المَعِيَّةُ
يَعتقِدُ أهلُ الحقِّ -أهلُ السُّنَّة والجماعةِ- أنَّ اللهَ مَعَنا على الحقيقةِ، وأنَّه فوقَ سمَواتِه، مُستوٍ على عَرشِه، بائنٌ من خَلقِه، وهذه المَعِيَّةُ ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ.
الدَّليلُ مِن الكِتابِ:1- قولُه تَعالَى:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] .
2- قَولُه:
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] .
قال
ابنُ جَريرٍ: (
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يَقولُ: وهو شاهِدٌ لكم -أيُّها النَّاسُ- أينما كنتُم؛ يَعلَمُكم، ويَعلَمُ أعمالَكم، ومُتقَلَّبَكم ومثواكم، وهو على عَرْشِه فوقَ سَماواتِه السَّبعِ)
[2906] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (22/ 387). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (قَولُه:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ أي: معهم بتأييدِه ونَصْرِه ومَعونَتِه، وهذه مَعِيَّةٌ خاصَّةٌ، كقَولِه:
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [الأنفال: 12] ، وقَولِه لموسى وهارونَ:
لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46] ، وقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصِّدِّيقِ وهما في الغارِ:
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ، وأمَّا المعِيَّةُ العامَّةُ فبالسَّمعِ والبَصَرِ والعِلمِ، كقَولِه تعالى:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد: 4] ، وكقَولِه تعالى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا [المجادلة: 7] ، وكما قال تعالى:
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس: 61] )
[2907] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (4/ 615). .
وقال
الشِّنقيطيُّ: (اللهُ تبارك وتعالى ذَكَر في كِتابِه مَعيَّةً خاصَّةً للمُتَّقينَ والصَّابرينَ والمحسِنينَ:
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128] ،
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ،
لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ، فهذه المعيَّةُ الخاصَّةُ هي بالنَّصرِ والتَّوفيقِ ونحوِ ذلك. والمعيَّةُ العامَّةُ هي بالإحاطةِ الكامِلةِ، ونُفوذِ العِلمِ، وإحاطتُه -جلَّ وعلا- بكُلِّ شَيءٍ معلومةٌ، وهي المذكورةُ في قَولِه:
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ إلى قَولِه:
وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة: 7] ،
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد: 4] ؛ لأنَّ جميعَ الكائناتِ بسَمواتِها وأرضِها في يدِ خالِقِ السَّمَواتِ والأرضِ أصغَرُ مِن حَبَّةِ خَردَلٍ، فهو مع جميعِها بالإحاطةِ الكامِلةِ العَظيمةِ، وبالإحاطةِ العِلميَّةِ ونُفوذِ التصَرُّفِ كما لا يخفى)
[2908] يُنظر: ((العذب النمير)) (5/ 88). .
وقال
ابنُ باز: (استواؤُه على العَرْشِ لا ينافي عِلْمَه بالأشياءِ وإحاطتَه بها، وأنَّه مع عبادِه ومع أهلِ طاعتِه؛ مع عبادِه بعِلْمِه واطِّلاعِه سُبحانَه وتعالى، كما قال عَزَّ وجَلَّ:
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ؛ فهذا لا ينافي عُلُوَّه واستواءَه على عَرْشِه؛ فهو معنا بعِلْمِه واطِّلاعِه، وهو فوقَ العَرْشِ سُبحانَه وتعالى كما يشاءُ، وكما أخبَرَ جَلَّ وعلا، من غيرِ تحريفٍ ولا تكييفٍ، وهو مع أوليائِه وأهلِ طاعتِه بعِلْمِه وتأييدِه أيضًا، وعِنايتِه بهم، وكِلاءتِه لهم، ونَصْرِه إيَّاهم)
[2909] يُنظر: ((أصول الإيمان)) (ص: 59). .
الدَّلِيلُ من السُّنَّةِ:1- حديثُ
ابنِ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما مَرفوعًا:
((إذا كان أحَدُكم يُصَلِّي فلا يَبصُقْ قِبَلَ وَجْهِه؛ فإنَّ اللهَ قِبَلَ وَجْهِه إذا صَلَّى )) [2910] أخرجه البخاري (406)، ومسلم (547). .
2- الحديثُ القُدسيُّ:
((أنَا عندَ ظنِّ عَبْدِي بي، وأنا مَعَه إذا ذَكَرني... )) [2911] أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. .
ويُنظر: صِفةُ (القُرْب).
قال
ابنُ تَيميَّةَ: (فصلٌ: وقدْ دخَلَ فيما ذَكرْناه مِن الإيمانِ باللهِ: الإيمانُ بما أَخْبَرَ اللهُ به في كِتابه، وتَواتَر عن رسولِه، وأجمَع عليه سلفُ الأمَّةِ؛ من أنَّه سُبحانَه فوقَ سَمواتِه على عَرشِه، عَلِيٌّ على خَلْقِه، وهو سُبحانَه معَهم أينما كانوا، يَعلَمُ ما هم عامِلونَ).. ثمَّ بعدَ أنْ أوردَ بعضَ الآياتِ قال: (وكلُّ هذا الكلامِ الذي ذَكَره اللهُ مِن أنَّه فوقَ العرشِ، وأنَّه معنا: حقٌّ على حقيقتِه، لا يَحتاجُ إلى تَحريفٍ، ولكن يُصانُ عن الظُّنونِ الكاذِبةِ)
[2912] يُنظر: ((العقيدة الواسطية)) (ص: 193). .
وهذا ما قرَّره
ابنُ عُثَيمين في رِسالتِه (تَعقيب مَعِيَّة اللهِ على خلْقِه)
[2913] وهي مطبوعة في آخِر كتابِه: (القواعد المُثْلَى). التي بيَّن فيها معنى هذه الصِّفةِ العظيمةِ التي وصَفَ اللهُ بها نفْسَه في عِدَّة آياتٍ مِن القرآنِ، ووصَفَه بها نبيُّه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
قال
ابنُ عُثَيمين: (خُلاصةُ القَولِ في هذا الموضوعِ كما يلي:
1- أنَّ مَعيَّةَ اللهِ تعالى لخَلْقِه ثابتةٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ السَّلَفِ.
2- أنَّها حَقٌّ على حقيقتِها على ما يليقُ باللهِ تعالى، مِن غيرِ أن تُشبِهَ معيَّةَ المخلوقِ للمَخلوقِ.
3- أنَّها تقتَضي إحاطةَ اللهِ تعالى بالخَلْقِ عِلمًا وقُدرةً وسَمعًا وبصَرًا وسُلطانًا وتدبيرًا، وغيرَ ذلك مِن معاني ربوبيَّتِه، إن كانت المعيَّةُ عامَّةً، وتقتَضي مع ذلك نَصرًا وتأييدًا وتوفيقًا وتسديدًا إن كانت خاصَّةً.
4- أنَّها لا تقتَضي أنْ يكونَ اللهُ تعالى مختَلِطًا بالخَلقِ أو حالًّا في أمكِنَتِهم، ولا تدُلُّ على ذلك بوَجهٍ مِن الوُجوهِ.
5- إذا تدَبَّرْنا ما سَبَق عَلِمْنا أنَّه لا منافاةَ بيْن كونِ اللهِ تعالى مع خَلْقِه حقيقةً وكونِه في السَّماءِ على عَرْشِه حقيقةً. سُبحانَه وبحَمْدِه لا نُحصي ثنًاء عليه، هو كما أثنى على نَفْسِه)
[2914] يُنظر: ((القواعد المثلى)) (ص: 103). .