موسوعة الآداب الشرعية

سابعًا: أن يَأمَنَ الجارُ جارَه


مِنَ الأدَبِ مَعَ الجارِ: حُسنُ المُجاوَرةِ، وأن يَأمَنَ الجارُ جارَه في نَفسِه، ودينِه، وأهلِه، ومالِه ووَلَدِه [2037] يُنظر: ((آداب الصحبة)) لأبي عبد الرحمن السلمي (ص: 86)، ((آداب العشرة وذكر الصحبة والأخوة)) للغزي (ص: 48). .
الدَّليلُ على ذلك مِنَ السُّنَّةِ:
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأمَنُ جارُه بوائِقَه [2038] بوائِقَه: أي: غَوائِلَه وشَرَّه. يُنظر: ((شرح السنة)) للبغوي (13/ 72). ) [2039] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم بَعدَ حَديث (6016)، وأخرجه مَوصولًا مسلم (46) واللَّفظ له. .
قال القاضي عياضٌ: (البوائِقُ: الغوائِلُ والدَّواهي، أي: مَن لا يُؤمَنُ شَرُّه ولا مَضَرَّتُه، ومَن كان بهذه الصِّفةِ من سوءِ الاعتقادِ للمُؤمِنِ، فكيف بالجارِ وترَبُّصِه به الدَّوائِرَ وتَسبيبِه له المضارَّ؟! فهو من العاصين المتوعَّدينَ بدُخولِ النَّارِ، وأنَّه لا يدخُلُ الجنَّةَ حتَّى يُعاقَبَ ويُجازى بفِعلِه، إلَّا أن يعفوَ اللهُ عنه، وهذا وعيدٌ شديدٌ، وفيه مِن تعظيمِ حَقِّ الجارِ ما فيه) [2040] ((إكمال المعلم)) (1/ 283). .
2- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((واللَّهِ لا يُؤمِنُ، واللَّهِ لا يُؤمِنُ، واللَّهِ لا يُؤمِنُ، قالوا: وما ذاك يا رَسولَ اللهِ؟ قال: جارٌ لا يَأمَنُ جارُه بوائِقَه. قالوا: فما بوائِقُه يا رَسولَ اللهِ؟ قال: شَرُّه)) [2041] أخرجه البخاريُّ مُعَلَّقًا بصيغة الجَزم بَعدَ حَديث (6016)، وأخرجه مَوصولًا أحمد (7878)، والحاكِمُ (7299) واللَّفظُ له. صَحَّحَه الحاكِمُ وقال: على شَرطِ الشَّيخينِ، والشوكاني في ((الفتح الرباني)) (11/5392)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2550). وصَحَّحَ إسناده أحمد شاكِر في تخريج ((مسند أحمد)) (14/262)، وشُعيب الأرناؤوط على شرط الشيخين في تخريج ((مسند أحمد)) (7878). وأصله في صحيح مسلم (46) مُختَصَرًا. .
3- عن أبي شُريحٍ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((واللَّهِ لا يُؤمِنُ، واللَّهِ لا يُؤمِنُ، واللَّهِ لا يُؤمِنُ، قيل: ومَن يا رَسولَ اللهِ؟ قال: الذي لا يَأمَنُ جارُه بوايِقَه)) [2042] أخرجه البخاري (6016). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (هذا الحَديثُ شَديدٌ في الحَضِّ على تَركِ أذى الجارِ؛ ألا تَرى أنَّه عليه السَّلامُ أكَّدَ ذلك بقَسَمِه ثَلاثَ مَرَّاتٍ أنَّه لا يُؤمِنُ مَن لا يَأمَنُ جارُه بوائِقَه؟! ومَعناه: أنَّه لا يُؤمِنُ الإيمانَ الكامِلَ، ولا يَبلُغُ أعلى دَرَجاتِه مَن كان بهذه الصِّفةِ؛ فيَنبَغي لكُلِّ مُؤمِنٍ أن يَحذَرَ أذى جارِه، ويَرغَبَ أن يَكونَ في أعلى دَرَجاتِ الإيمانِ، ويَنتَهيَ عَمَّا نَهاه اللَّهُ ورَسولُه عَنه، ويَرغَبَ فيما رَضِياه وحَضَّا العِبادَ عليه) [2043] ((شرح صحيح البخاري)) (9/ 222). ويُنظر: ((آداب الصحبة)) لأبي عبد الرحمن السلمي (ص: 88).
4- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لسانِه ويَدِه، والمُؤمِنُ مَن أمِنَه النَّاسُ على دِمائِهم وأموالِهم)) [2044] أخرحه الترمذي (2627) واللفظ له، والنسائي (4995)، وأحمد (8931) صححه ابن حبان في ((صحيحه)) (180)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (22)، وقال الترمذي، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2627): حسن صحيح. .
5- عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((المُؤمِنُ مَن أمِنَه النَّاسُ، والمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لسانِه ويَدِه، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ السُّوءَ، والذي نَفسي بيَدِه لا يَدخُلُ الجَنَّةَ عَبدٌ لا يَأمَنُ جارُه بوائِقَه)) [2045] أخرجه أحمد (12561)، والحاكم (25) واللَّفظُ لهما، وابن حبان (510) باختِلافٍ يَسيرٍ. صَحَّحَه ابنُ حبان، وقال الحاكم: على شرط مسلم، وابن حجر في ((فتح الباري)) (1/70)، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (2555). .
6- عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما هو بمُؤمِنٍ مَن لم يَأمَنْ جارُه بوائِقَه)) [2046] أخرجه ابن أبي شيبة (25931)، وأبو يعلى (4252). صَحَّحَه لغيرِه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2552). .
7- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: ((سَألتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أيُّ الذَّنبِ أعظَمُ عِندَ اللهِ؟ قال: أن تَجعَلَ للَّهِ نِدًّا وهو خَلَقك. قُلتُ: إنَّ ذلك لعَظيمٌ! قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: وأن تَقتُلَ ولدَك تَخافُ أن يَطعَمَ مَعَك. قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قال: أن تُزانيَ حَليلةَ [2047] قال ابنُ قُرقُولٍ: (الحَليلةُ: زَوجةُ الرَّجُلِ، وهو حَليلُها؛ لأنَّهما يَحِلَّانِ في مَوضِعٍ واحِدٍ، وتُسَمَّى الجارةُ أيضًا حَليلةً مِنَ الحُلولِ في المَنزِل). ((مطالع الأنوار)) (2/ 286). وقال ابنُ الجَوزيِّ: (الحَليلةُ واحِدةُ الحَلائِلِ: وهنَّ الأزواجُ. وقال الزَّجَّاجُ: حَليلةٌ يَعني مُحَلَّةً، وهي مُشتَقَّةٌ مِنَ الحَلالِ. وقَرَأتُ على شيخِنا أبي مَنصورٍ اللُّغَويِّ قال: الحَليلُ: الزَّوجُ، والحَليلةُ: المَرأةُ، وسُمِّيا ذلك إمَّا لأنَّهما يَحِلَّانِ في مَوضِعٍ واحِدٍ، أو لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما يُحالُّ صاحِبَه، أي: يُنازِلُه، أو لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما مَحَلُّ إزارِ صاحِبِه). ((كشف المشكل)) (1/ 292، 293). جارِك)) [2048] أخرجه البخاري (4477) واللَّفظ له، ومسلم (86). .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (لمَّا كان الشِّركُ أعظَمَ الذُّنوبِ بَدَأ به؛ لأنَّه جَحدٌ للتَّوحيدِ، ثُمَّ ثَنَّاه بالقَتلِ؛ لأنَّه مَحوٌ للمُوجِدِ، ولم يَكفِ كَونُه قَتلًا حتَّى جَمَعَ بينَ وصفِ الوِلادةِ وظُلمِ مَن لا يَعقِلُ وعِلَّةِ البُخلِ؛ فلذلك خَصَّه بالذِّكرِ مِن بينِ أنواعِ القَتلِ، ثُمَّ ثَلَّث بالزِّنا؛ لأنَّه سَبَبٌ لاختِلاطِ الفَرشِ والأنسابِ، وخَصَّ حَليلةَ الجارِ؛ لأنَّ ذَنبَ الزِّنا بها يَتَفاقَمُ بهَتكِ حُرمةِ الجارِ، وقد كان العَرَبُ يَتَشَدَّدونَ في حِفظِ ذِمَّةِ الجارِ، ويتمادَحون بحِفظِ امرَأةِ الجارِ؛ قال عَنتَرةُ:
يا شاةَ ما قَنَصٍ لِمَن حَلَّت له
حَرُمَت عَلَيَّ وليتَها لم تَحرُمِ [2049] قَولُه: (يا شاةَ ما قَنَصٍ) يُريدُ: يا شاةَ قَنصٍ، و(ما) صِلةٌ، وكنَّى بالشَّاةِ عن المَرأةِ، والقَنَصُ: الصَّيدُ، وفي الكلامِ مَعنى التَّعَجُّبِ. وقَولُه: (حَرُمَت عَليَّ) أي: حَلَّت بحيثُ لا أستَطيعُ مَرامَها ولا أصِلُ إليها. يُنظر: ((ديوان عنترة)) (ص: 213، 214).
قال ابنُ قُتيبةَ: عَرَّضَ بجارَتِه، فكأنَّه قال: أيُّ صيدٍ أنتِ لِمَن حَلَّ له أن يَصيدَكِ؟! أمَّا أنا فإنَّ حُرمةَ الجِوارِ قَد حَرَّمتكِ عَلَيَّ [2050] يُنظر: ((تأويل مشكل القرآن)) لابن قتيبة (ص: 165). .
وقال مِسكينٌ الدَّارِميُّ:
ما ضَرَّ لي جارٌ أجاوِرُه
ألَّا يَكونَ لبابِه سِتْرُ
أعمى إذا ما جارَتي خَرَجَت
حتَّى يواريَ جارَتيَ الجُدْرُ
وتَصَمُّ عَمَّا بينَهم أُذني
حتَّى يَكونَ كأنَّه وِقْرُ) [2051] ((كشف المشكل)) (1/ 293).
8- عَنِ المِقداد بن الأسودِ رَضِيَ اللهُ عنه، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه: ((ما تَقولونَ في الزِّنا؟ قالوا: حَرَّمه اللَّهُ ورَسولُه، فهو حَرامٌ إلى يَومِ القيامةِ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لَأن يَزنيَ الرَّجُلُ بعَشْرِ نِسوةٍ أيسَرُ عليه مِن أن يَزنيَ بِامرَأةِ جارِه. قال: ما تَقولونَ في السَّرِقةِ؟ قالوا: حَرَّمها اللَّهُ ورَسولُه فهي حَرامٌ، قال: لأن يَسرِقَ الرَّجُلُ مِن عَشَرةِ أبياتٍ أيسَرُ عليه مِن أن يَسرِقَ مِن جارِه)) [2052] أخرجه أحمد (23854) واللَّفظُ له، والطبراني (20/257) (605)، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (9552) حسنه الوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1141)، وجود إسناده الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/136)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (23854). .
فالزِّنا بحَليلةِ الجارِ هو شَرُّ أفرادِ الزِّنا؛ لِما فيه زيادةً على الزِّنا مِنِ انتِهاكِ حُرمةِ الجارِ، وخيانةِ الأمانةِ، فإنَّهم ما تَجاوروا حتَّى أمِنَ بَعضُهم بَعضًا، وإدخالِ الفسادِ على أساسِ التَّكوينِ الاجتِماعيِّ في النَّاسِ، وهو التَّجاوُرُ والتَّقارُبُ [2053] يُنظر: ((مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير)) لابن باديس (ص: 219). .
فائِدةٌ:
قال السَّمَرقَنديُّ: (يَنبَغي للمُسلمِ أن يَكونَ بحالٍ يَكونُ جارُه آمِنًا مِنه، وأمانُه لجارِه يَكونُ بثَلاثةِ أشياءَ: باليَدِ وباللِّسانِ وبالعَورةِ.
فأمَّا أمانُه بلسانِه فهو أن لا يَتَكلَّمَ بكلامٍ لو دَخَل عليه جارُه لسَكتَ، أو لو بَلغَ إلى جارِه لاستَحى مِنه.
وأمَّا أمانُه بيَدِه فهو أنَّ جارَه لو كان بالسُّوقِ وتَذكَّر أنَّ كيسَه نَسيَه في مَنزِلِه، فإنَّه لا يَخافُ عليه، ويَقولُ: مَنزِلُه ومَنزِلي سَواءٌ.
وأمَّا أمانُه بالعَورةِ فهو أنَّه لو كان في السَّفرِ فبَلَغه أنَّ جارَه دَخَل مَنزِلَه، لسَكنَ قَلبُه وفَرِح) [2054] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 143). .

انظر أيضا: