سادسًا: التَّواضُعُ وتَركُ التَّكبُّرِ
يَجِبُ على المَخدومِ أن يَكونَ مُتَواضِعًا، مُبايِنًا للتَّكبُّرِ والتَّرفُّعِ على خادِمِه.
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ:أ- مِنَ الكِتابِ1- قال تعالى:
وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [لقمان: 18] .
ذَكَر لُقمانُ رَضِيَ اللهُ عنه لابنِه الآدابَ في مُعامَلةِ النَّاسِ؛ فنَهاه عَنِ احتِقارِهم، وعَنِ التَّفاخُرِ عليهم، وهذا يَقتَضي أمرَه بإظهارِ مُساواتِه مَعَ النَّاسِ، وعَدَّ نَفسِه كواحِدٍ مِنهم، فيَقولُ: لا تُمِلْ خَدَّك وتُعرِضْ بوَجهِك عَنِ النَّاسِ؛ تَكبُّرًا عليهم، وتَهاوُنًا واستِحقارًا لشَأنِهم، ولا تَمشِ في الأرضِ فرَحًا مُتَبَختِرًا؛ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُتَكبِّرٍ، مَزهوٍّ، مُعجَبٍ بنَفسِه، شَديدِ الفَخرِ على النَّاسِ بما أُعطي مِنَ النِّعَمِ
[2378] يُنظر: ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (24/ 339، 340). .
2- قال تعالى:
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء: 37] .
أي: ولا تَمشِ في الأرضِ مُختالًا مُتَبَختِرًا مُتَمايِلًا مُتَكبِّرًا، كمِشيةِ الجَبَّارينَ؛ إنَّك -أيُّها المُتَكبِّرُ المُتَعاظِمُ في مَشيِه- لن تَثقُبَ الأرضَ بشِدَّةِ وَطءِ قَدَميك عِندَ اختيالِك في مَشيِك، ولن يَبلُغَ طولُك -بتَطاوُلِ بَدَنِك للأعلى في مِشيَتِك- طولَ الجِبالِ؛ فما الذي يُغريك بهذه المِشيةِ، وقُدرتُك لا تَبلُغُ بك هذا المَبلَغَ؟! فتَواضَعْ ولا تَتَكبَّرْ، واعرِفْ قَدرَ ضَعفِك وعَجزِك؛ فأنتَ مَحصورٌ بينَ جَمادينِ لا تَقدِرُ على التَّأثيرِ فيهما؛ الأرضِ التي تَحتَك، والجِبالِ الشَّامِخةِ مِن فَوقِك
[2379] ((التفسير المحرر)) إعداد القسم العلمي بمؤسسة الدُّرر السَّنية (14/ 193، 194). !
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن كان في قَلبِه مِثقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبرٍ. قال رَجُلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يَكونَ ثَوبُه حَسَنًا ونَعلُه حَسَنةً، قال: إنَّ اللَّهَ جَميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبرُ بَطَرُ الحَقِّ، وغَمطُ النَّاسِ)) [2380] أخرجه مسلم (91). .
وبَطَرُ الحَقِّ: رَدُّه وجَحدُه، والدَّفعُ في صَدرِه، وغَمطُ النَّاسِ: احتِقارُهم وازدِراؤُهم، ومَتى احتَقَرَهم وازدَراهم دَفع حُقوقَهم وجَحَدَها، واستَهانَ بها
[2381] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (2/ 317، 318). .
2- عن عَمرِو بنِ شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((يُحشَرُ المتكَبِّرون يومَ القيامةِ أمثالَ الذَّرِّ في صورةِ الرِّجالِ، يغشاهم الذُّلُّ من كُلِّ مكانٍ، يُساقونَ إلى سِجنٍ في جهنَّمَ يُسمَّى بُولَسَ، تغشاهم نارُ الأنيارِ، يُسقَونَ من عُصارةِ أهلِ النَّارِ؛ طينةِ الخَبالِ)) [2382] أخرجه الترمذي (2492) واللفظ له، وأحمد (6677). حسَّنه البغوي في ((شرح السنة)) (6/537)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2492)، جوَّد إسناده ابن حجر في ((فتح الباري)) (11/431)، وحسَّنه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (6677)، قال الترمذي: حسن صحيح. .
3- عن عَبدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقولُ:
((مَن تَعَظَّم في نَفسِه، أوِ اختالَ في مِشيَتِه، لقيَ اللَّهَ وهو عليه غَضبانُ)) [2383] أخرجه أحمد (5995) واللفظ له، والطبراني (13/64) (13692)، والحاكم (201). صَحَّحه الحاكم على شرط الشيخين، والألباني على شرط البخاري في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (543)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (718)، وقال الذهبي في ((الكبائر)) (196): على شرط مسلم. .
4- عن ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن ماتَ وهو بَريءٌ مِن ثَلاثٍ: الكِبرِ، والغُلولِ، والدَّينِ، دَخَل الجَنَّةَ)) [2384] أخرجه الترمذي (1572) واللفظ له، وابن ماجه (2412)، وأحمد (22427) بلفظِ: ((مَن فارَقَ الرُّوحُ الجَسَدَ وهو بَريءٌ ...)). صَحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (2412)، والوادِعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1/161)، وصَحَّحَ إسناده على شرط مسلم شعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (22427). .
5- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((ما نَقَصَت صَدَقةٌ مِن مالٍ، وما زادَ اللهُ عَبدًا بعَفوٍ إلَّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ للَّهِ إلَّا رَفعَه اللهُ)) [2385] أخرجه مسلم (2588). .
وفي رِوايةٍ:
((مَن تَواضَعَ للَّهِ رَفعَه اللهُ)) [2386] أخرجها أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (8/46). صَحَّحَها الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (6162). .
6- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه، عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((إذا أتى أحَدَكُم خادِمُه بطَعامِه، فإنْ لم يُجلِسْه مَعَه فليُناوِلْه أُكلةً أو أُكلتَينِ، أو لُقمةً أو لُقمَتينِ؛ فإنَّه وَلِيَ حَرَّه وعِلاجَه)) [2387] أخرجه البخاري (2557) واللفظ له، ومسلم (1663). .
قال ابنُ بَطَّالٍ: (الأكلُ مَعَ الخادِمِ مِنَ التَّواضُعِ والتَّذَلُّلِ وتَركِ التَّكبُّرِ، وذلك مِن آدابِ المُؤمِنينَ، وأخلاقِ المُرسَلينَ)
[2388] ((شَرح صحيح البخاري)) (9/ 507). .
7- عن المعرورِ بنِ سُوَيدٍ قال: مرَرْنا بأبي ذَرٍّ بالرَّبَذةِ وعليه بُردٌ، وعلى غُلامِه مِثلُه، فقلْنا: يا أبا ذَرٍّ، لو جمعْتَ بَينَهما كانت حُلَّةً! فقال: إنَّه كان بَيني وبَينَ رجُلٍ مِن إخواني كلامٌ، وكانت أمُّه أعجَميَّةً، فعيَّرْتُه بأمِّه، فشكاني إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلَقيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال:
((يا أبا ذَرٍّ، إنَّك امرُؤٌ فيك جاهِليَّةٌ! قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، مَن سبَّ الرِّجالَ سبُّوا أباه وأمَّه، قال: يا أبا ذَرٍّ، إنَّك امرُؤٌ فيك جاهِليَّةٌ، هم إخوانُكم، جعَلَهم اللهُ تحتَ أيديكم، فأطعِموهم ممَّا تأكُلونَ، وألبِسوهم ممَّا تَلبَسونَ، ولا تُكلِّفوهم ما يَغلِبُهم؛ فإن كلَّفْتُموهم فأعينوهم)) [2389] أخرجه البخاري (30)، ومسلم (1661) واللفظ له. .
قال ابنُ المُلقِّنِ: (فيه النَّهيُ عن سَبِّ العَبيدِ وتعييرِهم بوالِديهم، والحَثُّ على الإحسانِ إليهم، والرِّفقِ بهم، فلا يَجوزُ لأحَدٍ تَعييرُ أحَدٍ بشيءٍ مِنَ المَكروهِ يَعرِفُه في آبائِه وخاصَّةِ نَفسِه، كما نُهيَ عَنِ الفَخرِ بالآباءِ، ويَلحَقُ بالعَبدِ مَن في مَعناه مِن أجيرٍ وخادِمٍ وضَعيفٍ، وكذا الدَّوابُّ، يَنبَغي أن يُحسِنَ إليها، ولا تُكلَّفُ مِنَ العَمَلِ ما لا تُطيقُ الدَّوامَ عليه، فإن كَلَّفه ذلك لزِمَه إعانَتُه عليه بنَفسِه أو بغَيرِه.
وفيه عَدَمُ التَّرَفُّعِ على المُسلمِ، وإن كان عَبدًا أو نَحوهَ مِنَ الضَّعَفةِ؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى قال:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] ، وقد تَظاهَرَتِ الدَّلائِلُ على الأمرِ باللُّطفِ بالضَّعَفةِ، وخَفضِ الجَناحِ لهم، وعلى النَّهيِ عَنِ احتِقارِهم والتَّرَفُّعِ عليهم)
[2390] ((التوضيح)) (3/ 30). .