المَطْلَبُ الثَّالثُ: الاسْتعارةُ بحسَبِ اللَّفظِ المُستعارِ إلى أصليَّةٍ وتَبعيَّةٍ
تَنقسِمُ الاسْتعارةُ بحسَبِ اللَّفظِ المُستعارِ إلى أصليَّةٍ وتَبعيَّةٍ:
فالاسْتعارةُ الأصْليَّةُ: ما كان اللَّفظُ المُستعارُ اسمًا جامِدًا، سواءٌ كان اسمَ ذاتٍ؛ كالبدْرِ والأسدِ والنَّهرِ والبحْرِ والفَرسِ والغَزالِ ...، أو اسمَ مَعْنًى؛ كالجَمالِ والكَرمِ والشَّجاعةِ والعلْمِ ونحوِ ذلك.
فمن ذلك قولُه تعالى:
قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ [المائدة: 15-16] ؛ حيثُ اسْتعارَ النُّورَ في الآيةِ الأُولى للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ اسْتعارَ الظُّلُماتِ في الآيةِ الثَّانيةِ للشِّركِ والضَّلالِ والجاهِليَّةِ، والنُّورَ للإسْلامِ والهِدايةِ والحقِّ، وهذه الألْفاظُ: "النُّور، الظُّلُمات" أسماءُ مَعانٍ (مَصادِر)، ولذلك كانت الاسْتعارةُ أصْليَّةً.
ومنه قولُ
البُحْتُريِّ: الوافر
يُؤدُّونَ التَّحيَّةَ كلَّ يومٍ
إلى قمَرٍ مِنَ الإيْوانِ بادِ
حيثُ اسْتعار "القمَرَ" للمَمدوحِ؛ لتَشْبيهِه به في الحُسْنِ والضِّياءِ، والقمَرُ اسمُ ذاتٍ؛ فلهذا كانت الاسْتعارةُ أصْليَّةً.
ويَلحَقُ بها استعارةُ الأعلامِ الَّتي ارتبَطَت بأوصافٍ مُشتَهرةٍ، مِثل حاتمٍ وعَنْترةَ؛ لأنَّ الشَّخصَ المُشتَهِرَ بصِفةٍ خاصَّةٍ يَصِيرُ كأنَّه جِنسٌ صالحٌ لأنْ يُطلَقَ على كَثيرِين، نقولُ: "سلَّمْتُ على حاتمٍ" تَقصِدُ رجُلًا كَريمًا استَعرْتَ له "حاتِم" بجامعِ الكرَمِ في كلٍّ منهما، فتكون استعارةً تَصريحيَّةً أصليَّةً.
أمَّا الاسْتعارةُ التَّبَعيَّةُ: فهِي ما لا يكونُ اللَّفظُ المُستعارُ اسمَ جنْسٍ؛ كأنْ يكونَ اسمًا مُشتقًّا أو فِعلًا أو حرْفًا.
فمِن ذلك قولُه تعالى:
قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس: 52] ؛ فالاسْتعارةُ هنا في قولِه:
مَرْقَدِنَا؛ حيثُ اسْتعارَ للقبْرِ لفْظَ المَرقَدِ، وهِي اسْتعارةٌ تَصريحيَّةٌ، حُذِف منها المُستعارُ له، وأُتِي بالمُستعارِ منه فحسْبُ، وكَلمةُ
مَرْقَدِنَا اسمُ مَكانٍ؛ لذلك فهِي ليستْ مِن أسْماءِ الذَّواتِ أوِ المَعاني، فلهذا كانت الاسْتعارةُ تَبَعيَّةً.
ومنها أيضًا قولُه تعالى:
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ [الحاقة: 6] ، فالاسْتعارةُ هنا في قولِه تعالى:
عَاتِيَةٍ، وهِي اسْتعارةٌ مَكنيَّةٌ صوَّرتِ الرِّيحَ بأنَّها إنْسانٌ عاتٍ ظالِمٌ، وقد حُذِف المُستعارُ منه وأُتيَ بما يدُلُّ عليه، وهُو لفْظُ "عاتِية". وهذا اللَّفظُ هو وصْفٌ مُشتقٌّ، فهُو اسمُ فاعِلٍ؛ ولهذا كان مِنَ الاسْتعارةِ التَّبَعيَّةِ.
ومثلُها الاسْتعارةُ بلفْظِ الفِعلِ، كقَولِه تعالى:
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154] ؛ فاسْتعارةُ السُّكوتِ للغَضبِ اسْتعارةٌ مَكنيَّةٌ؛ شُبِّه الغَضبُ بأنَّه إنْسانٌ يَسكُتُ، ولفْظُ الاسْتعارةِ: "سكَت" فعلٌ ماضٍ، ليس اسمَ ذاتٍ ولا اسمَ مَعْنًى، فكان مِن الاسْتعارةِ التَّبعيَّةِ لا الأصْليَّةِ.
ومنه قولُ ابنِ المُعتَزِّ: المديد
جُمِع الحقُّ لنا في إمامٍ
قتَلَ البُخْلَ وأحْيا السَّماحَا
فالاسْتعارةُ هنا في قولِه: "قتَلَ البُخْلَ" وفي قولِه: "أحْيا السَّماحا"؛ حيثُ جعَل مِنَ البُخلِ والسَّماحِ رجُلَينِ يُقتَلُ أحدُهما ويُستَحْيا الآخَرُ، وقد حذَف الشَّاعرُ المُستعارَ منه "الرَّجلَينِ" وأتى بخَصِيصةٍ من خَصائِصِهما، وهِي القتْلُ والاسْتحياءُ (أي: الاسْتِبقاءُ).
ولفْظا الاسْتعارةِ "قتَل، أحْيا" فِعلانِ، فخَرجا بذلك عن أنْ يكونا مِن الاسْتعارةِ الأصْليَّةِ، فكانا مِن الاسْتعارةِ التَّبَعيَّةِ.
ومنها أيضًا الاسْتعارةُ في الحُروفِ، كقَولِه تعالى:
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص: 8] ؛ فإنَّ اللَّامَ هنا هي لامُ التَّعليلِ في الأصْلِ، لكنَّها جاءت هنا لتدُلَّ على تَرتيبِ شيءٍ على شيءٍ؛ إذْ ليست علَّةُ الْتقاطِ آلِ فِرعونَ مُوسى أنْ يكونَ عدوًّا لهم؛ فكيف يَلتقِطُ رجُلٌ طِفلًا ليَجعلَه له عدوًّا؟! إنَّما أرادوا بالْتِقاطِه أنْ يَتَّخذوه ابنًا لهم، لكنَّ اسْتِخدامَ اللَّامِ هنا خرَج عن هذا الاسْتِعمالِ المألوفِ وجاء لإفادَةِ التَّرْتيبِ والجَزاءِ، أيْ: إنَّهم الْتقَطوه فكان أنْ صار عَدوَّهم الَّذي نقَض مُلْكَهم وهدَم زَيْفَهم وباطِلَهم
[320] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 264)، ((الصورة البيانية في الموروث البلاغي)) لحسن طبل (ص: 138). .