المَبْحَثُ الأوَّلُ: من وظائِفِ الرُّسُلِ: البلاغُ المُبِينُ
مُهِمَّةُ الرُّسُلِ الأُولى هي إبلاغُ الأمانةِ التي تحمَّلوها إلى عبادِ اللهِ.
قال اللهُ تعالى:
وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [النور: 54] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (يقولُ: وغيرُ واجبٍ على من أرسله اللهُ إلى قومٍ برسالةٍ إلَّا أن يُبَلِّغَهم رسالتَه بلاغًا يُبِينُ لهم ذلك البلاغُ عمَّا أراد اللهُ به)
[638] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (17/345). .
وقال أيضًا: (يعني بالبلاغِ المُبِينِ: الذي يَبِينُ لِمن سمعه ما يرادُ به، ويُفهَمُ به ما يعني به)
[639] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (18/376). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة: 67] .
قال
السَّعْديُّ: (هذا أمرٌ من اللهِ لرسولِه مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأعظَمِ الأوامِرِ وأجَلِّها، وهو التبليغُ لِما أنزل اللهُ إليه، ويدخُلُ في هذا كُلُّ أمرٍ تلقَّتْه الأُمَّةُ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من العقائدِ والأعمالِ والأقوالِ، والأحكامِ الشَّرعيَّةِ والمطالِبِ الإلهيَّةِ. فبلَّغ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكمَلَ تبليغٍ، ودعا وأنذر، وبَشَّر ويَسَّر، وعَلَّم الجُهَّالَ الأُمِّيِّين حتى صاروا من العُلَماءِ الرَّبَّانيِّين، وبلَّغ بقَولِه وفِعْلِه وكُتُبِه ورُسُلِه، فلم يَبْقَ خيرٌ إلَّا دلَّ أمَّتَه عليه، ولا شَرٌّ إلَّا حذَّرها عنه، وشهد له بالتبليغِ أفاضِلُ الأُمَّةِ من الصَّحابةِ، فمَن بَعْدَهم من أئمَّةِ الدِّينِ ورِجالِ المُسلِمين.
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أي: لم تُبَلِّغْ ما أُنزِلَ إليك من رَبِّك
فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ أي: فما امتَثَلْتَ أمْرَه)
[640] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 239). .
قال الخازنُ: (أجمعوا على أنَّه لا يجوزُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيانةٌ في الوَحيِ والإنذارِ، ولا يَترُك بَعضَ ما أوحِيَ إليه لقَولِ أحدٍ؛ لأنَّ تجويزَ ذلك يؤدِّي إلى الشَّكِّ في أداء الشَّرائعِ والتكاليفِ؛ لأنَّ المقصودَ من إرسالِ الرَّسولِ التبليغُ إلى من أُرسِلَ إليه، فإذا لم يحصُلْ ذلك فقد فاتت فائدةُ الرِّسالةِ)
[641] يُنظر: ((تفسير الخازن)) (2/ 474). .
وقال
حافِظٌ الحَكَميُّ: (إنَّه أي: الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُبَلِّغٌ عن اللهِ عَزَّ وجَلَّ، لم يَقُلْ شيئًا من رأيِه فيما يتعَلَّقُ بالتبليغِ، بل ليس عليه إلَّا بلاغُ الرِّسالةِ مِنَ اللهِ إلى النَّاسِ، وتلاوةُ آياتِه على النَّاسِ، وتعليمُهم الحِكمةَ والتِّبيانَ... ويكفي في ذلك قَولُ اللهِ تعالى:
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44-46] الآيات)
[642] يُنظر: ((معارج القبول)) (3/1106-1108). .
والبلاغُ يَكونُ بتلاوةِ النُّصوصِ التي أوحاها اللهُ من غيرِ نُقصانٍ ولا زيادةٍ.
قال اللهُ تعالى:
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [العنكبوت: 45] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قال تعالى آمرًا رسولَه والمُؤمِنين بتلاوةِ القُرآنِ، وهو قراءتُه وإبلاغُه للنَّاسِ)
[643] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 280). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مّنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا [البقرة: 151] .
قال
السَّعْديُّ: (يقولُ تعالى: إنَّ إنعامَنا عليكم باستقبالِ الكَعبةِ وإتمامَها بالشَّرائِعِ والنِّعَمِ المتَمِّمةِ، ليس ذلك ببِدْعٍ مِن إحسانِنا ولا بأوَّلِه، بل أنعَمْنا عليكم بأُصولِ النِّعَمِ ومُتَمِّماتِها، فأبلَغُها إرسالُنا إليكم هذا الرَّسولَ الكريمَ منكم، تَعرِفون نَسَبَه وصِدْقَه، وأمانَتَه وكَمالَه ونُصْحَه.
يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا، وهذا يعُمُّ الآياتِ القُرآنيَّةَ وغَيرَها، فهو يتلو عليكم الآياتِ المُبَيِّنةَ للحَقِّ من الباطِلِ، والهدى من الضَّلالِ، التي دلَّتْكم أولًا على توحيدِ اللهِ وكَمالِه، ثُمَّ على صِدْقِ رَسولِه، ووُجوبِ الإيمانِ به، ثُمَّ على جميعِ ما أخبر به من المعادِ والغُيوبِ، حتى حصل لكم الهدايةُ التامَّةُ، والعِلْمُ اليَقينيُّ)
[644] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 74). .
ومن البلاغِ أن يوضِّحَ الرَّسولُ الوَحيَ الذي أنزله اللهُ لعبادِه؛ لأنَّه أقدَرُ من غيرِه على التعَرُّفِ على معانيه ومراميه، وأعرَفُ من غيرِه بمرادِ اللهِ مِن وَحْيِه.
قال اللهُ تعالى لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل: 44] .
قال
السمعاني: (قَولُه:
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ. وقد كان الرَّسولُ مُبَيِّنًا للوَحيِ، وقد قال أهلُ العِلْمِ: إنَّ بيانَ الكِتابِ في السُّنَّةِ. وقَولُه:
وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني: يتدَبَّرون ويَعتَبِرون)
[645] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 174). .
والبيانُ مِنَ الرَّسولِ للوَحيِ الإلهيِّ قد يَكونُ بالقَولِ.
ومن ذلك ما جاء عن
عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لَمَّا نَزَلَتْ هذِه الآيَةُ:
الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهُمْ بظُلْمٍ [الأنعام: 82] شَقَّ ذلكَ علَى أصْحابِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقالوا: أيُّنا لَمْ يَلْبِسْ إيمانَهُ بظُلْمٍ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنَّه ليسَ بذاكَ، ألا تَسْمَعُونَ إلى قَوْلِ لُقْمانَ:
إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] )
[646] أخرجه البخاري (6918) واللَّفظُ له، ومسلم (124). .
وقد يَكونُ البيانُ بالفِعلِ، فأفعالُ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الصَّلاةِ والصَّدَقةِ والحَجِّ وغيرِ ذلك بيانٌ لكثيرٍ مِن الآياتِ القُرآنيَّةِ.
قال
ابنُ تَيمِيَّةَ: (أمَّا الرُّسُلُ فقد تبَيَّن أنَّهم هم الوسائِطُ بيننا وبَينَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، في أمْرِه ونَهْيِه ووَعْدِه ووَعيدِه وخَبَرِه؛ فعلينا أن نُصَدِّقَهم في كُلِّ ما أخبروا به، ونطيعَهم فيما أوجبوا وأمَروا)
[647] يُنظر: ((قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة)) (ص: 261). .