الفَرْعُ الرَّابعُ: التَّمنِّي
التَّمنِّي هو طَلبُ شيءٍ مَحبوبٍ لا يُرجَى حُصولُه؛ إمَّا لكونِه مُسْتحيلًا، أو لكوْنِه بَعيدَ الحُصولِ.
فمِنَ المُسْتحيلاتِ قولُه تعالى:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا [الفُرْقان: 28] ، وقولُه تعالى:
وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النَّبَأ: 40] . ومنه قولُ
أبي العَتاهِيَةِ: الوافِر
ألَا ليتَ الشَّبابَ يَعودُ يومًا
فأُخْبِرَهُ بما فعَلَ المَشِيبُ
ومِنَ البَعيدِ الحُدوثِ قولُ قومِ فِرْعَونَ:
يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ [القصص: 79] ، وتقولُ: ليتَ زيدًا يَأتينا، إذا كان إتْيانُه صَعبًا.
وأداةُ التَّمنِّي الخاصَّةُ به "ليْتَ"، لكنْ قد يُتمنَّى بغيرِها، مِثْلُ: "هل" في قولِه تعالى:
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ [غافِر: 11] (لمَّا عرَفوا أنَّ الَّذي كانُوا عليه في الدُّنيا كان فاسِدًا باطِلًا، تَمَنَّوا الرُّجوعَ إلى الدُّنيا ليَشتَغِلوا بالأعْمالِ الصَّالِحةِ)
[116] ((اللباب في علوم الكتاب)) لابن عادل (17/ 20). ، ومنه قولُ نُصَيبٍ: الطَّويل
ألَا هل مِنَ البَينِ المُفرِّقِ مِن بُدِّ
وهل مِثلُ أيَّامي بمُنْقَطَعِ السَّعْدِ
وقد يُتمنَّى بـ"لو"، كقَولِه تعالى:
فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ * فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشُّعراء: 100-102] ، قال
ابنُ عاشورٍ: («لو» هذه للتَّمنِّي، وأصلُها (لو) الشَّرطيَّةُ لكنَّها تُنُوسِيَ منها مَعْنى الشَّرطِ، وأصلُها: لو أُرجِعنا إلى الدُّنيا لآمنَّا، لكنَّه إذا لم يُقصَدْ تَعليقُ الامْتِناعِ على امْتناعٍ تَمَحَّضتْ (لو) للتَّمنِّي لِما بينَ الشَّيءِ المُمْتنِعِ وبينَ كونِه مُتمنًّى مِنَ المُناسَبةِ)
[117] ((تفسير ابن عاشور)) (19/ 155، 156). .
وقد يُتمنَّى بـ"لعلَّ"، وإنْ كان الأكْثرُ والأغلبُ أنْ تكونَ "لعلَّ" مُستعمَلةً في التَّرجِّي، لكنْ قد يُؤتى بها في تَمنِّي ما يُستَبعدُ حُدوثُه أو يَستحِيلُ، كقوْلِ فِرْعونَ:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافِر: 36-37] . والنُّكْتةُ البَلاغيَّةُ في إيْرادِ التَّمنِّي بـ "لعلَّ" المُوضوعَةِ للرَّجاءِ هي الإشعارُ بأنَّ المُتمنَّى قَريبُ الحُصولِ، وإظْهارُه في صُورةِ المَرجوِّ حُصولُه لشدَّةِ الرَّغبةِ فيه، فبُلوغُ السَّماءِ أمرٌ يَسْتحيلُ تَحقُّقُه لفِرْعونَ أو غيرِه، ولكنَّ غَطْرسةَ فِرْعونَ وجَبروتَه اللَّذينِ سوَّلا له ادِّعاءَ الألوهيَّةِ زيَّنَا له أنَّ البَعيدَ المُسْتحيلَ ما هو إلَّا أمرٌ قَريبٌ، أو أبْرزَ فِرْعونُ ما لا يُمكنُ في صُورةِ المُمكنِ تَمْويهًا على سامِعيه
[118] ينظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/ 258)، ((علم المعاني في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 95). .
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعرِ: الطَّويل
أسِربَ القَطَا هل مَن يُعِيرُ جَناحَه
لعلِّي إلى مَن قد هَوِيتُ أَطِيرُ
[119] السِّربُ: الجماعةُ. القَطَا: نوعٌ مِن الحَمَامِ. ينظر: ((المصباح المنير)) (1/ 272)، (2/ 510). يَتمنَّى الشَّاعرُ مِن سِربِ القَطَا مَنْ يُعيرَه جَناحَه؛ لعلَّه يَتمكَّنُ مِنَ الطَّيَرانِ إلى مَنْ أحَبَّه.
ولا يُتمنَّى بـ(هل) و(لو) و(لعلَّ) إلَّا في المَقطوعِ بعدَمِ وُقوعِه (المُسْتحيل)؛ لئلَّا تُحمَلَ على مَعانيها الأصليَّةِ.
فإن كان المَطلوبُ قريبًا مَرجوَّ الحُصولِ، كان تَرجِّيًا لا تَمنِّيًا، وله أدَواتُه الخاصَّةُ، ومنها: "لعلَّ، عسَى"، كقَولِه تعالى:
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [الإسْراء: 8] ، وقولِه تعالى:
اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه: 43-44] . ومنه قولُ الشَّاعرِ: الطَّويل
عَسى فرَجٌ يَأتي بهِ اللهُ إنَّهُ
لهُ كلَّ يومٍ في خَليقَتِه أَمْرُ
وقولُ آخَرَ: الطَّويل
فقُولا لها قولًا رَفيقًا لعلَّها
ستَرحَمُني مِن زَفرةٍ وعَوِيلِ
[120] (رفيقًا: مِنَ الرِّفْقِ، خلافُ العُنفِ، والزَّفْرةُ: اسمٌ لمدِّ التنفُّسِ على سبيلِ التألُّمِ، والعَويلُ: اسمٌ لرَفعِ الصَّوتِ بالبُكاءِ). ينظر: ((شرح أبيات مغني اللبيب)) للبغدادي (5/ 177). [121] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 420 - 423)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 87، 88).