الفَرْعُ الخامِسُ: النِّداءُ
النِّداءُ: طَلبُ الإقْبالِ بحرْفٍ نائِبٍ مَنابَ لفْظِ "أدْعو"؛ إمَّا لفظًا مِثلُ: يا زيدُ، أو تَقديرًا، كقَولِه تعالى:
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا [يُوسُف: 29] ، أيْ: يا يُوسفُ.
وأدَواتُ النِّداءِ هي: (يا، الهَمْزةُ (أ)، الهَمْزةُ المَمْدودةُ (آ)، أيْ، آي، أَيَا، هَيَا، وا).
وهي نَوعانِ:1- أداةٌ لنداءِ القَريبِ: الهَمْزةُ (أ)، و(أيْ).
2- أداةٌ لنداءِ البَعيدِ: باقي الأدَواتِ
[122] وقد اختُلِف في (يا) هل هي لنداءِ البَعيدِ فقط، أم مُشتَرَكةٌ بَيْنَ نداءِ البَعيدِ ونداءِ القَريبِ؟ ينظر: ((شرح الرضي على الكافية)) (4/ 425). .
لكنْ قد يَستعمِلُ البَليغُ هذه الأدَواتِ بخِلافِ أصْلِ الاسْتخدامِ؛ فيَستخدِمُ أداةَ النِّداءِ الَّتي للبَعيدِ لنداءِ القَريبِ، ويَستخدِمُ أداة النِّداءِ الَّتي للقَريبِ لنداءِ البَعيدِ؛ وذلك لأغْراضٍ بَلاغيَّةٍ:
فيُنزَّلُ البَعيدُ مَنْزِلةَ القَريبِ فيُنادَى بالهَمْزةِ أو (أيْ)؛ للإشارةِ إلى أنَّه قَريبٌ إلى قَلْبِ المنادِي ونَفْسِه، حاضِرٌ في ذِهْنِه، لا يَغيبُ عن بالِه، فهو قريبٌ فيه قُربًا مَعْنَويًّا، وإن كان بعيدًا عنه جَسَديًّا، كما في قَولِ
أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي عندما كان في مَحبَسِه يَستعطِفُ الأميرَ ليَعفوَ عنه:
أمالِكَ رِقِّي ومَنْ شَأنُهُ
هِباتُ اللُّجَينِ وعِتقُ العَبيدِ
دعوتُكَ عندَ انْقِطاعِ الرَّجا
ءِ والمَوتُ منِّي كحَبْلِ الوَريدِ
يقولُ: يا مَنْ يملِكُ عُبوديَّتي، ويا مَنْ شأنُه أنْ يهَبَ الفِضَّةَ، ويُعتِقَ العبيدَ، دَعوتُك عندَ انْقطاعِ الرَّجاءِ مِن غيرِك، وقُربِ المَوتِ منِّي كحَبلِ الوَريدِ، وهُو عِرقٌ في العُنُقِ
[123] ينظر: ((شرح ديوان المتنبي)) للواحدي (ص: 43). .
ويُنزَّلُ القريبُ مَنْزِلةَ البَعيدِ فيُنادى بأدَواتِ النِّداءِ للبَعيدِ؛ إمَّا لكونِه:
1- عاليَ المَقامِ بَعيدَ المَنْزِلةِ، عَظيمَ القدْرِ رَفيعَ الشَّأنِ، فتُنزِّلُ بُعْدَ المَنْزِلةِ والمَكانةِ مَنزِلةَ بُعْدِ المكانِ، مِثلُ أنْ تُناديَ أباك أو أمَّك وهُما بجوارِك، فتقولُ: يا أبي، يا أُمِّي.
ومِثلُ قولِ الشَّاعرِ:
يا ربِّ إنْ عَظُمَتْ ذُنوبي كثْرةً
فلقدْ عَلِمتُ بأنَّ عفوَك أعظمُ
قال
الزَّمَخْشريُّ: (فإنْ قُلتَ: فما بال الدَّاعي يقولُ في جُؤارِه: يا ربِّ، ويا اللهُ، وهُو أقْربُ إليه مِن حبْلِ الوَريدِ، وأسْمَعُ به وأبْصَرُ؟! قلتُ: هو اسْتقصارٌ منه لنفْسِه، واسْتِبعادٌ لها مِن مَظانِّ الزُّلْفى وما يُقرِّبُه إلى رِضوانِ اللهِ ومَنازِلِ المُقرَّبينَ؛ هَضْمًا لنفْسِه وإقْرارًا عليها بالتَّفْريطِ في جنْبِ اللهِ، معَ فرْطِ التَّهالُكِ على اسْتِجابةِ دعْوتِه والإذْنِ لنِدائِه وابْتِهالِه)
[124] ((تفسير الزمخشري)) (1/ 89). .
