سابعًا: التِّلاوةُ بخُشوعٍ وتَدَبُّرٍ
يُستَحَبُّ لقارِئِ القُرآنِ الكَريمِ أن يَكونَ شَأنُه الخُشوعَ والتَّدَبُّرَ عِندَ القِراءةِ
[1650] قال المناوي: (القِراءةُ حالةٌ تَقتَضي مُطالَعةَ جَلالِ اللهِ وعِرفانَ صِفاتِه، ولذلك الحالِ آثارٌ تَنشَأُ عنها الخَشيةُ مِن وعيدِ اللهِ وزَواجِرِ تَذكيرِه وقَوارِع تَخويفِه، فمَن تَلَبَّس بهذا الحالِ وظَهَرَت عليه هَيبةُ الجَلالِ فهو أحسَنُ النَّاسِ قِراءةً؛ لِما دَلَّ عليه حالُه مِن عَدَمِ غَفلةِ قَلبِه عن تَدَبُّرِ مَواعِظِ رَبِّه، وخَشيةُ اللهِ سَبَبٌ لوُلوجِ نورِ اليَقينِ في القَلبِ، والتَّلَذُّذِ بكَلامِ الرَّبِّ، ومَن لَم يَكُنْ كذلك فالقُرآنُ لا يُجاوِزُ حَنجَرَتَه). يُنظر: ((فيض القدير)) للمناوي (1/ 190). .
الدَّليلُ على ذلك مِن الكتابِ والسُّنَّةِ: أ- من الكِتابِ:1- قال تعالى:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا * قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء: 105 - 109] .
2- قال تعالى:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] .
3- قال تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 21] .
قال الرَّسْعَنيُّ: (قَولُه تعالى:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ المَعنى: لَو رَكَّبنا في جَبَلٍ عَقلًا وتَمييزًا وأنزَلْنا هذا القُرآنَ العَظيمَ عليه،
لَرَأَيْتَهُ لمَواعِظِ القُرآنِ وزواجرِه مَعَ ما رُكِّبَ فيه مِنَ الصَّلابةِ
خَاشِعًا ذَليلًا خاضِعًا...
والغَرَضُ: تَوبيخُ الإنسانِ على قَسوةِ قَلبِه، وقِلَّةِ خُشوعِه عِندَ تِلاوةِ القُرآنِ، وإعراضِه عن تَدَبُّرِ آياتِه، والتَّفكُّرِ في عَجائِبِ ما صُرِّف فيه مِنَ الوَعدِ والوَعيدِ)
[1651] ((رموز الكنوز)) (8/ 74). .
4- قال تعالى:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29] .
5- قال تعالى:
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد: 24] .
ب- مِنَ السُّنَّةِ1- عن عَبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((قال لي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اقرَأْ عَلَيَّ، قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، آقرأُ عليك، وعليك أنزِلَ؟! قال: نَعَم، فقَرَأتُ سورةَ النِّساءِ حَتَّى أتَيتُ إلى هذه الآيةِ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [النساء: 41] ، قال: حَسْبُك الآنَ! فالتَفتُّ إليه، فإذا عَيناه تَذرِفانِ)) [1652] أخرجه البخاري (5050) واللفظ له، ومسلم (800). .
2- عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه، قال:
((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل)) يعني: يبكي
[1653] أخرجه النسائي (1214) واللفظ له، وأحمد (16312). صححه ابن خزيمة في ((صحيحه)) (2/114)، وابن حبان في ((صحيحه)) (753)، والحاكم على شرط مسلم في ((المستدرك)) (987)، والنووي في ((خلاصة الأحكام)) (1/497). .
قال البَغَويُّ: (أزيزُ المِرجَلِ: صَوتُه، يُريدُ غَلَيانَ جَوفِه بالبُكاءِ.
ويُروى: «كَأزيزِ الرَّحى» وهو صَوتُها وجَرجَرَتُها، والأزيزُ والهَزيزُ: الصَّوتُ، وأصلُ الهَزِّ والأزِّ: التَّحريكُ، ومِنه قَولُه سُبحانَه وتعالى:
تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] ، أي: تُزعِجُهم، ويُقالُ: أُزَّ قِدْرَك، أي: ألهِبْ النَّارَ تَحتَها)
[1654] ((شرح السنة)) (3/ 245). .
3- عن عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، قال:
((ما كان فينا فارِسٌ يَومَ بَدرٍ غَيرُ المِقدادِ، ولَقد رَأيتُنا وما فينا قائِمٌ إلَّا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَحتَ شَجَرةٍ يُصَلِّي ويَبكي حَتَّى أصبَحَ!)) [1655] أخرجه أحمد (1023)، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (823)، وابن حبان (2257) واللفظ له. صحَّحه ابنُ خزيمة في ((صحيحه)) (2/114)، وابن حبان، والألباني في ((صحيح الترغيب)) (545)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (2/56). .
4- عن عُبَيدِ بنِ عُمَيرٍ، أنَّه قال لعائِشةَ رَضيَ اللهُ عنه: أخبرينا بأعجَبِ شَيءٍ رَأيتِه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال:
((فسَكَتَت ثُمَّ قالت: لمَّا كان لَيلةً مِنَ اللَّيالي قال: يا عائِشةُ، ذَريني أتَعَبَّدُ اللَّيلةَ لرَبِّي، قُلتُ: واللهِ إنِّي لأُحِبُّ قُربَك وأُحِبُّ ما سَرَّك، قالت: فقامَ فتَطَهَّر ثُمَّ قامَ يُصَلِّي، فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ حِجرَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ لِحيَتَه، ثُمَّ بَكى فلَم يَزَلْ يَبكي حَتَّى بَلَّ الأرضَ، فجاءَ بِلالٌ يُؤذِنُه بالصَّلاةِ، فلَمَّا رَآه يَبكي قال: يا رَسولَ اللهِ، لمَ تَبكي وقد غَفرَ اللهُ لَك ما تَقدَّم وما تَأخَّرَ؟ قال: أفلا أكونُ عَبدًا شَكورًا؟ لَقد نَزَلَت عليَّ اللَّيلةَ آيةٌ وَيلٌ لِمَن قَرَأها ولَم يَتَفكَّرْ فيها: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 190] الآيةَ كُلَّها)) [1656] أخرجه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (4618)، وابن حبان (620) واللفظ له، وابن عدي في ((الكامل في الضعفاء)) (5/317). حَسَّنه الألباني في ((صحيح الترغيب)) (1468)، والوادعي في ((الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (1627)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((شرح مشكل الآثار)) (4618). وذهب إلى تصحيحه ابنُ حبان. .
فوائِدُ:1- قال العِزُّ بنُ عَبدِ السَّلامِ: (إنَّما أنزَلَ اللهُ كِتابَه ليَتَأدَّبَ عِبادُه بآدابِه، ويَتَخَلَّقوا بأخلاقِه، ويَتَأمَّلوا ما فيه مِنَ الثَّناءِ على اللهِ، وما لَم يُتَدَبَّرْ ذلك حَتَّى يُفهَمَ لا يُمكِنُ العَمَلُ به؛ فإنَّه رَسائِلُ أرسَلَها اللهُ تعالى إلى عِبادِه ليُنَفِّذوها، لا لتُقرَأَ عليهم فلا يَفهَموها ولا يُقيموها)
[1657] ((شجرة المعارف)) للمناوي (ص: 67). .
2- قال ابنُ القَيِّمِ: (لا شَيءَ أنفَعُ للقَلبِ مِن قِراءةِ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ والتَّفكُّرِ؛ فإنَّه جامِعٌ لجَميعِ مَنازِلِ السَّائِرينَ، وأحوالِ العامِلينَ، ومَقاماتِ العارِفينَ، وهو الذي يورِثُ المَحَبَّةَ والشَّوقَ، والخَوفَ والرَّجاءَ، والإنابةَ والتَّوكُّلَ، والرِّضا والتَّفويضَ، والشُّكرَ والصَّبرَ، وسائِرَ الأحوالِ التي بها حَياةُ القَلبِ وكَمالُه، وكَذلك يَزجُرُ عن جَميعِ الصِّفاتِ والأفعالِ المَذمومةِ التي بها فَسادُ القَلبِ وهَلاكُه.
فلَو عَلِمَ النَّاسُ ما في قِراءةِ القُرآنِ بالتَّدَبُّرِ لاشتَغَلوا بها عن كُلِّ ما سِواها، فإذا قَرَأه بتَفكُّرٍ حَتَّى مَرَّ بآيةٍ وهو مُحتاجٌ إليها في شِفاءِ قَلبِه، كَرَّرَها ولَو مِئةَ مَرَّةٍ، ولَو لَيلةً؛ فقِراءةُ آيةٍ بتَفكُّرٍ وتَفهُّمٍ خَيرٌ مِن قِراءةِ خَتمةٍ بغَيرِ تَدَبُّرٍ وتَفهُّمٍ، وأنفَعُ للقَلبِ، وأدعى إلى حُصولِ الإيمانِ، وذَوقِ حَلاوةِ القُرآنِ. وهذه كانت عادةَ السَّلَفِ؛ يُرَدِّدُ أحَدُهمُ الآيةَ إلى الصَّباحِ... فقِراءةُ القُرآنِ بالتَّفكُّرِ هيَ أصلُ صَلاحِ القَلبِ.
والتَّفكُّرُ في القُرآنِ نَوعانِ: تَفَكُّرٌ فيه ليَقَعَ على مُرادِ الرَّبِّ تعالى مِنه، وتَفكُّرٌ في مَعاني ما دَعا عِبادَه إلى التَّفكُّرِ فيه.
فالأوَّلُ: تَفَكُّرٌ في الدَّليلِ القُرآنيِّ،
والثَّاني: تَفَكُّرٌ في الدَّليلِ العِيانيِّ.
الأوَّلُ: تَفَكُّرٌ في آياتِه المَسموعةِ،
والثَّاني: تَفَكُّرٌ في آياتِه المَشهودةِ.
ولهذا أنزَلَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ القُرآنَ ليُتَدَبَّرَ ويُتَفكَّرَ فيه ويُعمَلَ به، لا لمُجَرَّدِ تِلاوتِه مَعَ الإعراضِ عنه. قال الحَسَنُ البَصريُّ: أُنزِلَ القُرآنُ ليُعمَلَ به، فاتَّخَذوا تِلاوتَه عَمَلًا!)
[1658] ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 187). .