فوائدُ متفرقةٌ
جملةٌ مِن آدابِ تِلاوةِ القُرآنِ(يَنبَغي لقارِئِ القُرآنِ أن يَكونَ على وُضوءٍ، مُستَعمِلًا للأدَبِ، مُطرِقًا غَيرَ مُتَرَبِّعٍ ولا مُتَّكِئٍ، ولا جالسٍ على هَيئةِ المُتَكَبِّرِ.
وأفضَلُ الأحوالِ: أن يَقرَأَ في الصَّلاةِ قائِمًا، وأن يَكونَ في المَسجِدِ...
ويُستَحَبُّ تَحسينُ القِراءةِ، وإذا لم يَكُنْ حَسَنَ الصَّوتِ حَسَّنه ما استَطاعَ، فأمَّا القِراءةُ بالألحانِ فقد كَرِهَها السَّلفُ.
ويُستَحَبُّ الإسرارُ بالقِراءةِ. ولا بَأسَ بالجَهرِ في بَعضِ الأوقاتِ لمَقصودٍ صحيحٍ، إمَّا لتَجويدِ الحِفظِ، أو ليَصرِفَ عن نَفسِه الكَسَلَ والنَّومَ، أو ليوقِظَ الوَسنانَ...
ومَن كان عِندَه مُصحَفٌ يَنبَغي له أن يَقرَأَ فيه كُلَّ يَومٍ آياتٍ يَسيرةً؛ لئَلَّا يَكونَ مَهجورًا.
وينبغي لتالي القُرآنِ العَظيمِ أن يَنظُرَ كَيف لَطَف اللهُ تعالى بخَلقِه بإيصالِ مَعاني كَلامِه إلى أفهامِهم.
وأن يَعلَمَ أنَّ ما يَقرَؤُه ليسَ مِن كَلامِ البَشَرِ.
وأن يَستَحضِرَ عَظَمةَ المُتَكَلِّمِ سُبحانَه ويَتَدَبَّرَ كَلامَه؛ فإنَّ التَّدَبُّرَ هو المَقصودُ مِنَ القِراءةِ، وإن لم يَحصُلِ التَّدَبُّرُ إلَّا بتَردادِ الآيةِ فليُرَدِّدْها...
وينبغي للتَّالي أن يَستَوضِحَ مِن كُلِّ آيةٍ ما يَليقُ بها، ويَتَفهَّمَ ذلك، فإذا تَلا قَولَه تعالى:
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 1] فليَعلَمْ عَظَمَتَه ويتلمَّحْ قُدرَتَه في كُلِّ ما يَراه. وإذا تَلا:
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ [الواقعة: 58] فليَتَفكَّرْ في نُطفةٍ مُتَشابهةِ الأجزاءِ، كَيف تَنقَسِمُ إلى لحمٍ وعَظمٍ، وعِرقٍ وعَصَبٍ، وأشكالٍ مُختَلفةٍ مِن رَأسٍ ويَدٍ ورِجلٍ، ثُمَّ إلى ما ظَهَرَ فيها مِنَ الصِّفاتِ الشَّريفةِ، كالسَّمعِ، والبَصَرِ، والعَقلِ، وغَيرِ ذلك؟! فيَتَأمَّلْ هذه العَجائِبَ. وإذا تَلا أحوالَ المُكَذِّبينَ فليَستَشعِرِ الخَوفَ مِنَ السَّطوةِ إن غَفَل عنِ امتِثالِ الأمرِ.
وليَتَخَلَّ التَّالي مِن مَوانِعِ الفَهمِ، مِثلُ: أن يُخَيِّلَ الشَّيطانُ إليه أنَّه ما حَقَّقَ تِلاوةَ الحَرفِ ولا أخرجه مِن مَخرَجِه، فيُكَرِّرُه التَّالي، فيَصرِفُ همَّتَه عن فهمِ المَعنى.
ومِن ذلك أن يَكونَ التَّالي مُصِرًّا على ذَنبٍ، أو مُتَّصِفًا بكِبرٍ، أو مُبتَلًى بهَوًى مُطاعٍ؛ فإنَّ ذلك سَبَبُ ظُلمةِ القَلبِ وصَداه، فهو كالجَرَبِ على المِرآةِ، يَمنَعُ مِن تَجَلِّي الحَقِّ، فالقَلبُ مِثلُ المِرآةِ، والشَّهَواتُ مِثلُ الصَّدَأِ، ومَعاني القُرآنِ مِثلُ الصُّوَرِ التي تَتَراءى في المِرآةِ، والرِّياضةُ للقَلبِ بإماطةِ الشَّهَواتِ مِثلُ الجَلاءِ للمِرآةِ.
وينبغي لتالي القُرآنِ أن يَعلمَ أنَّه مَقصودٌ بخِطابِ القُرآنِ ووعيدِه، وأنَّ القِصَصَ لم يُرَدْ بها السَّمَرُ بَل العِبَرُ، فليَتَنَبَّهْ لذلك، فحينَئِذٍ يَتلو تِلاوةَ عَبدٍ كاتَبَه سَيِّدُه بمَقصودٍ.
وليَتَأمَّلِ الكِتابَ ويَعمَلْ بمُقتَضاه؛ فإنَّ مَثَلَ العاصي إذا قَرَأ القُرآنَ وكَرَّرَه كَمَثَلِ مَن كَرَّرَ كِتابَ المَلِكِ وأعرَض عن عِمارةِ مَملكَتِه وما أمَرَ به في الكِتابِ؛ فهو مُقتَصِرٌ على دِراسَتِه، مُخالِفٌ أوامِرَه، فلو تَرَك الدِّراسةَ مَعَ المُخالفةِ كان أبعَدَ مِنَ الاستِهزاءِ واستِحقاقِ المَقتِ.
وينبغي أن يَتَبَرَّأَ مِن حَولِه وقوَّتِه، وألَّا يَلتَفِتَ إلى نَفسِه بعَينِ الرِّضا والتَّزكيةِ؛ فإنَّ مَن رَأى نَفسَه بصورةِ التَّقصيرِ كان ذلك سَبَبَ قُربِه)
[1906] ((مختصر منهاج القاصدين)) (ص: 51). .
مَسألةٌ: خَتمُ القِراءةِ بـ "صَدَق اللهُ العَظيمُ"قال ابنُ عُثَيمين: (قَولُ: صَدَقَ اللهُ العَظيمُ، بَعدَ قِراءةِ القُرآنِ، لا أصلَ له مِنَ السُّنَّةِ ولا مِن عَمَلِ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم، وإنَّما حَدَث أخيرًا، ولا رَيبَ أنَّ قَولَ القائِلِ صَدَقَ اللهُ العَظيمُ، ثَناءٌ على اللهِ عَزَّ وجَلَّ، فهو عِبادةٌ، وإذا كان عِبادةً فإنَّه لا يَجوزُ أن نَتَعَبَّدَ للهِ به إلَّا بدَليلٍ مِنَ الشَّرعِ، وإذا لم يَكُنْ هناكَ دَليلٌ مِنَ الشَّرعِ كان خَتمُ التِّلاوةِ به غَيرَ مَشروعٍ ولا مَسنونٍ، فلا يُسَنُّ للإنسانِ عِندَ انتِهاءِ القُرآنِ أن يَقولَ: صَدَقَ اللهُ العَظيمُ، فإن قال قائِلٌ: أليسَ اللَّهُ يَقولُ:
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ؟ فالجَوابُ: بَلى قد قال اللهُ ذلك، ونَحنُ نَقولُ ذلك، لكِن هَل قال اللهُ ورَسولُه: إذا أنهَيتُمُ القِراءةَ فقولوا: صَدَقَ اللهُ؟ وقد صَحَّ عنِ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أنَّه كان يَقرَأُ ولم يُنقَلْ عنه أنَّه كان يَقولُ: صَدَقَ اللهُ العَظيمُ، وقَرَأ عليه ابنُ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه مِن سورةِ النِّساءِ حتَّى بَلَغَ
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، فقال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ (حَسْبُك)
[1907] يُنظر: ما أخرجه البخاري (5050)، ومسلم (800). . ولم يَقُلْ: قُلْ: صَدَقَ اللهُ، ولا قاله ابنُ مَسعودٍ أيضًا، وهذا دَليلٌ على أنَّ قَولَ القائِلِ عِندَ انتِهاءِ القِراءةِ: صَدَقَ اللهُ، ليسَ بمَشروعٍ، نَعَم لو فُرِضَ أنَّ شيئًا وقَعَ مِمَّا أخبَرَ اللَّهُ به ورَسولُه، فقُلتَ: صَدَقَ اللهُ، واستَشهَدتَ بآيةٍ مِنَ القُرآنِ، هذا لا بَأسَ به؛ لأنَّ هذا مِن بابِ التَّصديقِ لكَلامِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، كَما لو رَأيتَ شخصًا مُنشَغِلًا بأولادِه عن طاعةِ رَبِّه، فقُلتَ: صَدَقَ اللهُ
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وما أشبَهَ ذلك مِمَّا يُستَشهَدُ به، فهذا لا بَأسَ به)
[1908] ((فتاوى نور على الدرب)) (2/179). ويُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (7/ 330). .
مَسألةٌ: الدُّعاءُ عَقِبَ خَتمِ القُرآنِالدُّعاءُ عَقِبَ خَتمِ القُرآنِ خارِجَ الصَّلاةِدُعاءُ القارِئِ لخَتمِ القُرآنِ خارِجَ الصَّلاةِ، وحُضورُ الدُّعاءِ في ذلك: أمرٌ مَأثورٌ مِن عَمَلِ السَّلفِ الصَّالحِ مِن صَدرِ هذه الأُمَّةِ؛ فعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان إذا خَتَمَ القُرآنَ جَمَعَ أهلَه فدَعا
[1909] أخرجه سعيد بن منصور في التفسير من ((سننه)) (1/140) (27)، والدارمي في ((سننه)) (3517)، والطبراني في ((الكبير)) (1/242) (674). صَحَّحه مَوقوفًا ابنُ حجر في ((نتائج الأفكار)) (3/173). وصَحَّحَ سَنَدَه النَّوويُّ في ((الأذكار)) (ص: 141)، وشعيب في تخريج ((شرح السنة)) (4/492). ويُنظر تَفصيلُ الكَلامِ عن هذا الأثَرِ ((التفسير من سنن سعيد بن منصور)) لسعد آل حميد (1/141). ، وقَفاه جَماعةٌ مِنَ التَّابعينَ، ولأنَّه مِن جِنسِ الدُّعاءِ المَشروعِ
[1910] ينظر: ((الأجزاء الحديثية: جزء في مرويات دعاء ختم القرآن)) لبكر أبو زيد (ص: 290). . وذَكَرَ ابنُ القَيِّمِ أنَّ عَقِبَ خَتمِ القُرآنِ هو مَحَلُّ دُعاءٍ
[1911] جلاء الأفهام (ص: 402). .
الدُّعاءُ عَقِبَ خَتمِ القُرآنِ في الصَّلاةِلا يُشرَعُ الدعاءُ عندَ ختْمِ القرآنِ في الصَّلاةِ
[1912] وهذا مذهبُ المالِكيَّة، وهو قولٌ للحنفيَّة، واختاره الألبانيُّ، وابنُ عُثيمين. يُنظر: ((المدخل)) لابن الحاج (2/299)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازة البخاري (5/313)، ((سلسلة الأحاديث الضعيفة)) للألباني (13/315 رقم 6135)، ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (4/42). .
وذلك لأنَّ دُعاءَ ختْم القرآنِ في الصَّلاةِ، من إمامٍ أو منفردٍ، قبلَ الركوعِ أو بعدَه، في "التراويح" أو غيرِها: لا يُعرَفُ ورودُ شيءٍ فيه أصلًا عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا عن أحدٍ من صحابتِه مُسندًا
[1913] ((الشرح الممتع)) لابن عثيمين (4/42). ويُنظر: ((جزء في مرويَّات دعاء ختم القرآن)) لبكر أبو زيد (ص: 290). . والقاعدةُ: أنَّ العباداتِ توقيفيَّةٌ لا تثبُتُ إلَّا بنَصٍّ
[1914] ((جزء في مرويات دعاء ختم القرآن)) لبكر أبو زيد (ص: 290). .
مَسألةٌ: حُكمُ تَقبيلِ المُصحَفِقال ابنُ تَيميَّةَ: (القيامُ للمُصحَفِ وتَقبيلُه لا نَعلمُ فيه شَيئًا مَأثورًا عنِ السَّلفِ، وقد سُئِل الإمامُ أحمَدُ عن تَقبيلِ المُصحَفِ. فقال: ما سَمِعتُ فيه شَيئًا. ولكِن رُويَ عن عِكرِمةَ بنِ أبي جَهلٍ: أنَّه كان يَفتَحُ المُصحَفَ ويَضَعُ وَجهَه عليه، ويَقولُ: "كَلامُ رَبِّي، كَلامُ رَبِّي")
[1915] ((مجموع الفتاوى)) (23/ 65). .
وقال ابنُ بازٍ عن تَقبيلِ المُصحَفِ: (هذا العَمَلُ ليسَ له أصلٌ، وتَركُه أحسَنُ؛ لأنَّه ليسَ عليه دَليلٌ، لكِن يُروى عن بَعضِ الصَّحابةِ أنَّه قَبَّل المُصحَفَ، وقال: هذا كَلامُ رَبِّي، ولا يَضُرُّ مَن فعَلَه، لكِن ليسَ عليه دَليلٌ، وتَركُه أَولى، ولم يَفعَلْه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولم يَثبُتْ عنِ الصَّحابةِ، إنَّما يُروى عن عِكرِمةَ، قد يَصِحُّ أو لا يَصحُّ، فالتَّركُ أَولى لعَدَمِ الدَّليلِ، المُهمُّ العَمَلُ به والتِّلاوةُ والإكثارُ مِنَ القِراءةِ والعَمَل، هذا المُهمُّ، وهذا الواجِبُ، فالإنسانُ عليه أن يُكثِرَ مِن قِراءةِ القُرآنِ، ويَتَدَبَّرَ ويَعمَلَ، هذا هو المَطلوبُ مِنه)
[1916] ((مجموع فتاوى ابن باز)) (24/ 399). .
وقال ابنُ عُثَيمين فيما يُروى عن بَعضِ الصَّحابةِ أنَّهم كانوا يُقَبِّلونَه ويَضَعونَه على صُدورِهم، قال: (لا أظُنُّه يَصِحُّ عنِ الصَّحابةِ، هذا بِدعةٌ مُحدَثةٌ أخيرًا، والصَّوابُ أنَّها بدعةٌ وأنَّه لا يُقَبَّلُ، ولا شَيءَ مِنَ الجَماداتِ يُقَبَّلُ إلَّا شَيءٌ واحِدٌ، وهو الحَجَرُ الأسودُ، وغَيرُه لا يُقَبَّلُ، احتِرامُ المُصحَفِ حَقيقةً بألَّا تَمَسَّه إلَّا على طَهارةٍ، وأن تَعمَلَ بما فيه؛ تصديقًا للأخبارِ، وامتثالًا لأوامِرِه، واجتنابًا لنَواهيه)
[1917] ((لقاء الباب المفتوح)) (اللقاء رقم: 213). .