موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: تَعجيلُ ما يُقدَّم للضيف وتَقريبُه وعَرْضُه


ينبغي للمُضيفِ أن يُعَجِّلَ ما يُقدَّم للضيف وأنْ يُحضِرَه إلى مكانِه ويُقَرِّبَه إليه بنَفسِه، ويعرضَ عليه الأكلَ [517] قال الخَطَّابيُّ: (لم يَزَلْ قِرى الضَّيفِ وحُسنُ القيامِ عليه مِن شيَمِ الكِرامِ وعاداتِ الصَّالحينَ، ومَنعُ القِرى مَذمومٌ على الألسُنِ وصاحِبُه مَلومٌ). ((معالم السنن)) (4/ 238). .
الدليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
1- قال تعالى: وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] .
أي: فما تَأخَّرَ إبراهيمُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ عنِ المَجيءِ مِن بَيتِه بعِجلٍ مَشويٍّ لضُيوفِه [518] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدرر السنية (10/ 236). .
قال القُشَيريُّ: (لمَّا تَوهَّمَهم أضيافًا قامَ بحَقِّ الضِّيافةِ، فقدَّم خَيرَ ما عِندَه ما شَكَرَه الحَقُّ عليه؛ حَيثُ قال في مَوضِعٍ آخَرَ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات: 26].
والمَحَبَّةُ توجِبُ استِكثارَ القَليلِ مِنَ الحَبيبِ، واستِقلالَ ما مِنك للحَبيبِ.
وفي هذا إشارةٌ إلى أنَّه إذا نَزَل الضَّيفُ فالواجِبُ المُبادَرةُ إلى تَقديمِ السُّفرةِ مِمَّا حَضَرَ في الوقتِ) [519] ((لطائف الإشارات)) (2/ 146). وقال ابنُ العَرَبيِّ: (مُبادَرةُ إبراهيمَ بالنُّزُلِ حينَ ظَنَّ أنَّهم أضيافٌ مَشكورةٌ مِنَ اللهِ مَتلوَّةٌ مِن كَلامِه في الثَّناءِ بها عليه، تَبَيَّنَ ذلك في إنزالِه فيه حينَ قال في مَوضِعٍ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ، وفي آخَرَ: فَجَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ أي: مَشويٍّ، ووصَفَه بالطَّيِّبَينِ: طِيبِ السِّمَنِ، وطِيبِ العَمَلِ بالإشواءِ، وهو أطيَبُ للمُحاوَلةِ في تَناوُلِه. والسُّنَّةُ إذا قُدِّمَ للضَّيفِ الطَّعامُ: أن يُبادِرَ المُقدَّمُ إليه بالأكلِ مِنه؛ فإنَّ كَرامةَ صاحِبِ المَنزِلِ المُبادَرةُ بالقَبولِ، فلمَّا قَبَضَ المَلائِكةُ أيديَهم نَكِرَهم إبراهيمُ؛ لأنَّهم خَرَجوا عنِ العادةِ، وخالفوا السُّنَّةَ، وخاف أن يَكونَ وراءَهم مَكروهٌ يَقصِدونَه). ((أحكام القرآن)) (3/ 22). ويُنظر: ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 151). .
قال القُرطُبيُّ: (في هذه الآيةِ مِن أدَبِ الضَّيفِ أن يُعَجِّلَ قِراه، فيُقدِّمَ المَوجودَ المُيَسَّرَ في الحالِ، ثُمَّ يُتبِعَه بغَيرِه إن كان له جِدَةٌ [520] الجِدَةُ والوُجدُ في المالِ: السَّعةُ والمَقدِرةُ، ورجُلٌ واجِدٌ، أي: غَنيٌّ. يُنظر: ((الغريبين في القرآن والحديث)) للهروي (6/ 1972). ، ولا يَتَكَلَّفَ ما يَضُرُّ به) [521] ((الجامع لأحكام القرآن)) (9/ 64). .
2- قال تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ [الذاريات: 24 - 28].
قال ابنُ القَيِّمِ: (... وقَولُه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ مُتَضَمِّنٌ وُجوهًا مِنَ المَدحِ وآدابِ الضِّيافةِ وإكرامِ الضَّيفِ؛ مِنها قَولُه: فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ والرَّوغانُ: الذَّهابُ بسُرعةٍ واختِفاءٍ، وهو يَتَضَمَّنُ المُبادَرةَ إلى إكرامِ الضَّيفِ، والاختِفاءُ يَتَضَمَّنُ تَركَ تَخجيلِه، وألَّا يُعرَّضَ للحَياءِ، وهذا بخِلافِ مَن يَتَثاقَلُ ويتبارَدُ على ضَيفِه، ثُمَّ يَبرُزُ بمَرأًى منه ويَحُلُّ صُرَّةَ النَّفَقةِ ويَزِنُ ما يَأخُذُ، ويَتَناوَلُ الإناءَ بمَرأًى مِنه، ونَحوَ ذلك مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَخجيلَ الضَّيفِ وحَياءَه. فلَفظةُ (راغَ) تَنفي هَذَينِ الأمرَينِ.
وفي قَولِه تعالى: إِلَى أَهْلِهِ مَدحٌ آخَرُ لِما فيه مِنَ الإشعارِ أنَّ كَرامةَ الضَّيفِ مُعَدَّةٌ حاصِلةٌ عِندَ أهلِه، وأنَّه لا يَحتاجُ أن يَستَقرِضَ مِن جيرانِه، ولا يَذهَبَ إلى غَيرِ أهلِه؛ إذ قِرى الضَّيفِ حاصِلٌ عِندَهم.
وقَولُه: فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ يَتَضَمَّنُ ثَلاثةَ أنواعٍ مِنَ المَدحِ:
أحَدُها: خِدمةُ ضَيفِه بنَفسِه؛ فإنَّه لم يُرسِلْ به، وإنَّما جاءَ به بنَفسِه.
الثَّاني: أنَّه جاءَهم بحَيَوانٍ تامٍّ لم يَأتِهم ببَعضِه؛ ليَتَخَيَّروا مِن أطيَبِ لحمِه ما شاؤوا.
الثَّالثُ: أنَّه سَمينٌ ليسَ بمَهزولٍ، وهذا مِن نَفائِسِ الأموالِ -وَلَدُ البَقَرِ السَّمينِ-؛ فإنَّهم يُعجَبونَ به، فمِن كَرَمِه هانَ عليه ذَبحُه وإحضارُه.
وقَولُه: إِلَيْهِمْ مُتَضَمِّنٌ لمَدحٍ وأدَبٍ آخَرَ، وهو إحضارُ الطَّعامِ إلى بَينِ يَدَيِ الضَّيفِ، بخِلافِ مَن يُهَيِّئُ الطَّعامَ في مَوضِعٍ ثُمَّ يُقيمُ ضَيفَه فيُورِدُه عليه.