ومِن ذلك قولُ
المُتنبِّي يُخاطِبُ سيْفَ الدَّوْلةِ:
يا أعْدلَ النَّاسِ إلَّا في مُعامَلتي
فيكَ الخِصامُ وأنتَ الخَصمُ والحَكَمُ
قال العُكْبَريُّ: (يقولُ لسيْفِ الدَّولةِ: يَا أعْدلَ النَّاسِ فِي أحْكامِه وأكْرمَهم فِي أفْعالِه، إلَّا فِي مُعامَلتي؛ فإنَّه يُخرِجُني عن عدْلِه ويُضيِّقُ عليَّ مَا قد بسَط مِن فَضْلِه، فيك خِصامي وتَعَبي، وأنت خَصْمي وحَكَمي، فأنا أخاصِمُك إلى نَفْسِك، وأسْتدعي عليك حُكْمَك)
[125] ((شرح ديوان المتنبي)) للعكبري (3/ 366). .
وقال ابنُ رَشِيقٍ: (وأمَّا
أبو الطَّيِّبِ المُتنبِّي فكان في طَبعِه غِلظَةٌ، وفي عِتابِه شِدَّةٌ، وكان كَثيرَ التَّحامُلِ، ظاهِرَ الكِبْرِ والأنَفَةِ، وما ظنُّك بمَنْ يقولُ لسيْفِ الدَّولةِ...)
[126] ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق لقيرواني (2/ 164). .
2- أو مُنْحطَّ المَنْزِلةِ والدَّرَجةِ، وَضِيعَ الشَّأنِ، كقولِ
الفَرَزْدقِ:
أولئكَ آبائِي فجِئنِي بمِثلِهمْ
إذا جمَعتْنا يا
جَريرُ المجامِعُ
فقولُ
الفَرَزْدقِ: (يا
جَريرُ) ناداه بنداءِ البَعيدِ؛ لبُعْدِ دَرجتِه في الانْحطاطِ عندَه.
3- أو غافِلًا، شارِدَ الذِّهنِ، غيرَ مُسْتعدٍّ للإجابةِ، كأنَّه غيرُ حاضِرٍ، مِثلُ قَولِ البارُوديِّ:
أيا جامِعَ الدُّنيا لغَيرِ بَلاغةٍ
لِمَنْ تَجمَعُ الدُّنيا وأنتَ تَمُوتُ؟
وقولِه:
يَسعى الفَتى لأمورٍ قد تضُرُّ بهِ
وليسَ يعلَمُ ما يأتي وما يَدَعُ
يا أيُّها السَّادِرُ المُزْوَرُّ مِن صَلَفٍ
مَهلًا فإنَّك بالأيَّامِ مُنخدِعُ
[127] السَّادِرُ: الَّذي لَا يَهْتَمُّ وَلَا يُبَالِي مَا صَنَعَ. والصَّلَف: الكِبْر. والمزْوَرُّ: المُعْرِضُ المنحَرِفُ. ينظر: ((النهاية في غريب الحديث)) لابن الأثير (2/ 318)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 145)، ((تاج العروس)) للزبيدي (24/ 32). ومنه قولُ
أبي العَتاهِيةِ:
أيا مَنْ عاشَ في الدُّنيا طَويلًا
وأفْنى العُمرَ في قيلٍ وقالِ
وأتْعبَ نفْسَهُ فيما سيَفنى
وجمَّعَ مِن حَرامٍ أو حَلالِ
هَبِ الدُّنيا تُقادُ إليكَ عَفْوًا
أليسَ مَصِيرُ ذلكَ للزَّوالِ؟
حذْفُ أدَاةِ النِّداءِ:الأصْلُ ذِكْرُ أدَاةِ النِّداءِ في الكَلامِ، لكنْ قد تُحذَفُ تَخْفيفًا، أو لغَرَضٍ بَلاغيٍّ آخَرَ، فإذا حُذِفَتْ فإنَّ الأدَاةَ المُقدَّرةَ تكونُ (يا)؛ لأنَّها أمُّ البابِ.
قال
الشَّاطِبيُّ مُشيرًا إلى التَّفرِقةِ بينَ نداءِ اللهِ عزَّ وجلَّ لعِبادِه ونداءِ العِبادِ للهِ في القُرآنِ الكَريمِ: (فأنتَ ترَى أنَّ نداءَ اللهِ للعِبادِ لم يأتِ في القُرآنِ في الغالِبِ إلَّا بـ«يا» المُشِيرةِ إلى بُعْدِ المُنادي؛ لأن صاحِبَ النِّداءِ مُنزَّهٌ عن مُداناةِ العِبادِ، مَوْصوفٌ بالتَّعالي عنْهم والاسْتِغناءِ.
فإذا قرَّرَ نِداءَ العِبادِ للرَّبِّ أتى بأمُورٍ تَسْتدعي قُربَ الإجابةِ؛ منها: إسْقاطُ حرْفِ النِّداءِ المُشيرِ إلى قُربِ المُنادَى، وأنَّه حاضِرٌ معَ المُنادي غيرُ غافِلٍ عنه، فدلَّ على اسْتشعارِ الرَّاغِبِ هذا المَعْنى؛ إذْ لم يأتِ في الغالِبِ إلَّا «ربَّنا، ربِّ» كقَولِه:
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا [البَقَرة: 286] ،
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا [البَقَرة: 127] ،
رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي [آل عِمْران: 35] ،
رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البَقَرة: 260] )
[128] ((الموافقات)) للشاطبي (4/ 202، 203). .
وقد استقرأ بعضُ العُلَماءِ الدُّعاءَ المُوجَّهَ مِنَ العِبادِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ في القُرآنِ الكَريمِ، وتَوصَّلوا إلى أنَّ كلَّ الدُّعاءِ مَحذوفُ أدَاةِ النِّداءِ ما عدا نِداءَينِ فقَطْ؛ هما قولُه سُبحانَه:
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفُرْقان: 30] ، وقولُه تعالى:
وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ [الزُّخْرف: 88] [129] ينظر: ((خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية)) للمطعني (2/ 7)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 242). .
ومن أمْثلةِ حذْفِ أدَاةِ النِّداءِ قولُه سُبحانَه:
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف: 150] ، وقولُه تعالى:
قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] ؛ ففي آيةِ سُورةِ الأعْرافِ حُذِفتْ أداةُ النِّداءِ
ابْنَ أُمَّ بخِلافِ ما في سُورةِ (طه)
يَبْنَؤُمَّ؛ يقولُ
ابنُ عاشورٍ: (و
ابْنَ أُمَّ مُنادًى بحذْفِ حرْفِ النِّداءِ، والنِّداءُ بهذا الوصْفِ للتَّرقيقِ والاسْتشفاعِ، وحذْفُ حرْفِ النِّداءِ لإظْهارِ ما صاحَبَ هارُونَ مِن الرُّعْبِ والاضْطِرابِ، أو لأنَّ كَلامَه هذا وقَع بعدَ كَلامٍ سبَقه فيه حرْفُ النِّداءِ وهُو المَحْكيُّ في سُورةِ طه
[94] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (14/602)، ((تفسير ابن كثير)) (5/77)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (11/419-420)، ((تفسير السعدي)) (ص: 458). :
يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي، ثمَّ قال بعدَ ذلك:
ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي؛ فهُما كَلامانِ مُتعاقِبان)
[130] ((تفسير الزمخشري)) (9/ 116، 117). .
النِّداءُ بـ«يا أيُّها» في القُرآنِ الكَريمِ:تنوَّع خِطابُ اللهِ عزَّ وجلَّ في القُرآنِ الكَريمِ، ومِن ذلك أساليبُ النِّداءِ؛ فأحْيانًا يُنادي اللهُ عزَّ وجلَّ عِبادَه -سَواءٌ في ذلك المُؤمنونَ والكافِرونَ- بـ (يا أيُّها)، وأحيانًا بـ (يا) فقَطْ؛ قال
الزَّمَخْشريُّ: (فإنْ قُلتَ: لِمَ كثُر في كِتابِ اللهِ النِّداءُ على هذه الطَّريقةِ يا أيُّها ما لم يكثُرْ في غيرِه؟ قلتُ: لاسْتِقلالِه بأوْجهٍ مِنَ التَّأكيدِ وأسْبابٍ مِنَ المُبالَغةِ؛ لأنَّ كلَّ ما نادى اللهُ له عِبادَه مِن أوَامرِه ونَواهيه، وعِظاتِه وزَوَاجرِه، ووعْدِه ووَعيدِه، واقْتِصاصِ أخْبارِ الأمَمِ الدَّارِجةِ عليهم، وغيرِ ذلك ممَّا أنْطَق به كِتابَه- أمُورٌ عِظامٌ، وخُطوبٌ جِسامٌ، ومَعانٍ عليهم أنْ يَتَيقَّظوا لَها، ويَميلوا بقُلوبِهم وبَصائرِهم إليها، وهُم عنْها غافِلون، فاقْتضتِ الحالُ أنْ يُنادَوا بالآكَدِ الأبلَغِ)
[131] ((تفسير الزمخشري)) (1/ 90). . وقد بيَّن أوْجهَ التَّأكيدِ والمُبالَغةِ: ما في «يا» مِنَ التَّأكيدِ المُؤذِنِ بأنَّ الخِطابَ الَّذي يَتلوه مَعْنيٌّ به جدًّا، وإقْحامُ أدَاةِ التَنْبيهِ (ها) بينَ الصِّفةِ ومَوصوفِها، والتَّدرُّجُ مِنَ الإبْهامِ الَّذي في (أيٍّ) إلى التَّوْضيحِ بما بعْدَه
[132] ينظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/ 89). .
الأغْراضُ البَلاغِيَّةُ للنِّداءِ:قد يَخرُجُ النِّداءُ عنِ المَعْنى المَوْضوعِ له، فلا يكونُ لطلَبِ الإقْبالِ، فيُنادى مَن لا يَعْقِلُ مِنَ الحجَرِ والشَّجرِ والبحْرِ ونَحْوِه، وقد لا يَتوجَّهُ النِّداءُ إلى مُخاطَبٍ أصْلًا، وذلك في حالِ مُناجاةِ النَّفْسِ وتأنيبِ الضَّميرِ.
ومِنَ الأغْراضِ البَلاغيَّةِ الأخرى للنِّداءِ:
1- التَّحسُّرُ والتَّوجُّعُ: كقَولِه تعالى:
إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا [النَّبَأ: 40] ، قال
ابنُ عاشورٍ: (تَلهُّفٌ وتَندُّمٌ على ما قدَّمَتْ يداه مِنَ الكُفرِ، وقد كانوا يقولونَ:
أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الإسراء: 98] ، فجعَل اللهُ عِقابَهم بالتَّحسُّرِ وتَمنِّي أنْ يكونوا مِن جنْسِ التُّرابِ)
[133] ((تفسير ابن عاشور)) (30/ 58). ، ومنه قولُه تعالى:
وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر: 55-56] ، وقَولُه سُبحانَه:
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا [الأنْعام: 31] .
ومنه قولُ حافِظ إبْراهيمَ في الرِّثاءِ: البسيط
يا دُرَّةً نُزِعتْ مِن تاجِ والِدِها
فأصْبَحتْ حِليةً في تاجِ رِضْوانِ
فيُنادي الشَّاعرُ ابنةَ صَديقِه الَّتي ماتتْ ولا تَستطيعُ الإجابةَ عليه، وإنَّما يُريدُ بنِدائِها التَّحسُّرَ والتَّوجُّعَ على فِقْدانِها. و«رِضوانُ»: خازِنُ الجنَّةِ.
وقولُ الشَّاعرِ يَرثي رجُلًا اسمُه مَعْنٌ:
فيا قبرَ مَعْنٍ أنت أوَّلُ حُفرةٍ
مِنَ الأرْضِ خُطَّتْ للسَّماحةِ مَضجَعا
ويا قبرَ مَعْنٍ كيف واريْتَ جُودَهُ
وقد كانَ منهُ البَرُّ والبَحرُ مُترَعا
[134] قَولُه: (خُطَّتْ لِلسَّماحَةِ مَضْجَعَا) أي: جُعِلَت مكانًا للنَّوم، والسَّماحةُ: الجُودُ. والمقصودُ: أنَّ القَبْرَ رُسِم وحُفِر ليكونَ مَكانًا لنومِ ممدوحِه. المُتْرَع: المملوءُ. ينظر: ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 45). 2- اللَّومُ والتَّوبيخُ: كقولِ الشَّريفِ الرَّضِيِّ: الكامِل
يا عاذلَ المُشْتاقِ دعْهُ فإنَّهُ
يَطْوي على الزَّفَراتِ غيرَ حَشَاكَا
لو كان قلبُك قلْبَهُ ما لُمتَه
حاشاك ممَّا عندَهُ حاشَاكَا
فالمَقْصودُ من نِداءِ العاذِلِ هنا لوْمُه وتَوْبيخُه على عذْلِه، ثمَّ يُبرِّرُ سَببَ اللَّومِ بأنَّه يَطْوي قلْبَه على الزَّفَراتِ والأحْزانِ والآلامِ.
3- التَّحيُّرُ والتَّذكُّرُ وبَثُّ الحُزنِ، ويَكثُرُ هذا في نداءِ الأطْلالِ ونحْوِها، مِثلُ قولِ الشَّاعِرِ:
أيا مَنازلَ سَلْمى أينَ سَلماكِ
مِن أجْلِ هذا بَكيْناها بَكيْناكِ
فالشَّاعِرُ يَبْكي على فقْدِ مَحْبوبتِه، فيُنادي على دِيارِها ويَسْألُها: أينَ سَلْمى الَّتي كانت تَسكُنُ فيكِ؟!
4- النُّدْبةُ: كقولِ أبي العَلاءِ: الطَّويل
فوا عَجبًا كم يَدَّعي الفَضلَ ناقِصٌ
ووا أسَفًا كم يُظهِرُ النَّقصَ فاضِلُ
اشتَهرَ في النَّحوِ أسْلوبُ النُّدْبةِ، وأنَّه النِّداءُ بـ«وا» لإظْهارِ الجزَعِ أوِ التَّحسُّرِ أوِ التَّوجُّعِ على المُتفجَّعِ عليه أو المُتفجَّعِ منه.
وفي هذا البيْتِ يَتحسَّرُ الشَّاعِرُ ويُظهِرُ ضِيقَه وحَسْرتَه على ما أصابَ النَّاسَ؛ فكيف يدَّعي الفضْلَ رجُلٌ ناقِصٌ، ولِماذا يُظهِرُ النَّقصَ الرَّجلُ الفاضِلُ؟
5- التَّنويهُ: كما في قَولِه تعالى:
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ، قال
ابنُ عاشورٍ: (نِداءُ آدمَ قبلَ تَخْويلِه سُكْنى الجنَّةِ نداءُ تَنْويهٍ بذكْرِ اسمِه بَيْنَ المَلأ الأعْلى؛ لأنَّ نِداءَه يَسْترعي إسْماعَ أهْلِ المَلأ الأعْلى، فيَتطلَّعونَ لِما سيُخاطَبُ به)
[135] ((تفسير ابن عاشور)) (1/ 428). .
6- الزَّجرُ والمَلامةُ، كقولِ الشَّاعِرِ:
أفُؤادي متى المَتابُ ألَمَّا
تَصْحُ وَالشَّيبُ فوقَ رأسي ألَمَّا
وقَولِ الشَّاعِرِ:
يا قلْبُ وَيْحَكَ ما سمِعتَ لناصِحٍ … لَمَّا ارتميْتَ ولا اتَّقَيتَ مَلامَا
7- التَّعجُّبُ: ومنه قولُه تعالى:
قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ [هود: 72] ، قال
الطَّبَري: (
يَا وَيْلَتَا هي كَلمةٌ تقولُها العَربُ عند التَّعجُّبِ مِنَ الشَّيءِ، والاسْتِنكارِ للشَّيءِ)
[136] ((تفسير الطبري)) (12/ 484). .
8- الإغْراءُ: مِثلُ إذا قلتَ لمَنْ أقْبلَ عليك يَتظلَّمُ: يا مَظلومُ تكلَّمْ.
فلستَ تَقصِدُ مِنَ المَظْلومِ الإقْبالَ عليك؛ فهذا حاصِلٌ بالفِعلِ، ولكنَّ المُرادَ حثُّه وإغراؤُه على زِيادةِ التَّظلُّمِ وبثِّ الشَّكوى
[137] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 89، 90)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) (2/ 274)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 240، 251). .