الفرع الثَّاني: الكِهانةُ
الكُهَّانُ أو الكَهَنةُ: جمعُ كاهِنٍ، وهم قومٌ تتَّصِلُ بهم الشَّياطينُ، وتخبِرُهم عمَّا كان في السَّماءِ، تَستَرِقُ السَّمعَ من السَّماءِ، وتخبِرُ الكاهِنَ به، ثم الكاهِنُ يضيفُ إلى هذا الخبرِ ما يُضيفُ مِن الأخبارِ الكاذِبةِ، ويخبِرُ النَّاسَ، فإذا وقع ممَّا أخبر به شيءٌ اعتقده النَّاس عالِمًا بالغَيبِ، فصاروا يتحاكَمون إليهم، فهم مرجِعٌ للنَّاسِ في الحُكْم؛ ولهذا يُسَمَّون الكَهَنةَ؛ إذ هم يخبِرُون عن الأمورِ في المستقبَلِ، يقولون: سيقَعُ كذا وسيقَعُ كذا، وليس من الكِهانةِ في شَيءٍ من يخبِرُ عن أمورٍ تُدرَكُ بالحِسابِ، كما لو أخبَرَ عن كُسوفِ الشَّمسِ أو خُسُوفِ القَمَرِ، فهذا ليس من الكِهانةِ؛ لأنَّه يُدرَكُ بالحِسابِ، وكما لو أخبَرَ أنَّ الشَّمسَ تَغرُبُ في 20 من برج الميزانِ مثلًا في السَّاعةِ كذا وكذا، فهذا ليس من عِلمِ الغَيبِ، وكما يقولون: إنَّه سيخرُجُ في أوَّلِ العامِ أو العامِ الذي بَعْدَه مُذَنَّبُ (هالي)، وهو نَجمٌ له ذَنَبٌ طويلٌ؛ فهذا ليس من الكِهانةِ في شَيءٍ، وليس من الكِهانةِ كذلك الإخبارُ عن أحوالِ الطَّقسِ؛ لأنَّه يستَنِدُ إلى أمورٍ حِسِّيَّةٍ
[2874] يُنظر: ((القول المفيد)) لابن عثيمين (1/531). .
عن
عائِشةَ أمِّ المؤمنينَ رَضِيَ اللهُ عنها قالت: قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ الكُهَّانَ كانوا يُحَدِّثُونَنا بالشَّيْءِ فنَجِدُهُ حقًّا! قالَ:
((تِلكَ الكَلِمةُ الحَقُّ يَخطَفُها الجِنِّيُّ فيَقْذِفُها في أُذُنِ ولِيِّهِ، ويَزيدُ فيها مِائَةَ كَذْبَةٍ )) [2875] أخرجه البخاري (3210)، ومسلم (2228) واللَّفظُ له. .
ففي هذا الحديثِ تَسألُ
أمُّ المؤمنينَ عائِشةُ رَضِيَ اللهُ عنها رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن شُبهةٍ قد تَعرِضُ لِمن يَستَمِعُ للكُهَّانِ: وهي أنَّ الكُهَّانَ في الجاهليَّةِ، أو قَبلَ تحريمِ الإسلامِ للاستماعِ إليهم، كانوا يتحَدَّثون بالشَّيءِ، ويُخبِرون الأخبارَ، فتَقَعُ وَفْقَ ما أخبَروا، ويَظهَرُ صِدقُ كَلامِهم، فما تبريرُ ذلك، وكيف يَحدُثُ؟
فأجابَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ ذلك ليس بشيءٍ مِن الحَقِّ أو الصِّدقِ الذي يُعتَمَدُ عليه، وحقيقةُ الأمرِ أنَّ تلك الكَلِمةَ التي يَظهَرُ صِدقُها هي من الأمرِ الواقِعِ والصِّدقِ الثَّابِتِ المسموعِ مِن الملائِكةِ، فيَستَرِقُها
الجِنِّيُّ منهم، فربمَّا نجا بها من الشِّهابِ بقَدَرِ اللهِ، فيُسمِعُها للكاهِنِ، فيزيدُ عليها الكاهِنُ مِئَةَ كَذْبةٍ من عندِ نَفْسِه؛ ولذا حرَّم اللهُ عزَّ وجلَّ الدُّخولَ على الكُهَّانِ، فكلامُهم إن وُجِدَ فيه شيءٌ يسيرٌ من الصِّدقِ، فهو مليءٌ بالدَّسِّ والكَذِبِ.
وحَرَّم اللهُ عزَّ وجلَّ الدُّخولَ عليهم أيضًا؛ حتى تَسلَمَ عقيدةُ المؤمِنِ، فلا يَشوبَها شائبةُ شِركٍ؛ بالتعَلُّقِ بغَيرِ اللهِ، وطَلَبِ النَّفعِ ودَفعِ الضُّرِّ مِن غَيرِه، واعتقادِ أنَّ هناك من يَعلَمُ الغَيبَ سِوى اللهِ عزَّ وجلَّ
[2876] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 74). .
قال عبد الرَّحْمن بن حَسَن آل الشَّيخ: (الكِهانةُ والسِّحْرُ كُفرٌ)
[2877] يُنظر: ((فتح المجيد)) (ص: 297). .
وقال
حافِظٌ الحَكَمي: (أمَّا كُفرُ الكاهِنِ فمن وُجوهٍ:
منها: كونُه وَلِيًّا للشَّيطانِ، فلم يُوحِ إليه
الشَّيطانُ إلَّا بعد أن توَلَّاه؛ قال اللهُ تعالى:
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام: 121] .
و
الشَّيطانُ لا يتولَّى إلَّا الكُفَّارَ ويتوَلَّونَه؛ قال اللهُ تعالى:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة: 257] ، وهذا وَجهٌ ثانٍ.
والثَّالثُ: قَولُه تعالى:
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ؛ أي: نورِ الإيمانِ والهُدى،
إِلَى الظُّلُمَاتِ، أي: ظُلُماتِ الكُفرِ والضَّلالةِ.
وقال تعالى:
وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا [النساء: 119] ، وهذا وجهٌ رابعٌ.
والخامِسُ: تَسميتُه طاغوتًا في قَولِه عزَّ وجَلَّ:
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا [النساء: 60] ، نَزَلَت في المتحاكِمينَ إلى كاهِنِ جُهَينةَ.
وقَولُه:
وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، أي: بالطَّاغوتِ.
وهذا وَجهٌ سادِسٌ.والسَّابعُ: أنَّ من هداه اللهُ للإيمانِ مِن الكُهَّانِ كسَوادِ بنِ قاربٍ رَضِيَ اللهُ عنه لم يأْتِه رَئِيُّه بعد أن دخل في الإسلامِ؛ فدَلَّ أنَّه لم يتنَزَّلْ عليه في الجاهِلِيَّةِ إلَّا لكُفْرِه وتوَلِّيه إيَّاه، حتى إنَّه رَضِيَ اللهُ عنه كان يغضَبُ إذا سُئِلَ عنه، حتى قال له عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عنه: ما كُنَّا فيه من عبادةِ الأوثانِ أعظَمُ!
الثَّامِنُ، وهو أعظَمُهما: تشَبُّهُه باللهِ عَزَّ وجَلَّ في صفاتِه، ومنازَعتُه له تعالى في رُبوبيَّتِه، فإنَّ عِلمَ الغَيبِ مِن صِفاتِ الرُّبوبيَّةِ التي استأثر اللهُ تعالى بها دونَ مَن سِواه، فلا سَمِيَّ له ولا مُضاهِيَ ولا مُشارِكَ:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] .
التَّاسِعُ: أنَّ دعواه تلك تتضَمَّنُ التكذيبَ بالكِتابِ وبما أرسَلَ اللهُ به رُسُلَه.
العاشِرُ: النُّصوصُ في كُفرِ من سأله عن شَيءٍ فصَدَّقه بما يقولُ، فكيف به هو نَفْسِه فيما ادَّعاه؟!)
[2878] يُنظر: ((معارج القبول)) (2/570). .
ومِن أهلِ العِلمِ من أطلق اسمَ العَرَّافِ على الكاهِنِ قال
الخَطَّابي: (الكاهِنُ هو الذي يَدَّعي مُطالعةَ عِلمِ الغَيبِ ويخبِرُ النَّاسَ عن الكوائِنِ، وكان في العَرَبِ كَهَنةٌ يَدَّعون أنَّهم يعرفون كثيرًا من الأمورِ؛ فمنهم من كان يزعُمُ أنَّ له رؤيا من
الجِنِّ وتابعةٌ تُلقي إليه الأخبارَ. ومنهم من كان يدَّعي أنَّه يستدرِكُ الأمورَ بفَهمٍ أُعطِيَه، وكان منهم من يسَمَّى عَرَّافًا، وهو الذي يزعُمُ أنَّه يَعرِفُ الأمورَ بمقَدِّماتِ أسبابٍ يَستَدِلُّ بها على مواقِعِها، كالشَّيءِ يُسرَقُ فيَعرِفُ المظنونَ به السَّرِقةُ، وتُتَّهَمُ المرأةُ بالزنيَةِ فيَعرِفُ من صاحِبُها، ونحو ذلك من الأمورِ، ومنهم من كان يُسَمِّي المنَجِّمَ كاهِنًا؛ فالحديثُ يشتَمِلُ على النَّهيِ عن إتيانِ هؤلاء كُلِّهم والرُّجوعِ إلى قَولِهم وتصديقِهم على ما يدَّعونه من هذه الأمورِ)
[2879] يُنظر: ((معالم السنن)) (4/ 228). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (العَرَّافُ: اسمٌ للكاهِنِ والمنَجِّمِ والرَّمَّالِ ونحوِهم، ممن يتكَلَّم في معرفةِ الأمورِ بهذه الطُّرُقِ)
[2880] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/137). .
وقال الطِّيبي: (العَرَّافُ من جملةِ أنواعِ الكُهَّانِ. قال
الخَطَّابي وغيرُه: العَرَّافُ هو الذي يتعاطى مَعرِفةَ مكانِ المَسروقِ ومَكانَ الضَّالَّةِ ونَحوِهما. وأمَّا عَدَمُ قَبولِ صَلاتِه فمعناه أنَّه لا ثوابَ له فيها، وإن كانت مجزِئةً في سُقوطِ الفَرْضِ عنه. ولا يحتاجُ معها إلى إعادةٍ)
[2881] ينظر: ((شرح المشكاة)) (9/ 2989). .
وقيل بوُجودِ فَرقٍ بين الكاهِنِ والعَرَّافِ: قال
الخطَّابي: (الفَرْقُ بين الكاهِنِ والعَرَّافِ: أنَّ الكاهِنَ إنَّما يتعاطى الخبَرَ عن الكوائِنِ في مستقبَلِ الزَّمانِ، ويدَّعي مَعرِفةَ الأسرارِ، والعَرَّافُ هو الذي يتعاطى مَعرِفةَ الشَّيءِ المسروقِ ومكانَ الضَّالَّةِ ونَحوِهما من الأُمورِ)
[2882] يُنظر: ((معالم السنن)) (3/ 104). .
وقال النفراوي المالكيُّ: (لا يجوزُ لأحَدٍ تصديقُ الكاهِنِ، وهو الذي يخبِرُ بما يقع في المستقبَلِ، ولا العَرَّافِ، وهو الذي يخبِرُ بما وقع كإخراجِ المخبَّآتِ، وكتعيينِ السَّارقِ؛ لأنَّ ذلك من دعوى عِلمِ الغَيبِ، ولا يعلَمُه إلَّا اللهُ)
[2883] يُنظر: ((الفواكه الدواني)) (2/344). .
وقال
ابنُ عثيمين: (في هذه المسألةِ خِلافٌ بين أهلِ العِلمِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ العَرَّافَ هو الكاهِنُ، والكاهِنُ: هو الذي يخبِرُ عن المغَيَّباتِ في المستقبَلِ؛ فهما مترادفانِ، فلا فَرقَ بينهما.
القَولُ الثَّاني: أنَّ العَرَّافَ هو الذي يستَدِلُّ على معرفةِ الأُمورِ بمقَدِّماتٍ يَستَدِلُّ بها على المسروقِ ومكانِ الضَّالَّةِ ونَحوِها، فهو أعَمِّ من الكاهنِ؛ لأنَّه يشمَلُ الكاهِنَ وغَيرَه، فهما من بابِ العامِّ والخاصِّ.
القَولُ الثَّالثُ: أنَّ العَرَّافَ هو الذي يخبِرُ عمَّا في الضَّميرِ، والكاهِنُ هو الذي يخبِرُ عن المغيَّباتِ في المستقبَلِ.
فالعَرَّافُ هو الكاهِنُ أو أنَّه أعَمُّ منه، أو أنَّ العَرَّافَ يختَصُّ بالماضي، والكاهِنُ بالمُستقبَلِ؛ فهما متباينانِ)
[2884] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/552). .
وقال
ابنُ عثيمين في قول النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من أتى عَرَّافًا، فسأله عن شيءٍ لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعين يومًا )) [2885] أخرجه مسلم (2230) : (ظاهِرُ الحديثِ أنَّ مجَرَّدَ سؤالِه يوجِبُ عَدَمَ قَبولِ صَلاتِه أربعين يومًا، ولكِنَّه ليس على إطلاقِه، فسُؤالُ العَرَّافِ ونحوِه ينقَسِمُ إلى أقسامٍ:
القِسمُ الأوَّلُ: أن يسألَه سُؤالًا مجرَّدًا، فهذا حرامٌ لِقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((من أتى عرَّافًا...))، فإثباتُ العُقوبةِ على سؤالِه يدُلُّ على تحريمِه؛ إذ لا عُقوبةَ إلَّا على فِعلِ مُحَرَّمٍ.
القِسمُ الثَّاني: أن يَسألَه فيُصَدِّقُه، ويعتَبِرُ قَولَه: فهذا كُفرٌ؛ لأنَّ تصديقَه في عِلمِ الغَيبِ تكذيبٌ للقُرآنِ؛ حيث قال تعالى:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] .
القِسمُ الثَّالثُ: أن يسألَه لِيَختَبِرَه: هل هو صادِقٌ أو كاذِبٌ، لا لأجْلِ أن يأخُذَ بقَولِه، فهذا لا بأسَ به، ولا يدخُلُ في الحديثِ.
وقد سأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم
ابنَ صَيَّادٍ، فقال:
((خبَّأْتُ لك خبيئًا )) قال: الدُّخ. قال:
((اخسَأْ، فلن تَعْدُوَ قَدْرَك)) [2886] أخرجه البخاري (6618) واللَّفظُ له، ومسلم (2930)، من حَديثِ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم سأله عن شيءٍ أضمَرَه؛ لأجْلِ أن يختَبِرَه، فأخبَرَه به.
القِسمُ الرَّابِعُ: أن يَسألَه لِيُظهِرَ عَجْزَه وكَذِبَه، فيمتَحِنُه في أمورٍ يتبيَّنُ بها كَذِبَه وعَجْزَه، وهذا مطلوبٌ، وقد يكونُ واجبًا.
وإبطالُ قَولِ الكَهَنةِ لا شَكَّ أنَّه أمرٌ مطلوبٌ، وقد يكون واجبًا، فصار السُّؤالُ هنا ليس على إطلاقِه، بل يُفَصِّلُ فيه هذا التفصيلَ على حَسَبِ ما دَلَّت عليه الأدِلَّةُ الشَّرعيَّةُ الأُخرى)
[2887] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/533). .