المَبحَثُ الثَّامِنُ: الجَنَّةُ خالِدةٌ وأهلُها خالِدُون
قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا يَقُولُ: باقينَ في هذه الجَنَّاتِ الَّتي وصَفَها أبَدًا دائِمًا)
[4953] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (7/ 505). .
وقال
ابنُ كَثيرٍ: (
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا أي: بلا زَوالٍ ولا انتِقالٍ
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: هذا وعْدٌ مِنَ اللهِ، ووعْدُ اللهِ مَعلُومٌ حَقيقةً أنَّه واقِعٌ لا مَحالةَ؛ ولِهذا أكَّدَه بالمَصدَرِ الدَّالِّ على تَحقيقِ الخَبَرِ، وهو قَولُه:
حَقًّا ثُمَّ قال
وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا أي: لا أحَدَ أصدَقُ مِنه قَولًا وخَبرًا، لا إلَهَ إلَّا هو، ولا رَبَّ سِواه)
[4954] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (2/ 416). .
وقال اللهُ سُبحانَه:
وَمَن يُؤْمِنْ باللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التغابن: 9] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (قَولُه:
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا يَقُولُ: لابِثينَ فيها أبَدًا، لا يَمُوتُونَ، ولا يُخرَجُونَ مِنها.
وقَولُه:
ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ يَقُولُ: خُلُودُهم في الجَنَّاتِ الَّتي وصَفْنا النَّجاءُ العَظيمُ)
[4955] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (23/ 10). .
وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ:
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 47-48] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
وَمَا هُمْ مِنْهَا بْمُخْرَجِينَ يَقُولُ: وما هم مِنَ الجَنَّةِ ونَعيمِها وما أعطاهمُ اللهُ فيها بمُخرَجينَ، بَل ذَلِكَ دائِمٌ أبَدًا)
[4956] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/ 81). .
وقال
السَّمعاني: (قَولُه:
وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ هذا أنصُّ آيةٍ في القُرآنِ على الخُلُودِ؛ هَكَذا قال أهلُ العِلمِ)
[4957] يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (3/ 142). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((يُجاءُ بالمَوتِ يَومَ القيامةِ، كَأنَّه كَبشٌ أملَحُ، فيُوقَفُ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، فيُقالُ: يا أهلَ الجَنَّةِ هَل تَعرِفُونَ هذا؟ فيشرَئِبُّونَ ويَنظُرُونَ ويَقُولُونَ: نَعَم، هذا المَوتُ، قال: ويُقالُ: يا أهلَ النَّارِ هَل تَعرِفُونَ هذا؟ قال فيشرَئِبُّونَ ويَنظُرُونَ ويَقُولُونَ: نَعَم، هذا المَوتُ، قال: فيُؤمَرُ به فيُذبَحُ، قال: ثُمَّ يُقالُ: يا أهلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فلا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلُودٌ فلا مَوتَ، قال: ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [مريم: 39] ، وأشارَ بيدِه إلى الدُّنيا)) [4958] أخرجه البخاري (4730)، ومسلم (2849) واللَّفظُ له. .
قال
النَّوويُّ: (يُتَأوَّلُ الحَديثُ على أنَّ اللهَ يَخلُقُ هذا الجِسمَ ثُمَّ يُذبَحُ مِثالًا؛ لِأنَّ المَوتَ لا يَطرَأُ على أهلِ الآخِرةِ، والكَبشُ الأملَحُ قيلَ هو الأبيضُ الخالِصُ، قاله ابنُ الأعرابيِّ، وقال
الكِسائيُّ: هو الَّذي فيه بياضٌ وسَوادٌ وبياضُه أكثَرُ، وسَبَقَ بيانُه في الضَّحايا. قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((فيشرَئِبُّونَ)) بالهَمزِ، أي: يَرفَعُونَ رُؤسَهم إلى المُنادي)
[4959] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 185). .
وعَن
عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إذا صارَ أهلُ الجَنةِ إلى الجَنةِ، وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ، جيءَ بالمَوتِ حَتَّى يُجعَلَ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، ثُمَّ يُذبَحُ، ثُمَّ يُنادي مَنادٍ: يا أهلَ الجَنةِ لا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ لا مَوتَ، فيَزدادُ أهلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهم، ويَزدادُ أهلُ النَّارِ حُزنًا إلى حُزْنِهم )) [4960] أخرجه البخاري (6548) واللَّفظُ له، ومسلم (2850). .
قال
البيضاويُّ: (لَعَلَّ المَوتَ تَمَثَّلُ لِلنَّاسِ على صُورةِ حيَوانٍ... ليَتيَقَّنُوا غايةَ اليَقينِ أنْ لا مَوتَ بَعدَ ذَلِكَ، فيَزدادُ فرحُ أهلِ الجَنةِ، وحُزنُ أهلِ النَّارِ؛ فإنَّ العِيانَ أعلى مَراتِبِ اليَقينِ والعِرفانِ، واللهُ أعلَمُ)
[4961] يُنظر: ((تحفة الأبرار)) (3/ 418). .
وقال ابنُ الملكِ الرُّوميُّ الحَنفيُّ: (يَخرُجُ المَوتُ المَعقُولُ يَومَ القيامةِ في صُورةِ المَحسُوسِ.
((حَتَّى يُجعَلَ بينَ الجَنةِ والنَّارِ)) فيُشاهِدَه أهلُ الجَنةِ والنَّارِ بأعيُنِهم، فيُمَثَّلُ لَهم في صُورةِ كَبشٍ.
((ثُمَّ يُذبَحُ)) ليَعلَمُوا أن نَعيمَ أهلِ الجَنةِ في الجَنةِ أَبديٌّ بلا انقِطاعٍ، وعَذابَ أهلِ النَّارِ الَّذينَ لَهمُ استِحقاقُ الخُلُودِ في النَّارِ أَبَديٌّ بلا انقِطاعٍ)
[4962] يُنظر: ((شرح المصابيح)) (6/ 84). .
وقال
ابنُ باز: (
((جيءَ بالمَوتِ)) ليسَ المَلَكَ بَلِ المَوتَ نَفسَه، يُجعَلُ عَرَضًا على صُورةِ كَبْشٍ).
وعَن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((مَن يَدخُلِ الجَنَّةَ يَنعَمُ لا يَبأَسُ، لا تَبلى ثيابُه، ولا يَفنى شَبابُه )) [4963] أخرجه مسلم (2836). .
قال
النَّوويُّ: (قَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ يَنعَمُ لا يَبأَسُ)) وفي رِوايةٍ:
((إنَّ لَكم أن تَنعَمُوا فلا تَبأَسُوا أبَدًا)) [4964] أخرجها مسلم (2837) مطولًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنهما. أي: لا يُصيبُكم بأْسٌ، وهو شِدَّةُ الحالِ. والبَأسُ والبُؤسُ والبَأساءُ والبُؤساءُ بمَعنًى، ويَنعَمُ وتَنعَمُ بفَتحِ أوَّلِه والعَينِ، أي: يَدُومُ لَكمُ النَّعيمُ)
[4965] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 174). .
وعَن أبي سَعيدٍ الخُدْريِّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عَنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((ينادي مُنادٍ: إنَّ لكم أن تصِحُّوا فلا تَسقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَحْيَوا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَشبُّوا فلا تَهرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَنعَمُوا فلا تَبأَسُوا أبَدًا، فذَلِكَ قَولُه عَزَّ وجَلَّ: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 43] )) [4966] أخرجه مسلم (2837). .
قال
ابنُ باز: (جَعَلَ اللهُ سُبحانَه هذه الدَّارَ طَريقًا لِلآخِرةِ، ومَعْبَرًا لَها، فمَن عَمَّرَها بطاعةِ اللهِ وتَوحيدِه، واتِّباعِ رُسُلِه عليهمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، انتَقَلَ مِن دارِ العَمَلِ وهي الدُّنيا، إلى دارِ الجَزاءِ وهي الآخِرةُ، وصارَ إلى دارِ النَّعيمِ والحبرةِ والسُّرُورِ، دارِ الكَرامةِ والسَّعادةِ، دارٍ لا يَفنى نَعيمُها، ولا يَمُوتُ أهلُها، ولا تَبلى ثيابُهم، ولا يَخلقُ شَبابُهم، بَل في نَعيمٍ دائِمٍ، وصِحَّةٍ دائِمةٍ، وشَبابٍ مُستَمِرٍّ، وحياةٍ طيبةٍ سَعيدةٍ، ونَعيمٍ لا يَنفَدُ، يُنادى فيهم مِن عِندِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ: «يا أهلَ الجَنَّةِ، إنَّ لَكم أن تَحْيَوا فلا تَمُوتُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَصِحُّوا فلا تَسقَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَشبُّوا فلا تَهرَمُوا أبَدًا، وإنَّ لَكم أن تَنعَمُوا فلا تَبأَسُوا أبَدًا» هذه حالُهم، ولَهم فيها ما يَشتَهونَ، ولَهم فيها ما يَدَّعُونَ
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فُصِّلت: 32] ، ولَهم فيها لِقاءٌ مَعَ اللهِ عَزَّ وجَلَّ كَما يَشاءُ، ورُؤيةُ وَجْهِه الكَريمِ جَلَّ وعَلا)
[4967] يُنظر: ((بيان التوحيد الذي بعث الله به الرسلُ جميعًا وبعث به خاتمَهم محمدًا عليه السلام)) (ص: 5). .
قال
ابنُ عُثيمين: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ أهلَ الجَنَّةِ يُنادي فيهم مُنادٍ: إنَّ لَكم أن تَحْيَوا فلا تَمُوتُوا أبَدًا وإنَّ لَكم أن تَصِحُّوا فلا تَسقَمُوا أبَدًا، وذَكرَ الحَديثَ، أي: أنَّهم في نَعيمٍ دائِمٍ لا يَخافُونَ المَوتَ ولا السَّقمَ ولا انقِطاعَ ما هم فيه مِنَ النَّعيمِ، كَما قال تعالى:
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة: 32-33] )
[4968] يُنظر: ((شرح رياض الصالحين)) (6/ 733). .
ومِن أقوالِ أهلِ العِلمِ في ذَلِكَ:1- قال أبُو حاتِمٍ و
أبُو زُرعةَ الرَّازيَّانِ: (أدرَكْنا العُلَماءَ في جَميعِ الأمصارِ -حِجازًا وعِراقًا وشامًا ويَمَنًا- فكانَ مِن مَذهَبِهم... الجَنَّةُ حَقٌّ والنَّارُ حَقٌّ، وهما مَخلُوقانِ لا يَفنيانِ أبَدًا)
[4969] يُنظر: ((شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة)) للالكائي (1/ 198-199). .
2- قال أبُو إسماعيلَ الصَّابُونيُّ: (يَشهَدُ أهلُ السُّنَّةِ أنَّ الجَنَّةَ والنَّارَ مَخلُوقَتانِ وأنَّهما باقيَتانِ لا يَفنيانِ أبَدًا، وأنَّ أهلَ الجَنَّةِ لا يُخرَجُونَ مِنها أبَدًا، وكَذَلِكَ أهلُ النَّارِ الَّذينَ هم أهلُها خُلِقُوا لَها، لا يُخرَجُونَ مِنها أبَدًا، وأنَّ المَنادي يُنادي يَوْمَئِذٍ
((يا أهلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ ولا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ خُلُودٌ ولا مَوتَ)) على ما ورَدَ به الخَبَرُ الصَّحيحُ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)
[4970] يُنظر: ((عقيدة السلف وأصحاب الحديث)) (ص: 264). .
3- قال
ابنُ حَزمٍ: (الجَنَّةُ حَقٌّ، والنَّارُ حَقٌّ، دارَان مَخلُوقَتانِ... مُخَلَّدَتانِ هما ومَن فيهما بلا نِهايةٍ... كُلُّ هذا إجماعٌ مِن جَميعِ أهلِ الإسلامِ، ومَن خَرجَ عَنه خَرجَ عَنِ الإسلامِ)
[4971] يُنظر: ((الدرة فيما يجب اعتقاده)) (ص: 311). .
4- قال
ابنُ تيميَّةَ: (قَدِ اتَّفَقَ سَلَفُ الأُمَّةِ وأئِمَّتُها وسائِرُ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ على أنَّ مِنَ المَخلُوقاتِ ما لا يَعدَمُ ولا يَفنى بالكُلِّيَّةِ، كالجَنَّةِ)
[4972] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (18/307). .
5- قال ابنُ أبي العِزِّ: (فأمَّا أبَدِيَّةُ الجَنَّةِ وأنَّها لا تَفنى ولا تَبيدُ، فهذا مِمَّا يُعلَمُ بالضَّرُورةِ أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ به، قال تعالى:
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] ، أي: غيرَ مَقطُوعٍ، ولا يُنافي ذَلِكَ قَولُه:
إلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [ هود: 108] . واختَلَفَ السَّلَفُ في هذا الِاستِثناءِ؛ فقيلَ: مَعناه: إلَّا مُدَّةَ مُكْثِهمْ في النَّارِ، وهذا يَكُونُ لِمَن دَخلَ مِنهم إلى النَّارِ ثُمَّ أُخرِجَ مِنها، لا لِكُلِّهم. وقيلَ: إلَّا مُدَّةَ مَقامِهم في المَوقِفِ. وقيلَ: إلَّا مُدَّةَ مَقامِهم في القُبُورِ والمَوقِفِ. وقيلَ: هو استِثناءٌ استَثناه الرَّبُّ ولا يَفعَلُه، كَما تَقُولُ: واللهِ لِأضرِبَنَّكَ إلَّا أن أرى غيرَ ذَلِكَ، وأنتَ لا تَراه، بَل تَجزِمُ بضَربِه. وقيلَ: «إلَّا» بمَعنى الواو، وهذا على قَولِ بَعضِ النُّحاةِ، وهو ضَعيفٌ. و
سيبويه يَجعَلُ إلَّا بمَعنى لَكِنْ، فيَكُونُ الِاستِثناءُ مُنقَطِعًا، ورَجَّحَه
ابنُ جَريرٍ وقال: إنَّ الله تعالى لا خُلْفَ لِوعدِه، وقَد وصَلَ الِاستِثناءَ بقَولِه:
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] ، قالُوا: ونَظيرُه أن تَقُولَ: أسكَنتُكَ داري حَولًا إلَّا ما شِئْتُ، أي: سِوى ما شِئْتُ، أو لَكِنْ ما شِئْتُ مِنَ الزِّيادةِ عليه. وقيلَ: الِاستِثناءُ لِإعلامِهم بأنَّهم -مَعَ خُلُودِهم- في مَشيئةِ الله؛ لِأنَّهم لا يَخرُجُونَ عَن مَشيئَتِه، ولا يُنافي ذَلِكَ عَزيمَتَه وجَزْمَه لَهم بالخُلُودِ، كَما في قَولِه تعالى:
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا [ الإسراء: 86] ، وقَولِه تعالى:
فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ [الشُّورى: 24] ، وقَولِه:
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ [يُونس:16] ، ونَظائِرُه كَثيرةٌ، يُخبرُ عِبَادَه سُبحانَه أنَّ الأُمُورَ كُلَّها بمَشيئَتِه، ما شاءَ اللهُ كانَ، وما لَم يَشَأْ لَم يَكُنْ.
وقيلَ: إنَّ «ما» بمَعنى «مَن» أي: إلَّا مَن شاءَ اللهُ دُخُولَه النَّارَ بذُنُوبِه مِنَ السُّعداءِ. وقيلَ غيرُ ذَلِكَ.
وعلى كُلِّ تَقديرٍ، فهذا الِاستِثناءُ مِنَ المُتَشابِهِ، وقَولُه:
عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود: 108] . مُحكَمٌ، وكَذَلِكَ قَولُه تعالى:
إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ [ص: 54] ، وقَولُه:
أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا [الرَّعد: 35] ، وقَولُه:
وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ.
وقَد أكَّدَ اللهُ خُلُودَ أهلِ الجَنَّةِ بالتَّأبيدِ في عِدَّةِ مَواضِعَ مِنَ القُرآنِ، وأخبَرَ أنَّهم
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى [الدُّخان: 56] . وهذا الِاستِثناءُ مُنقَطِعٌ، وإذا ضَمَمْتَه إلى الِاستِثناءِ في قَولِه تعالى:
إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ [هود: 108] ، تَبيَّنَ أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَتينِ استِثناءُ الوقتِ الَّذي لَم يَكُونُوا فيه في الجَنةِ مِن مُدَّةِ الخُلُودِ، كاستِثناءِ المَوتةِ الأُولى مِن جُملةِ المَوتِ، فهذه مَوتةٌ تقَدَّمت على حياتِهمُ الأبَديَّةِ، وذَلِكَ مُفارَقةٌ لِلجَنةِ تقَدَّمت على خُلُودِهم فيها.
والأدِلَّةُ مِنَ السُّنَّةِ على أبَدِيَّةِ الجَنَّةِ ودَوامِها كَثيرةٌ؛ كَقَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((مَن يَدخُلُ الجَنَّةَ يَنعَمُ ولا يَبأَسُ، ويُخَلَّدُ ولا يَمُوتُ)). وقَولُه:
((يُنادِي مُنادٍ: يا أهلَ الجَنَّةِ، إنَّ لَكم أن تَصِحُّوا فلا تَسقَمُوا أبَدًا، وأن تَشِبُّوا فلا تَهرَمُوا أبَدًا، وأن تَحْيَوا فلا تَمُوتُوا أبَدًا )). وتقَدَّم ذِكْرُ ذَبحِ المَوتِ بينَ الجَنةِ والنَّارِ، ويُقالُ:
((يا أهلَ الجَنةِ، خُلُودٌ فلا مَوتَ، ويا أهلَ النَّارِ، خُلُودٌ فلا مَوتَ )) [4973] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 622-624). .