، ((تفسير القرطبي)) (17/175)، ((تفسير ابن كثير)) (7/500). قال ابن جرير: (يقولُ تعالَى ذِكْرُه: يُقالُ لهؤلاءِ المجرِمِينَ الَّذينَ أخبَر جلَّ ثناؤُه أنَّهم يُعرَفونَ يومَ القيامةِ بسِيماهم حينَ يُؤخَذُ بالنَّواصي منهم والأقدامِ: هذه جهنَّمُ الَّتي يُكَذِّبُ بها المجرمونَ، فترَكَ ذِكْرَ «يُقالُ»؛ اكتِفاءً بدَلالةِ الكلامِ عليه منه). ((تفسير ابن جرير)) (22/232). وقال الرَّسْعَني: (قولُه تعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ هو على إضمارِ القولِ، تقديرُه: يُقال لهم إذا سُحبوا إليها تحقيرًا وتعنيفًا وانتقامًا منهم: هذه جهنَّمُ). ((تفسير الرسعني)) (7/566). !
كما قال تعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ [يس: 63، 64].
يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ (44).
أي: يَطوفُ المُجرِمونَ بيْنَ مَوضِعِ جَهنَّمَ وبيْنَ مَوضِعِ الحَميمِ الَّذي قد بَلَغ ماؤُه الغايةَ في حَرِّه، ويَتردَّدونَ بَيْنَهما [342] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/232)، ((تفسير البيضاوي)) (5/174)، ((تفسير ابن كثير)) (7/500)، ((التخويف من النار)) لابن رجب (ص: 145)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/263، 264). قال ابنُ عاشور: (المعنى: يَمشُونَ بيْنَ مكانِ النَّارِ وبيْنَ الحَميمِ، فإذا أصابَهم حَرُّ النَّارِ طَلَبوا التَّبَرُّدَ، فَلاحَ لهم الماءُ، فذَهَبوا إليه، فأصابهم حَرُّه، فانصَرَفوا إلى النَّارِ دَوالَيك!). ((تفسير ابن عاشور)) (27/264). وقال ابن عثيمين: (أمَّا كيفَ يكون ذلك؟ فاللهُ أعلَمُ، لكِنَّنا نُؤمِنُ بأنَّهم يَطوفونَ بيْنَها وبيْنَ الحَميمِ الحارِّ الشَّديدِ الحَرارةِ. واللهُ أعلَمُ بذلك). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 318). !
قال تعالى: إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72].
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان مُعاقَبةُ العُصاةِ المُجرِمينَ وتنعيمُ المتَّقِينَ: مِن فَضْلِه ورَحمتِه، وعَدْلِه ولُطفِه بخَلْقِه، وكان إنذارُه لهم عَذابَه وبأسَه مِمَّا يَزجُرُهم عمَّا هم فيه مِنَ الشِّركِ والمعاصي وغيرِ ذلك- قال مُمتَنًّا بذلك على بَرِيَّتِه [343] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/500). :
فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45).
أي: فبأيِّ نِعَمِ ربِّكما تُكَذِّبانِ، يا مَعْشَرَ الإنْسِ والجِنِّ [344] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/234)، ((الوسيط)) للواحدي (4/225)، ((تفسير ابن كثير)) (7/500). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ وكذلك قَولُه: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [القصص: 78] سُؤالٌ: كيفَ الجَمعُ بيْنَ هذا وبيْنَ الآياتِ الَّتي تدُلُّ على خِلافِ ذلك، كقَولِه تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] ، وقَولِه تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات: 24] ، وقَولِه تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ [الأعراف: 6] ؛ مِمَّا يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالى يسألُ جَميعَ النَّاسِ يومَ القيامةِ؟
والجوابُ عن ذلك مِن وُجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ للآخِرةِ مَواطِنَ؛ فلا يُسألُ في مَوطِنٍ، ويُسأَلُ في مَوطِنٍ.
الثَّاني: أنَّه لا يُسأَلُ سُؤالَ استِعلامٍ واستِرشادٍ، بل يُسأَلُ سُؤالَ تَوبيخٍ وتَبكيتٍ؛ فإنَّ السُّؤالَ قِسمانِ: سؤالُ تَوبيخٍ وتقريعٍ، وأداتُه غالبًا: (لِمَ)، وسؤالُ استِخبارٍ واستعلامٍ، وأداتُه غالبًا: (هَل)، فالمُثبَتُ هو سؤالُ التَّوبيخِ والتَّقريعِ، والمنفيُّ هو سُؤالُ الاستِخبارِ والاستِعلامِ. وَجْهُ دَلالةِ القُرآنِ على هذا: أنَّ سؤالَه لهم المنصوصَ في كُلِّه توبيخٌ وتقريعٌ؛ كقَولِه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ [الصافات: 24، 25]، وقَولِه: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ [الطور: 15]، وكقَولِه: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ [الملك: 8] ، وقَولِه: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] إلى غيرِ ذلك مِنَ الآياتِ.
