موسوعة الآداب الشرعية

خامسًا: المواساةُ في الطَّعامِ


يُستَحَبُّ أن يواسيَ المَخدومُ خادِمَه في الطَّعامِ -لا سيَّما مَن صَنَعَه وحَمَلَه- فيُطعِمَه مِمَّا يَأكُلُ.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:
أ- مِنَ الكِتابِ
قال تعالى عَنِ الأبرارِ: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان: 8 - 12] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ
1- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ((إذا أتى أحَدَكُم خادِمُه بطَعامِه، فإنْ لم يُجلِسْه مَعَه فليُناوِلْه أُكلةً أو أُكلتَينِ، أو لُقمةً أو لُقمَتينِ؛ فإنَّه وَلِيَ حَرَّه وعِلاجَه)) [2364] أخرجه البخاري (5460). .
وفي رِوايةٍ: ((إذا صَنَعَ لأحَدِكُم خادِمُه طَعامَه، ثُمَّ جاءَه به، وقد وَلِيَ حَرَّه ودُخانَه، فليُقعِدْه مَعَه، فليَأكُلْ، فإن كان الطَّعامُ مَشفوهًا [2365] المُشفوهُ: القَليلُ، وقيل له: مُشفوهٌ؛ لكثرةِ الشِّفاهِ التي تَجتَمِعُ على أكلِه. يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/ 260، 261). قَليلًا فليَضَعْ في يَدِه مِنه أُكلةً أو أُكلتينِ [2366] قال الخَطَّابيُّ: (والأُكلةُ -مَضمومةَ الألفِ-: اللُّقمةُ. والأَكلةُ –بفتحِها-: المَرَّةُ الواحِدةُ مِنَ الأكلِ. وفيه دَليلٌ على أنَّه ليس بالواجِبِ على السَّيِّدِ أن يُسَوِّيَ بينَ مَملوكِه وبينَ نَفسِه في المَأكلِ إذا كان مِمَّن يَعتادُ رَقيقَ الطَّعامِ ولذيذَه، وإن كان مُستَحَبًّا له أن يواسيَه مِنه، وإنَّما عَليه أن يُشبِعَه مِن طَعامٍ يُقيمُه، كما ليس عليه أن يكسيَه مِن خيرِ الثِّيابِ وثَمينِه الذي يَلبَسُه، وإنَّما عليه أن يَستُرَه بما يَقيه الحَرَّ في الصّيفِ والبَردَ في الشِّتاءِ، وعلى كُلِّ حالٍ فإنَّه لا يُخليه مِن مواساةٍ وإتحافٍ مِن خاصِّ طَعامِه إن لم يكُنْ مواساةً ومُفاوضةً. واللهُ أعلمُ). ((معالم السنن)) (4/ 260، 261). )، يَعني: لُقمةً أو لُقمَتينِ [2367] أخرجها مسلم (1663). .
قال النَّوويُّ: (في هذا الحَديثِ الحَثُّ على مَكارِمِ الأخلاقِ، والمواساةِ في الطَّعامِ، لا سيَّما في حَقِّ مَن صَنَعَه أو حَمَله؛ لأنَّه وَلِيَ حَرَّه ودُخانَه، وتَعَلَّقَت به نَفسُه، وشَمَّ رائِحَتَه، وهذا كُلُّه مَحمولٌ على الاستِحبابِ) [2368] ((شَرح مسلم)) (11/ 135). وقال عِياضٌ: (وقيل: في إطعامِه مِنه ومُؤاكلتِه إيَّاه ذَهابُ غائِلةِ الاستِئثارِ عَليه بالطَّعامِ؛ لئَلَّا يَكيدَه فيما يَصنَعُه، ولا يَغُشَّه ولا يَخونَه فيه، إذا عَلِمَ أنَّه يَأكُلُ مِنه ويَرُدُّ شَهوتَه ببَعضِه). ((إكمال المعلم)) (5/ 435). .
وقال العِراقيُّ: (فيه استِحبابُ الأكلِ مَعَ الخادِمِ الذي باشَرَ طَبخَ الطَّعامِ، وذلك تَواضُعٌ وكرَمٌ في الأخلاقِ، وفي مَعنى الذَّكَرِ الأنثى، وهو في الأنثى مَحمولٌ على ما إذا كان السَّيِّدُ رَجُلًا، على أن تَكونَ جاريَتَه أو مَحرَمَه، فإن كانت أجنَبيَّةً فليس له ذلك.
وفيه: أنَّه إذا لم يُجلِسْه للأكلِ مَعَه -إمَّا لقِلَّةِ الطَّعامِ، وإمَّا لسَبَبٍ آخَرَ- استُحِبَّ أن يُطعِمَه مِنه ولا يَحرِمَه إيَّاه، ولو كان الطَّعامُ يَسيرًا، كاللُّقمةِ واللُّقمَتينِ...
ويَنبَغي أن يَكونَ في مَعنى طَبَّاخِ الطَّعامِ حامِلُه في الأمرينِ مَعًا: الإجلاسِ مَعَه، والمُناوَلةِ مِنه عِندَ القِلَّةِ؛ لوُجودِ المَعنى فيه، وهو تَعَلُّقُ نَفسِه به، وشَمُّه رائِحَتَه، وإراحةُ صاحِبِ الطَّعامِ مِن حَملِه، كما أنَّ في الأوَّلِ إراحَتَه مِن طَبخِه، وإن كان هذا الثَّاني أقَلَّ عَمَلًا مِنَ الأوَّلِ، بل قَد يُقالُ باستِحبابِه في مُطلَقِ الخادِمِ) [2369] ((طرح التثريب)) (6/ 21، 22). .
وقال ابنُ حَجَرٍ: (قَولُه: «فإنَّه وَلِيَ حَرَّه» أي: عِندَ الطَّبخِ «وعِلاجَه» أي: عِندِ تَحصيلِ آلاتِه وقَبلَ وَضعِ القِدرِ على النَّارِ. ويُؤخَذُ مِن هذا أنَّ في مَعنى الطَّبَّاخِ حامِلَ الطَّعامِ؛ لوُجودِ المَعنى فيه، وهو تَعَلُّقُ نَفسِه به، بَل يُؤخَذُ مِنه الاستِحبابُ في مُطلَقِ خَدَمِ المَرءِ مِمَّن يُعاني ذلك... وفي هذا... إشارةٌ إلى أنَّ للعينِ حَظًّا في المَأكولِ؛ فيَنبَغي صَرفُها بإطعامِ صاحِبِها مِن ذلك الطَّعامِ لتَسكُنَ نَفسُه، فيَكونَ أكَفَّ لشَرِّه) [2370] ((فتح الباري)) (9/ 582). .
2- عن أبي الزُّبيرِ، ((أنَّه سَمَّعَ رَجُلًا يَسألُ جابرًا عن خادِمِ الرَّجُلِ، إذا كفاه المَشَقَّةَ والحَرَّ، أمَر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يَدعوَه؟ قال: نَعَم، فإن كَرِهَ أحَدُكُم أن يَطعَمَ مَعَه فليُطعِمْه أُكلةً في يَدِه)) [2371] أخرجه أحمد (14730)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (198) واللفظ له، والحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (537). صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (146)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (14730)، وحسَّن إسناده الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (4/241)، وابن حجر في ((فتح الباري)) (9/495). وأخرجه الطبراني في ((المعجم الأوسط)) (37) بلفظ: ((إذا كان لأحَدِكُم خادِمٌ قَد كفاه المَشَقَّةَ فليُطعِمْه، فإن لم يَفعَلْ، فليُناوِلْه اللُّقمةَ)). صَحَّحَه الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (769). .
3- عن عُبادةَ بنِ الوليدِ بنِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ قال: ((خرجتُ أنا وأبي نطلُبُ العلمَ في هذا الحيِّ من الأنصارِ قبل أن يَهلِكوا، فكان أوَّلُ مَن لَقِينا أبا اليَسَرِ صاحِبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومعه غلامٌ له، معه ضِمامةٌ من صُحُفٍ، وعلى أبي اليَسَرِ بُردةٌ ومَعافِريٌّ [2372] البُردةُ: شَملةٌ مُخَطَّطةٌ، وقيل: كِساءٌ مُرَبَّعٌ فيه صغرٌ يَلبَسُه الأعرابُ، وجَمعُه البُرُدُ. والمَعافِريُّ -بفتحِ الميمِ-: نَوعٌ مِنَ الثِّيابِ يُعمَلُ بقَريةٍ باليَمَنِ تُسَمَّى مَعافِرَ، وقيل: هي نِسبةٌ إلى قَبيلةٍ نَزَلت تلك القَريةَ، وقيل: بَل سُمُّوا باسمِ جَبَلٍ يُقالُ له: مَعافِرُ. يُنظر: ((إصلاح المنطق)) لابن السكيت (ص: 124)، ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 766)، ((مطالع الأنوار)) لابن قرقول (4/ 53)، ((شرح مسلم)) للنووي (18/ 134). ، وعلى غُلامِه بُردةٌ ومَعافِريٌّ، فقال له أبي: يا عَمِّ، إني أرى في وَجهِك سَفعةً [2373] سَفعةً: أي: عَلامةً، وأصلُ ذلك مِنَ السَّوادِ، وهو الارتِدادُ الذي يَظهَرُ على وَجهِ الغَضبانِ. يُنظر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/ 387، 388)، ((إكمال المعلم)) لعياض (8/ 560). مِن غَضَبٍ! قال: أجَلْ، كان لي على فلانِ بنِ فُلانٍ الحَراميِّ مالٌ، فأتيتُ أهلَه، فسَلَّمْتُ، فقُلتُ: ثَمَّ هو؟ قالوا: لا، فخرج علَيَّ ابنٌ له جَفْرٌ [2374] الجَفرُ مِنَ الغِلمانِ: الذي قَويَ مِنهم في نَفسِه، وقَويَ في أكلِه. يُنظر: ((المفهم)) لأبي العباس القرطبي (6/ 71). ، فقُلتُ له: أين أبوك؟ قال: سَمِع صوتَك فدَخَل أريكةَ أُمِّي! فقُلتُ: اخرُجْ إليَّ، فقد عَلِمتُ أين أنت! فخرج، فقُلتُ: ما حمَلَك على أن اختبأتَ منِّي؟ قال: أنا -واللهِ- أحَدِّثُك ثُمَّ لا أَكذِبُك، خَشِيتُ -واللهِ- أن أحَدِّثَك فأَكذِبَك، وأن أعِدَك فأُخلِفَك، وكُنتَ صاحِبَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُنتُ -واللهِ- مُعسِرًا، قال: قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قُلتُ: آللهِ؟ قال: اللهِ. قال: فأتى بصحيفتِه فمحاها بيَدِه! فقال: إنْ وجَدْتَ قضاءً فاقْضِني، وإلَّا أنت في حِلٍّ، فأشهَدُ بَصَرُ عَيَنيَّ هاتينِ -ووَضَع إصبَعَيه على عينَيه- وسَمْعُ أُذُنَيَّ هاتينِ، ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مَناطِ قَلبِه- رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: مَن أنظَرَ مُعسِرًا أو وَضَع عنه، أظَلَّه اللهُ في ظِلِّه.
قال: فقُلتُ له أنا: يا عَمِّ، لو أنَّك أخَذْتَ بُردةَ غُلامِك، وأعطيتَه مَعافِرِيَّكَ، وأخَذْتَ معَافِرِيَّه وأعطَيتَه بُرْدَتَك، فكانت عليك حُلَّةٌ وعليه حُلَّةٌ، فمسَح رأسي، وقال: اللهُمَّ بارِكْ فيه، يا ابنَ أخي، بَصَرُ عينيَّ هاتينِ، وسَمعُ أذُنَيَّ هاتينِ، ووعاه قلبي هذا -وأشار إلى مناطِ قَلبِه- رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو يقولُ: أطعِموهم ممَّا تأكُلون، وألبِسوهم ممَّا تَلبَسون [2375] قال أبو العَبَّاسِ القُرطُبيُّ: (ظاهِرُ هذا وُجوبُ تَشريكِ السّيِّدِ عَبدَه في نَوعِ ما يَأكُلُه ويَلبَسُه، وهو ليس بواجِبٍ اتِّفاقًا... لكِن خاف أبو اليَسَرِ أن يَكونَ تَركَ ذلك مُنَقِّصًا مِن حَسَناتِه، فسَوَّى بينَه وبينَ عَبدِه في اللِّباسِ، وكذلك فعَل أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنه). ((المفهم)) (6/ 73). ، وكان أن أعطيتُه من متاعِ الدُّنيا أهونَ علَيَّ مِن أن يأخُذَ من حسَناتي يومَ القيامةِ!))
[2376] أخرجه مسلم (3006، 3007). .
4- عَنِ المِقدامِ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ: ((ما أطعَمتَ نَفسَك فهو صَدَقةٌ، وما أطعَمتَ ولَدَك وزَوجَتَك وخادِمَك فهو صَدَقةٌ)) [2377] أخرجه أحمد (17179)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (9185)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (195) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (143)، وحَسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (17179)، وصحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((التفسير)) (2/264)، وجوده المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (3/106). .

انظر أيضا: