موسوعة الآداب الشرعية

ثانيًا: توقيرُهما وإجلالُهما


مِنَ الأدَبِ مَعَ الوالدَينِ: توقيرُهما وإجلالُهما.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكِتابِ:
1-قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء: 23] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (يَقولُ تعالى آمِرًا بعِبادَتِه وحدَه لا شَريكَ له؛ فإنَّ القَضاءَ هاهنا بمَعنى الأمرِ.
قال مُجاهِدٌ: وَقَضَى يَعني: وصَّى... ولهذا قَرَنَ بعِبادَتِه برَّ الوالدَينِ، فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: وأمَر بالوالدَينِ إحسانًا، كَما قال في الآيةِ الأُخرى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان: 14] .
وقَولُه: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ أي: لا تُسمِعْهما قَولًا سَيِّئًا، حتَّى ولا التَّأفيفَ الذي هو أدنى مَراتِبِ القَولِ السَّيِّئِ وَلَا تَنْهَرْهُمْا أي: ولا يَصدُرْ مِنك إليهما فِعلٌ قَبيحٌ، كَما قال عَطاءُ بنُ أبي رَباحٍ في قَولِه: وَلَا تَنْهَرْهُمَا أي: لا تَنفُضْ يَدَك على والِدَيك.
ولمَّا نَهاه عنِ القَولِ القَبيحِ والفِعلِ القَبيحِ، أمَره بالقَولِ الحَسَنِ والفِعلِ الحَسَنِ، فقال: وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا أي: ليِّنًا طَيِّبًا حَسَنًا، بتَأدُّبٍ وتَوقيرٍ وتَعظيمٍ) [1078] ((تفسير القرآن العظيم)) (5/ 64). .
وقال الغزاليُّ: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا [الإسراء: 23] الآية سيقَت لقَصدٍ مَعلومٍ، وهو: الحَثُّ على تَوقيرِ الوالدَينِ وإعظامِهما واحتِرامِهما، والبرِّ والإحسانِ إليهما. والتَّأفيفُ إيذاءٌ، والإيذاءُ يُناقِضُ الإعظامَ الواجِبَ) [1079] ((شفاء الغليل)) (ص: 52، 53). .
2-قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14-15] .
قيل في قَولِه تعالى: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] : شُكرُ الحَقِّ بالتَّعظيمِ والتَّكبيرِ، وشُكرُ الوالدَينِ بالإشفاقِ والتَّوقيرِ [1080] يُنظر: ((لطائف الإشارات)) للقشيري (3/ 131)، ((روح البيان)) لإسماعيل حقي (7/ 78)، ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/ 369). .
وقَوله تعالى: وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان: 15] (أي: صِحابًا مَعروفًا يَرتَضيه الشَّرعُ ويَقتَضيه الكَرَمُ، وهو الخُلُقُ الجَميلُ، بحِلمٍ واحتِفالٍ، وبرٍّ وصِلةٍ) [1081] ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/ 369). .
3-قال تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الأنعام: 151] .
قال القُشَيريُّ: (هذه أشياءُ عَشَرةٌ تَضَمَّنَتها هذه الآيةُ؛ أوَّلُها: الشِّركُ؛ فإنَّه رَأسُ المُحَرَّماتِ، والذي لا يُقبَلُ مَعَه شيءٌ مِنَ الطَّاعاتِ...
والثَّاني مِن هذه الخِصالِ: تَركُ العُقوقِ، وتَوقيرُ الوالدَينِ بحِفظِ ما يَجِبُ مِن أكيداتِ الحُقوقِ...) [1082] ((لطائف الإشارات)) (1/ 511). .
4- قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36] .
قال ابنُ عَطيَّةَ: (إِحْسَانًا نُصِبَ على المَصدَرِ، والعامِلُ فِعلٌ مُضمَرٌ تَقديرُه: وأحسِنوا بالوالدَينِ إحسانًا... والقيامُ بحُقوقِ الوالدَينِ اللَّازِمةِ لهما مِنَ التَّوقيرِ والصَّونِ والإنفاقِ إذا احتاجا واجِبٌ، وسائِرُ ذلك مِن وُجوهِ البرِّ والإلطافِ وحُسنِ القَولِ والتَّصَنُّعِ لهما مَندوبٌ إليه مُؤَكَّدٌ فيه، وهو البِرُّ الذي تُفضَّلُ فيه الأُمُّ على الأبِ) [1083] ((المحرر الوجيز)) (2/ 49، 50). وقال ابنُ عاشورٍ: (قَولُه: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا اهتِمامٌ بشَأنِ الوالدَينِ؛ إذ جَعَل الأمرَ بالإحسانِ إليهما عَقِبَ الأمرِ بالعِبادةِ، كقَولِه: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14] ، وقَولِه: يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان: 13، 14]؛ ولذا قدَّمَ مَعمولَ (إحسانًا) عليه تَقديمًا للاهتِمامِ؛ إذ لا مَعنى للحَصرِ هنا؛ لأنَّ الإحسانَ مَكتوبٌ على كُلِّ شَيءٍ، ووقَعَ المَصدَرُ مَوقِعَ الفِعلِ. وإنَّما عُدِّيَ الإحسانُ بالباءِ لتَضمينِه مَعنى البرِّ، وشاعَت تَعديَتُه بالباءِ في القُرآنِ في مِثلِ هذا. وعِندي أنَّ الإحسانَ إنَّما يُعَدَّى بالباءِ إذا أُريدَ به الإحسانَ المُتَعَلِّقَ بمُعامَلةِ الذَّاتِ وتَوقيرِها وإكرامِها، وهو مَعنى البرِّ؛ ولذلك جاءَ: وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ [يوسف: 100]، وإذا أُريدَ به إيصالُ النَّفعِ الماليِّ عُدِّيَ بإلى، تَقولُ: أحسَنَ إلى فُلانٍ: إذا وصَله بمالٍ ونَحوِه). ((التحرير والتنوير)) (5/ 49). .

انظر أيضا: