موسوعة الآداب الشرعية

رابعًا: دَعوتُهم إلى الحَقِّ وإرشادُهم، ومَحَبَّةُ الخيرِ لهم


مِن حُقوقِ القَرابةِ والرَّحِمِ: دعوتُهم إلى الحَقِّ، وإرشادُهم لِما فيه النَّفعُ، ومَحَبَّةُ الخيرِ لهم.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] .
قال السَّعديُّ: (فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 213-214] يَنهى تعالى رَسولَه أصلًا -وأمَّتُه أُسوةٌ له في ذلك- عن دُعاءِ غَيرِ اللهِ مِن جَميعِ المَخلوقينَ، وأنَّ ذلك موجِبٌ للعَذابِ الدَّائِمِ، والعِقابِ السَّرمَديِّ؛ لكونِه شِركًا، ومَن يُشرِكْ باللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة: 72] ، والنَّهيُ عَنِ الشَّيءِ أمرٌ بضِدِّه، فالنَّهيُ عَنِ الشِّركِ أمرٌ بإخلاصِ العِبادةِ للَّهِ وَحدَه لا شَريكَ له مَحَبَّةً وخَوفًا ورَجاءً، وذُلًّا وإنابةً إليه في جَميعِ الأوقاتِ.
ولمَّا أمَرَه بما فيه كمالُ نَفسِه أمَرَه بتَكميلِ غَيرِه، فقال: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ الذينَ هم أقرَبُ النَّاسِ إليك، وأحَقُّهم بإحسانِك الدِّينيِّ والدُّنيَويِّ [1260] قال ابنُ حَجَرٍ: (والسِّرُّ في الأمرِ بإنذارِ الأقرَبينَ أوَّلًا: أنَّ الحُجَّةَ إذا قامَت عليهم تَعَدَّت إلى غيرِهم، وإلَّا فكانوا عِلَّةً للأبعَدينَ في الامتِناعِ، وألَّا يَأخُذَه ما يَأخُذُ القَريب للقَريبِ مِنَ العَطفِ والرَّأفةِ، فيُحابيهم في الدَّعوةِ والتَّخويفِ؛ فلذلك نَصَّ له على إنذارِهم). ((فتح الباري)) (8/ 503). ، وهذا لا يُنافي أمرَه بإنذارِ جَميعِ النَّاسِ، كما إذا أُمِرَ الإنسانُ بعُمومِ الإحسانِ، ثُمَّ قيل له: أحسِنْ إلى قَرابَتِك، فيَكونُ هذا خُصوصًا دالًّا على التَّأكيدِ، وزيادةِ الحَقِّ؛ فامتَثَل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هذا الأمرَ الإلهيَّ، فدَعا سائِرَ بُطونِ قُريشٍ، فعَمَّمَ وخَصَّصَ، وذَكَّرَهم ووعَظَهم، ولم يُبقِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن مَقدورِه شيئًا مِن نُصحِهم وهدايَتِهم إلَّا فَعَله، فاهتَدى مَنِ اهتَدى، وأعرَضَ مَن أعرَضَ) [1261] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 599). .
وفي هذا دَليلٌ على أنَّه يَجِبُ على الإنسانِ أن يُرشِدَ ويَعِظَ الأقرَبَ مِنه فالأقرَبَ، وهو مسؤولٌ سُؤالًا مُباشِرًا بالنِّسبةِ إلى أهلِه [1262] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة الشعراء)) (ص: 305). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن عَبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما، قال: ((لما نزلت: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، صَعِد النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليْه وسلَّم على الصَّفا، فجعَلَ يُنادي: يا بَني فِهرٍ، يا بَني عَدِيٍّ -لِبُطونِ قُريشٍ- حتَّى اجتَمعوا، فجعَل الرَّجلُ إذا لم يَستطِعْ أنْ يَخرُجَ أرسَل رَسولًا ليَنظُرَ ما هو، فجاءَ أبو لَهَبٍ وقُريشٌ، فقال: أرأيتَكُم لو أخبرْتُكم أنَّ خَيلًا بالوادي تُريدُ أنْ تُغِيرَ عليكم، أكنتُم مُصَدِّقيَّ؟! قالوا: نعَم، ما جرَّبنا عليك إلَّا صِدقًا، قال: فإنِّي نَذيرٌ لكم بينَ يَدي عَذابٍ شَديدٍ! فقال أبو لَهَبٍ: تبًّا [1263] تَبًّا: أي: خُسرانًا وهَلاكًا، والتَّبُّ: الخَسارُ والهَلاكُ، وتَبًّا لفُلانٍ، على الدُّعاءِ، نُصِب لأنَّه مَصدَرٌ مَحمولٌ على فِعلِه، كَما تَقولُ: سَقيًا لفُلانٍ، مَعناه: سُقيَ فلانٌ سَقيًا، وتَبَّ يَتِبُّ تَبابًا وتَبًّا. يُنظر: ((العين)) للخليل (8/ 110)، ((تهذيب اللغة)) لأبي منصور الأزهري (14/ 182)، ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 472). لك سائِرَ اليومِ، ألهذا جمَعتَنا؟! فنزَلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد: 1-2] [1264] أخرجه البخاري (4770) واللفظ له، ومسلم (208). .
وفي روايةٍ: ((لمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ، دعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قريشًا، فاجتَمَعوا فعَمَّ وخَصَّ، فقال: يا بني كَعبِ بنِ لُؤَيٍّ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني مُرَّةَ بنِ كَعبٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ شَمسٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ مَنافٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني هاشِمٍ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا بني عبدِ المطَّلِبِ، أنقِذوا أنفُسَكم من النَّارِ، يا فاطِمةُ، أنقِذي نَفسَكِ من النَّارِ؛ فإنِّي لا أملِكُ لكم من اللهِ شيئًا، غيرَ أنَّ لكم رَحِمًا سأبُلُّها ببِلالِها [1265] يعني: أصلها بصلتها. يُنظر: ((صحيح البخاري)) (8/ 6). وقال النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ببَلالِها" هو بفتحِ الباءِ الثَّانيةِ وكَسرِها، والبَلالُ: الماءُ. ومَعنى الحَديثِ: سَأصِلُها، شَبَّه قَطيعَتَها بالحَرارةِ تُطفَأُ بالماءِ، وهذه تَبرُدُ بالصِّلةِ). ((رياض الصالحين)) (ص: 133، 134). ) [1266] أخرجها مسلم (204) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وفي أخرى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يا بَني عَبدِ مَنافٍ، اشتَروا أنفُسَكُم مِنَ اللهِ، يا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، اشتَروا أنفُسَكُم مِنَ اللهِ، يا أمَّ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ عَمَّةَ رَسولِ اللهِ، يا فاطِمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ، اشتَريا أنفُسَكُما مِنَ اللهِ، لا أملِكُ لكُما مِنَ اللهِ شيئًا، سَلاني مِن مالي ما شِئتُما)) [1267] أخرجها البخاري (3527). .
2- عن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((لمَّا نَزَلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] قامَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الصَّفا، فقال: يا فاطِمةُ بنتَ مُحَمَّدٍ، يا صَفيَّةُ بنتَ عَبدِ المُطَّلِبِ، يا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، لا أملِكُ لكُم مِنَ اللهِ شيئًا، سَلوني مِن مالي ما شِئتُم)) [1268] أخرجه مسلم (205). .

انظر أيضا: