الفَرْعُ التاسعُ: فاءُ السَّببيَّةِ
فاءُ السَّببيَّةِ حَرفُ عَطفٍ يُفيدُ أنَّ ما بَعْدَها مُسبَّبٌ عمَّا قبْلَها، ويُنصَبُ الفِعْلُ المضارعُ بَعْدَها بـ(أنْ) المُضْمَرةِ وُجوبًا.
ويُشتَرَطُ أن تأتيَ الفاءُ في جوابِ نفْيٍ مَحْضٍ أو طَلَبٍ مَحْضٍ، ويُرادُ بالنفْيِ المَحْضِ: الخالِصُ من الإثباتِ، فلا يُوجَدُ في الكلامِ ما يَنقُضُ معناه، مِثلُ الاستثناءِ، والمرادُ بكَونِ الطَّلَبِ مَحضًا ألَّا يكونَ مَدلولًا عليه باسم فِعلٍ ولا بلفظِ الخَبَرِ، فإن كان مدلولًا عليه بأحَدِ هذينِ المذكورَينِ وجَب رفعُ ما بعد الفاءِ، نَحوُ: صَه فأُحسِنُ إليك، وحسْبُك الحديثُ فيَنامُ النَّاسُ.
أمثِلةٌ على فاءِ السَّببيَّةِ:
مثالُ النفيِ قولُك: ما تَأتِينا فتُحدِّثَنا.
ما: حرفُ نفيٍ مَبْنيٌّ على السُّكونِ.
تأتينا: تأتي: فِعلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ، وعَلامةُ رَفعِه الضَّمَّةُ المُقَدَّرةُ للثِّقَلِ، و"نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنيٌّ في مَحَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به.
فتُحَدِّثَنا: الفاءُ حرفٌ مَبْنيٌّ على الفَتحِ، تحدِّثَنا: فِعلٌ مُضارعٌ منصوبٌ، وعَلامةُ نَصبِه الفتحة، و"نا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ مَبْنيٌّ في مَحَلِّ نَصبٍ مَفعولٌ به.
ومثالُه أيضًا قَولُه تعالى:
لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [فاطر: 36] .
وأمَّا الطَّلَبُ فيَشمَلُ الأمرَ، والنَّهيَ، والدُّعاءَ، والاستفهامَ، والرَّجاءَ، والعَرْضَ، والتحضيضَ، والتمَنِّيَ:
فمثالُ الأمرِ قَولُك: "ائتِني فأُكرِمَك"، ومنه قَولُ الشَّاعِرِ:
يا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا
إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا
ومثالُ النَّهيِ قَولُه تعالى:
لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ [طه: 61] .
ومِثالُ الدُّعاءِ قَولُه تعالى:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا [يونس: 88] .
ومثالُ الاستفهامِ قَولُه تعالى:
فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا [الأعراف: 53] .
ومثال الرَّجاءِ قَولُه تعالى:
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر: 36، 37].
ومَثالُ العَرْضِ: ألَا تَقَعُ في الماءِ فتَسبَحَ، وقَولُ الشَّاعِرِ:
يا ابنَ الكرامِ ألَا تَدْنو فتُبْصِرَ ما
قد حدَّثوك فما رَاءٍ كَمَنْ سَمِعَا
ومثالُ التحضيضِ: هلَّا أمرتَ فتُطاعَ، وقوُله تعالى:
لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [المنافقون: 10].
ومثالُ التمَنِّي قَولُه تعالى:
يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 73] .
فلو كان النَّفيُ والطَّلَبُ غَيرَ مَحْضينِ؛ كالنَّفيِ الدَّاخِلةِ عليه همزةُ الاستفهامِ لقَصدِ التقريرِ، نَحوُ: "ألم تأتِني فأحسِنُ إليك؟" والنَّفيِ الدَّاخِلِ على النَّفيِ، نَحوُ: "ما يزالُ يأتينا فيُحَدِّثُنا"، والنَّفيِ المنتَقَضِ بـ"إلا" نحو: "ما يأتينا إلَّا فيُحَدِّثُنا" لم يَجُزِ النَّصبُ
يُنظَر: ((توضيح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك)) للمرادي (3/ 1252)، ((شرح التصريح على التوضيح أو التصريح بمضمون التوضيح في النحو)) لخالد الأزهري (2/ 375). .
ويُشترطُ في تلك الفاءِ أن تكونَ للسَّببيَّةِ والجزاءِ، فإن كانت لمجرَّدِ العَطفِ لم يجُزِ النَّصبُ بـ(أنْ) المُضْمَرة؛ فلو كان قولُك: ما تأتينا فتحَدِّثُنا؛ تريدُ: أنه لا يأتي ولا يُحدِّثُ، فلا يُنصَبُ.
كذلك يُشترَطُ ألَّا يكونَ الفِعْلُ خَبَرًا مبتدؤه محذوفٌ، كقَولِه تعالى:
وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [المرسلات: 36] ؛ فإنَّها على تقديرِ: فهمْ يَعتَذِرون
يُنظَر: ((شرح ألفية ابن مالك)) لابن الناظم (ص: 484). .