وقَولُه: أَلَا تَأْكُلُونَ فيه مَدحٌ وأدَبٌ آخَرُ؛ فإنَّه عَرَضَ عليهمُ الأكلَ بقَولِه: أَلَا تَأْكُلُونَ وهذه صيغةُ عَرضٍ مُؤذِنةٌ بالتَّلطُّفِ بخِلافِ مَن يَقولُ: ضَعوا أيديَكُم في الطَّعامِ، كُلوا، تَقَدَّموا، ونَحوَ هذا) [522] ((زاد المهاجر إلى ربه)) (ص: 66-68). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن لَقيطِ بنِ صَبِرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((كُنتُ وافِدَ بَني المنتَفِقِ -أو في وَفدِ بَني المنتَفِقِ- إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فلمَّا قدِمْنا على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلم نُصادِفْه في مَنزِلِه، وصادَفْنا عائِشةَ أُمَّ المُؤمِنينَ، قال: فأمَرَت لنا بخَزيرةٍ [523] قال ابنُ السِّكِّيتِ: (الخَزيرةُ: أن يُؤخَذَ اللَّحمُ الغَثُّ فيُقطَّعَ صِغارًا، ثُمَّ يُطبَخَ بالماءِ والمِلحِ. فإذا أُميتَ طَبخًا ذُرَّ عَليه الدَّقيقُ فعُصِدَ به، ثُمَّ أُدِمَ بأيِّ إدامٍ شاؤوا. ولا تَكونُ الخَزيرةُ إلَّا وفيها لحمٌ). ((الألفاظ)) (ص: 474). وقال الخَطابيُّ: (الخَزيرةُ مِنَ الأطعِمةِ: ما اتُّخِذَ بدَقيقٍ ولحمٍ، والخَزيرةُ: حَساءٌ مِن دَقيقٍ ودَسمٍ). ((معالم السنن)) (1/ 53). فصُنِعَت لنا، قال: وأُتينا بقِناعٍ [524] قال الخَطابيُّ: (القِناعُ: الطَّبَقُ، وسُمِّي قِناعًا لأنَّ أطرافَه أقنِعَت إلى داخِلٍ، أي: عُطِفَت). ((معالم السنن)) (1/ 53). -والقِناعُ: الطَّبَقُ فيه تَمرٌ- ثُمَّ جاءَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: هَل أصَبتُم شَيئًا؟ -أو أُمِرَ لكُم بشَيءٍ؟- قال: قُلنا: نَعَم يا رَسولَ اللهِ، قال: فبَينا نحن مَعَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جُلوسٌ، إذ دَفعَ الرَّاعي غَنَمَه إلى المُراحِ [525] المُراحُ -بضَمِّ الميمِ-: الموضِعُ الذي تروحُ إليه الماشيةُ، أي: تأوي إليه ليلًا، وأمَّا بالفَتحِ فهو الموضِعُ الذي يروحُ إليه القومُ، أو يروحون منه. يُنظر: ((شرح أبي داود)) للعيني (1/ 334). ، ومَعَه سَخلةٌ [526] قال الخَليلُ: (السَّخلُ: وُلدَ الشَّاةِ، ذِكرًا كان أو أُنثى، والسَّخلةُ: الواحِدةُ، والجَميعُ: السَّخلُ والسِّخالُ). ((العَين)) (4/ 197). تَيعَرُ [527] تَيعَرُ: مِنَ اليُعارِ، وهو صَوتُ الشَّاةِ. ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 53). ، فقال: ما ولَّدتَ يا فُلانُ؟ قال: بَهمةً [528] البَهمةُ: وُلدَ الشَّاةِ أوَّلَ ما يولَدُ، يُقالُ للذَّكَرِ والأُنثى: بَهمةٌ. ((معالم السنن)) للخطابي (1/ 54). ، قال: فاذبَحْ لنا مَكانَها شاةً، ثُمَّ قال: لا تَحسِبَنَّ -ولم يَقُلْ: لا تَحسَبنَّ- أنَّا مِن أجلِك ذَبَحناها، لنا غَنَمٌ مِائةٌ لا نُريدُ أن تَزيدَ، فإذا وَلَّدَ الرَّاعي بَهمةً ذَبحْنا مَكانَها شاةً)) [529] أخرجه أبو داود (142) واللَّفظُ له، وابن حبان (1054)، والحاكم (7290). صَحَّحه ابنُ حبانَ، وابنُ دقيقِ العيدِ في ((الاقتراح)) (125)، والألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (142)، والوادعيُّ في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1096)، وشعيب الأرناؤوط في تَخريجِ ((سنن أبي داود)) (142). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((خَرَجَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذاتَ يَومٍ أو لَيلةٍ، فإذا هو بأبي بَكرٍ وعُمرَ، فقال: ما أخرَجَكما من بُيوتِكما هذه السَّاعةَ؟ قالا: الجوعُ، يا رَسولَ الله! قال: وأنا، والذي نَفسي بيدِه لأخرَجَني الذي أخرَجَكما! قُوموا، فقاموا مَعَه، فأتى رَجُلًا من الأنصارِ، فإذا هو ليس في بَيتِه، فلَمَّا رَأتْه المَرأةُ قالت: مَرحَبًا وأهلًا! فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أينَ فُلانٌ؟ قالت: ذَهَبَ يَستَعذِبُ لَنا من الماءِ، إذ جاءَ الأنصاريُّ فنَظَرَ إلى رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصاحِبَيه، ثُمَّ قال: الحَمدُ للهِ، ما أحَدٌ اليَومَ أكرَمَ أضيافًا مِنِّي! قال: فانطَلَقَ فجاءَهم بعِذقٍ فيه بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا من هذه، وأخذَ المُديةَ [530] المُدْيةُ: السِّكينُ. يُنظر: ((العين)) للخليل (5/ 313). ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إيَّاكَ والحَلُوبَ، فذَبَحَ لهم، فأكَلوا من الشَّاةِ، ومن ذلك العِذْقِ، وشَرِبوا، فلَمَّا أنْ شَبِعوا ورَوُوا، قال رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَكرٍ وعُمرَ: والذي نَفسي بيدِه، لتُسألُنَّ عن هذا النَّعيمِ يَومَ القيامةِ، أخرَجَكم من بُيوتِكمِ الجوعُ، ثُمَّ لَم تَرجِعوا حَتَّى أصابَكم هذا النَّعيمُ)) [531] أخرجه مسلم (2038). .
وفي رِواية: ((خَرَجَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في ساعةٍ لا يَخرُجُ فيها ولا يَلقاه فيها أحَدٌ، فأتاه أبو بَكرٍ، فقال: ما جاءَ بك يا أبا بَكرٍ؟ فقال: خَرَجتُ ألقى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنظُرُ في وَجهِه والتَّسليمَ عليه، فلم يَلبَثْ أن جاءَ عُمَرُ، فقال: ما جاءَ بك يا عُمَرُ؟ قال: الجوعُ يا رَسولَ اللهِ! قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وأنا قَد وجَدتُ بَعضَ ذلك، فانطَلقوا إلى مَنزِلِ أبي الهَيثَمِ بنِ التَّيِّهانِ الأنصاريِّ، وكان رَجُلًا كثيرَ النَّخلِ والشَّاءِ، ولم يَكُنْ له خَدَمٌ، فلم يَجِدوه، فقالوا لامرَأتِه: أينَ صاحِبُكِ؟ فقالت: انطَلقَ يَستَعذِبُ لنا الماءَ [532] أي: يستسقي لنا ماءً عَذبًا من بئرٍ ثمَّ يأتينا به. يُنظر: ((أشرف الوسائل إلى فهم الشمائل)) (ص: 547). ، فلم يَلبَثوا أن جاءَ أبو الهيثَمِ بقِربةٍ يَزعَبُها [533] أي: يَتَدافعُ بها ويَحمِلُها لثِقلِها. وقيل: زَعَبَ بحَملِه: إذا استَقامَ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 482)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 302). ، فوضَعَها ثُمَّ جاءَ يَلتَزِمُ [534] أي: يعانِقُ. يُنظر: ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 547)، ((جمع الوسائل)) للقاري (2/ 191). النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ويُفَدِّيه بأبيه وأمِّه [535] أي: يقولُ: فِداك أبي وأمي. يُنظر: ((أشرف الوسائل)) للهيتمي (ص: 547)، ((جمع الوسائل)) للقاري (2/ 191). ، ثُمَّ انطَلقَ بهم إلى حَديقَتِه فبَسَط لهم بساطًا، ثُمَّ انطَلقَ إلى نَخلةٍ فجاءَ بقِنوٍ [536] القِنوُ: العِثكالُ بما عليه مِنَ الثَّمَرِ، والعِثْكالُ: العِذقُ مِن أعذاقِ النَّخلِ الذي يَكونُ فيه الرُّطبُ، وكُلُّ غُصنٍ مِن أغصانِه شِمراخٌ. يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (1/ 482)، ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/ 500) و(3/ 183). فوضَعَه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلا تَنَقَّيتَ لنا مِن رُطَبِه؟ فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أرَدتُ أن تَختاروا، أو قال: تَخيَّروا مِن رُطَبِه وبُسرِه، فأكَلوا وشَرِبوا مِن ذلك الماءِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هذا والذي نَفسي بيَدِه مِنَ النَّعيمِ الذي تُسألونَ عنه يَومَ القيامةِ: ظِلٌّ بارِدٌ، ورُطَبٌ طيِّبٌ، وماءٌ بارِدٌ! فانطَلقَ أبو الهيثَمِ ليَصنَعَ لهم طَعامًا، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا تَذبَحنَّ ذاتَ دَرٍّ، قال: فذَبَحَ لهم عَناقًا أو جَدْيًا فأتاهم بها فأكلوا...)) الحَديثَ [537] أخرجه الترمذي (2369) واللفظ له، والطبراني (19/256) (570)، والحاكم (7374). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2369)، وقال التِّرمِذيُّ: حَسَنٌ صَحيحٌ غَريبٌ، وصحَّح إسنادَه الحاكم وقال: على شرط الشيخين، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (36/477). وأصله في صحيح مسلم (2038). .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه استِحبابُ مُبادَرةِ الضَّيفِ بما حَضَرَ، وإن كان الضَّيفُ كَريمَ القدرِ؛ ألا تَرى إلى الأنصاريِّ كَيف بادَرَ بعِذقٍ كان عِندَه مُتَقادِمِ العَهدِ، حتَّى اجتَمَعَ فيه الرُّطَبُ والتَّمرُ والبُسرُ، وضَيفُه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والصِّدِّيقُ والفاروقُ رَضِيَ اللهُ عنهما؟!
وفيه أيضًا جَوازُ أن يُمنَعَ صاحِبُ المَنزِلِ مِن ذَبحِ حَلوبِه -وهيَ ذاتُ الدَّرِّ واللَّبَنِ- إذا كانتِ الضَّرورةُ يَسُدُّها لبَنُها فحَسبُ؛ لقَولِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إيَّاكَ والحَلوبَ») [538] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (8/ 125). .
3- وعن أبي هريرة رضي الله عنه في حديثٍ طويلٍ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: ((يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أنا وأنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعَدْتُ فشَرِبتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثَك بالحقِّ ما أجِدُ له مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ)) [539] أخرجه البخاري (6452). .
قال ابن القيم: (ورُبَّما كان يُكَرِّرُ على أضيافِه عَرضَ الأكلِ عليهم مِرارًا، كما يَفعَلُه أهلُ الكَرَمِ، كَما في حَديثِ أبي هرَيرةَ عِندَ البخاريِّ في قِصَّةِ شُربِ اللَّبَنِ، وقَولِه له مِرارًا: اشرَبْ، فما زال يَقولُ: اشرَبْ، حتَّى قال: والذي بَعَثَك بالحَقِّ لا أجِدُ له مَسلَكًا) [540] ((زاد العباد)) (2/368).
فوائِدُ ومَسائِلُ:
آدابُ إحضارِ الطَّعامِ
 (أمَّا إحضارُ الطَّعامِ فله خَمسةُ آدابٍ:
الأوَّلُ: تَعجيلُه، فذلك مِن إكرامِ الضَّيفِ.
الثاني: تَقديمُ الفاكِهةِ أوَّلًا قَبلَ غَيرِها، وذلك أصلَحُ في بابِ الطِّبِّ، وقد قال اللهُ تعالى: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ [الواقعة: 20-21] ، ثُمَّ أفضَلُ ما يُقدَّمُ بَعدَ الفاكِهةِ اللَّحمُ، خُصوصًا المَشويُّ، ثُمَّ أفضَلُ الطَّعامِ بَعدَ اللَّحمِ الثَّريدُ، ثُمَّ الحَلوى، وتَتِمُّ هذه الطَّيِّباتُ بشُربِ الماءِ البارِدِ.
الثَّالثُ: أن يُقدِّمَ جَميعَ الألوانِ الحاضِرةِ.
الرَّابعُ: أن لا يُبادِرَ رَفعَها، بَل يُمكِّنُهم مِنَ الاستيفاءِ حتَّى يَرفَعوا أيديَهم.
الخامِسُ: أن يُقَدِّمَ مِنَ الطَّعامِ قَدرَ الكِفايةِ؛ فإنَّ التَّقليلَ مِنَ الكِفايةِ نَقصٌ في المُروءةِ.
وينبغي أن يَعزِلَ لأهلِ البَيتِ نَصيبَهم قَبلَ تَقديمِ الطَّعامِ) [541] ((مختصر منهاج القاصدين)) لأبي العباس بن قدامة (ص: 74) بتصرف. .
(ومَن أدَبِ الطَّعامِ أنَّ لصاحِبِ الضَّيفِ أن يَنظُرَ في ضَيفِه هَل يَأكُلُ أم لا؟ وذلك يَنبَغي أن يَكونَ بتَلفُّتٍ ومُسارَقةٍ لا بتَحديدِ النَّظَرِ.
رُوِيَ أنَّ أعرابيًّا أكَل مَعَ سُليمانَ بنِ عبدِ المَلِكِ، فرَأى سُليمانُ في لُقمةِ الأعرابيِّ شَعرةً، فقال له: أزِلِ الشَّعرةَ عن لُقمتِك، فقال له: أتنظُرُ إليَّ نَظَر مَن يَرى الشَّعرةَ في لُقمتي؟! واللهِ لا أكَلتُ مَعَك!
وقد ذُكِرَ أنَّ هذه الحِكايةَ إنَّما كانت مَعَ هِشامِ بنِ عبدِ المَلِكِ لا مَعَ سُليمانَ، وأنَّ الأعرابيَّ خَرَجَ مِن عِندِه وهو يَقولُ:
وللمَوتُ خَيرٌ مِن زيارةِ باخِلٍ... يُلاحِظُ أطرافَ الأكيلِ على عَمدِ) [542] ((الجامع لأحكام القرآن)) (9/ 64-66). .
قصةٌ ومَثَلٌ
عنِ الزُّهريِّ: أنَّ بَريدًا مِن بَعضِ المُلوكِ جاءَه يَسألُ عن رَجُلٍ مَعَه ما مَعَ المَرأةِ والرَّجُلِ، كَيف يُورَّثُ؟ قال: مِن حَيثُ يَخرُجُ الماءُ الدَّافِقُ، فقال في ذلك قائِلُهم:
ومُهِمَّةٍ أعيا القُضاةَ عُياؤُها
تَذرُ الفقيهَ يَشُكُّ شَكَّ الجاهِلِ
عَجَّلتَ قَبلَ حَنيذِها بشِوائِها
وقَطَعتَ مَحرِدَها بحُكمٍ فاصِلِ
قال الخَطَّابيُّ: (الحَنيذُ: ما يُشوى مِنَ اللَّحمِ على الحِجارةِ المُحماةِ، ومِنه قَولُ اللهِ: جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ [هود: 69] .
وقَولُه: "قَطَعَت مَحرِدَها": أيِ: اقتَطَعتَ مِن سَنامِها، والحِرْدُ: القِطعةُ مِنَ السَّنامِ، يُقالُ: حَرَدتُ منه حَردًا: أي قَطَعتُ.
وهذا مَثَلٌ، يُريدُ أنَّه لمَ يَعيَ بالجَوابِ عن هذه المُعضِلةِ، ولم يَستَأنِ بالقَولِ فيها، وشَبَّهَه برَجُلٍ نَزَل به ضَيفٌ فنَحَرَ له جَزورًا، وعَجَّل قِراه بما افتَلذَ له مِن كَبدِها واقتَطَعَ مِن سَنامِها، ولم يَحبِسْه على الحَنيذِ والقَديدِ والشِّواءِ، وهذا هو المَحمودُ عِندَهم في تَعجيلِ القِرى، والمَحمودُ عليه أهلُه، فإذا لم يَفعَلْ ذلك وأخَّرَ قِراه قيل: فُلانٌ عاتِمُ القِرى، يَذُمُّونَه عليه) [543] يُنظر: ((غريب الحديث)) للخطابي (3/ 150). .
خِدمةُ الضَّيفِ
عن عليِّ بنِ الحُسَينِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: (تَمامُ المُروءةِ خِدمةُ الرَّجُلِ ضَيفَه [544] قال المقنَّعُ الكِنديُّ: وإنِّي لَعَبدُ الضَّيفِ ما دامَ نازِلًا وما شِيمةٌ لي غَيرُها تُشبِهُ العَبدَا يُنظر: ((الأمالي)) لأبي علي القالي (1/ 281). كَما خَدَمَهم أبونا إبراهيمُ بنَفسِه وأهلِه، أما تَسمَعُ قَولَه: وَامْرَأَتُه قَائِمَةٌ [545] قال الماوَرديُّ: (في قيامِها ثَلاثةُ أقاويلَ؛ أحَدُها: أنَّها كانت قائِمةً مِن وراءِ السِّترِ تَسمَعُ كَلامَهم، قاله وهبٌ. الثَّاني: أنَّها كانت قائِمةً تَخدُمُهم، قاله مُجاهِدٌ. الثَّالثُ: أنَّها كانت قائِمةً تُصَلِّي، قاله مُحَمَّدُ بنُ إسحاقَ). ((النكت والعيون)) (2/ 484). [هود: 71] ) [546] ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 227). .
وعن سَهلِ بنِ سَعدٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((دَعا أبو أسَيدٍ السَّاعِديُّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عُرسِه، فكانتِ امرَأتُه يَومئِذٍ خادِمَهم وهيَ العَروسُ)) [547] أخرجه البخاري (5183)، ومسلم (2006) واللَّفظُ له. .
كونُ ما يُقدَّمُ إلى الأضيافِ فاضِلًا عن حاجتِهم
عن عَبدِ العَزيزِ بنِ صُهَيبٍ، قال: سَمِعتُ أنَسَ بنَ مالكٍ يَقولُ: ((ما أولمَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على امرَأةٍ مِن نِسائِه أكثَرَ -أو أفضَلَ- مِمَّا أولمَ على زَينَبَ، فقال ثابتٌ البُنانيُّ: بما أولمَ؟ قال: أطعَمَهم خُبزًا ولحمًا حتَّى تَرَكوه)) [548] أخرجه البخاري (4793) مُطوَّلًا بنحوه، ومسلم (1428) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ هُبَيرةَ: (فيه أنَّه يُستَحَبُّ لمَن أضاف ضَيفًا أن يَكونَ ما يُقدِّمُه إليهم فاضِلًا عن حاجاتِهم إذا أمكَنَه ذلك؛ لقَولِ أنَسٍ: «أطعَمَهم خُبزًا ولحمًا حتَّى تَرَكوه».
كما أنَّه يُستَحبُّ للمُسلمِ أن لا يَحقِرَ شَيئًا يُقدِّمُه إلى أخيه إذا كان مُنتَهى وُسعِه في وقتِه ذلك ولو تَمرةً) [549] ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) (5/ 25). .
عدمُ انتظارِ الأضيافِ غيرَهم إذا حضَر الطَّعامُ
قال الأبشيهيُّ: (على المُضيفِ إذا قدَّمَ الطَّعامَ إلى أضيافِه ألَّا ينتَظِرَ مَن يَحضُرُ مِن عَشيرَتِه، فقد قيل: ثَلاثةٌ تُضني: سِراجٌ لا يُضيءُ، ورَسولٌ بَطيءٌ، ومائِدةٌ يُنتَظَرُ لها مَن يَجيءُ) [550] ((المستطرف)) (ص: 193). ويُنظر: ((البصائر والذخائر)) لأبي حيان التوحيدي (3/ 57)، ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 233). .

انظر أيضا: