موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: صِلتُهم بالمالِ والتَّصَدُّقُ على فقيرِهم


يُستَحَبُّ صِلةُ ذَوي الرَّحِمِ بالمالِ ونَحوِه، والصَّدَقةُ على فقيرِهم أفضَلُ مِنَ الصَّدَقةِ على غيرِهم [1269] والصَّدَقةُ على القَريبِ المُبغِضِ أعظَمُ أجرًا مِنَ الصَّدَقةِ على غيرِه؛ لأنَّ الإنفاقَ على القَريبِ المَحبوبِ مَشوبٌ بالهَوى، فأمَّا على المُبغِضِ فهو الَّذي لا شَوبَ فيه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 121). وأعظَمُ أجرًا.
الدَّليلُ على ذلك مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِن الكتابِ:
1- قال تعالى: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177] .
قال ابنُ كَثيرٍ: (قَولُه: ذَوِي الْقُرْبَى وهم: قَراباتُ الرَّجُلِ، وهم أَولى مَن أُعطيَ مِنَ الصَّدَقةِ، كَما ثَبَتَ في الحَديثِ: «الصَّدَقةُ على المَساكينِ صَدَقةٌ، وعلى ذَوي الرَّحِمِ ثِنتانِ: صَدَقةٌ وصِلةٌ» [1270] أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ سَلمانَ بنِ عامِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ الترمذيِّ: ((الصَّدَقةُ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وهيَ على ذي الرَّحِمِ ثِنتانِ: صَدَقةٌ وصِلةٌ)). صَحَّحه ابنُ خُزَيمة في ((الصحيح)) (4/131)، وابن حبان في ((صحيحه)) (3344)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/411)، وصَحَّحه لغَيرِه الألبانيُّ في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1844)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16227)، وصَحَّحَ إسناده الحاكِمُ في ((المستدرك)) (1495). .
فهم أَولى النَّاسِ بك وببرِّك وإعطائِك، وقد أمَرَ اللَّهُ تعالى بالإحسانِ إليهم في غَيرِ ما مَوضِعٍ مِن كِتابِه العَزيزِ) [1271] ((تفسير القرآن العظيم)) (1/ 486). وقال الرَّاغِبُ: (إن قيل: كَيف اختيرَ التَّرتيبُ المَذكورُ في قَولِه وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ [البقرة: 177] ؟ قيل: لمَّا كان أولى مَن يَتَفقَّدُه الإنسانُ بمَعروفِه أقارِبَه، كان تَقديمُها أَولى، ثُمَّ أعقَبَه باليَتامى، فمواساتُه بَعدَ الأقارِب أَولى...). يُنظر: ((تفسير الراغب الأصفهاني)) (1/ 379). .
وقال السَّعديُّ: (وَآتَى الْمَالَ وهو كُلُّ ما يتمَوَّلُه الإنسانُ مِن مالٍ، قَليلًا كان أو كَثيرًا، أي: أعطى المالَ عَلَى حُبِّهِ أي: حُبِّ المالِ، بَيَّنَ به أنَّ المالَ مَحبوبٌ للنُّفوسِ، فلا يَكادُ يُخرِجُه العَبدُ، فمَن أخرجه مَعَ حُبِّه له تَقرُّبًا إلى اللهِ تعالى، كان هذا بُرهانًا لإيمانِه، ومِن إيتاءِ المالِ على حُبِّه أن يَتَصَدَّقَ وهو صحيحٌ شَحيحٌ، يَأمُلُ الغِنى، ويَخشى الفقرَ، وكذلك إذا كانتِ الصَّدَقةُ عن قِلَّةٍ كانت أفضَلَ؛ لأنَّه في هذه الحالِ يُحِبُّ إمساكَه لِما يَتَوهَّمُه مِنَ العَدَمِ والفَقرِ، وكذلك إخراجُ النَّفيسِ مِنَ المالِ، وما يُحِبُّه مِن مالِه، كَما قال تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، فكُلُّ هَؤُلاءِ مِمَّن آتى المالَ على حُبِّه.
ثُمَّ ذَكرَ المُنفَقَ عليهم، وهم أَولى النَّاسِ ببرِّك وإحسانِك مِنَ الأقارِب الذينَ تَتَوجَّعُ لمُصابِهم، وتَفرَحُ بسُرورِهم، الذينَ يَتَناصَرونَ ويَتَعاقَلونَ، فمِن أحسَنَ البرِّ وأوفَقِه تَعاهُدُ الأقارِبِ بالإحسانِ الماليِّ والقَوليِّ، على حَسَبِ قُربِهم وحاجَتِهم) [1272] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 83). .
2- قال عزَّ وجَلَّ: يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ [البقرة: 215] .
قال السَّعديُّ: (أي: يَسألونَك عنِ النَّفقةِ، وهذا يَعُمُّ السُّؤالُ عنِ المُنفَقِ والمُنفَقِ عليه، فأجابَهم عنهما، فقال: قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي: مالٍ قَليلٍ أو كَثيرٍ، فأولى النَّاسِ به وأحَقُّهم بالتَّقديمِ أعظَمُهم حَقًّا عليك، وهمُ الوالدانِ الواجِبُ بِرُّهما، والمُحَرَّمُ عُقوقُهما، ومِن أعظَمِ برِّهما النَّفقةُ عليهما، ومِن أعظَمِ العُقوقِ تَركُ الإنفاقِ عليهما؛ ولهذا كانتِ النَّفَقةُ عليهما واجِبةً على الوَلَدِ الموسِرِ، ومِن بَعدِ الوالدَينِ الأقرَبونَ على اختِلافِ طَبَقاتِهم، الأقرَبُ فالأقرَبُ، على حَسَبِ القُربِ والحاجةِ، فالإنفاقُ عليهم صَدَقةٌ وصِلةٌ) [1273] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 96). .
3- قال سُبحانَه: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد: 11 - 16] .
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي: فلم يَقطَعِ الغَنيُّ العَقَبةَ الشَّديدةَ، ويَتَكلَّفْ صُعودَها، ويَتَجاوزْها بمُجاهَدةِ النَّفسِ ومُخالَفةِ الهَوى والشَّيطانِ، بإنفاقِ مالِه في أوجُهِ البِرِّ والخَيرِ والإحسانِ.
ولمَّا بيَّن أنَّه لا خَلاصَ مِنَ النَّكَدِ إلَّا بهذا الاقتِحامِ شَرَعَ في تَفسيرِ العَقَبةِ بادِئًا بتَهويلِ أمرِها؛ لعَظيمِ قَدرِها، فقال: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ أي: وما أدراك أيُّ شيءٍ تلك العَقَبةُ العَظيمةُ التي حَثَّ اللهُ على اقتِحامِها؟ فَكُّ رَقَبَةٍ أي: تَخليصُ إنسانٍ مِن رِقّ العُبوديَّةِ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ أي: أو تَقديمُ الطَّعامِ في زَمَنِ مَجاعةٍ شَديدةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أي: ليَتيمٍ مِن أقارِبِه أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ أي: أو لمِسكينٍ لا شيءَ له، كأنَّه لصِقَ بالتُّرابِ لفَقرِه، وليس له مَأوًى إلَّا التُّرابُ.
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا أي: ثُمَّ إنَّ المُنفِقَ مالَه في فكِّ الرِّقابِ، أو إطعامِ اليَتيمِ القَريبِ، أو إطعامِ المِسكينِ المُحتاجِ: يَنبَغي أن يَكونَ مَعَ ذلك مِن جُملةِ الذينَ آمَنوا بما وجَبَ عليهمُ الإيمانُ به؛ فتلك القُرُباتُ إنَّما تَنفعُ مَعَ الإيمانِ وَتَوَاصَوْا بالصَّبْرِ أي: ويَكونُ مِمَّن أوصى بَعضُهم بَعضًا بالتَّحَلِّي بالصَّبرِ، وَتَوَاصَوْا بالْمَرْحَمَةِ أي: ويَكونُ مِمَّن أوصى بَعضُهم بَعضًا بالرَّحمةِ بالمَساكينِ واليَتامى والضُّعَفاءِ، وسائِرِ الخَلقِ...
ولمَّا نَوَّهَ بالذينِ آمَنوا أعقبَ التَّنويهَ بالثَّناءِ عليهم وبشارَتِهم، فقال: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ أي: أولئِك المُتَّصِفونَ بما تقَدَّم ذِكرُه مِنَ الصِّفاتِ هم أصحابُ اليَمينِ [1274] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (43/ 337-341). .
وفي الآياتِ فَضلُ الإطعامِ، خُصوصًا عِندَ الحاجةِ إليه في زَمَنِ الجوعِ، وفيها فَضلُ إطعامِ اليَتيمِ، خُصوصًا القَريبَ، وإطعامِ المِسكينِ، والتَّواصي بالصَّبرِ على الفرائِضِ، وعَنِ المُحَرَّماتِ، وبرَحمةِ النَّاسِ كُلِّهم [1275] ((الإكليل في استنباط التنزيل)) للسيوطي (ص: 289). .
4- قال تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى [النحل: 90] .
العَدلُ الذي أمَرَ اللَّهُ به يَشمَلُ العَدلَ في حَقِّه وفي حَقِّ عِبادِه، فالعَدلُ في ذلك أداءُ الحُقوقِ كامِلةً موفَّرةً بأن يُؤَدِّيَ العَبدُ ما أوجَبَ اللَّهُ عليه مِنَ الحُقوقِ الماليَّةِ والبَدَنيَّةِ، والمُرَكَّبةِ مِنهما في حَقِّه وحَقِّ عِبادِه، ويُعامِلَ الخَلقَ بالعَدلِ التَّامِّ، فيُؤَدِّيَ كُلُّ والٍ ما عليه تَحتَ وِلايَتِه، سَواءٌ في ذلك وِلايةُ الإمامةِ الكُبرى، ووِلايةُ القَضاءِ، ونوَّابُ الخَليفةِ، ونوَّابُ القاضي.
والعَدلُ هو ما فرَضَه اللهُ عليهم في كِتابِه، وعلى لسانِ رَسولِه، وأمَرَهم بسُلوكِه، ومِنَ العَدلِ في المُعامَلاتِ أن تُعامِلَهم في عُقودِ البَيعِ والشِّراءِ وسائِرِ المُعاوَضاتِ، بإيفاءِ جَميعِ ما عليك، فلا تَبخَسْ لهم حَقًّا، ولا تَغُشَّهم ولا تَخدَعْهم وتَظلِمْهم، فالعَدلُ واجِبٌ، والإحسانُ فضيلةٌ مُستَحَبٌّ، وذلك كَنَفعِ النَّاسِ بالمالِ والبَدَنِ والعِلمِ، وغَيرِ ذلك مِن أنواعِ النَّفعِ، حتَّى إنَّه يَدخُلُ فيه الإحسانُ إلى الحَيَوانِ البَهيمِ المَأكولِ وغَيرِه.
وخَصَّ اللهُ إيتاءَ ذي القُربى -وإن كان داخِلًا في العُمومِ- لتَأكُّدِ حَقِّهم، وتَعَيُّنِ صِلتِهم وبرِّهم، والحِرصِ على ذلك.
ويَدخُلُ في ذلك جَميعُ الأقارِبِ قَريبُهم وبعيدُهم، لكِنَّ كُلَّ ما كان أقرَبَ كان أحَقَّ بالبَرِّ [1276] ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 447). .
ب- من السُّنَّةِ
1- عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: ((جاءَ أعرابيٌّ فقال: يا نَبيَّ اللهِ، عَلِّمْني عَمَلًا يُدخِلُني الجَنَّةَ، قال: لئِنْ كُنتَ أقصَرتَ الخُطبةَ لقَد أعرَضتَ المَسألةَ! أعتِقِ النَّسَمةَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ. قال: أوَليستا واحِدًا؟ قال: لا؛ عِتقُ النَّسَمةِ أن تُعتِقَ النَّسَمةَ، وفَكُّ الرَّقَبةِ أن تُعينَ على الرَّقَبةِ، والمَنيحةُ الرَّغوبُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عَنِ المُنكَرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فكُفَّ لسانَك إلَّا مِن خيرٍ)) [1277] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (69). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (50). .
وفي رِوايةٍ: ((عَنِ البَراءِ بنِ عازِبٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (جاءَ أعرابيٌّ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رَسولَ اللهِ، عَلِّمْني شيئًا يُدخِلُني الجَنَّةَ، فقال: لئِن أقصَرتَ الخُطبةَ لقَد أعرَضتَ المَسألةَ، أعتِقِ النَّسَمَ، وفُكَّ الرَّقَبةَ، قال: أوَليسا واحِدًا؟ قال: فإنَّ عِتقَ النَّسَمةِ أن تَفَرَّدَ بعِتقِها، وفَكَّ الرَّقَبةِ أن تُعينَ في ثَمَنِها، والمِنحةُ المَوكوفةُ، والفَيءُ على ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فأطعِمِ الجائِعَ، واسقِ الظَّمآنَ، وأْمُرْ بالمَعروفِ، وانْهَ عَنِ المُنكَرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلك فكُفَّ لِسانَك إلَّا مِن خيرٍ)) [1278] أخرجها أحمد (18647)، وابن حبان (374)، والحاكم (2861) واللفظ له. صحَّحها ابن حبان، وابن حجر في ((فتح الباري)) (5/174)، والألباني في ((صحيح الموارد)) (1017)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (132). .
قال البَغويُّ: (قَولُه: «أعتِقِ النَّسَمة»، النَّسَمُ: الرُّوحُ، أي: أعتِقْ ذا نَسَمةٍ، وكُلُّ دابَّةٍ فيها روحٌ فهي نَسَمةٌ. «والمِنحةُ الوَكوفُ»، أي: غَزيرةُ اللَّبَنِ، ومِنه: وكَفَ البَيتُ والدَّمعُ) [1279] ((شرح السنة)) (9/ 355). .
يَعني: مِن جُملةِ الأعمالِ المُؤَدِّيةِ صاحِبَها إلى الجَنَّةِ: إعطاءُ المِنحةِ الفُقَراءَ؛ ليَنتَفِعوا بلبَنِها وصوفِها ووبَرِها مُدَّةً، ثُمَّ يَرُدُّها على صاحِبِها، وكذلك الرُّجوعُ إلى ذي الرَّحِمِ الظَّالمِ عليك بالإحسانِ والشَّفقةِ والصِّلةِ [1280] يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 155). وقال الخطابي: (الفيء على ذي الرحم الكاشح العطف عليه والرجوع إلى بره). ((غريب الحديث)) (1/ 707). .
2- عن كُرَيبٍ مَولى ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ ميمونةَ بنتَ الحارِثِ رَضِيَ اللهُ عنها أخبَرَته، ((أنَّها أعتَقَت وليدةً [1281] الوَليدةُ: الجاريةُ، وجَمعُها ولائِدُ، وقد تُطلَقُ الوليدةُ على الجاريةِ والأَمَةِ وإن كانت كَبيرةً. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 433)، ((النهاية)) لابن الأثير (5/ 225). ولم تَستَأذِنِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا كان يَومُها الذي يَدورُ عليها فيه، قالت: أشعَرتَ يا رَسولَ اللهِ أنِّي أعتَقتُ وليدَتي؟ قال: أوَفعَلتِ؟! قالت: نَعَم، قال: أمَا إنَّكِ لو أعطيتِيها أخوالَكِ كان أعظَمَ لأجرِكِ)) [1282] أخرجه البخاري (2592) واللفظ له، ومسلم (999). .
وفي رِوايةٍ: ((لو وصَلتِ بَعضَ أخوالِك كان أعظَمَ لأجرِك)) [1283] أخرجها البخاري (2594). .
3- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((كان أبو طلحةَ أكثَرَ الأنصارِ بالمدينةِ مالًا مِن نَخلٍ، وكان أحبُّ أموالِه إليه بَيْرُحَاءَ [1284] بَيْرحاء: اسمُ ماءٍ، أو حَديقةٍ، أو أرضٍ كانت لأبي طَلحةَ، وهيَ فَيْعَلى مِنَ البَراحِ، وهو المَكانُ المُتَّسِعُ الظَّاهرُ. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 469)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1567)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (3/ 50). ، وكانت مُستَقبِلةَ المسجِدِ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُها ويَشرَبُ من ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنَسٌ: فلمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] قام أبو طَلحةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: إنَّ اللهَ يقولُ في كِتابِه: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحَاءُ، وإنَّها صَدَقةٌ للهِ، أرجو بِرَّها وذُخْرَها عندَ اللهِ، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراك اللهُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَخْ [1285] بَخ: فيه لُغَتانِ: إسكانُ الخاءِ وكَسرُها مَنوَّنًا، وهيَ كَلمةٌ يَقولُها المُتَعَجِّبُ مِنَ الشَّيءِ، وعِندَ المَدحِ والرِّضا بالشَّيءِ، وقد تُكَرَّرَ للمُبالغةِ، فيُقالُ: بَخ بَخ، فإن وصَلتَ جَرَرتَ ونَوَّنتَ، فقُلتَ: بَخٍ بَخٍ، ورُبَّما شُدِّدَت. يُنظر: ((جامع الأصول)) لابن الأثير (6/ 470)، ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (5/ 1567، 1568). ! ذلك مالٌ رابحٌ [1286] مالٌ رابحٌ: أي: ذو رِبحٍ، كقَولِهم: ناصِبٌ، بمَعنى ذي نَصبٍ. وفي رِوايةٍ: ((ذلك مالٌ رائِحٌ)) [أخرجها البخاري (2318) من حديثِ أنَسِ بنِ ٍمالك رَضِيَ اللهُ عنه]، أي: قَريبٌ، يَروحُ خَيرُه، ليسَ بعازِبٍ، وذلك مِن أنفَسِ ما يَكونُ مِنَ الأموالِ وأحضَرِه نَفعًا. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (2/ 787، 788). ، ذلك مالٌ رابِحٌ! وقد سَمِعْتُ ما قُلتَ، وإنِّي أرى أن تجعَلَها في الأقرَبينَ. فقال أبو طلحةَ: أفعَلُ يا رسولَ اللهِ. فقسَمها أبو طلحةَ في أقارِبِه وبني عَمِّه)) [1287] أخرجه البخاري (2769) واللفظ له، ومسلم (998). .
وفي رِوايةٍ عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((لمَّا نَزَلت هذه الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، قال أبو طَلحةَ: أرى رَبَّنا يَسألُنا مِن أموالِنا، فأُشهِدُك يا رَسولَ اللهِ أنِّي قَد جَعَلتُ أرضي بَرِيحَا للَّهِ، قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اجعَلْها في قَرابَتِك. قال: فجَعَلها في حَسَّانَ بنِ ثابتٍ وأُبَيِّ بنِ كَعبٍ)) [1288] أخرجها مسلم (998). .
4- عن زينَبَ امرَأةِ عَبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قالت: ((قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: تَصَدَّقْنَ يا مَعشَرَ النِّساءِ ولو مِن حُلِيِّكُنَّ. قالت: فرَجَعتُ إلى عَبدِ اللَّهِ، فقُلتُ: إنَّك رَجُلٌ خَفيفُ ذاتِ اليَدِ، وإنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد أمَرَنا بالصَّدَقةِ، فأْتِه فاسأَلْه، فإن كان ذلك يُجزي عَنِّي وإلَّا صَرَفتُها إلى غيرِكُم، قالت: فقال لي عَبدُ اللَّهِ: بَل ائتِيه أنتِ، قالت: فانطَلقتُ، فإذا امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ ببابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حاجَتي حاجَتُها، قالت: وكان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَد أُلقِيَت عليه المَهابةُ، قالت: فخَرَجَ علينا بلالٌ فقُلْنا له: ائتِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبِرْه أنَّ امرَأتينِ بالبابِ تَسألانِك: أتُجزئُ الصَّدَقةُ عَنهما على أزواجِهما وعلى أيتامٍ في حُجورِهما؟ ولا تُخبرْه مَن نَحنُ، قالت: فدَخَل بلالٌ على رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فسَأله، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مَن هما؟ فقال: امرَأةٌ مِنَ الأنصارِ وزينَبُ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الزَّيانِبِ؟ قال: امرَأةُ عَبدِ اللَّهِ، فقال له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لهما أجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ)) [1289] أخرجه البخاري (1466)، ومسلم (1000) واللفظ له. .
5- عن جابِرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((ابدأْ بنَفسِك فتصدَّقْ عليها، فإن فضَل شيءٌ فلأهلِك، فإن فضَل عن أهلِك شيءٌ فلذي قَرابتِك، فإنْ فضَل عن ذي قرابتِك شيءٌ فهكذا وهكذا، يقولُ: فبَينَ يدَيك، وعن يمينِك، وعن شِمالِك)) [1290] أخرجه مسلم (997). .
6- عن طارِقِ بنِ عَبدِ اللهِ المُحارِبيِّ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((... قَدِمْنا المَدينةَ فإذا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائِمٌ يَخطُبُ النَّاسَ على المِنبَرِ، فسَمِعتُه يَقولُ: يَدُ المُعطي العُليا، وابدَأْ بمَن تَعولُ: أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك أدناك)) [1291] أخرجه النسائي (2532) واللفظ له، وابن حبان (3341)، والحاكم (4271). صَحَّحه ابن حبان، والدارقطني كما في ((بلوغ المرام)) لابن حجر (342)، وابن حزم في ((المحلى)) (10/105)، والألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2532)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/441). .
قَولُه: ((أُمَّك وأباك)) أي: أعطِ أُمَّك وأباك... إلخ، أي: قَدِّمْهما في العَطيَّةِ على غَيرِهما، وكَذا ما بَعدَه على هذا التَّرتيبِ. وقَولُه: ((وأدناك أدناك)) أي: الأقرَبَ فالأقرَبَ [1292] يُنظر: ((الفتح الرباني)) للساعاتي (9/ 104). .
7- عن أبي رِمثةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((أتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يَخطُبُ ويَقولُ: يَدُ المُعطي العُليا، أمَّك وأباك، وأختَك وأخاك، وأدناك فأدناك)) [1293] أخرجه أحمد (17495) واللفظ له، والطبراني (22/283) (725)، والحاكم (7451). صحَّحه الألباني في ((صحيح الجامع)) (8067)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17495) .
8- عن سَلمانَ بنِ عامِرٍ الضَّبِّيِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((الصَّدَقةُ على المِسكينِ صَدَقةٌ، وعلى ذي القَرابةِ اثنَتانِ: صَدَقةٌ، وصِلةٌ)) [1294] أخرجه الترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844) واللفظ له. صححه ابن خزيمة في ((الصحيح)) (4/131)، وابن حبان في ((صحيحه)) (3344)، وابن الملقن في ((البدر المنير)) (7/411)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1844)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (16227)، وصحح إسناده الحاكم في ((المستدرك)) (1495). .
9- عن عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((الظُّلمُ ظُلُماتٌ يَومَ القيامةِ، وإيَّاكُم والفُحشَ؛ فإنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الفُحشَ ولا التَّفحُّشَ، وإيَّاكُم والشُّحَّ؛ فإنَّ الشُّحَّ أهلَك مَن كان قَبلَكُم، أمَرَهم بالقَطيعةِ فقَطَعوا، وأمَرَهم بالبُخلِ فبَخِلوا، وأمَرَهم بالفُجورِ ففَجَروا. قال: فقامَ رَجُلٌ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الإسلامِ أفضَلُ؟ قال: أن يَسلَمَ المُسلِمونَ مِن لسانِك ويَدِك، فقامَ ذاك أو آخَرُ، فقال: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ الهجرةِ أفضَلُ؟ قال: أن تَهجُرَ ما كَرِهَ رَبُّك...)) الحَديثَ [1295] أخرجه أبو داود (1698)، والنسائي (4165) مختصرًا، وأحمد (6487) واللفظ له. صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (5276)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1698)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (795). .
صِلةُ الرحمِ الكافرةِ
تجوزُ صِلةُ الرَّحمِ الكافِرةِ [1296] وذلك باتِّفاقِ المذاهِبِ الفِقهيَّةِ الأربعةِ. لكن نصَّ المالِكيَّةُ على أنَّ صِلةَ الكُفَّارِ الواجبةِ مُنحَصِرةٌ في الوالِدَينِ، أمَّا غيرُ الوالِدَينِ من القراباتِ، فظاهِرُ كلامِهم الجوازُ، ما لم يؤَدِّ إلى مودَّتِهم. وقال الشَّافِعيَّةُ: تجِبُ صِلةُ الوالِدَينِ، وتُسَنُّ صِلةُ الأقارِبِ، لكِنْ إذا وصَلَهم يحرُمُ عليه قَطعُها بعد ذلك، ولم يُفَرِّقوا بين المسلمِ والكافرِ. وأجاز الحَنابِلةُ الوصيَّةَ والصَّدَقةَ مِن المسلِمِ للكافِرِ، وهذا نوعٌ من البِرِّ والصِّلةِ. يُنظر: ((البحر الرائق)) لابن نجيم (8/232)، (الرسالة)) للقيرواني (ص: 153)، ((المجموع)) للنووي (6/241)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/190). يُنظر: ((الموسوعة الفقهية بموقع الدرر السنية)) https://dorar.net/feqhia/5425. .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قَولُه تعالى: لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة: 8-9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ اللَّهَ تعالى لم يَنْهَنا عن بِرِّ وصِلةِ الكُفَّارِ غيرِ المُحارِبينَ، يَستَوي في ذلك الأقارِبُ وغَيرُهم [1297] يُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 856). .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أسماءَ رَضِيَ اللهُ عنها، قالت: ((أتَتني أمِّي راغِبةً، في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أصِلُها؟ قال: نَعَم)) [1298] أخرجه البخاري (5978) واللفظ له، ومسلم (1003). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أذِنَ لأسماءَ أن تَصِلَ أمَّها، ولم تَكُنْ مُسلِمةً [1299] يُنظر: ((شرح صحيح مسلم)) للنووي (7/ 89)، ((عون المعبود)) للعظيم آبادي (5/ 59). .
2- عن عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَأى حُلَّةً سِيَراءَ [1300] الحُلَّةُ السِّيَراءُ: هيَ المُضَلَّعةُ بالحَريرِ، وسُمِّيَت سِيَراءَ لِما فيها مِنَ الخُطوطِ التي تُشبِهُ السُّيورَ. يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 575). -يَعني: تُباعُ عِندَ بابِ المَسجِدِ- فقال: يا رَسولَ اللهِ، لوِ اشتَريتَ هذه فلَبِستَها يَومَ الجُمعةِ وللوَفدِ إذا قَدِموا عليك! فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّما يَلبَسُ هذه مَن لا خَلَاقَ [1301] الخَلَاقُ: النَّصيبُ، وقيل: النَّصيبُ الوافِرُ مِنَ الخَيرِ، ومِنه قَولُه عَزَّ وجَلَّ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ [التوبة: 69] أيِ: انتَفَعوا به، وقال تعالى: أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ [آل عمران: 77] . يُنظر: ((أعلام الحديث)) للخطابي (1/ 576)، ((المعلم)) للمازري (3/ 129)، ((شرح مسلم)) للنووي (14/ 38). له في الآخِرةِ! ثُمَّ جاءَت رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنها حُلَلٌ، فأعطى عُمَرَ حُلَّةً، فقال عُمَرُ: كَسَوتَنيها يا رَسولَ اللهِ، وقد قُلتَ في حُلَّةِ عُطارِدَ ما قُلتَ! فقال رسولُ اللهِ: إنِّي لم أكسُكها لتَلبَسَها، فكساها عُمَرُ أخًا له مُشرِكًا بمَكَّةَ)) [1302] أخرجه البخاري (886) واللفظ له، ومسلم (2068). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وَصَل بالحُلَّةِ مُشرِكًا، وهذا دَليلٌ على جَوازِ صِلةِ غيرِ المُسلمِ [1303] يُنظر: ((التمهيد)) لابن عبد البر (14/ 262)، ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/ 129). وقال ابنُ عَبدِ البَرِّ: (لم يَختَلفِ العُلَماءُ في الصَّدَقةِ التَّطَوُّعِ أنَّها جائِزةٌ مِنَ المُسلمِ على المُشرِكِ، قَريبًا كان أو غيرَه، والقَريبُ أَولى مِمَّن سِواه، والحَسَنةُ فيه أتَمُّ وأفضَلُ، وإنَّما اختَلفوا في كفَّارةِ الأيمانِ وزَكاةِ الفِطرِ؛ فجُمهورُ العُلماءِ على أنَّه لا تَجوزُ لغيرِ المُسلِمينَ؛ لقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "أُمِرتُ أن آخُذَ الصَّدَقةَ مِن أغنيائِكُم وأرُدَّها على فُقَرائِكُم"، وكذلك كلُّ ما يَجِبُ أن يُؤخَذَ مِنهم فواجِبٌ أن يُرَدَّ على فُقَرائِهم. وأجمَعوا أنَّ الزَّكاةَ المَفروضةَ لا تَحِلُّ لغيرِ المُسلمينَ، فسائِرُ ما يَجِبُ أداؤُه عليهم مِن زَكاةِ الفِطرِ وكفَّارةِ الأيمانِ والظِّهارِ فقياسٌ على الزَّكاةِ عِندَنا، وأمَّا التَّطَوُّعُ بالصَّدَقةِ فجائِزٌ على أهلِ الكُفرِ مِنَ القَراباتِ وغيرِهم، لا أعلَمُ في ذلك خِلافًا. واللَّهُ أعلَمُ). ((التمهيد)) (14/ 262، 263). .
3- عن قَيسِ بنِ أبي حازِمٍ، أنَّ عَمرَو بنَ العاصِ قال: (سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جِهارًا غيرَ سِرٍّ يَقولُ: إنَّ آلَ أبي -قال عَمرٌو: في كِتابِ مُحَمَّدِ بنِ جَعفَرٍ بياضٌ- ليسوا بأوليائي، إنَّما وليِّيَ اللَّهُ وصالحُ المُؤمِنينَ) [1304] أخرجه البخاري (5990) واللفظ له، ومسلم (215). . زادَ عَنبَسةُ بنُ عَبدِ الواحِدِ، عن بيانٍ، عن قيسٍ، عن عَمرِو بنِ العاصِ، قال: سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ولكِنْ لهم رَحِمٌ أبُلُّها ببِلالِها)) [1305] أخرجه البخاري معلقًا بعد حديث (5990)، وأخرجه موصولًا أبو عوانة في ((المسند)) (277). .
فائدةٌ:
قال ميمونُ بنُ مِهرانَ: (ثَلاثةُ أشياءَ الكافِرُ والمُسلِمُ فيهنَّ سَواءٌ: مَن عاهَدتَه ثِق له بعَهدِك، مُسلِمًا كان أو كافِرًا؛ فإنَّما العَهدُ للَّهِ. ومَن كانت بينَك وبينَه قَرابةٌ فصِلْه، مُسلِمًا كان أو كافِرًا. ومَنِ ائتَمَنَك على أمانةٍ فأدِّها، مُسلِمًا كان أو كافِرًا) [1306] ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 135). .

انظر أيضا: