موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في بيانِ منزلةِ الدُّعاءِ، وبعضِ فضائلِه وفوائدِه


للدُّعاءِ مَنزِلةٌ عَظيمةٌ في الدِّينِ، و(سُؤالُ العَبدِ لرَبِّه حاجَتَه مِن أفضَلِ العِباداتِ، وهو طَريقُ أنبياءِ اللهِ، وقد أمَرَ العِبادَ بسُؤالِه، فقال: وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32] ، ومَدَحَ الذينَ يَدعونَ رَبَّهم رَغبةً ورَهبةً) [2078] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (8/ 538، 539). ، فقال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء: 90] .
وقد أمَرَ اللهُ تعالى بدُعائِه ووعَدَ الإجابةَ، فقال سُبحانَه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] ، ودَلَّتِ الآيةُ الكَريمةُ على أنَّ الدُّعاءَ مِنَ العِبادةِ؛ فإنَّه سُبحانَه وتعالى أمَر عِبادَه أن يَدعوه، ثُمَّ قال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي، فأفادَ ذلك أنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ، وأنَّ تَركَ دُعاءِ الرَّبِّ سُبحانَه استِكبارٌ [2079] ينظر: ((تحفة الذاكرين)) للشوكاني (ص: 33). . وعنِ النُّعمانِ بنِ بَشيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الدُّعاءُ هو العِبادةُ [2080] قال القاريُّ: («الدُّعاءُ» أي: دُعاءُ الحَقِّ «هو العِبادةُ» أي: عِبادةُ الخَلقِ... والأظهَرُ أنَّ الحَصرَ حَقيقيٌّ لا ادِّعائيٌّ؛ فإنَّ إظهارَ العَبدِ العَجزَ والاحتياجَ عن نَفسِه، والاعتِرافَ بأنَّ اللَّهَ قادِرٌ على إجابَتِه -سَواءٌ استَجابَ له، أو لم يَستَجِبْ- كَريمٌ غَنيٌّ لا بُخلَ له ولا احتياجَ له إلى شَيءٍ حتَّى يَدَّخِرَ لنَفسِه ويَمنَعَه عن عِبادِه: هو عَينُ العِبادةِ ومُخُّها، ومُخُّ الشَّيءِ خالِصُه وما يَقومُ به، والمَعنى: أنَّ العِبادةَ لا تَقومُ إلَّا بالدُّعاءِ، كَما أنَّ الإنسانَ لا يَقومُ إلَّا بالمُخِّ. وقال القاضي: أي: هو العِبادةُ الحَقيقيَّةُ التي تَستَأهِلُ أن تُسَمَّى عِبادةً؛ لدَلالتِه على الإقبالِ على اللهِ تعالى، والإعراضِ عَمَّن سِواه). ((الحرز الثمين)) (ص: 133، 134). وينظر: ((تحفة الأبرار)) للبيضاوي (2/ 9)، ((تحفة الذاكرين)) للشوكاني (ص: 33). ، ثُمَّ قَرَأ: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] )) [2081] أخرجه أبو داود (1479)، والترمذي (3247) واللفظ له، وابن ماجه (3828). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (890)، وابن الملقن في ((ما تمس إليه الحاجة)) (95)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3247)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1159). .
وقال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف: 55] .
قال ابنُ عَقيلٍ: (قد نَدَبَ اللَّهُ تعالى إلى الدُّعاءِ، وفي ذلك مَعانٍ:
أحَدُها: الوُجودُ؛ فإنَّ مَن ليسَ بمَوجودٍ لا يُدعى.
الثَّاني: الغِنى؛ فإنَّ الفقيرَ لا يُدعى.
الثَّالثُ: السَّمعُ؛ فإنَّ الأصَمَّ لا يُدعى.
الرَّابعُ: الكَرَمُ؛ فإنَّ البَخيلَ لا يُدعى.
الخامِسُ: الرَّحمةُ؛ فإنَّ القاسيَ لا يُدعى.
السَّادِسُ: القُدرةُ؛ فإنَّ العاجِزَ لا يُدعى) [2082] ((شرح الطحاوية)) لابن أبي العز (2/ 678). .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ اللَّهَ يَقولُ: أنا عِندَ ظَنِّ عَبدي بي، وأنا مَعَه إذا دَعاني)) [2083] أخرجه مسلم (2675). .
عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((قال اللهُ تَبارَكَ وتعالى: يا ابنَ آدَمَ، إنَّك ما دَعَوتَني ورَجَوتَني غَفرتُ لك على ما كان مِنك ولا أُبالي. يا ابنَ آدَمَ لو بَلغَت ذُنوبُك عَنانَ [2084] العَنانُ: السَّحابُ، واحِدتُه: عَنانةٌ، وقيل: هو ما عَنَّ لك منها، أي: ما اعتَرَض وظَهَر لك إذا رفَعتَ رأسَك. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (8/ 40)، ((الأذكار)) للنووي (ص: 404). السَّماءِ ثُمَّ استغفَرتَني غَفرتُ لك ولا أُبالي. يا ابنَ آدَمَ لو أتَيتَني بقُرابِ [2085] بقُرابِ الأرضِ: أي: بما يُقارِبُ ملْأَها. ((الغريبين)) للهروي (5/ 1519). الأرضِ خَطايا ثُمَّ لَقِيتَني لا تُشرِكُ بي شَيئًا لأتَيتُك بقُرابِها مَغفِرةً)) [2086] أخرجه الترمذي (3540) واللفظ له، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4305)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (2/231) صححه ابن القيم في ((أعلام الموقعين)) (1/204)، وابن الوزير في ((العواصم والقواصم)) (9/148)، وحسنه الألباني في ((صحيح الجامع)) (4338)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((رياض الصالحين)) (442)، وقال ابن رجب في ((جامع العلوم والحكم)) (2/400): إسناده لا بأس به .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يَنزِلُ رَبُّنا تَبارَكَ وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا، حينَ يَبقى ثُلُثُ اللَّيلِ الآخِرُ، فيَقولُ: مَن يَدعوني فأستَجيبَ له؟ ومَن يَسألُني فأُعطيَه؟ ومَن يَستَغفِرُني فأغفِرَ له)) [2087] أخرجه البخاري (1145)، ومسلم (758) واللفظ له .
وعن أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (إنَّ أبخَلَ النَّاسِ مَن بَخِل بالسَّلامِ، وأعجَزَ النَّاسِ مَن عَجَزَ عنِ الدُّعاءِ [2088] قال المُناويُّ: («أعجَز النَّاسِ» أي: مِن أضعَفِهم رَأيًا وأعماهم بَصيرةً «مَن عَجَزَ عنِ الدُّعاءِ» أي: الطَّلَبِ مِنَ اللهِ تعالى، لا سيَّما عِندَ الشَّدائِدِ؛ لتَركِه ما أمَرَه اللَّهُ به، وتَعَرُّضِه لغَضَبِه بإهمالِه ما لا مَشَقَّةَ عَليه فيه، وفيه قيل: لا تسألَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حاجةً وسَلِ الذي أبوابُه لا تُحجَبُ اللَّهُ يَغضَبُ إن تَرَكتَ سُؤالَه وبُنَيُّ آدَمَ حينَ يُسأَلُ يَغضَبُ وفيه رَدٌّ على مَن زَعَمَ أنَّ الأَولى عَدَمُ الدُّعاءِ). ((فيض القدير)) (1/ 556). [2089] أخرجه أبو يعلى بعد حديث (6649)، وابن حبان بعد حديث (4498)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8394). صَحَّحه ابنُ حَجَرٍ في ((فتح الباري)) (9/477)، وصَحَّحَ إسنادَه على شَرطِ مُسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (4498). .
والنُّصوصُ في فضائِلِ الدُّعاءِ كَثيرةٌ.
وللدُّعاءِ فوائِدُ عَظيمةٌ، وعَوائِدُ جَليلةٌ؛ مِنها:
1- أنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ يُثيبُ اللهُ سُبحانَه عليها، وإن لم تَقَعِ الإجابةُ، وهو يُعَدُّ مِن أجَلِّ أنواعِ العِبادةِ، فيُقصَدُ لذاتِه كَما يُقصَدُ لقَضاءِ الحاجةِ ولدَفعِ المَضَرَّةِ.
2- أنَّ الدُّعاءَ إشغالُ الهمَّةِ بذِكرِ الحَقِّ سُبحانَه وتعالى، وذلك يوجِبُ قيامَ الهَيبةِ للحَقِّ عَزَّ وجَلَّ في القُلوبِ، والزِّياداتِ في الطَّاعاتِ، والانقِطاعَ عنِ المَعاصي، ولُزومُ البابِ يَستَدعي الإذنَ في الدُّخولِ، ولهذا سَبَقَ المَثَلُ: مَن أدمَنَ قَرعَ البابِ وَلجَ [2090] ولجَ يَلِجُ وُلوجًا ولِجَةً، أي: دَخَل. ((الصحاح)) للجوهري (1/ 347). ، وكان يُقالُ: الإذنُ في الدُّعاءِ خَيرٌ مِنَ العَطاءِ.
3- فيه إظهارُ العُبوديَّةِ، والإقرارُ بالفقرِ والحاجةِ.
4- فيه تَحقيقُ التَّوحيدِ، والتَّبَرُّؤُ مِنَ الحَولِ والقوَّةِ، والاعتِرافُ بالرُّبوبيَّةِ والافتِقارُ إليه، كَما قيل: مَوقِفُ ذَليلٍ بَينَ يَدَي عَزيزٍ.
5- إذا دَعا العَبدُ رَبَّه بإعطاءِ المَطلوبِ ودَفعِ المَرهوبِ قد يَحصُلُ له مِنَ الإيمانِ باللهِ ومَحَبَّتِه ومَعرِفتِه وتَوحيدِه ورَجائِه وحَياةِ قَلبِه واستِنارَتِه بنورِ الإيمانِ ما قد يَكونُ أفضَلَ وأنفَعَ له مِن ذلك المَطلوبِ إن كان عَرَضًا مِنَ الدُّنيا [2091] كَمَن نَزَل به بَلاءٌ عَظيمٌ أو فاقةٌ شَديدةٌ أو خَوفٌ مُقلِقٌ، فجَعَل يَدعو اللَّهَ ويَتَضَرَّعُ إليه حتَّى فُتِح له مِن لذَّةِ مُناجاتِه ما كان أحَبَّ إليه مِن تلك الحاجةِ التي قَصَدَها أوَّلًا، ولكِنَّه لم يَكُنْ يَعرِفُ ذلك أوَّلًا حتَّى يَطلُبَه ويَشتاقَ إليه، كَما قال بَعضُ السَّلفِ: (يا ابنَ آدَمَ، لقد بورِكَ لك في حاجةٍ أكثَرتَ فيها قَرعَ بابِ سَيِّدِك)، وقال بَعضُهم: (إنَّه ليَكونُ لي إلى اللهِ حاجةٌ فأدعوه فيَفتَحُ لي مِن لذيذِ مَعرِفتِه وحَلاوةِ مُناجاتِه ما لا أُحِبُّ مَعَه أن يُعَجِّلَ قَضاءَ حاجَتي خَشيةَ أن تَنصَرِفَ نَفسي عن ذلك؛ لأنَّ النَّفسَ لا تُريدُ إلَّا حَظَّها، فإذا قُضيَ انصَرَفت)، وفي لفظٍ: (إنَّه ليَكونُ لي إلى اللهِ حاجةٌ فأدعوه فيَفتَحُ لي مِن بابِ مَعرِفتِه ما أحِبُّ مَعَه أن لا يُعَجِّلَ لي قَضاءَها؛ لئَلَّا يَنصَرِفَ قَلبي عنِ الدُّعاءِ). يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (1/ 28) و(10/ 333) و(22/ 385)، ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (1/ 35)، ((طريق الهجرتين)) لابن القيم (ص: 60). ، وأمَّا إذا طَلَبَ مِنه أن يُعينَه على ذِكرِه وشُكرِه وحُسنِ عِبادَتِه، وما يَتبَعُ ذلك فهنا المَطلوبُ قد يَكونُ أنفَعَ مِنَ الطَّلَبِ، وهو الدُّعاءُ، والمَطلوبُ الذِّكرُ والشُّكرُ وقيامُ العِبادةِ على أحسَنِ الوُجوهِ وغَيرُ ذلك.
6- مُلازَمةُ الدُّعاءِ دافِعةٌ الشَّقاءَ، كَما قال إبراهيمُ عليه السَّلامُ: وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا [مريم: 48] ، وقال زكريَّا عليه السَّلامُ: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4] .
7- الدُّعاءُ مِن أنفَعِ الأدويةِ، وهو عَدوُّ البَلاءِ، يَدفعُه، ويُعالجُه، ويَمنَعُ نُزولَه، ويَرفعُه، أو يُخَفِّفُه إذا نَزَل، وهو سِلاحُ المُؤمِنِ.
8- إلقاءُ الهَمِّ على الرَّبِّ لحُسنِ الظَّنِّ بالقُربِ.
9- سُرعةُ الفرَجِ وتَفريجُ الكُرَبِ.
10- سِلاحٌ يُتَّقى به العَدوُّ وسوءُ القَضاءِ.
11- يَجلبُ المَصالِحَ ويَدفعُ المَفاسِدَ.
12- يَشغَلُ العَبدَ بذَنبِه وعَيبِه عن عَيبِ غَيرِه.
13- يَدعو المُسلمَ إلى التَّعَرُّفِ على الآدابِ الشَّرعيَّةِ.
14- مُداومةُ الشُّعورِ بالضَّعفِ والحاجةِ، فلا يَزالُ يَدعو حتَّى يَنالَ حاجَتَه.
15- يَشعُرُ المُسلِمُ بأنَّه في مَعيَّةِ الحَقِّ دَومًا [2092] يُنظر: ((الدعاء المأثور)) للطرطوشي (ص: 74)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 596)، ((الداء والدواء)) لابن القيم (ص: 10)، ((الأزهية في أحكام الأدعية)) للرزكشي (ص: 38-42)، ((نضرة النعيم)) لعدد من المختصين (5/ 1944). .
واللهُ سُبحانَه يُحِبُّ أن يُسأَلَ ويُرغَبَ إليه في الحَوائِجِ، ويُلَحَّ في سُؤالِه ودُعائِه، ويَغضَبُ على مَن لا يَسألُه، ويَستَدعي مِن عِبادِه سُؤالَه، وهو قادِرٌ على إعطاءِ خَلقِه كُلِّهم سُؤلَهم مِن غَيرِ أن يَنقُصَ مِن مُلكِه شَيءٌ [2093] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) لابن رجب (1/ 481). ، بَيْدَ أنَّ الدُّعاءَ عِبادةٌ، ولَه شُروطٌ يَجِبُ تَوفُّرُها وآدابٌ يَنبَغي التَّأدُّبُ بها؛ ليَكونَ الدُّعاءُ حَقيقًا بالإجابةِ.
وفيما يَلي نَذكُرُ أهمَّ آدابِ الدعاءِ:

انظر أيضا: