الفَرعُ الثَّالثُ: التَّنجيمُ
المسألةُ الأولى: أدخل بَعضُ العُلَماءِ التَّنجيمَ في مُسَمَّى الكِهانةِ
قال عِياضٌ: (كانت الكِهانةُ في العَرَبِ ثلاثةَ أضرُبٍ:
أحَدُها: أن يكونَ للإنسانِ وَلِيٌّ من
الجِنِّ يخبِرُه بما يستَرِقُه من السَّمعِ من السَّماءِ، وهذا القِسمُ باطِلٌ من حينِ بُعِثَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
الثَّاني: أنَّه يخبِرُه بما يطرَأُ أو يكونُ في أقطارِ الأرضِ وما خَفِيَ عنه ممَّا قَرُبَ أو بَعُد، وهذا لا يَبعُدُ وُجودُه.
الثَّالثُ: المنَجِّمون، وهذا الضَّربُ يَخلُقُ اللهُ تعالى فيه لبعضِ النَّاسِ قُوَّةً ما، لكِنَّ الكَذِبَ فيه أغلَبُ، ومِن هذا الفَنِّ العِرافةُ، وصاحِبُها عَرَّافٌ، وهو الذي يستَدِلُّ على الأمورِ بأسبابٍ ومُقَدِّماتٍ يدَّعي مَعرِفَتَها بها، وقد يعتَضِدُ بعضُ هذا الفَنِّ ببَعضٍ في ذلك بالزَّجرِ والطَّرقِ والنُّجومِ، وأسبابٍ مُعتادةٍ، وهذه الأضرُبُ كُلُّها تُسَمَّى كِهانةً، وقد أكذَبَهم الشَّرعُ، ونهى عن تصديقِهم وإتيانِهم. واللهُ أعلَمُ)
[2888] يُنظر: ((شرح مسلم)) (14/223). .
وقال ابنُ عابدين: (الحاصِلُ أنَّ الكاهِنَ من يَدَّعي مَعرِفةَ الغَيبِ بأسبابٍ، وهي مختَلِفةٌ، فلذا انقَسَم إلى أنواعٍ متعَدِّدةٍ كالعَرَّافِ، والرَّمَّالِ، والمنَجِّمِ، وهو الذي يخبِرُ عن المستقبَلِ بطُلوعِ النَّجمِ وغُروبِه، والذي يَضرِبُ بالحَصى، والذي يدَّعي أنَّ له صاحِبًا من
الجِنِّ يُخبِرُه عمَّا سيكونُ، والكُلُّ مذمومٌ شَرعًا، محكومٌ عليهم وعلى مُصَدِّقِهم بالكُفرِ، وفي البزازيَّةِ: يكفُرُ بادِّعاءِ عِلمِ الغَيبِ، وبإتيانِ الكاهِنِ وتصديقِه. وفي التتارخانيَّة: يكفُرُ بقَولِه: أنا أعلَمُ المسروقاتِ، أو أنا أخبِرُ عن إخبارِ
الجِنِّ إيَّاي)
[2889] يُنظر: ((حاشية ابن عابدين)) (4/242). .
المسألةُ الثانيةُ: تسْميةُ التنجيمِ سِحرًا
فعن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((من اقتبس عِلمًا من النُّجومِ، اقتبس شُعبةً من السِّحْرِ، زاد ما زاد)) [2890] أخرجه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726) واللَّفظُ لهما، وأحمد (2480) باختِلافٍ يسيرٍ من حديث عبدالله بن عباس رضي الله عنهما. صَحَّحه الذهبي في ((المهذب)) (6/3233)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3726)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند مما ليس في الصحيحين)) (464)، وصَحَّح إسنادَه النووي في ((رياض الصالحين)) (536)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/193)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/144)، وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/312)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3905). .
قال
ابنُ تيميَّةَ: (صرَّح رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأنَّ عِلمَ النُّجومِ مِن السِّحْرِ، وقد قال اللهُ تعالى
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] ، وهكذا الواقِعُ؛ فإنَّ الاستقراءَ يدُلُّ على أنَّ أهلَ النُّجومِ لا يُفلِحون، لا في الدُّنيا، ولا في الآخِرةِ)
[2891] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/193). .
وقال أيضًا: (العَرَّافُ اسمٌ للكاهِنِ والمنَجِّمِ والرَّمَّالِ ونحوِهم ممَّن يتكَلَّمُ في تَقدِمةِ المعرِفةِ بهذه الطُّرُقِ)
[2892] يُنظر: ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 152). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (25/200). .
المسألةُ الثالثةُ: من أنواعِ التنجيمِ
1- عبادةُ النُّجومِ كما كان يفعَلُ الصَّابئةُ، اعتِقادًا منهم بأنَّ الموجوداتِ في العالَمِ السُّفليِّ مُرَكَّبةٌ على تأثيرِ تلك النُّجومِ؛ ولذا بَنَوا هياكِلَ لتلك النُّجومِ، وعَبَدوها وعَظَّموها، زاعمين أنَّ رُوحانيَّةَ تلك النُّجوِم تتنَزَّلُ عليهم فتخاطِبُهم وتقضي حوائِجَهم، ولا شَكَّ أنَّ هذا كُفرٌ بالإجماعِ
[2893] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/177)، ((شرح العقيدة الطحاوية)) لابن أبي العز (2/775)، ((شرح الفقه الأكبر)) لملا علي قاري (ص: 223)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 441). .
2- أن يَستَدِلَّ بحَركاتِ النُّجومِ وتنَقُّلاتِها على ما يحدُثُ في المستقبَلِ مِن الحوادِثِ والوقائعِ، فيعتَقِدُ أنَّه لكُلِّ نَجمٍ منها تأثيراتٌ في كُلِّ حَرَكاتِه مُنفَرِدًا أو مُقتَرِنًا بغيرِه
[2894] يُنظر: ((معالم السنن)) للخطابي (4/226)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/171)، ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص 442)، ((معارج القبول)) للحكمي (1/524)، ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (2/143). .
وفي هذا النَّوعِ دعوى لعِلمِ الغَيبِ، ودعوى عِلمِ الغَيبِ كُفرٌ مُخرِجٌ من المِلَّةِ؛ لأنَّهم بهذا يزعُمون مُشاركةَ اللهِ في صِفةٍ مِن صِفاتِه الخاصَّةِ، وهي عِلمُ الغَيبِ، ولأنَّه تكذيبٌ لقَولِه تعالى:
قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النحل: 65] ، وهذا من أقوى أنواعِ الحَصرِ؛ لأنَّه بالنَّفيِ والاستثناءِ.
كما أنَّه تكذيبٌ لقَولِه سُبحانَه:
وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام: 59] [2895] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) لسليمان آل الشيخ (ص: 442)، ((القول السديد)) للسعدي (ص: 77، 84)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/197)، ((فتاوى ابن باز)) (2/120)، ((المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين)) (1/143). .
3- ما يفعَلُه من يَكتُبُ حُروفَ أبي جاد، ويجعَلُ لكُلِّ حَرفٍ منها قَدْرًا من العَدَدِ معلومًا، ويُجري على ذلك أسماءَ الآدميِّين والأزمِنةِ والأمكِنةِ وغَيرِها، ويجمع جمعًا معروفًا عنده، ويطرَحُ منه طرحًا خاصًّا، ويُثبِتُ إثباتًا خاصًّا، ويَنسُبُه إلى الأبراجِ الاثني عشر المعروفة عند أهلِ الحِسابِ، ثم يحكُمُ على تلك القواعِدِ بالسُّعودِ والنُّحوسِ وغيرِها ممَّا يوحيه إليه
الشَّيطانُ [2896] يُنظر: ((معارج القبول)) للحكمي (1/523)، ويُنظر تفصيل الحديث عن علم تلك الحروف في ((مقدمة ابن خلدون)) (3/1159 – 1196)، ((أبجد العلوم)) لمحمد صديق حسن (2/236). وهذا النَّوعُ أيضًا يتضَمَّنُ دعوى مُشاركةِ اللهِ في عِلمِ الغَيبِ الذي انفرد به سُبحانَه
[2897] وما يُسَمَّى بحِساب الجُمَّلِ؛ للاستفادة منه في تيسيرِ حِفظِ أزمانِ الأحداثِ والوقائعِ ونحوِها: ليس من هذا القَبيلِ. .
قال
ابنُ بطةَ العُكبَريُّ مُفَصِّلًا مسألةَ النَّظَرِ في النُّجومِ: (أمرُ النُّجومِ على وجهَينِ:
- فأحَدُهما واجِبٌ عِلمُه والعَمَلُ به، فأمَّا ما يجِبُ عِلمُه والعَمَلُ به: فهو أن يتعَلَّمَ من النجومِ ما يهتدي به في ظُلُماتِ البَرِّ والبحرِ، ويَعرِفُ به القِبلةَ والصَّلاةَ والطُّرُقاتِ، فبهذا العِلمِ من النجومِ نَطَق الكِتابُ ومَضَت السُّنَّةُ.
- وأمَّا ما لا يجوزُ النَّظَرُ فيه والتصديقُ به، ويجِبُ علينا الإمساكُ عنه من عِلمِ النُّجومِ، فهو ألَّا يَحكُمَ للنُّجومِ بفِعلٍ، ولا يَقضيَ لها بحدوثِ أمْرِه، كما يدَّعي الجاهِلون من عِلمِ الغُيوبِ بعِلمِ النُّجومِ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ)
[2898] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (3/ 244). .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (صناعةُ التنجيمِ التي مضمونُها الأحكامُ والتأثيرُ، وهو الاستدلالُ على الحوادِثِ الأرضيَّةِ بالأحوالِ الفَلَكيَّةِ، أو التمزيجُ بين القُوى الفَلَكيَّة والغوائِلِ الأرضيَّة، صناعةٌ مُحَرَّمةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، بل هي مُحَرَّمةٌ على لسانِ جميعِ المُرسَلين؛ قال تعالى:
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه: 69] ، وقال تعالى:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء: 51] ، قال عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه وغيرُه: الجِبتُ: السِّحْرُ... واتَّفَقوا أي: أهلُ العِلمُ كُلُّهم على أنَّ ما كان من جِنسِ دَعوةِ الكواكِبِ السَّبعةِ، أو غيرِها، أو خِطابِها، أو السُّجودِ لها والتقَرُّبِ إليها بما يناسِبُها من اللِّباسِ والخواتمِ والبُخورِ، ونحو ذلك؛ فإنَّه كُفرٌ، وهو من أعظَمِ أبوابِ الشِّركِ؛ فيَجِبُ غَلْقُه، بل سَدُّه)
[2899] يُنظر: ((شرح الطحاوية)) (2/ 762-765). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (35/192-195). .
وقال
ابنُ حَجَرٍ في شرحِ بابِ قَولِ اللهِ:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن: 26] : (في الآيةِ رَدٌّ على المنَجِّمين، وعلى كُلِّ من يَدَّعي أنَّه يطَّلِعُ على ما سيكونُ من حياةٍ أو موتٍ أو غيرِ ذلك؛ لأنَّه مُكَذِّبٌ للقُرآنِ، وهم أبعَدُ شَيءٍ من الارتضاءِ، مع سَلبِ صفةِ الرُّسُليَّةِ عنهم)
[2900] يُنظر: ((فتح الباري)) (13/364). .
وقال
الهيتمي: (تعَلُّمُ الرَّملِ وتعليمُه حرامٌ شديدُ التحريمِ، وكذا فِعْلُه؛ لِما فيه من إيهامِ العوامِّ أنَّ فاعِلَه يشارِكُ اللهَ في غَيبِه وما استأثَرَ بمعرفتِه ولم يطَّلِعْ عليه إلَّا أنبياؤه ورسُلُه، بواسِطةٍ؛ نحوِ تنجيمٍ، أو زَجرٍ، أو خَطٍّ، أو بغيرِ واسطةٍ، وقد أكذَبَ اللهُ مُدَّعِيَ عِلمِ الغَيبِ، وأخبر في كِتابه العزيزِ بأنَّه المستَبِدُّ بعِلمِ ما كان وما يكونُ في غيرِ ما آيةٍ، فقال:
عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن: 26، 27] على أنَّه قيل: إنَّ الاستثناءَ مُنقَطِعٌ، فلا يَقَعُ الإخبارُ ولا للرَّسولِ، ولكِنَّ المرادَ حينئذ الإخبارُ بجميع المغَيَّباتِ جُمَلِها أو تفاصيلِها، فهذا لم يَعلَمْ به رسولٌ ولا غيرُه، وقال:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] ، وقال عن عيسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ:
وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ [آل عمران: 49] الآية، فجَعَل ذلك من دلائِلِ النُّبُوَّةِ، فلو أمكن الاطِّلاعُ عليه بنحوِ خَطٍّ من غيرِ نبيٍّ لَما كان دليلًا؛ لأنَّه لم يكُنْ مُعجِزًا، فعُلِمَ أنَّ ادِّعاءَ مَعرِفةِ ما يُسِرُّه النَّاسُ أو يَنْطَوون عليه، أو ما يَقَعُ من غلاءِ الأسعارِ ورُخْصِها، ونُزولِ المطَرِ، ووقوعِ القَتْلِ والفِتَنِ، وغيرِ ذلك من المغَيَّباتِ: فيه إبطالٌ لدلائِلِ النُّبُوَّةِ، وتكذيبٌ للقُرآنِ العزيزِ)
[2901] يُنظر: ((الفتاوى الحديثية)) (ص: 85). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخِ: (اعلَمْ أنَّ التنجيمَ على ثلاثةِ أقسامٍ:
أحَدُها: ما هو كُفرٌ بإجماعِ المُسلِمين، وهو القَولُ بأنَّ الموجوداتِ في العالَمِ السُّفليِّ مُرَكَّبةٌ على تأثيرِ الكواكِبِ والرُّوحانيَّاتِ، وأنَّ الكواكِبَ فاعِلةٌ مُختارةٌ، وهذا كُفرٌ بإجماعِ المُسلِمين، وهذا قَولُ الصَّابئةِ المنَجِّمين الذين بُعِث إليهم إبراهيمُ الخليلُ عليه السَّلامُ ...
الثَّاني: الاستِدلالُ على الحوادِثِ الأرضِيَّةِ بمسيرِ الكواكِبِ واجتِماعِها وافتراقِها ونحوِ ذلك، ويقولُ: إنَّ ذلك بتقديرِ اللهِ ومَشيئتِه، فلا رَيبَ في تحريمِ ذلك، واختلف المتأخِّرون في تكفيرِ القائِلِ بذلك، وينبغي أن يُقطَعَ بكُفْرِه؛ لأنَّها دعوى لعِلمِ الغَيبِ الذي استأثر اللهُ تعالى بعِلْمِه بما لا يدُلُّ عليه.
الثَّالثُ: ما ذَكَره المصَنِّفُ أي:
مُحمَّدُ بنُ عبد الوهاب في كِتاب التوحيد في تعَلُّمِ المنازِلِ)
[2902] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 378). .
وقال
السَّعديُّ: (أنَّ اللهَ تعالى المنفَرِدُ بعِلمِ الغَيبِ، فمن ادَّعى مشاركةَ اللهِ في شيءٍ من ذلك بكِهانةٍ أو عِرافةٍ أو غيرِها، أو صَدَّق من ادَّعى ذلك؛ فقد جعل لله شريكًا فيما هو من خصائِصِه، وقد كَذَّب اللهَ ورَسولَه)
[2903] يُنظر: ((القول السديد)) (ص: 77). .
وقال
الشنقيطي: (لَمَّا جاء القُرآنُ العظيمُ بأنَّ الغَيبَ لا يَعلَمُه إلَّا اللهُ، كان جميعُ الطُّرُقِ التي يرادُ بها التوصُّلُ إلى شيءٍ من عِلمِ الغَيبِ غيرَ الوَحيِ: مِن الضَّلالِ المُبِين، وبَعضٌ منها يكونُ كُفرًا)
[2904] يُنظر: ((أضواء البيان)) (2/482). وقال
ابنُ باز: (عِلمُ النُّجومِ، وما يُسَمَّى بالطَّالعِ، وقِراءةُ الكَفِّ، وقراءةُ الفِنجان، ومعرفةُ الحَظِّ: كُلُّها من عُلومِ الجاهليَّةِ، ومن المُنكَراتِ التي حَرَّمها اللهُ ورَسولُه، وأنَّها من أعمالِ الجاهِليَّةِ وعُلومِهم الباطِلةِ التي جاء الإسلامُ بإبطالِها والتحذيرِ مِن فِعْلِها، أو إتيانِ من يتعاطاها وسُؤالِه عن شَيءٍ منها، أو تصديقِه فيما يخبِرُ به من ذلك؛ لأنَّه من عِلمِ الغَيبِ الذي استأثر اللهُ به؛ قال تعالى:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] )
[2905] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (2/ 125). .
وقال ابنُ عثيمين: (عِلمُ النُّجومِ ينقَسِمُ إلى قِسمَينِ:1- عِلمُ التأثيرِ.
2- عِلمُ التسييرِ.
فالأوَّلُ: عِلمُ التأثيرِ. وهذا ينقَسِمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
أ: أن يعتَقِدَ أنَّ هذه النجومَ مُؤَثِّرةٌ فاعِلةٌ، بمعنى أنَّها هي التي تخلُقُ الحوادِثَ والشُّرورَ؛ فهذا شركٌ أكبَرُ؛ لأنَّ من ادَّعى أنَّ مع الله خالِقًا، فهو مُشرِكٌ شِركًا أكبَرَ، فهذا جَعَل المخلوقَ المسخَّرَ خالِقًا مُسَخِّرًا.
ب: أن يجعَلَها سَبَبًا يدَّعي به عِلمَ الغَيبِ، فيستَدِلُّ بحَركاتِها وتنَقُّلاتِها وتغيُّراتِها على أنَّه سيكونُ كذا وكذا؛ لأنَّ النَّجمَ الفُلانيَّ صار كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسانُ ستكونُ حياتُه شَقاءً؛ لأنَّه وُلِدَ في النَّجمِ الفُلاني، وهذا حياتُه ستكونُ سعيدةً؛ لأنَّه وُلِد في النَّجمِ الفُلانيِّ؛ فهذا اتخَذَ تعَلُّمَ النجومِ وسيلةً لادِّعاءِ عِلمِ الغَيبِ، ودعوى عِلمِ الغَيبِ كُفرٌ مُخرِجٌ عن المِلَّةِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [سورة النمل: من الآية 65]، وهذا من أقوى أنواعِ الحَصرِ؛ لأنَّه بالنَّفيِ والإثباتِ، فإذا ادَّعى أحدٌ عِلمَ الغَيبِ فقد كَذَّب القُرآنَ.
ج: أن يعتَقِدَها سَبَبًا لحُدوثِ الخيرِ والشَّرِّ، أي: أنَّه إذا وقع شيءٌ نَسَبَه إلى النُّجومِ، ولا ينسُبُ إلى النُّجومِ شيئًا إلَّا بعد وُقوعِه؛ فهذا شِركٌ أصغَرُ.
فإن قيل: ينتَقِضُ هذا بما ثبت عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قَوله في الكُسوفِ:
((إنَّ الشَّمسَ والقَمَرَ آيتانِ من آياتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بهما عِبادَه))؛ فمعنى ذلك أنَّهما علامةُ إنذارٍ.
فالجوابُ من وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه لا يُسلَّمُ أنَّ للكُسوفِ تأثيرًا في الحوادِثِ والعُقوباتِ، من الجَدْبِ والقَحطِ والحُروبِ؛ ولذلك قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إنَّهما لا ينكَسِفانِ لموتِ أحَدٍ ولا لحياتِه"، لا فيما مضى ولا في المستقبَلِ، وإنَّما يخَوِّفُ اللهُ بهما العِبادَ؛ لعَلَّهم يَرجِعون، وهذا أقرَبُ.
الثَّاني: أنَّه لو سَلَّمْنا أنَّ لهما تأثيرا، فإنَّ النَّصَّ قد دَلَّ على ذلك، وما دَلَّ عليه النَّصُّ يجِبُ القَولُ به، لكِنْ يكونُ خاصًّا به.
لكِنَّ الوَجهَ الأوَّلَ هو الأقرَبُ: أنَّنا لا نُسَلِّمُ أصلًا أنَّ لهما تأثيرًا في هذا؛ لأنَّ الحديثَ لا يقتضيه، فالحديثُ ينصُّ على التخويفِ، والمخَوِّفُ هو اللهُ تعالى، والمخَوَّفُ عقوبتُه، ولا أثَرَ للكُسوفِ في ذلك، وإنَّما هو علامةٌ فقط.
الثَّاني: عِلمُ التسييرِ. وهذا ينقَسِمُ إلى قِسمَين:
الأوَّلُ: أن يستَدِلَّ بسَيرِها على المصالحِ الدِّينيَّةِ؛ فهذا مطلوبٌ، وإذا كان يُعِينُ على مصالحَ دينيَّةٍ واجبةٍ كان تعَلُّمُها واجِبًا، كما لو أراد أن يستَدِلَّ بالنُّجومِ على جِهةِ القِبلةِ؛ فالنّجمُ الفلانيُّ يكونُ ثُلُثَ اللَّيلِ قِبلةً، والنَّجمُ الفُلانيُّ يكونُ ربُعَ اللَّيلِ قِبلةً؛ فهذا فيه فائدةٌ عظيمةٌ.
الثَّاني: أن يستَدِلَّ بسَيرِها على المصالحِ الدُّنيويَّةِ؛ فهذا لا بأسَ به، وهو نوعان:
النَّوع الأوَّلُ: أن يستَدِلَّ بها على الجِهاتِ؛ كمعرفةِ أنَّ القُطبَ يقَعُ شمالًا، والجَدْيَ وهو قريبٌ منه يدورُ حولَه شمالًا، وهكذ؛; فهذا جائزٌ، قال تعالى:
وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [سورة النحل: الآية 16].
النَّوع
الثَّاني: أن يستَدِلَّ بها على الفُصولِ، وهو ما يُعرَفُ بتعَلُّمِ مَنازِلِ القَمَرِ؛ فهذا كرهه بعضُ السَّلَفِ، وأباحه آخرون.
والذين كَرِهوه قالوا: يُخشى إذا قيل: طلع النجمُ الفُلانيُّ فهو وقتُ الشِّتاءِ أو الصَّيفِ، أنَّ بعضَ العامَّةِ يعتَقِدُ أنَّه هو الذي يأتي بالبَردِ أو بالحَرِّ أو بالرِّياحِ.
والصَّحيحُ عَدَمُ الكراهةِ... والصَّحيحُ أنَّه لا بأسَ بتعَلُّمِ منازِلِ القمَرِ؛ لأنَّه لا شِرْكَ فيها، إلَّا إن تعَلَّمَها ليُضيفَ إليها نُزولَ المطَرِ وحُصولَ البَردِ، وأنَّها هي الجالبةُ لذلك؛ فهذا نوعٌ من الشِّركِ، أمَّا مجَرَّدُ مَعرِفةِ الوَقتِ بها: هل هو الرَّبيعُ، أو الخريفُ، أو الشِّتاءُ؛ فهذا لا بأسَ به)
[2906] يُنظر: ((القول المفيد)) (2/5). .
أمَّا الاستدلالُ بالنُّجومِ على حوادِثَ أرضيَّةٍ ستقَعُ، مع الإيمانِ بأنَّ هذا بتقديرِ اللهِ ومشيئَتِه، فهو حرامٌ قطعًا.قال
ابنُ تيميَّةَ: (صناعةُ التنجيمِ التي مضمونُها الأحكامُ والتأثيرُ، وهو الاستدلالُ على الحوادِثِ الأرضيَّةِ بالأحوالِ الفَلَكيَّةِ، والتمزيجُ بين القُوى الفَلَكيَّة والقَوابلِ الأرضيَّة: صناعةٌ مُحَرَّمةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأُمَّةِ، بل هي مُحَرَّمةٌ على لسانِ جميعِ المُرسَلين في جَميِع المِلَلِ... والمنَجِّمُ يدخُلُ في اسمِ العَرَّافِ عند بعض العُلَماء، وعند بعضِهم هو في معناه.... وفي الصَّحيحِ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال:
((ثمنُ الكَلبِ خَبيثٌ، ومَهرُ البَغيِّ خَبيثٌ، وحُلوانُ الكاهِنِ خبيثٌ )) [2907] أخرجه البخاري (2237)، ومسلم (1567) من حَديثِ أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، بلفظ: ((أن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن ثمن الكَلْبِ، ومَهرِ البَغيِّ، وحُلوانِ الكاهِنِ)). ، وحُلوانُه الذي تسَمِّيه العامَّةُ حَلاوتَه، ويدخُلُ في هذا المعنى ما يُعطيه المنَجِّمَ وصاحِبَ الأزلامِ التي يستقسِمُ بها، مِثلُ الخشَبَةِ المكتوبِ عليها أ ب ج د، والضَّارِبِ بالحَصى ونَحوِهم، فما يُعطى هؤلاء حرامٌ، وقد حكى الإجماعَ على تحريمِه غيرُ واحدٍ من العُلَماء، ك
البَغَويِّ والقاضي عِياضٍ وغَيرِهما)
[2908] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/192-195). .
وقال ابنُ رُشدٍ الجَدُّ: (قد اختُلِفَ في المنجِّمِ يقضي بتنجيمِه، فيقولُ: إنَّه يعلَمُ متى يَقدَمُ فلانٌ، ويَعلَمُ وقتَ نزولِ الأمطارِ، وما في الأرحامِ، وما يستسِرُّ به النَّاسُ من الأخبار، وما يحدُثُ من الفِتَنِ والأهوالِ، وما أشبه ذلك من المغَيَّباتِ، فقيل: إنَّ ذلك كُفرٌ يجِبُ به القتلُ دونَ استتابة، ... وقيل: إنَّه يُستتابُ، فإن تاب وإلَّا قُتِل، ... وقيل: إنَّه يُزجَرُ عن ذلك ويؤدَّبُ عليه ... والذي أقولُ به: إن هذا ليس باختلافِ قَولٍ في موضِعٍ واحدٍ، وإنَّما هو اختلافٌ في الأحكامِ بحسَبِ اختلافِ الأحوالِ، فإذا كان المنجِّمُ يزعُمُ أنَّ النُّجومَ واختلافَها في الطُّلوعِ والغُروبِ هي الفاعِلةُ لذلك كُلِّه، وكان مُستَسِرًّا بذلك، فحَضَرَتْه البَيِّنةُ، قُتِلَ بلا استتابةٍ؛ لأنَّه كافِرٌ زِنديقٌ، وإن كان مُعلِنًا بذلك غيرَ مُستسِرٍّ به، يظهِرُه، ويحاجُّ عليه؛ استُتيبَ، فإن تاب وإلَّا قُتِل كالمُرتَدِّ سواءً.
وإن كان مؤمِنًا باللهِ عزَّ وجَلَّ، مُقِرًّا بأنَّ النُّجومَ واختلافَها في الطُّلوعِ والغُروبِ لا تأثيرَ لها في شيءٍ مما يحدُثُ في العالَمِ، وأنَّ اللهَ هو الفاعِلُ لذلك كُلِّه، إلَّا أنَّه جعلها أدِلَّةً على ما يفعَلُه، فهذا يُزجَرُ عن اعتقادِه، ويؤدَّبُ عليه أبدًا حتى يكُفَّ عنه ويرجِعَ عن اعتقادِه ويتوبَ عنه؛ لأنَّ ذلك بدعةٌ يُجرَحُ بها، تُسقِطُ إمامتَه وشهادتَه، على ما قاله سحنون في نوازِلِه من كِتابِ الشَّهاداتِ)
[2909] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) (17/407). .
وقال القرافي: (إنَّ اعتقد أنَّ اللهَ تعالى هو الفاعِلُ، عندها زُجِرَ عن الاعتقادِ الكاذبِ؛ لأنَّه بدعةٌ تُسقِطُ العدالةَ)
[2910] يُنظر: ((الفروق)) (4/259). .
وقال
ابنُ حجر: (ولم يتعَيَّنِ الكُفرُ في حَقِّ من قال ذلك، وإنَّما يكفُرُ من نَسَب الاختراعَ إليها، وأمَّا من جعلها علامةً على حُدوثِ أمرٍ في الأرضِ، فلا)
[2911] يُنظر: ((فتح الباري)) (6/295). .
وقال البهوتي: («ولا» يكفُرُ «مُنَجِّمٌ» أي: ناظِرٌ في النجومِ يستَدِلُّ بها على الحوادِثِ، فإن أوهم قومًا بطريقتِه أنَّه يعلَمُ الغَيبَ، فللإمامِ قَتْلُه؛ لسَعْيِه بالفسادِ)
[2912] يُنظر: ((شرح منتهى الإرادات)) (3/404). .
وقال سُلَيمانُ بنُ عبدِ اللهِ آل الشَّيخ: (الاستِدلالُ على الحوادِثِ الأرضِيَّةِ بمَسيرِ الكواكِبِ واجتِماعِها وافتِراقِها ونحوِ ذلك، ويقولُ: إنَّ ذلك بتقديرِ اللهِ ومَشيئتِه، فلا رَيبَ في تحريمِ ذلك، واختَلَف المتأخِّرون في تكفيرِ القائِلِ بذلك، وينبغي أن يُقطَعَ بكُفْرِه؛ لأنَّها دعوى لعِلمِ الغَيبِ الذي استأثر اللهُ تعالى بعِلْمِه بما لا يَدُلُّ عليه)
[2913] يُنظر: ((تيسير العزيز الحميد)) (ص: 379). .
المسألةُ الرابعةُ: الاستِسقاءُ بالنُّجومِ
قال اللهُ تعالَى:
وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الواقعة: 82].
وعن أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((أرْبَعٌ في أُمَّتي مِن أمْرِ الجاهِليَّةِ، لا يَتْرُكونَهُنَّ: الفَخْرُ في الأحْسابِ، والطَّعْنُ في الأنْسابِ، والاستِسْقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ ))2914.
وعن زَيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبيَةِ في إثْرِ السَّماءِ كانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فلمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ علَى النَّاسِ فقالَ:
((هلْ تَدْرُونَ ماذا قالَ رَبُّكُم؟ قالوا: اللَّهُ ورَسولُه أعلَمُ. قالَ: قالَ: أصْبَحَ مِن عِبادِي مُؤْمِنٌ بي وكافِرٌ؛ فأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِه فذلكَ مُؤْمِنٌ بي كافِرٌ بالكَوكَبِ، وأمَّا مَن قالَ: مُطِرْنا بنَوْءِ كذا وكذا فذلكَ كافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بالكَوكَبِ )) [2915] أخرجه البخاري (1038). .
ممَّا كان يقومُ به أهلُ الجاهليَّةِ نِسبةُ نُزولِ المطَرِ إلى النُّجومِ، مُعتقِدين أنَّها تُؤثِّرُ بذاتِها في خلْقِ المطَرِ أو إنزالِه، وهذا كُفْرٌ، فهمْ بذلك يَجعَلون حظَّهمْ مِن رِزقِ اللهِ التَّكذيبَ به بَدلًا مِن شُكرِه على نِعمتهِ، كما بيَّنَ اللهُ تَعالى في الآيةِ الكريمةِ؛ فالذي يَنْبغي على العِبادِ إنْ أصابَهُم خيرٌ أنْ يَرَوه مِن قِبَلِ اللهِ تَعالى، ويَنسُبوه إليه، ويَشكُروه عليه.
وَفي حديثِ أبي مالكٍ الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عنه يذكرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أُمورًا أربعةً مِن أُمورِ أهلِ الجاهليَّةِ لا تزالُ واقِعةً في هذه الأُمَّةِ، فَحذَّرنا مِنها، وأنَّ مَن أَتى بواحدةٍ مِنها فقدْ أَتى بإحْدَى الصِّفاتِ الجاهليَّةِ.
ومن تلك الخِصالِ: الاسْتِسْقاءُ بالنُّجُومِ، والاستسقاءُ هو طَلَبُ السُّقْيا، والمرادُ اعتقادُ أنَّ نُزولَ المطَرِ هو بظُهورِ نَجْمِ كذا، ومتى اعتَقَد أنَّ للنَّجمِ تأثيرًا مُستَقِلًّا في إنزالِ المطَرِ، أشرَكَ شِركًا أكبَرَ؛ قال اللهُ تعالَى:
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] .
ومَن جعَلَ هذه الأنواءَ سَبَبًا مع اعتقادِه أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ هو الخالِقُ الفاعِلُ، كان ذلك شِرْكًا أصغَرَ؛ لأن َّكُلَّ مَن جَعَل سَبَبًا لم يجعَلْه اللهُ سَبَبًا لا بوَحْيِه ولا بقَدَرِه، فهو مُشرِكٌ شِرْكًا أصغَرَ.
وفي حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الجُهَنيِّ رَضِيَ اللهُ عنه يقَرِّرُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه لا نافِعَ ولا ضارَّ سِوى اللهِ عزَّ وجلَّ، وأنَّه مِن الكُفرِ والشِّركِ اعتِقادُ النَّفعِ والضُّرِّ في الأسبابِ بَعيدًا عن اللهِ تعالى؛ فقد حَدَث أن أمطَرَت السَّماءُ ليلًا «بالحُدَيبيَةِ» -وهي قَريةٌ قريبةٌ مِن مَكَّةَ سُمِّيَت باسمِ بِئرٍ فيها- فلمَّا صلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صَلاةَ الفَجرِ من تلك الليلةِ، أقبلَ على النَّاسِ بوجهِه الشَّريفِ، فسَألَهم: هل تَدرونَ ماذا قالَ ربُّكم عزَّ وجلَّ؟ فأجابوه: اللهُ ورَسولُه أعلمُ. فأعلَمَهم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قال: أصبَحَ النَّاسُ بالنِّسبةِ إلى نُزولِ الأمطارِ على قِسمَين:
قِسمٍ مُؤمِنٍ باللهِ ِ تعالى لا يُشرِكُ به شَيئًا، ويَعلَمُ أنَّ اللهَ هو مُدَبِّرُ الأمرِ ومُنزِلُ هذا المطَرِ.
وقِسمٍ كافِرٍ بِوَحدانيَّةِ اللهِ تعالى ويُشرِكُ معه غيره.
فأمَّا مَن قال: مُطِرْنا بِفَضلِ اللهِ ورَحمتِه، فأسندَ إنزالَ الأمطارِ حقيقةً إلى اللهِ تعالى، فذلِك مُؤمِنٌ ومُوَحِّدٌ للهِ، وكافِرٌ بالكَوكِبِ، وأمَّا مَن قال: مُطرِنا بنَوءِ كذا وكذا، فذلِك كافِرٌ باللهِ مُؤمِنٌ بالكَوكَبِ، فمَن نسَبَ الأمطارَ وغيرَها مِن الحوادِثِ الأرضيَّةِ إلى تَحرُّكاتِ الكَواكِب في طُلوعِها وسُقوطِها مُعتقِدًا أنَّها الفاعِلُ الحقيقيُّ، فهو كافِرٌ مُشرِكٌ في تَوحيدِه لرَبِّه.
وإنْ لم يعتَقِدْ ذلك فهو مِنَ الشِّركِ الأصغَرِ؛ لأنَّه نَسَب نِعمةَ اللهِ إلى غيرِه، ولأنَّ اللهَ لم يجعَلِ النَّوءَ سَبَبًا لإنزالِ المطَرِ فيه، وإنَّما هو فَضلٌ مِن اللهِ ورحمةٌ، يَحبِسُه إذا شاء، ويُنزِلُه إذا شاء.
والمسنونُ لكُلِّ مؤمنٍ أن يقولَ كما وجَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مُطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتهِ»
[2916] يُنظر: ((زاد العباد)) (ص: 77). .
قال
الشَّافعيُّ: (من قال: مطِرْنا بفَضلِ اللهِ ورَحمتِه، فذلك إيمانٌ باللهِ؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّه لا يُمطِرُ ولا يُعطي إلَّا اللهُ عزَّ وجَلَّ. وأمَّا من قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، على ما كان بعضُ أهلِ الشِّركِ يَعْنون من إضافةِ المطَرِ إلى أنَّه أمطَرَه نَوءُ كذا، فذلك كُفرٌ، كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ النَّوءَ وَقتٌ، والوقتُ مخلوقٌ لا يملِكُ لنَفْسِه ولا لغيرِه شيئًا، ولا يمطِرُ ولا يصنَعُ شيئًا.
فأمَّا من قال: مُطِرْنا بنوءِ كذا، على معنى: مُطِرْنا بوَقتِ كذا، فإنَّما ذلك كقَولِه: مُطِرْنا في شهرِ كذا، ولا يكونُ هذا كُفرًا، وغيرُه من الكلامِ أحَبُّ إليَّ منه، أُحِبُّ أن يقولَ: مُطِرْنا في وقتِ كذا)
[2917] يُنظر: ((الأم)) (2/ 551). .
وقال
ابنُ عبد البرِّ: (أمَّا قَولُه حاكيًا عن اللهِ عزَّ وجَلَّ:
((أصبح من عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ ))، فمعناه عندي على وجهينِ: أمَّا أحَدُهما: فإنَّ النَّوءَ هو الموجِبُ لنزولِ الماءِ، وهو المنشئُ للسَّحابِ دونَ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ فذلك كافِرٌ كُفرًا صريحًا، يجِبُ استتابتُه عليه وقَتْلُه؛ لِنَبذِه الإسلامَ ورَدِّه القرآنَ. والوَجهُ الآخَرُ: أن يعتَقِدَ أنَّ النَّوءَ يُنزِلُ اللهُ به الماءَ، وأنَّه سَبَبُ الماءِ على ما قَدَّرَه اللهُ وسَبَق في عِلْمِه، فهذا وإن كان وجهًا مباحًا، فإنَّ فيه أيضًا كُفرًا بنعمةِ اللهِ عزَّ وجَلَّ، وجَهلًا بلطيفِ حِكمتِه؛ لأنَّه يُنزِلُ الماءَ متى شاء مرَّةً بنوءِ كذا ومَرَّةً دونَ النَّوءِ، وكثيرًا ما يخوى النَّوءُ فلا يَنزِلُ معه شيءٌ من الماء، وذلك مِنَ اللهِ لا من النَّوء)
[2918] يُنظر: ((التمهيد)) (16/286). .
وقال أيضًا: (وهذا عند أهلِ العِلمِ محمولٌ على ما كان أهلُ الشِّركِ يقولونه من إضافةِ المطَرِ إلى الأنواءِ دونَ اللهِ تعالى؛ فمن قال ذلك واعتقده فهو كافِرٌ باللهِ، كما قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لأنَّ النَّوءَ مخلوقٌ، والمخلوقُ لا يملِكُ لنَفْسِه نَفعًا ولا ضَرًّا.
وأمَّا من قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، على معنى: مُطِرْنا في وقتِ كذا وكذا، فإنَّ النَّوءَ الوَقتُ في لسانِ العَرَبِ أيضًا، يريدُ أنَّ ذلك الوقتَ يُعهَدُ فيه ويُعرَفُ نُزولُ الغَيثِ بفِعلِ اللهِ وفَضْلِه ورحمتِه، فهذا ليس بكافِرٍ، وقد جاء عن عُمَرَ أنَّه قال للعَبَّاسِ: ما بَقِيَ مِن نوءِ الثُّرَيَّا؟ وما بَقِيَ من نَوءِ الرَّبيعِ؟ على العادةِ والعُرفِ عندهم أنَّ تلك الأوقاتَ أوقاتُ أمطارٍ، إذا شاء ذلك الواحِدُ القَهَّارُ)
[2919] يُنظر: ((التمهيد)) (24/380). .
قال النَّووي: (اختَلَف العُلَماءُ في كُفرِ من قال: مُطِرْنا بنوءِ كذا، على قَولَينِ:
أحَدُهما: هو كُفرٌ باللهِ سُبحانَه وتعالى، سالِبٌ لأصلِ الإيمانِ، مخرِجٌ مِن مِلَّةِ الإسلامِ، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتَقِدًا أنَّ الكوكَبَ فاعِلٌ مُدَبِّرٌ مُنشِئٌ للمَطَرِ، كما كان بعضُ أهلِ الجاهليَّةِ يَزعُمُ، ومن اعتَقَد هذا فلا شَكَّ في كُفْرِه، وهذا القَولُ هو الذي ذهب إليه جماهيرُ العُلَماءِ، و
الشَّافِعيُّ منهم، وهو ظاهِرُ الحديثِ، قالوا: وعلى هذا لو قال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا، معتَقِدًا أنَّه مِنَ اللهِ تعالى وبرَحمتِه، وأنَّ النَّوءَ ميقاتٌ له وعلامةٌ، اعتبارًا بالعادةِ، فكأنَّه قال: مُطِرْنا في وَقتِ كذا، فهذا لا يَكْفُرُ، واختلفوا في كراهتِه، والأظهَرُ كراهتُه، لكِنَّها كراهةُ تنزيهٍ لا إثمَ فيها، وسَبَبُ الكراهةِ أنَّها كَلِمةٌ مُتَرَدِّدةٌ بين الكُفرِ وغَيْرِه، فيُساءُ الظَّنُّ بصاحِبِها، ولأنَّها شِعارُ الجاهليَّةِ، ومَن سلك مَسْلَكَهم.
والقَولُ الثَّاني في أصلِ تأويلِ الحَديثِ: أنَّ المرادَ كُفرُ نِعمةِ اللهِ تعالى؛ لاقتِصارِه على إضافةِ الغَيثِ إلى الكوكَبِ، وهذا فيمن لا يعتَقِدُ تدبيرَ الكوكَبِ)
[2920] يُنظر: ((شرح مسلم)) (2/60). .
وقال
ابنُ رجب (لا تضافُ النِّعَمُ إلى الأسبابِ، بل إلى مُسَبِّبِها ومُقَدِّرِها، كما في الحديثِ الصَّحيحِ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((أنَّه صلَّى بهم الصُّبحَ في أَثَرِ سماءٍ، ثم قال: أتدرونَ ما قال ربُّكم الليلةَ؟ قال: أصبح من عبادي مؤمِنٌ بي وكافِرٌ ؛ فأمَّا المؤمِنُ فقال: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورحمتِه، فذلك مؤمِنٌ بي كافِرٌ بالكوكَبِ، وأمَّا الكافِرُ فقال: مُطِرْنا بنَوءِ كذا وكذا، فذلك كافِرٌ بي مُؤمِنٌ بالكواكِبِ ))... وهذا مما يدُلُّ على أنَّ المرادَ نَفيُ تأثيرِ هذه الأسبابِ بنَفْسِها من غيرِ اعتقادِ أنَّها بتقديرِ اللهِ وقَضائِه، فمن أضاف شيئًا من النِّعَمِ إلى يُغْشِي اللهِ مع اعتقادِه أنَّه ليس من اللهِ فهو مُشرِكٌ حقيقةً، ومع اعتقادِ أنَّه من اللهِ فهو نوعُ شِركٍ خَفِيٍّ)
[2921] يُنظر: ((لطائف المعارف)) (ص: 71). .
وقال برهانُ الدِّينِ إبراهيمُ بنُ مُفلِح: (يُستحَبُّ أن يقولَ: مُطِرْنا بفَضْلِ اللهِ ورَحمتِه، ويَحرُمُ
بنَوءِ كذا؛ لخَبَرِ زيدِ بنِ خالدٍ، وهو في الصَّحيحَينِ، وإضافةُ المطَرِ إلى النَّوءِ دونَ اللهِ كُفرٌ إجماعًا)
[2922] يُنظر: ((المبدع)) (2/193). .
وقال
علي القاري في معنى قَوله: (الاستِسقاءُ بالأنواءِ) (أقولُ: الظَّاهِرُ من الحَديثِ النَّبويِّ؛ هو المنعُ المُطلَقُ سدًّا للبابِ، وقطعًا للنَّظَرِ عن الأسبابِ، مع أنَّه قد يتخَلَّفُ بتقديرِ رَبِّ الأربابِ؛ ولذا قال اللهُ تعالى:
وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [لقمان: 34] ؛ أي: وفي وَقتٍ لا يعلَمُه إلَّا اللهُ)
[2923] يُنظر: ((مرقاة المفاتيح)) (6/2416). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (الإخبارُ بما يقَعُ في البُروجِ أو النُّجومِ إذا كان مجرَّدَ خَبَرٍ، بأن يقالَ: جرت العادةُ أنَّه في النَّجمِ الفُلانيِّ أو البُرجِ الفُلانيِّ يحصُلُ كذا وكذا، فهذا لا بَأْسَ به؛ لأنَّه خَبَرٌ، أمَّا إذا اعتقد أنَّ للبُروجِ تأثيرًا في الحوادِثِ، فهذا حرامٌ، وهو نوعٌ مِنَ الشِّركِ، وكذلك لو اعتقد أنَّ للنُّجومِ التي ليست البُروجَ تأثيرًا في الحوادِثِ، فهذا نوعٌ مِن الشِّركِ الذي لا يجوزُ ولا يُصدَّقُ، فهذه هي القاعِدةُ: إذا كان يخبِرُ عمَّا كان عادةً؛ مِثلُ أن يقولَ: إذا دخل البُرجُ الفُلانيُّ كَثُر المطَرُ في العادةِ، فلا بَأْسَ به، هذا شيءٌ واقِعٌ، أمَّا إذا كان يعتَقِدُ أنَّ للبُرجِ تأثيرًا، فهذا نوعٌ مِنَ الشِّركِ)
[2924] يُنظر: ((اللقاء الشهري)) (رقم اللقاء: 58). .
المسألةُ الخامسةُ: عِلمُ الأبراجِ
مِنَ الصُّوَرِ العَصريَّةِ التطبيقيَّةِ للتنجيمِ والكِهانةِ ما يُسَمَّى زُورًا بعِلمِ الأبراجِ، الذي انتشر في بعضِ الصُّحُفِ والمجلَّاتِ والفَضائيَّاتِ وغيرِها تحت عُنوانِ: الأبراجُ، أو الحَظُّ والأبراجُ، أو حَظُّك والنُّجومُ، أو حَظُّك اليومَ، ونحوُ ذلك.
فيدَّعي أهلُها أنَّهم يَستَدِلُّون عن طريقِ الأبراجِ على مَعرِفةِ طِباعِ النَّاسِ وصِفاتِ المولودِ في كُلِّ شَهرٍ من الشُّهورِ، ويزعُمون أنَّه سيحصُلُ لك كذا وكذا، واحذَرْ من كذا، إلى غيرِ ذلك من التكَهُّناتِ وادِّعاءِ عِلمِ الغَيبِ.
وممَّا يدُلُّ على أنَّها تخَرُّصاتٌ باطِلةٌ وظُنونٌ كاذِبةٌ أنَّ المنجِّمين أنفُسَهم مختَلِفون في عَدَدِ الأبراجِ وأسمائِها ومُدَّتِها، ومختَلِفون في دلالتِها على طباعِ الخَلْقِ وصِفاتِهم، ومختَلِفون في المدَّةِ التي تُجعَلُ لكُلِّ برجٍ.
فحُكمُ تعَلُّمِ ذلك ونَشْرِه كحُكمِ التنجيمِ والكِهانةِ؛ فمن اعتقد أنَّ الأبراجَ لها تصَرُّفٌ في الكونِ وتأثيرٌ في الحوادثِ والكائناتِ، فهذا كُفرٌ أكبَرُ، ومن اعتقد أنَّها علاماتٌ فقط يُستدَلُّ بها على الحوادِثِ الأرضِيَّةِ -وأنَّ الأمرَ كُلَّه للهِ- فهذا من شِركِ الأسبابِ، وهو مُحَرَّمٌ وكُفرٌ أصغَرُ قد يوصِلُه -والعياذُ باللهِ - إلى الكُفرِ الأكبرِ، وادِّعاءِ عِلمِ الغَيبِ بنَفْسِه، ومنازعةِ اللهِ تعالى فيما اختَصَّ به.
وحُكمُ متابعِ ذلك وقارئِه حُكمُ من يأتي الكاهِنَ ويَسألُه؛ فإن سأله وصَدَّقَه لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعين يومًا، وإنِ اعتَقَد أنَّ الكاهِنَ يَعلَمُ الغَيبَ بنَفْسِه فقد وقع في الكُفرِ الأكبَرِ، والعياذُ باللهِ .
قال
ابنُ باز في جوابٍ عن حُكمِ الأبراجِ وإتيانِ أصحابِها: (هذا كُلُّه باطِلٌ لا أصلَ له، بل هو من الطِّيَرةِ المنكَرةِ والمذمومةِ، والتشاؤُمِ المنهيِّ عنه، فالحاصِلُ أنَّه لا خُصوصيَّةَ لبرجِ كذا أو نجمِ كذا؛ لأنَّ من وُلِدَ في نجمِ كذا وبُرجِ كذا، صار له كذا وكذا، كُلُّ هذا باطِلٌ)
[2925] يُنظر: ((فتاوى نور على الدرب)) (3/ 394). .
وقال أيضًا: (إنَّ ما يُسَمَّى بعِلمِ النُّجومِ والحَظِّ والطَّالعِ: مِن أعمالِ الجاهليَّةِ التي جاء الإسلامُ بإبطالِها وبيانِ أنَّها من الشِّركِ؛ لِما فيها من التعَلُّقِ بغيرِ اللهِ تعالى، واعتقادِ الضُّرِّ والنَّفعِ في غيرِه، وتصديقِ العَرَّافينَ والكَهَنةِ الذين يدَّعون عِلمَ الغَيبِ زُورًا وبُهتانًا، ويَعْبَثون بعُقولِ السُّذَّجِ والأغرارِ من النَّاس؛ ليبتَزُّوا أموالهم ويُغَيِّروا عقائِدَهم؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيما أخرجه عنه
عبدُ اللهِ بنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما:
((من اقتبس شُعبةً من النُّجومِ فقد اقتبس شُعبةً من السِّحْرِ، زاد ما زاد)) [2926] أخرجه أبو داود (3905)، وابن ماجه (3726) واللَّفظُ لهما، وأحمد (2480) باختِلافٍ يسيرٍ. صَحَّحه الذهبي في ((المهذب)) (6/3233)، والألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (3726)، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (464)، وصَحَّح إسنادَه النووي في ((رياض الصالحين)) (536)، وابن تيمية في ((مجموع الفتاوى)) (35/193)، والعراقي في ((تخريج الإحياء)) (4/144)، وأحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (3/312)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3905). ،... وقد ظهر من أقوالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ومن تقريراتِ الأئِمَّةِ من العُلَماءِ وفُقَهاءِ هذه الأُمَّةِ أنَّ عِلمُ النُّجومِ، وما يُسَمَّى بالطَّالعِ، وقِراءةَ الكَفِّ، وقراءةَ الفِنجان، ومعرفةَ الحَظِّ: كُلُّها من عُلومِ الجاهليَّةِ، ومن المُنكَراتِ التي حَرَّمها اللهُ ورَسولُه، وأنَّها من أعمالِ الجاهِليَّةِ وعُلومِهم الباطِلةِ التي جاء الإسلامُ بإبطالِها والتحذيرِ مِن فِعْلِها، أو إتيانِ من يتعاطاها وسُؤالِه عن شَيءٍ منها، أو تصديقِه فيما يخبِرُ به من ذلك؛ لأنَّه من عِلمِ الغَيبِ الذي استأثر اللهُ به؛ قال تعالى:
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ [النمل: 65] )
[2927] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (2/ 123-125). .
وقال أيضًا: (جميعُ الاعتقاداتِ في النُّجومِ، والبُروجِ، والشُّهورِ، والأيَّامِ، والأماكِنِ: كُلُّها باطلةٌ إلَّا ما ثَبَت في الشَّرعِ المطَهَّرِ... إنَّ التعَلُّقَ بالنُّجومِ والبروجِ وغَيرِهما من المخلوقاتِ أقسامٌ:
منها: ما هو كُفرٌ أكبَرُ بلا شُبهةٍ ولا خِلافٍ بين أهلِ العِلمِ، وهو: أن يعتَقِدَ أنَّ هذه النجومَ والبروجَ -وهي اثنا عشر بُرجًا- أو الشَّمسَ، أو القَمَرَ، أو أحدًا من النَّاسِ؛ أنَّ له التصَرُّفَ في الكونِ، أو أنَّه يُدَبِّرُ بَعضَ الكَونِ؛ فهذا شِركٌ أكبَرُ، وكُفرٌ أعظَمُ، نسألُ اللهَ العافيةَ)
[2928] يُنظر: ((مجموع فتاوى ابن باز)) (8/120). .
وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (تعليقُ النَّحسِ والسَّعدِ في الأفلاكِ والأبراجِ: مِن شِرْكِ الأوائِلِ مِنَ المجوسِ، والصَّابئةِ مِن الفلاسِفةِ، ونَحوِهم مِن طوائفِ الكُفرِ والشِّركِ، وادِّعاءُ عِلمِ ذلك هو في الظَّاهِرِ ادِّعاءٌ لعِلمِ الغَيبِ، وهذا منازَعةٌ للهِ في حُكْمِه، وهذا شِرْكٌ عظيمٌ، ثمَّ هو في حقيقتِه دَجَلٌ وكَذِبٌ وتلاعُبٌ بعُقولِ النَّاسِ، وأكلٌ لأموالِهم بالباطِلِ، وإدخالٌ للفَسادِ في عقائدِهم، والتَّلبيسِ عليهم. وعليه فإنَّ «أبراجَ الحَظِّ» يَحرُمُ نَشْرُها والنَّظَرُ فيها وترويجُها بين النَّاسِ، ولا يجوزُ تصديقُهم، بل هو مِن شُعَبِ الكُفرِ والقَدْحِ في التوحيدِ، والواجِبُ الحَذَرُ مِن ذلك، والتَّواصي بتَرْكِه، والاعتِمادُ على اللهِ سُبحانَه وتعالى، والتوكُّلُ عليه في كُلِّ الأمورِ)
[2929] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الثانية)) (1/ 203). .
المسألةُ السادسةُ: عِلمُ الفَلَكِ والهَيئةِ
عِلمُ الفَلَكِ هو عِلمٌ قائِمٌ على الأرصادِ والملاحَظاتِ المنظَّمةِ، يدرُسُ الكونَ بما فيه من أجرامٍ سَماويَّةٍ وظواهِرَ كونيَّةٍ، وتسميتُه بهذا الاسمِ تَسميَةٌ حديثةٌ، حَلَّت محَلَّ التسميةِ القديمةِ الشَّائعةِ، وهي عِلمُ الهيئةِ أو الحِسابِ
[2930] يُنظر: ((أبجد العلوم)) لصديق حسن خان (ص: 556)، ((الموسوعة العربية العالمية)) (17/482). .
وهو غيرُ عِلمِ التنجيمِ المُحَرَّمِ بأقسامِه وصُوَرِه.
قال
ابنُ بطة العكبري: (أمرُ النُّجومِ على وجهَينِ: فأحَدُهما واجِبٌ عِلمُه والعَمَلُ به، فأمَّا ما يجِبُ عِلمُه والعَمَلُ به: فهو أن يتعَلَّمَ من النجومِ ما يهتدي به في ظُلُماتِ البَرِّ والبحرِ، ويَعرِفُ به القِبلةَ والصَّلاةَ والطُّرُقاتِ، فبهذا العِلمِ من النجومِ نَطَق الكِتابُ ومَضَت السُّنَّةُ.
وأمَّا ما لا يجوزُ النَّظَرُ فيه والتصديقُ به، ويجِبُ علينا الإمساكُ عنه من عِلمِ النُّجومِ، فهو ألَّا يَحكُمَ للنُّجومِ بفِعلٍ، ولا يَقضيَ لها بحدوثِ أمْرِه، كما يدَّعي الجاهِلون من عِلمِ الغُيوبِ بعِلمِ النُّجومِ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ)
[2931] يُنظر: ((الإبانة الكبرى)) (3/ 244). .
وقال ابنُ رشد: (ليس قَولُ الرَّجُلِ: الشَّمسُ تَكسِفُ غَدًا، والقَمَرُ يَكسِفُ ليلةَ كذا، من جِهةِ النَّظَرِ في النُّجومِ وعِلمِ الحِسابِ، بمنزلة قَولِه مِن هذا الوَجهِ: فلانٌ يَقدَمُ غَدًا، في جميعِ الوجوهِ... فليس في مَعرِفةِ وَقتِ كَونِ الكُسوفِ بما ذكَرْناه من جهةِ النُّجومِ وطَريقِ الحِسابِ ادِّعاءُ عِلمِ غَيبٍ، ولا ضلالةٌ وكُفرٌ على وَجهٍ من الوجوهِ، لكِنَّه يُكرَهُ الاشتغالُ به؛ لأنَّه ممَّا لا يعني)
[2932] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) (17/405). .
وقال
ابنُ تيميَّةَ عن عِلمِ الحِسابِ: (هو مَعرِفةُ أقدارِ الأفلاكِ والكواكِبِ وصِفاتِها ومقاديرِ حركاتهِا، وما يَتْبَعُ ذلك؛ فهذا في الأصلِ عِلمٌ صَحيحٌ لا رَيبَ فيه، كمعرفةِ الأرضِ وصِفَتِها ونحوِ ذلك)
[2933] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (35/ 181). .
وقال
ابنُ باز عن حُكمِ توقُّعِ أحوالِ الطَّقسِ وهُبوبِ الرِّياحِ ومجيءِ الأمطارِ: (الأرصادُ لها دلائِلُ، إذا قالوا فيها: إن شاء اللهُ أو بإذن اللهِ، وهم على طريقةٍ مُتَّبَعةٍ يعرفونها، ما تكونُ من دعوى عِلمِ الغَيبِ، إذا كان على طريقةٍ يَعرِفونَها من الأهوِيَةِ التي تسوقُ، والسَّحابِ وأشباهِ ذلك .. ولا يجوزُ الجَزْمُ بهذا، بل يقول: بإذنِ اللهِ، أو إن شاء الله، أو بمشيئةِ اللهِ، وأمَّا الجَزمُ بهذا لا، لا يجزِمُ بها، لا يجزِمُ بهذا إلَّا مَن رأى)
[2934] يُنظر: ((مسائل متفرقة في العقيدة)) (الموقع الرسمي لابن باز). .
وقال
ابنُ عثيمين: (هل مِن الكِهانةِ ما يخبَرُ به الآنَ مِن أحوالِ الطَّقسِ في خلالِ أربعٍ وعشرين ساعةً، أو ما أشبَهَ ذلك؟ الجواب: لا؛ لأنَّه أيضًا يستَنِدُ إلى أمورٍ حِسِّيةٍ، وهي تكيُّفُ الجَوِّ؛ لأنَّ الجَوَّ يتكَيَّفُ على صفةٍ مُعَيَّنةٍ تُعرَفُ بالموازينِ الدقيقةِ عندهم، فيكونُ صالحًا لأن يمطِرَ، أو لا يمطِرَ، ونظيرُ ذلك في العِلمِ البدائيِّ إذا رأَينا تجمُّعَ الغُيومِ والرَّعدِ والبَرقِ، وثِقَلَ السَّحابِ، نقول: يوشِكُ أن يَنزِلَ المطَرُ، فالمهِمُّ أنَّ ما استند إلى شيءٍ محسوسٍ، فليس من عِلمِ الغَيبِ)
[2935] يُنظر: ((القول المفيد)) (1/ 531). .
وجاء في فتاوى اللَّجنةِ الدَّائِمةِ: (عِلمُ الحِسابِ ومَعرفةُ مَطالِعِ النُّجومِ ليس من الكِهانةِ، ولا يحرُمُ تعاطيه، لكِنَّه لا يجوزُ أن يؤخَذَ به في أمرٍ شَرعيٍّ، كالصِّيامِ والحَجِّ ونحوِ ذلك. وليس هو من تعَلُّمِ عِلمِ النُّجومِ المرسومِ المنهيِّ عنه)
[2936] يُنظر: ((فتاوى اللجنة الدائمة - المجموعة الأولى)) (1/ 633). .