الثَّالثُ: أنَّ السُّؤالَ المنفيَّ في قَولِه هنا أخَصُّ مِن السُّؤالِ المثبَتِ في قَولِه: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93]؛ لأنَّ هذه فيها تعميمُ السُّؤالِ في كُلِّ عَملٍ، وتلك ليس فيها نَفيُ السُّؤالِ إلَّا عن الذُّنوبِ خاصَّةً.
الرَّابعُ: أنَّ إثباتَ السُّؤالِ مَحمولٌ على السُّؤالِ عن التَّوحيدِ وتَصديقِ الرُّسُلِ، وعَدَمَ السُّؤالِ محمولٌ على ما يَستَلزِمُه الإقرارُ بالنُّبُوَّاتِ مِن شرائعِ الدِّينِ وفُروعِه، ويدُلُّ لهذا قَولُه تعالى: فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] .
الخامسُ: أنَّهم يُسأَلونَ قبْلَ الخَتمِ على أفواهِهم، ثمَّ يُختَمُ على أفواهِهم، وتتكَلَّمُ جوارِحُهم شاهِدةً عليهم.
 السَّادسُ: أنَّهم لا يُسأَلونَ إذا استقَرُّوا في النَّارِ. وقيل غيرُ ذلك [345] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (29/366)، ((تفسير القرطبي)) (10/60، 61)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 300)، ((تفسير الشربيني)) (4/168)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/503)، ((دفع إيهام الاضطراب)) للشنقيطي (ص: 100)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 317). .
2- في قَولِه تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ أضاف سُبحانَه الذُّنوبَ إلى الثَّقَلَينِ، وهذا دَليلٌ على أنَّهما مُستَويانِ في التَّكليفِ [346] يُنظر: ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 424). .
3- في قَولِه تعالى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ أنَّ لصاحبِ كلِّ ذنْبٍ مِن الذُّنوبِ الَّتي يُريد اللهُ إظهارَها علامةً يُعرَفُ بها صاحِبُها [347] يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/563). .
4- كلُّ ما ذَكَر اللهُ تعالى مِن قَولِه: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا [الرحمن: 26] إلى هاهنا مَواعِظُ ومَزاجِرُ، وتهديدٌ وتخويفٌ، وهي كُلُّها نِعمةٌ مِنَ اللهِ تعالى؛ لِلانزِجارِ عن المعاصي؛ ولذلك خَتَم كُلَّ آيةٍ بقَولِه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [348] يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (4/225). ويُنظر أيضًا: ((تفسير الشربيني)) (4/169). .
5- كُرِّرَت هذه الآيةُ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ عَقِبَ ذِكرِ النَّارِ وأهوالِها سَبْعَ مرَّاتٍ؛ تنبيهًا على استِدفاعِ أبوابِها السَّبعةِ [349] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/179). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ تَفريعُ إخبارٍ على إخبارٍ؛ فُرِّعَ على بعضِ الخبَرِ المُجمَلِ في قولِه: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ [الرحمن: 31] إلى آخرِه، تَفصيلٌ لذلك الإجمالِ؛ بتَعيينِ وَقتِه، وشَيءٍ مِن أهوالِ ما يقَعُ فيه للمُجرِمين، وبَشائرِ ما يُعطاهُ المتَّقونَ مِن النَّعيمِ والحُبورِ [350] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/261). .
- قولُه: فَكَانَتْ وَرْدَةً تَشبيهٌ بَليغٌ، أي: كانتِ السَّماءُ كوَرْدةٍ (أي: زهرةٍ حمراءَ، وذلك على قولٍ). ووَجْهُ الشَّبهِ قيل: هو شِدَّةُ الحُمرةِ، أي: يَتغيَّرُ لونُ السَّماءِ المعروفُ أنَّه أزرَقُ إلى البياضِ، فيَصيرُ لَونُها أحمَرَ. ويَجوزُ أنْ يكونَ وَجْهُ الشَّبَهِ كَثرةَ الشُّقوقِ كأوراقِ الوردةِ [351] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/450)، ((تفسير البيضاوي)) (5/173)، ((حاشية الطيبي على الكشاف)) (15/168)، ((تفسير أبي حيان)) (10/65)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/261). .
 وقيل: أراد لَونَ الفَرَسِ الوَرْدِ، يكونُ في الرَّبيعِ إلى الصُّفرةِ، وفي الشِّتاءِ إلى الحُمرةِ، وفي اشتِدادِ البَردِ إلى الغُبْرةِ، فشُبِّهَ تلَوُّنُ السَّماءِ بتَلَوُّنِ الوردةِ مِن الخَيلِ [352] يُنظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/117)، ((تفسير أبي حيان)) (10/65). .
- قولُه: كَالدِّهَانِ جمْعُ دُهنٍ، شبَّه السَّماءَ يومَ القيامةِ به؛ لأنَّها تَذوبُ مِن شِدَّةِ الهَولِ. وقيل: شبَّه لَمَعانَها بلَمَعانِ الدُّهنِ [353] يُنظر: ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (2/177). . وقيل: للدُّهنِ ألوانٌ، شبَّه السَّماءَ بألوانِه [354] يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/187). . وقيل: الدِّهانُ: الجِلدُ الأحمرُ، وبه شبَّهها [355] يُنظر: ((تفسير ابن عطية)) (5/231). .
- وجَوابُ (إذَا) مَحذوفٌ، أي: يكونُ مِن الأحوالِ والأهوالِ ما لا يُحيطُ بهِ دائرةُ المَقالِ، أي: فما أعظَمَ الهولَ [356] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/65)، ((تفسير أبي السعود)) (8/182). !
- قولُه: فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُعترِضةٌ بيْنَ جُملةِ الشَّرطِ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ وجُملةِ الجوابِ فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ، وهي تَكريرٌ، للتَّقريرِ والتَّوبيخِ [357] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/261، 262). .
2- قولُه تعالَى: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- التَّنوينُ في فَيَوْمَئِذٍ للعِوَضِ مِن الجُملةِ المحذوفةِ، والتَّقديرُ: فيومَ إذِ انشقَّتِ السَّماءُ... [358] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/66). .
- ومعْنى قولِه: لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ نفْيُ السُّؤالِ الَّذي يُريدُ به السَّائلُ مَعرفةَ حُصولِ الأمرِ المُتردِّدِ فيه، وهذا مِثلُ قولِه: وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ [359] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/450)، ((تفسير البيضاوي)) (5/173)، ((تفسير أبي حيان)) (10/66)، ((تفسير أبي السعود)) (8/182)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/262). [القصص: 78] .
- والضَّميرُ في ذَنْبِهِ للإنسِ؛ لتَقدُّمِه رُتْبةً، وإفرادُه لِما أنَّ المُرادَ فرْدٌ مِن الإنسِ، كأنَّه قيلَ: لا يُسأَلُ ذنْبَه إنْسيٌّ ولا جِنيٌّ [360] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/182). .
- وتَكريرُ جُملةِ فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ للتَّقريرِ والتَّوبيخِ [361] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/262). .
3- قولُه تعالَى: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ استِئنافٌ بَيانيٌّ، يَجْرِي مَجْرى التَّعليلِ لعدَمِ السُّؤالِ [362] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/183)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/262). .
- و(أل) في بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ عِوَضٌ عن المُضافِ إليه، أي: بنَواصِيهم وأقدامِهم، أو الضَّميرُ مَحذوفٌ تَقديرُه: بالنَّواصي والأقدامِ منْهم [363] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/262). .
- وأُسنِدَ الأخذُ إلى النَّواصي دونَ ضَميرِ المُجرِمينَ؛ إشارةً إلى استيلاءِ الآخِذينَ على المأخوذينَ، وكَثرتِهم، وكيفيَّةِ الأخذِ [364] يُنظر: ((تفسير ابن عادل)) (18/338). .
4- قولُه تعالَى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ * فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
- قولُه: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ على إرادةِ القَولِ، أي: يُقالُ لهم ذلكَ يومَ القِيامةِ على رُؤوسِ الملأِ بطَريقِ التَّوبيخِ، على أنَّ الجُملةَ إمَّا استِئنافٌ وقَعَ جوابًا عن سُؤالٍ ناشئٍ مِن حِكايةِ الأخْذِ بالنَّواصِي والأقدامِ، كأنَّه قِيلَ: فماذا يُفعَلُ بهِم عندَ ذلكَ؟ فقيلَ: يُقالُ... إلخ. أو حالٌ مِن أصحابِ النَّواصِي والأقدامِ؛ لأنَّ الألِفَ واللَّامَ عِوَضٌ عن المضافِ إليهِ، وما بيْنَهما اعتِراضٌ [365] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (10/67)، ((تفسير أبي السعود)) (8/183)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/263). .
- وخُصَّ هذا الاسمُ جَهَنَّمُ؛ إشارةً إلى أنَّها تَلْقاهم بالتَّجَهُّمِ والعُبوسةِ والكَلاحةِ والفَظاعةِ، كما كانوا يَفعَلونَ مع الصَّالحينَ عندَ الإجرامِ المذكورِ [366] يُنظر: ((تفسير الشربيني)) (4/169). !
- ووَصْفُ جَهنَّمَ بقولِه: الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ تَسفيهٌ للمجرمينَ، وفضْحٌ لهم [367] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/263). .
- وقال سُبحانَه: الْمُجْرِمُونَ ولَمْ يَقُلْ: «تكذِّبون بها»! إشارةً إلى أنَّهم مُجرِمون، وما أعظَمَ جُرْمَ الكفَّارِ الَّذين كفروا باللهِ ورسولِه، واستهزَؤوا بآياتِ اللهِ، واتَّخَذوها هُزُوًا ولَعِبًا [368] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 318). !