موسوعة الآداب الشرعية

تمهيدٌ في تَسْخيرِ الأنعامِ لما فيه منفعةُ الإنسانِ


امتَنَّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ على عِبادِه بأن يَسَّرَ له ما فيه راحَتُهم، ورَفَع العناءَ والمَشَقَّةَ عنهم، ومِن ذلك خَلقُ الأنعامِ وتَسخيرُها لهم ليَركَبوها وتَحمِلَ أثقالَهم، وكَذا سَخَّرَ لهمُ السُّفُنَ وغَيرَها مِن وسائِلِ المواصَلاتِ المُختَلفةِ على مَرِّ العُصورِ مِمَّا ألهَمَ اللهُ النَّاسَ اختِراعَه، (وإلهامُ اللهِ النَّاسَ لاختِراعِها هو مُلحَقٌ بخَلقِ اللهِ، فاللَّهُ هو الذي ألهَمَ المُختَرِعينَ مِنَ البَشَرِ بما فطَرَهم عليه مِنَ الذَّكاءِ والعِلمِ، وبما تَدَرَّجوا في سُلَّمِ الحَضارةِ واقتِباسِ بَعضِهم مِن بَعضٍ إلى اختِراعِها، فهيَ بذلك مَخلوقةٌ للهِ تعالى؛ لأنَّ الكُلَّ مِن نِعمَتِه) [653] ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (14/ 111). ، وهذا مِن رَأفتِه سُبحانَه وتعالى ورَحمتِه [654] ولذا خَتَمَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ الآيةَ التي فيها امتِنانٌ بذلك بصِفتَيِ الرَّأفةِ والرَّحمةِ، قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ [النحل: 7] . قال الزَّمخشَريُّ: (لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ حَيثُ رَحِمَكُم بخَلقِ هذه الحَوامِلِ، وتَيسيرِ هذه المَصالِحِ). ((الكشاف)) (2/ 595). وقال أبو حَيَّانَ: (ناسَبَ الامتِنانَ بهذه النِّعمةِ مِن حَملِها الأثقالَ الخَتمُ بصِفةِ الرَّأفةِ والرَّحمةِ؛ لأنَّ مِن رَأفتِه تَيسيرَ هذه المَصالِحِ، وتَسخيرَ الأنعامِ لكُم). ((البحر المحيط)) (6/ 508). .
قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس: 71-72] .
وقال عزَّ وجَلَّ: وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف: 12-13] .
وقال جَلَّ ثناؤه: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [النحل: 5 - 8] .
(وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ أي: لأجلِكُم ولأجلِ مَنافِعِكُم ومَصالحِكُم، مِن جُملةِ مَنافِعِها العَظيمةِ أنَّ لكُم فِيهَا دِفْءٌ مِمَّا تَتَّخِذونَ مِن أصوافِها وأوبارِها وأشعارِها وجُلودِها، مِنَ الثِّيابِ والفُرُشِ والبُيوتِ. و لكُم فيها مَنافِعُ غَيرُ ذلك وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ أي: في وقتِ راحَتِها وسُكونِها، ووقتِ حَرَكَتِها وسَرحِها، وذلك أنَّ جَمالَها لا يَعودُ إليها مِنه شَيءٌ؛ فإنَّكُم أنتُمُ الذينَ تَتَجَمَّلونَ بها كَما تَتَجَمَّلونَ بثيابِكُم وأولادِكُم وأموالِكُم، وتَعجَبونَ بذلك.
وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ مِنَ الأحمالِ الثَّقيلةِ، بَل وتَحمِلُكُم أنتُم إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، ولكِنَّ اللَّهَ ذَلَّلها لكُم؛ فمِنها ما تَركَبونَه، ومِنها ما تَحمِلونَ عليه ما تشاؤون مِنَ الأثقالِ إلى البُلدانِ البَعيدةِ والأقطارِ الشَّاسِعةِ، إِنَ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ؛ إذ سَخَّرَ لكُم ما تُضطَرُّونَ إليه وتَحتاجونَه، فله الحَمدُ كَما يَنبَغي لجَلالِ وَجهِه وعَظيمِ سُلطانِه، وسَعةِ جُودِه وبرِّه.
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ سَخَّرناها لكُم لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً أي: تارةً تَستَعمِلونَها للضَّرورةِ في الرُّكوبِ، وتارةً لأجلِ الجَمالِ والزِّينةِ... وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا يَكونُ بَعدَ نُزولِ القُرآنِ مِنَ الأشياءِ التي يَركَبُها الخَلقُ في البَرِّ والبَحرِ والجَوِّ، ويَستَعمِلونَها في مَنافِعِهم ومَصالحِهم، فإنَّه لم يَذكُرْها بأعيانِها؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى لا يَذكُرُ في كِتابِه إلَّا ما يَعرِفُه العِبادُ، أو يَعرِفونَ نَظيرَه، وأمَّا ما ليسَ له نَظيرٌ في زَمانِهم فإنَّه لو ذُكِرَ لم يَعرِفوه ولم يَفهَموا المُرادَ مِنه، فيَذكُرُ أصلًا جامِعًا يَدخُلُ فيه ما يَعلمونَ وما لا يَعلمونَ، كَما ذَكَرَ نَعيمَ الجَنَّةِ وسَمَّى مِنه ما نَعلمُ ونُشاهدُ نَظيرَه، كالنَّخلِ والأعنابِ والرُّمَّانِ، وأجمَلَ ما لا نَعرِفُ له نَظيرًا في قَولِه: فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ [الرحمن: 52]، فكذلك هنا ذَكَر ما نَعرِفُه مِنَ المَراكِبِ، كالخَيلِ والبِغالِ والحَميرِ والإبِلِ والسُّفُنِ، وأجمَل الباقيَ في قَولِه: وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [655] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 436). .
وفيما يَلي بَيانُ أهَمِّ آدابِ الرُّكوبِ:

انظر أيضا: