المَطْلَب الثَّالثُ: أدِلَّةُ العُذْرِ بالخَطَأِ
استدَلَّ أهلُ السُّنَّةِ لذلك بأدِلَّةٍ كثيرةٍ؛ منها:
1- قَولُه سُبحانَه:
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [الأحزاب: 5] .
قال
ابنُ كثيرٍ: (قال:
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ أي: إذا نسَبْتُم بعضَهم إلى غيرِ أبيه في الحقيقةِ خَطَأً، بعد الاجتهادِ واستفراغِ الوُسْعِ؛ فإنَّ اللهَ قد وضع الحَرَجَ في الخطَأِ ورَفَعَ إثْمَه، كما أرشد إليه في قَولهِ آمِرًا عِبادَه أن يقولوا:
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: 286] . وثبت في صحيحِ
مُسلمٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((قال اللهُ: قد فعَلْتُ)) [1509] أخرجه مسلم (126) عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله [البقرة: 284] قال: دخل قلوبهم منها شىء لم يدخل قلوبهم من شيء فقال النبيصلى الله عليه وسلم: ((قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا)). قال: فألقى الله الإيمان في قلوبهم فأنزل الله تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا قال: قد فعلت ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا قال: قد فعلت واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا [البقرة: 286] قال: قد فعلت. . وفي صحيحِ
البُخاريِّ، عن
عَمرِو بنِ العاصِ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((إذا اجتهد الحاكِمُ فأصاب، فله أجرانِ، وإن اجتهد فأخطأ، فله أجرٌ )) [1510] أخرجه البخاري (7352)، مسلم (1716) باختلاف يسير. . .... وقال هاهنا:
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الأحزاب: 5] أي: وإنَّما الإثمُ على من تعَمَّد الباطِلَ، كما قال تعالى:
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225] )
[1511] ينظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 379). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ: (قال ابنُ التِّين: أجرى
البخاريُّ قَولَه تعالى:
وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ [الأحزاب:5] في كُلِّ شيءٍ، وقال غيرُه: هي في قِصَّةٍ مخصوصةٍ، وهي: ما إذا قال الرَّجُلُ: يا بُنَيَّ، وليس هو ابْنَه… ولو سُلِّمَ أنَّ الآيةَ نزلت فيما ذُكِر لم يمنَعْ ذلك من الاستدلالِ بعُمومِها، وقد أجمعوا على العَمَلِ بعُمومِها في سُقوطِ الإثمِ)
[1512] يُنظر: ((فتح الباري)) (11/551). .
2- قَولُه تعالى:
وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] .
فقيَّد الوعيدَ على قاتِلِ المؤمنِ بالتعَمُّدِ
[1513] يُنظر: ((إيثار الحق على الخلق)) (ص: 394). ، وفَرَّقت النُّصوصُ بين القَتْلِ المتعَمَّدِ والقَتلِ الخطَأِ، في أحكامِ الدُّنيا والآخِرةِ.
3- قَولُه عزَّ وجلَّ:
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا [البقرة: 286] .
وثبت أنَّ الله سُبحانَه استجاب لهذا الدُّعاءِ، فقال: قد فعَلْتُ
[1514] أخرجه مسلم (126) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. .
4- وعن
ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((إنَّ اللهَ وضع عن أمَّتي الخطَأَ والنِّسيانَ، وما استُكرِهوا عليه)) [1515] أخرجه من طرق: ابن ماجه (2045) واللفظ له، وابن حبان (7219)، والحاكم (2801). .
قال
ابنُ رَجَبٍ في شَرْحِه لهذا الحديثِ: (الخطَأُ: هو أن يقصِدَ بفِعْلِه شيئًا فيصادِف فِعْلُه غيرَ ما قَصَدَه، مِثلُ أن يقصِدَ قَتْلَ كافرٍ، فصادف قَتْلُه مسلمًا، والنِّسيانُ: أن يكونَ ذاكرًا لشيءٍ فينساه عند الفِعلِ، وكلاهما معفُوٌّ عنه: بمعنى أنَّه لا إثمَ فيه، ولكِنْ رَفعُ الإثمِ لا ينُافي أن يترتَّبَ على نسيانِه حُكمٌ،... ولو قَتَل مؤمِنًا خَطَأً فإنَّ عليه الكَفَّارةَ والدِّيَةَ بنَصِّ الكتابِ، وكذا لو أتلف مالَ غَيْرِه خَطَأً بظَنِّه أنَّه مالُ نَفْسِه،... والأظهَرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ الناسِيَ والمُخطِئَ إنَّما عُفِيَ عنهما بمعنى رفعِ الإثمِ عنهما؛ لأنَّ الإثمَ مرتَّبٌ على المقاصِدِ والنيَّاتِ، والنَّاسي والمخطئُ لا قَصْدَ لهما؛ فلا إثمَ عليهما، وأمَّا رَفعُ الأحكامِ عنهما فليس مرادًا من هذه النُّصوصِ، فيحتاجُ في ثبوتِها ونَفْيِها إلى دليلٍ آخرَ)
[1516] يُنظر: ((جامع العلوم والحكم)) (2/ 367-369). .
5- وقد استدَلُّوا بالحديثِ المشهورِ في قِصَّةِ الرَّجُلِ من بني إسرائيلَ
[1517] الحديث أخرجه البخاري (3481)، ومسلم (2756) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ولفظ البخاري: (كان رجل يسرف على نفسه فلما حضره الموت قال لبنيه إذا أنا مت فأحرقوني ثم اطحنوني ثم ذروني في الريح فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني عذابا ما عذبه أحدا فلما مات فعل به ذلك فأمر الله الأرض فقال اجمعي ما فيك منه ففعلت فإذا هو قائم فقال ما حملك على ما صنعت قال يا رب خشيتك فغفر له وقال غيره مخافتك يا رب) وقد تقَدَّم في أدِلَّةِ العُذْرِ بالجَهْلِ.
قال
النوويُّ في شرحِ الحديثِ: (اختلف العُلَماءُ في تأويلِ هذا الحديثِ... وقالت طائفةٌ: اللَّفظُ على ظاهِرِه، ولكِنْ قاله هذا الرَّجُلُ وهو غيرُ ضابطٍ لكلامِه، ولا قاصِدٍ لحقيقةِ معناه ومعتَقِدٍ له، بل قاله في حالةٍ غَلَب عليه فيها الدَّهَشُ والخوفُ وشِدَّةُ الجزعِ، بحيث ذهب تيقُّظُه وتدبُّرُ ما يقولُه، فصار في معنى الغافِلِ والنَّاسي، وهذه الحالةُ لا يؤاخَذُ فيها، وهو نحوُ قَولِ القائِلِ الآخَرِ الذي غلب عليه الفَرَحُ حين وجد راحِلَتَه: أنت عبدي وأنا ربُّك
[1518] أخرجه مسلم (2747) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله أشد فرحا بتوبة عبده، حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة، فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح)) ، فلم يَكفُرْ بذلك الدَّهَشِ والغَلَبةِ والسَّهوِ)
[1519] يُنظر: ((شرح مسلم)) (17/ 71). .
وقال
ابنُ حَجَر بعد أن نَقَل عِدَّةَ أقوالٍ في شَرْحِه: (أظهَرُ الأقوالِ أنَّه قال ذلك في حالِ دَهشتِه وغَلَبةِ الخوفِ عليه، حتى ذهب بعَقْلِه لِما يقولُ، ولم يَقُلْه قاصدًا لحقيقةِ معناه، بل في حالةٍ كان فيها كالغافِلِ والذَّاهِلِ والنَّاسي الذي لا يُؤاخَذُ بما يصدُرُ منه)
[1520] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/523). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (فهذا الرَّجُلُ اعتقد أنَّ اللهَ لا يقدِرُ على جَمْعِه إذا فعَلَ ذلك، أو شَكَّ، وأنَّه لا يبعَثُه، وكلُّ هذين الاعتقادينِ كُفرٌ، يَكفُرُ من قامت عليه الحُجَّةُ، لكِنَّه كان يجهَلُ ذلك، ولم يبلُغْه العِلمُ بما يرُدُّه عن جَهْلِه، وكان عنده إيمانٌ باللهِ وبأمْرِه ونَهْيِه، ووَعْدِه ووَعيدِه، فخاف من عقابِه؛ فغَفَر اللهُ له بخَشْيَتِه، فمن أخطأ في بعضِ مسائِلِ الاعتقادِ، من أهلِ الإيمانِ باللهِ وبرَسولِه وباليومِ الآخِرِ، والعَمَلِ الصَّالحِ، لم يكُنْ أسوأَ حالًا من هذا الرَّجُلِ، فيَغفِرُ اللهُ خَطَأَه، أو يُعَذِّبُه إن كان منه تفريطٌ في اتِّباعِ الحَقِّ على قَدْرِ دينِه، وأمَّا تكفيرُ شَخصٍ عُلِمَ إيمانُه، بمجَرَّدِ الغَلَطِ في ذلك، فعظيمٌ)
[1521] يُنظر: ((الاستقامة)) (1/ 164)، ((مجموع الفتاوى)) (3/231) (12/490). .
فهذا الحديثُ كثيرًا ما يستدِلُّ به
ابنُ تيميَّةَ في مسائِلِ العُذرِ بالجَهْلِ والخَطَأِ والتأويلِ.
فهذا الرَّجُلُ وقع في الخطَأِ، فتكَلَّم بالكُفرِ من غيرِ قَصدٍ؛ بسَبَبِ جَهْلِه، فعَذَره اللهُ سُبحانَه لعَدَمِ قيامِ الحُجَّةِ عليه، أمَّا الاستدلالُ به على مسألةِ العُذرِ بالتأويلِ، فمِن بابِ أَولى، لأنَّ المتأوِّلَ في حقيقتِه مجتَهِدٌ مخطِئٌ، فإذا لم يَكفُرْ المخطئُ من غيرِ اجتهادٍ- كما في هذه القِصَّةِ – فعَدَمُ كُفرِ من اجتهد في طلَبِ الحَقِّ فأخطأ، من بابِ أَولى، وفي هذا المعنى يقولُ ابنُ الوزير: (قد تكاثَرَت الآياتُ والأحاديثُ في العَفْوِ عن الخطَأِ، والظَّاهِرُ أنَّ أهلَ التأويلِ أخطَؤوا، ولا سَبيلَ إلى العِلمِ بتعَمُّدِهم)، ثم ذكر بعضَ أدِلَّةِ الإعذارِ بالخطَأِ، ومنها قِصَّةُ الرَّجُلِ من بني إسرائيلَ، ثمَّ عَلَّق عليها قائلًا: (وإنَّما أدرَكَتْه الرَّحمةُ لجَهْلِه وإيمانِه باللهِ والمعادِ؛ ولذلك خاف العِقابَ، ... وهذا أرجى حديثٍ لأهلِ الخطَأِ في التأويل)
[1522] يُنظر: ((إيثار الحق)) (ص: 393). .
6- عن
عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه سمع رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ:
((إذا حكَمَ الحاكِمُ فاجتهد ثم أصاب فله أجرانِ، وإذا حَكَم فاجتهد ثم أخطَأَ فله أج رٌ)) [1523] أخرجه البخاري (7352)، ومسلم (1716). .
قال
الخطيبُ البغدادي: (فإن قيل: كيف يجوزُ أن يكونَ للمُخطِئِ فيما أخطأ فيه أجرٌ، وهو إلى أن يكونَ عليه في ذلك إثمٌ أقرَبُ؛ لتوانيه وتفريطِه في الاجتهادِ حتى أخطَأَ؟! فالجوابُ: أنَّ هذا غَلَطٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يجعَلْ للمُخطئِ أجرًا على خَطَئِه، وإنَّما جَعَل له أجرًا على اجتهادِه، وعفا عن خطَئِه؛ لأنَّه لم يقصِدْه، وأمَّا المصيبُ فله أجرٌ على اجتهادِه، وأجرٌ على إصابتِه)
[1524] يُنظر: ((الفقيه والمتفقه)) (1/ 475). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (فمن كان خطَؤُه لتفريطِه فيما يجِبُ عليه من اتِّباعِ القرآنِ والإيمانِ مثلًا، أو لتعَدِّيه حدودَ اللهِ بسُلوكِ السُّبُلِ التي نهى عنها، أو لاتِّباعِ هواه بغير هدًى من الله؛ فهو الظَّالمُ لنَفْسِه، وهو من أهلِ الوعيدِ، بخلافِ المجتَهِدِ في طاعةِ اللهِ ورَسولِه باطنًا وظاهرًا، الذي يطلُبُ الحَقَّ باجتهادِه كما أمره اللهُ ورَسولُه؛ فهذا مغفورٌ له خَطَؤُه)
[1525] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (3/317) (12/496). .
وقال أيضًا: (وأمَّا التكفيرُ فالصَّوابُ أنَّه من اجتهد من أمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقَصَد الحَقَّ، فأخطأ، لم يَكفُرْ، بل يُغفَرُ له خطؤُه، ومن تبَيَّن له ما جاء به الرَّسولُ، فشاقَّ الرَّسولَ من بَعْدِ ما تبيَّنَ له الهُدى، واتَّبَع غيرَ سَبيلِ المؤمنين؛ فهو كافِرٌ، ومن اتبَّعَ هواه، وقصَّر في طَلَبِ الحَقِّ، وتكَلَّم بلا علمٍ؛ فهو عاصٍ مُذنبٌ، ثم قد يكونُ فاسقًا، وقد تكونُ له حَسَناتٌ تَرجَحُ على سيِّئاتِه)
[1526] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12 /180). .
وقال أيضًا: (ليس لأحدٍ أن يُكَفِّرَ أحدًا من المسلمين، وإن أخطأ وغَلِطَ، حتى تقامَ عليه الحُجَّةُ، وتَبِينَ له المحجَّةُ، ومن ثبت إسلامُه بيقينٍ لم يَزُلْ ذلك عنه بالشَّكِّ، بل لا يزولُ إلَّا بعد إقامةِ الحُجَّةِ، وإزالةِ الشُّبهةِ)
[1527] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/466، 501). .
7- عن
أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((للهُ أشَدُّ فَرَحًا بتوبةِ عَبْدِه حين يتوبُ إليه، مِن أحَدِكم كان على راحِلَتِه بأرضٍ فَلاةٍ، فانفلَتَت منه وعليها طعامُه وشَرابُه، فأَيِسَ منها، فأتى شَجَرةً، فاضطجعَ في ظِلِّها، قد أَيِسَ من راحلتِه، فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمةٌ عنده، فأخَذَ بخِطامِها، ثمَّ قال من شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا رَبُّك ، أخطأ من شِدَّةِ الفَرَحِ )) [1528] أخرجه البخاري (6309) مختصرًا، ومسلم (2747) واللفظ له. .
قال القاضي عياضٌ: (قَولُه:
((فقال من شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أنت عبدي وأنا رَبُّك )): فيه أنَّ ما قاله الإنسانُ من مِثْلِ هذا من دَهَشٍ وذُهولٍ، غيرُ مؤاخَذ به إن شاء اللهُ)
[1529] يُنظر: ((إكمال المعلم)) (8/ 245). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ: (اللهُ تعالى رفع المؤاخَذةَ عمَّن حدَّث نَفْسَه بأمرٍ بغيرِ تلفُّظٍ أو عَمَلٍ، كما رفَعَها عمَّن تلفَّظ باللَّفظِ مِن غيرِ قَصدٍ لِمعناه ولا إرادةٍ؛ ولهذا لا يَكفُرُ من جرى على لسانِه لَفظُ الكُفرِ سَبقًا من غيرِ قَصدٍ؛ لفَرَحٍ أو دَهَشٍ وغيرِ ذلك، كما في حديثِ الفَرَحِ الإلهيِّ بتوبةِ العَبدِ)
[1530] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (4/ 428). .
وقال أيضًا: (الغَلَطُ والنِّسيانُ والسَّهوُ وسَبقُ اللِّسانِ بما لا يريدُه العَبدُ، بل يريدُ خِلافَه، والتكَلُّمُ به مُكرَهًا وغيرَ عارفٍ لِمُقتضاه من لوازمِ البَشَريَّة: لا يكادُ ينفَكُّ الإنسانُ من شَيءٍ منه؛ فلو رَتَّب عليه الحُكمَ لحُرِجَت الأمَّةُ وأصابها غايةُ التَّعَبِ والمشَقَّةِ؛ فرَفَع عنها المؤاخَذةَ بذلك كُلِّه، حتى الخطَأُ في اللَّفظِ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ والغَضَبِ والسُّكْرِ، كما تقَدَّمت شواهِدُه، وكذلك الخطَأُ والنِّسيانُ والإكراهُ والجَهْلُ بالمعنى، وسبْقُ اللِّسانِ بما لم يُرِدْه، والتكَلُّمُ في الإغلاقِ، ولَغْوُ
اليمينِ؛ فهذه عَشرةُ أشياءَ لا يُؤاخِذُ اللهُ بها عَبْدَه بالتكَلُّمِ في حالٍ منها؛ لعَدَمِ قَصْدِه وعَقْدِ قَلْبِه الذي يؤاخِذُه به)
[1531] يُنظر: ((إعلام الموقعين)) (4/515). .
فالنُّصوصُ متواتِرةٌ من الكتابِ والسُّنَّةِ في إعذارِ المخطِئِ، وبيانِ أنَّ حُكمَه حُكمُ الجاهِلِ والمتأوِّلِ، فلا يكفُرُ إلَّا بعد قيامِ الحُجَّةِ عليه، فإن فَرَّط أثِمَ لتفريطِه، وإن لم يُفَرِّطْ فلا يؤاخَذُ بذلك، سواءٌ كان ذلك في العقائِدِ أو الأحكامِ، وفي الفُروعِ أو الأصولِ.
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (أئمَّةُ الفتوى ك
أبي حنيفةَ و
الشَّافعيِّ و
الثَّوريِّ و
داودَ بنِ عليٍّ وغَيرِهم، لا يؤَثِّمون مجتَهِدًا مخطئًا، لا في المسائِلِ الأصوليَّةِ، ولا في الفروعيَّةِ، كما ذَكَر عنهم
ابنُ حزمٍ وغَيرُه؛ ولهذا كان
أبو حنيفةَ و
الشَّافعيُّ وغيرُهما يَقبَلون شهادةَ أهلِ الأهواءِ
[1532] رَغْمَ أنهم مخطئون في المسائل العِلميَّة، وإنما عُذِر من عُذِر منهم لاجتهاده وتأوُّلِه، أمَّا من ردَّ شهادتَهم من الأئمَّة – كمالك وأحمد – فليس ذلك مستلزِمًا لإثمِهم، لكن المقصودَ إنكارُ المنكَرِ، وهَجر ُمن أظهر البدعةَ. ينظر: ((مجموع الفتاوى)) (13/125). إلَّا الخَطَّابيَّةَ
[1533] الخَطَّابية: أتباعُ أبي الخطَّاب محمد بن أبي زينب مقلاص الأسدي الكوفي الأجدع، المقتول سنة 143هـ، من غلاة الشيعة، قال النوبختي الرافضي: (كان أبو الخطَّاب يدَّعي أن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام جعله قيِّمَه ووصِيَّه من بعده، وعَلَّمه اسم الله الأعظم، ثم ترقَّى إلى أن ادَّعى النبوَّةَ، ثم ادَّعى الرِّسالة، ثم ادَّعى أنه من الملائكة، وأنَّه رسولُ الله إلى أهل الأرض، والحُجَّةُ عليهم). ((فرق الشيعة)) (ص: 83). ويُنظر: ((مقالات الإسلاميين)) لأبي الحسن الأشعري (1/ 28)، ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 179). ، ويصحِّحون الصَّلاةَ خَلْفَهم، والكافِرُ لا تُقبَلُ شَهادتُه على المسلمين، ولا يُصَلَّى خَلْفَه. وقالوا: هذا هو القَولُ المعروفُ عن الصَّحابةِ والتَّابعين لهم بإحسانٍ، وأئمَّةِ الدِّينِ؛ أنَّهم لا يُكَفِّرون ولا يُفَسِّقون ولا يؤَثِّمون أحدًا من المجتَهِدين المخطِئين، لا في مسألةٍ عَمَليَّة ولا عِلميَّة، قالوا: والفَرقُ بين مسائلِ الأصولِ والفروعِ إنَّما هو من أقوالِ أهلِ البِدَعِ من أهلِ الكلامِ من
المعتَزِلةِ والجَهْميَّةِ ومن سلك سَبيلَهم، وانتقل هذا القَولُ إلى أقوامٍ تكَلَّموا بذلك في أصولِ الفِقهِ، ولم يَعرِفوا حقيقةَ هذا القَولِ ولا غَوْرَه، قالوا: والفَرقُ في ذلك بين مسائِلِ الأصولِ والفروعِ، كما أنَّه
بدعةٌ مُحدَثةٌ في الإسلامِ، لم يَدُلَّ عليها كتابٌ ولا سُنَّةٌ ولا إجماعٌ، بل ولا قالها أحدٌ من السَّلَفِ والأئمَّةِ، فهي باطِلةٌ عقلًا؛ فإنَّ المفَرِّقين بين ما جعلوه مسائِلَ أصولٍ ومسائِلَ فُروعٍ لم يُفَرِّقوا بينهما بفَرْقٍ صحيحٍ يميِّزُ بين النَّوعينِ، بل ذكروا ثلاثةَ فُروقٍ أو أربعةً، كُلُّها باطلةٌ)
[1534] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (19/207). .
وقال أيضًا: (... فإنَّ السَّلَفَ أخطأ كثيرٌ منهم في كثيرٍ من هذه المسائِلِ
[1535] أي: المسائل العِلْميَّة الخَبَرية أو مسائِل العقيدةِ. ، واتَّفَقوا على عَدَمِ التكفيرِ بذلك، مِثلُ ما أنكر بعضُ الصَّحابةِ أن يكونَ الميِّتُ يَسمَعُ نِداءَ الحَيِّ، وأنكر بعضُهم أن يكونَ المعراجُ يَقَظةً، وأنكَرَ بَعضُهم رؤيةَ محمَّدٍ رَبَّه، ولبعضِهم في الخلافةِ والتفضيلِ كلامٌ معروفٌ، وكذلك لبعضِهم في قتالِ بَعضٍ، ولَعْنِ بَعضٍ، وإطلاقِ تكفيرِ بَعضٍ، أقوالٌ معروفةٌ، وكان القاضي شُرَيحٌ يُنكِرُ قراءةَ من قرأ:
بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ [الصافات: 12] , ويقول: إنَّ اللهَ لا يَعْجَبُ… فهذا قد أنكر قراءةً ثابتةً، وأنكر صِفةً دَلَّ عليها الكتابُ والسُّنَّةُ، واتَّفَقت الأمَّةُ على أنَّه إمامٌ من الأئمَّةِ، وكذلك بعضُ السَّلَف أنكر بعضُهم حروفَ القُرآنِ، مِثلُ إنكارِ بَعْضِهم قَوله:
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا [الرعد: 31] وقال: إنَّما هي: أو لم يتبَيَّنِ الذين آمنوا، وإنكارِ الآخَرِ قراءةَ قَوله:
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِياهُ [الإسراء: 23] . وقال: إنَّما هي: ووصَّى رَبُّك، وبَعضُهم كان حذف المعَوِّذتَين، وهذا خطأٌ معلومٌ بالإجماعِ والنَّقلِ المتواِتِر، ومع هذا فلما لم يكُنْ قد تواتر النَّقلُ عندهم بذلك لم يَكفُروا، وإن كان يَكفُرُ بذلك من قامت عليه الحُجَّةُ بالنَّقلِ المتواتِرِ)
[1536] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (12/492)، ويُنظر أمثلة أخرى في ((مجموع الفتاوى)) (20/33-36) (3/229). .
وقال مُلَّا خسرو الرومي عن النَّاطِقِ بكَلِمةِ الكُفرِ: (إنْ لم يكن قاصِدًا في ذلك بأن أراد أن يتلَفَّظَ بشيءٍ آخَرَ، فجرى على لسانِه لفظةُ الكُفرِ؛ فلا يَكفُرُ)
[1537] يُنظر: ((درر الحكام)) (1/ 324). .
وقال ابن نجيم عمَّن تكَلَّم بكلمةِ الكُفرِ: (من تكلَّم بها مخطِئًا أو مُكْرَهًا لا يكفُرُ عند الكُلِّ، ومن تكلَّم بها عالِمًا عامدًا، كَفَر عند الكُلِّ)
[1538] يُنظر: ((البحر الرائق)) (5/134). .